الفستان الجديد
(١٩٢٧م)
السيدة «مايبيل» بدأ الشكُّ يُساوِرها، للمرة الأولى، بأن شيئًا ما كان
خطأً، بمجرد أن خلعَت عباءتها، ثم ما لبثت مسز «بارنيت» أن أكَّدَت ذلك الشك،
حين ناولتْها المرآةَ وراحت تُلامِس الفُرشاة بيدها كأنما لتجذب انتباهها،
على نحوٍ مفضوحٍ بعض الشيء، إلى كل أدوات تصفيف وتجميل الشَّعر والبشرة
والملابس، تلك المصفوفةِ فوق تسريحة الزينة، كلُّ هذا أكَّد الشك — بأنه لم
يكن مناسبًا، لم يكن مضبوطًا أبدًا. ثم ظلَّ ذلك الشكُّ يتنامى داخلَها
ويَقوى وهي ترتقي الدَّرَج إلى الطابق العُلوي حتى وثبَت مندفِعةً إلى — وقد
وصل شكُّها إلى اليقين التام أثناء إلقائها التحية إلى «كلاريسا دالواي»، ثم
توجَّهَت رأسًا إلى النهاية القصوى المعتِمة من الغرفة، إلى ذلك الركن
المُنعزِل البعيد، حيث مرآةٌ مُعلَّقة، ثم، نظرَت.
كلا! لم يكن
مناسبًا.
١ وفي الحال، تجمَّعَت فوق ملامحها سُحبُ التعاسة التي طالما
حاولَت أن تُخفيها، الشعور بالاستياء العميق وعدم الرضا — وذلك الإحساس، الذي
دائمًا ما تملَّكَ منها، حتى منذ كانت طفلةً، بأنها أقلُّ شأنًا من الآخرين —
كلُّ هذا انقضَّ عليها، هاجمَها بشراسة، بقسوة، بوحشية، وبكثافة لم تستطِع
معها التغلب عليها كما كانت اعتادت أن تفعل في القديم، حينما كانت تصحو في
الليل ببيتها، عن طريق قراءة «بورو» أو «سكوت»؛
٢ بسبب، يا لهؤلاء الرجال، يا لهؤلاء النساء، الجميع كان يفكِّر —
«ما هذا الذي تلبسه «مايبيل»؟ كم يبدو منظرها شنيعًا! ما أبشعَ فستانها
الجديد! —» جفونُ عيونهم ترتعش وهم يقتربون منها ثم تبدأ في الإغماض قليلًا
حتى تُغمِض تمامًا. إنه قُصورها المخيف؛ ارتعابها؛ ضعة سُلالتها وانحطاط
منشئها، هو ما كان يغمُّها ويسببُ إحباطَها. وفي الحال بدَت كلُّ أرجاء
الغرفة تلك التي، لساعاتٍ طويلة جدًّا، ظلَّت تخطِّط فيها مع الطَّرزية
الصغيرة كيف سيكون الشكلُ النهائي للفستان، بدَت الغرفة رثَّةً، مثيرةً
للاشمئزاز؛ كما بدَت قاعةُ الاستقبال الخاصة بها بائسةً بالية؛ وهي نفسها،
التي كانت قد خرجَت من الغرفة يومها، ممتلئةً بالزهو بينما تمسُّ بيدها
الخطابات فوق طاولة القاعة وتقول: «يا للملل!» لكي تستعرض وتلفت الأنظار —
كلُّ هذا بدا الآن سخيفًا جدًّا، أحمق، تافهًا، قرويًّا. الأمر برُمَّته
انهدم رأسًا على عقب، افتُضح، نُسف كُليًّا، في اللحظة التي دخلَت فيها قاعةَ
الاستقبال الخاصة بمسز دالواي.
الشيء الذي فكَّرَت فيه ذلك المساءَ حينما وصلَت دعوةُ السيدة دالواي،
فيما كانوا مجتمعين حول فنجان الشاي، كان أنها، بالطبع، لن تستطيع أن تكون
أنيقةً ومُسايِرةً للموضة. من السخف حتى ادِّعاء ذلك — فالموضة تعني قَصَّة
الفستان والتفصيلة، تعني الطراز والموديل، وتعني أيضًا ثلاثين جنيهًا على
الأقل — لكن لماذا لا تكون موضتها كلاسيكيةً
٣ وأصيلة؟ لماذا لا تكون هي هي نفسها وليكُن ما يكون؟ و، وهي تهمُّ
بالنهوض من جلستها، كانت قد تناولَت كتالوجَ الموديلات القديم الخاص بأمِّها،
كتالوجَ الموديلات الباريسية في العصر الإمبراطوري، راحت تفكر كم كانت النساء
أجملَ آنذاك، لَكَمْ كُنَّ أكثرَ وقارًا واحتشامًا، وأوفرَ أنوثةً في ذلك
العصر، ومن ثَمَّ اتخذَت قرارَها النهائي — أوه، لقد كان حُمقًا — أن حاولَت
محاكاتهن، أن فاخرَت بنفسها، كونها وقورًا كلاسيكيةَ الموضة، وفاتنةً جدًّا،
وأسلمَت نفسها من ثَم، لا شكَّ في ذلك، للانغماس المفرِط في عشق الذات، بما
استحقت معه العقاب، مكسوَّة جدًّا بالملابس لكنها رغم ذلك تافهة للغاية
ورثَّة، فقيرة الروح، وضيقة العقل بحيث تهتمُّ كثيرًا، في عمرها هذا مع وجودِ
طفلين، بأن تظلَّ تُعوِّل بشدة على آراءِ الناس، بدلًا من أن تمتلك مبادئَها
الخاصةَ وقناعاتِها، بدلًا من أن تكون هي هي نفسها بجلاء على النحو الذي
تريد.
لكنَّها لم تجرؤ على النظر إلى المرآة. لم تستطِع أنْ تواجه ذلك الرعب
الكامل — الفستانَ الحريريَّ البشع بلونه الأصفر الباهت وموديله العتيق
الأبله وتَنُّورته الطويلة وأكمامه العالية المنفوشة وصُدْرته وخَصْره وكل
تلك الأشياء التي كانت فاتنة جدًّا في كتالوج الموضة، ولكنْ ليس على جسدها
الآن، وبالأخصِّ ليس بين كلِّ هؤلاء الناس العاديين الطبيعيين. شعرَت بنفسها
كأنما هي دُمْيةُ طَرزي
٤ تنتصب واقفةً هناك، لكي يغرزَ فيها الشبابُ دبابيسهم.
«لكنه، يا عزيزتي، فاتن للغاية!» قالت «روز شاو» فيما تنظر إليها من فوق
إلى تحت وهي تَزِمُّ شفتَيها الهجَّائيتَين بتجاعيدهما الطفيفة، تمامًا كما
كانت قد توقَّعَت — أما روز نفسُها فظهرَت في فستان على أحدث صيحات الموضة،
تمامًا مثل كل الأُخريات، ومثلما هي الحال دائمًا. وأبدًا.
نحن جميعنا مثل ذبابات تحاول أن تزحف فوق حافة الصَّحن، هكذا فكَّرَت
مايبيل، وراحت تكرِّر تلك العبارة كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها
وتُتمتِم، كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشف تعويذةً ما لتوقفَ بها هذا الألم،
لكي تجعل هذا الوجع المُبرِّح مُحتملًا. مقتطَفاتٌ خِتامية من شكسبير، سطور
من كتب كانت قرأتها منذ عصورٍ سحيقة، جميعُها حضرَت في عقلها بغتةً حينما
غمرَها الوجعُ، فراحت تردِّدها مرَّاتٍ ومرَّات. «ذباباتٌ تحاول أن تزحف،»
ظلَّت تكرِّرها. لو كان بوسعها أن تظلَّ تردِّد هذا القول مِرارًا وتَكرارًا
بما يكفي لأن تجعل نفسَها ترى الذبابات بالفعل، لو استطاعت لأَمكنَها أن
تدخلَ في حال من الخدَر، القُشَعريرة، التجمُّد، فقدان الحس، والبكم. استطاعت
الآن أن تشاهد الذبابات تزحف ببطءٍ خارج صحن الحليب بأجنحتها المُلتصِقة
ببعضها البعض؛ وراحت تجتهد وتجتهد (وهي تقفُ في مواجهة المرآة، وتستمع إلى
روز شاو) لكي تجعل نفسَها ترى روز شاو وكلَّ المدعوين الآخرين الواقفين هناك
كذبابات، ذبابات تكدح وتكافح لكي ترفع أجسادَها خارجَ شيءٍ ما، أو داخلَ شيءٍ
ما، ذبابات هزيلة، تافهة، مجهَدة مرهَقة واقعة في شرَك. على أنها لم تستطِع
أن تراهم هكذا، لا أحدَ من بين الناس الآخرين. بل رأت نفسَها هي على تلك
الشاكلة — كانت هي الذبابة، فيما الآخرون كانوا يعاسيب، فراشات، حشراتٍ
جميلة، ترقص، ترفُّ بأجنحتها، تخطر برشاقة، بينما هي وحدها كانت من تجرُّ
نفسها جرًّا إلى خارج الصَّحن. (الحسد والضغينة، أكثر الرذائل سوءًا، كانا
خطيئتَيها الأساسيتين.)
«أشعر كأنني ذبابةٌ مُزرِية تَعِسة تُعوِزها الأناقة، ذبابةٌ عجوزٌ بالية
كئيبةٌ رثَّة،» قالت هذا، ما جعل روبرت هايدون يتوقف فقط لكي يستمع إليها وهي
تقول ذلك، فقط لكي تعيد الطمأنينة إلى نفسها عن طريق تلميع وصقْل عبارةٍ
ركيكة واهنة مُفكَّكة الأواصر فتُظهر للآخرين مدى استقلاليتها وموضوعيتها،
ومدى عمقها وفطنتها، إلى درجةِ أنها لا تتحسَّس من أي شيء على الإطلاق. و،
بالطبع، روبرت هايدون أجابَ بشيءٍ ما، شديدِ التهذيب، شديد النفاق، هذا ما
أدركتْه في الحال، فقالت لنفسها رأسًا، بمجرد أن مضى (أيضًا من كتابٍ ما)، «أكاذيب،
٥ أكاذيب، أكاذيب!» ذلك أن الحفلات من شأنها أن تجعل الأشياء إما
أكثرَ حقيقيةً إلى حدٍّ بعيد، وإما أقلَّ حقيقيةً إلى حدٍّ بعيد، هكذا
فكَّرَت، ذاك أنها في لحظةٍ خاطفة لمحت القاعَ العميق لقلبِ «روبرت هايدون»؛
وكشفَت كلَّ شيء. رأت الحقيقة.
كلُّ هذا كان
حقيقيًّا،
٦ غرفة الاستقبال هذه، هذه الشخصية، وتلك الزائفة الأخرى. حجرة
العمل الصغيرة الخاصة بالآنسة «ميلان» كانت بالفعل شديدةَ الحرارة على نحوٍ
شنيع، خانقةً، مُزريةً وقذرة. تطفح بروائحِ الثياب ورائحةِ طهوِ القرنبيط؛ مع
ذلك، حينما وضعَت ميس «ميلان» المرآةَ في يدها، ونظرَت إلى نفسها والفستانُ
عليها، بعد اكتماله، أحسَّت بنشوةٍ استثنائيةٍ عارمة تَضربُ في أنحاء قلبها.
مغمورةً بالضياء، وثَبَت نحو الوجود. متحرِّرةً من الهموم والتجاعيد، كانت
أمام الحُلم الذي راودها طويلًا حول نفسها، كان الحلم هناك — امرأة جميلة.
للحظةٍ واحدة فقط (لم تجسر على النظر لمدةٍ أطول، ميس «ميلان» كانت تريد أن
تعرفَ طولَ التنُّورة)، ثم نظرَت إليها هناك، مُؤطَّرةً في برواز مُزخرَف من
خشب الماهوجني، فتاة فاتنة شهباء شيباء، تبتسم على نحو غامض، إنها جوهرُها،
روحُها الجُوَّانية؛ ولم يكن فقط الزهو، لم تكن مَحبَّة النفْس وحدها هي التي
جعلتها تعتقد أنها طيبة، حنون وحقيقية. قالت ميس ميلان إن التنورة لا يجب أن
تكون أطول من ذلك؛ في كل الأحوال التنورة، تقول ميس ميلان، وهي تُقطِّب
جبينها، مُستجمِعةً كاملَ يقظتِها وخبرتها، يجب أن تكون أقصر؛ أما هي فقد
شعرَت فجأةً، وبصدق، بأنها تمتلئ بكلِّ الحب نحو الآنسة ميلان، كثيرًا جدًّا،
شعرَت بأنها مُغرَمة جدًّا بالآنسة ميلان أكثر من أيِّ مخلوقٍ آخرَ في
العالمِ بأسره، وكادت تقريبًا أن تبكي من الشفقة على تلك التي كان عليها أن
تزحف على الأرض بفمها المملوء بالدبابيس، ووجهها الذي غدا أحمر اللون،
وعينيها اللتين انتفختا — كادت أن تبكي لأن ثَمة كائنًا بشريًّا مضطرٌّ أن
يفعل كلَّ ذلك من أجل إنسانٍ آخر، وهي كانت تراهم جميعهم بالكاد كائناتٍ
بشريةً، وترى نفسَها تخرج منطلِقةً إلى حفلها، بينما الآنسةُ ميلان تسحبُ
الغطاء فوق قفصِ عصفور الكناريا، أو تدعه يلتقط بذرةَ القنَّب من بين
شفتَيها، وكان التفكير في هذه الخاطرة، تأمُّل هذا الجانب من الطبيعة
البشرية، بما يحمله من صبر وجلَد وقوة احتمال، أن يكونَ المرءُ راضيًا
وقانعًا بمثل هذه المُتع البسيطة الضئيلة التافهة التعسة، كلُّ هذا ملأ
عينَيها بالدموع.
والآن فالأمر كلُّه كان قد تلاشى. الفستان، الحجرة، الحبُّ، الشفقة،
المرآة ذات الزخارف المعقوفة، وقفص الكناريا — كلُّ شيء كان قد تلاشى، وها هي
الآن تقبع في ركنٍ مُنزوٍ بقاعة استقبال مسز دالواي، تكافح عذاباتها، تلك
التي استيقظَت شاسعةً على الواقع.
على أنه من التفاهة بمكان، وضعةِ الأصل وضِيق الأفق، أن تهتمَّ إلى هذا
الحد وفي عُمر كعمرها هذا مع وجود طفلَين، أن تظلَّ معتمِدةً تمامًا على آراء
الناس وألَّا تمتلك مبادئَها الخاصة وقناعاتِها، ألَّا تكون قادرةً على أن
تقول مثلما قال الآخرون، «هناك شكسبير! وهناك الموت! نحن جميعنا لسنا إلا
سوسَ الحِنطة في كعكةِ القبطان» — أو أيًّا ما كان يقوله هؤلاء الناس.
واجهَت نفسَها مباشرةً في المرآة؛ نقرَت على كتفها اليُسرى، تبدَّدَت
وتبعثرَت في أرجاء الغرفة، كأنَّ رماحًا تُقذَف نحو فستانها الأصفر من كل
صَوْب. ولكن بدلًا من أن تبدو شرسةً أو محزونةً، كما كانت ستفعل روز شو — روز
كانت ستبدو مثل بوديسيا
٧ — بينما هي بدت حمقاءَ منطويةً، تكلَّفَت الابتسام مثل واحدة من
تلميذات المدارس، وراحت تتجوَّل بترهُّل في أنحاء الغرفة، تَنْسلُّ خِلسةً
كبهيمٍ وُلِد سقطًا، كأنما هي هجينٌ مضروب لتَوِّه، ثم شرعَت تنظر إلى لوحة
على الحائط، جدارية منحوتة. وكأن الناسَ يذهبون إلى الحفلات لكي يشاهدوا
اللوحات! لكنَّ كلَّ إنسان يعرف لماذا كانت تفعل ذلك — إنه الخجل، إنه
الخِزي.
«الذبابة الآن في الصحن،» قالت لنفسها، «في المنتصف تمامًا، لا تقدر على
الخروج، والحليب ..،» راحت تفكِّر وهي تُحدِّق بجمودٍ صوبَ اللوحة، «يلصق
جناحَيها معًا.»
«على طرازٍ عتيق جدًّا،» قالت لتشارلز بورت ما جعله يتوقف (وهو ما كان
يكرهه بحدِّ ذاته) بينما كان في طريقه ليتحدث مع شخصٍ آخر.
كانت تعني، أو هي حاولت أن تجعل نفسَها تظنُّ أنها كانت تعني، أن اللوحة،
وليس فستانها، هي التي كانت على طرازٍ عتيق. وكلمةُ مجاملةٍ واحدة، كلمةٌ
واحدة متعاطفة من تشارلز كان بوسعها في هذه اللحظة بالذات أن تبدِّل حالها
كليًّا. فقط لو أنه قال: «مايبيل، تبدين فاتنةً هذه الليلةَ!» لكانت حياتُها
كلُّها تغيَّرَت. سوى أن عليها في هذه اللحظة أن تكونَ واضحةً وصريحة. لأن
تشارلز، بطبيعة الحال، لم يقلْ شيئًا من هذا القبيل. لقد كان هو المَكر وكان
الخبثَ عينَه. اعتاد تشارلز دائمًا أن يكشف أعماق المرء، لا سيَّما إذا كان
هذا المرء يشعر بالضعة على وجه الخصوص، بالخِسَّة، أو بالبَلَه.
«مايبيل ترتدي فستانًا جديدًا!» قالها، والذبابة المسكينة كانت مُندسَّةً
ومحشورةً في منتصف الصحن بالضبط. والحقُّ أنه، هو كان يريد لها أن تغرق،
واثقةٌ هي من ذلك. كان بلا قلب، لم تكن لديه أية طيبة في عمقه، فقط طبقةٌ
قِشرية من التودد الزائف. كانت الآنسة ميلان أكثرَ منه حقيقيةً بكثير، أكثرَ
طيبةً. فقط لو كان بوسع المرء أن يشعر بذلك ولا يغيِّر شعوره، أبدًا.
«لماذا،» سألت نفسَها — الإجابةُ على تشارلز بقحة وسلاطة لسان، سوف تجعله يرى
أنها فقدَت أعصابها، أو أنها «منزعجة» كما يُسميها هو (منزعجة قليلًا؟ قالها
ثم استمرَّ في الضحك عليها مع امرأةٍ هناك) — «لماذا،» سألَت نفسَها، «لا
يمكنني أن أشعر بشيءٍ واحد دائمًا، أن أشعر بيقينٍ تام أن الآنسة ميلان على
حق، وأن تشارلز على خطأ وأن أُصِرَّ على ما أشعر به، ألا يمكنني أن أحسَّ
باليقين نحو الكناريا ونحو الشفقة والحب ولا أتخبَّط هكذا في أفكاري في لحظة
بمجرد أن أدخل غرفةً ممتلئة بالناس؟» إنها من جديد شخصيتُها المتذبذِبة
الضعيفة الممجوجة، التي دائمًا ما تخضع عند اللحظات الحَرجة بينما لا تكون
مهتمةً بالفعل بعلم الأصداف البحرية والرَّخويات، وعلم الاشتقاق اللغوي، وعلم
النباتات، وعلم الآثار، وتقطيع البطاطس ثم مراقبة عملية تخصيبها مثل ماري
دينيس، مثل فيوليت سيرل.
في تلك الأثناء، شاهدتها مسز هولمان واقفةً هناك فباغتتها وهجمت عليها.
بكلِّ تأكيدٍ كان شيء مثل فستانٍ ما دون ملاحظة مسز هولمان، بعائلتها التي
يتعثَّر أفرادُها دائمًا أثناء الهبوط على الدَّرَج أو الذين يُصابون
بالحمَّى القرمزيَّة. هل تستطيع مايبيل أن تخبرَها ما إذا كان شارع «إلْم ثورب»
٨ دائمًا ما يؤجَّر في شهرَي أغسطس وسبتمبر؟ أوه، لَكَمْ كان
حوارًا مُملًّا أصابها بالضَّجر على نحو لا يُصدَّق! — انتابها الغضب أن
تُعامَل كسمسارِ عقارات أو مثل صبيِّ مراسَلة، تتمُّ الاستفادة منه وحسب. ليس
من أجل الحصول على سعرٍ ما، كلُّ ما هنالك أنها، راحت تفكِّر، كانت تحاول أن
تفهم شيئًا صعبًا عليها، شيئًا واقعيًّا، حينما كانت تجتهد أن تجيبَ بعقلانية
عن موضوع الحمَّام والواجهة الجنوبية والمياه الساخنة في أعلى البناية؛ بينما
طيلةَ الوقت كان بوسعها أن تلمحَ أجزاءً صغيرة من الفستان الأصفر في المرآة
المستديرة التي جعلتهم جميعهم في حجم أزرار حذاء البووت أو في حجم صغار
الضفدع؛ وكان من المدهش أن نفكِّر كَمْ من مشاعر الخزي والمَذلَّة والأوجاع
والاشمئزاز من النفس والاجتهادات واضطرابات الأحاسيس والانفعالات النفسية
عُلوًّا وهبوطًا يضمُّها شيءٌ صغير في حجم عُملةٍ معدنية من فئة ثلاثة البنسات.
٩ وأما الذي يظلُّ الأكثر عجبًا، فهو هذا الشيء، هذا الشيء: مايبيل
وارينج، الشيء الذي كان منفصلًا عن الجمع، ومعزولًا جدًّا؛ وبرغم أن مسز
هولمان (الزِّرَّ الأسود)
١٠ كانت منحنيةً إلى الأمام لتحكي لها كيف أن ابنها الأكبر قد أجهدَ
قلبَه في رياضة الركض، إلا أنه كان بوسعها، كذلك، أن تراها
١١ معزولةً جدًّا وغيرَ مترابطة في المرآة، وكان من المستحيل على
النقطة السوداء، التي تميل إلى الأمام، وتومئ برأسها أثناء الحديث، أن تجعل
النقطة الصفراء، التي تجلس منزويةً وحيدة، متمركِزةً حول ذاتها، أن تجعلها
تشعر بما تشعر به النقطة السوداء، سوى أنهما كلتَيهما تظاهرتا بذلك.
«وبالتالي من المستحيل الإبقاء على الفتيان هادئين» — كان هذا هو فحوى ما
يقوله المرء.
والسيدة هولمان، تلك التي لم تستطِع أبدًا أن تنال القَدْر الكافي من
التعاطف ومن ثَمَّ كانت تنتزع بجشعٍ النَّذرَ القليل منه، كما لو كان حقَّها
(لكنها كانت تستحق ما هو أكثر بكثير من أجل ابنتها الصغيرة التي سقطت هذا
الصباح وتورَّم مفصلُ ركبتها)، أخذت مسز هولمان هذه المِنحة التعسة على مضض
ونظرت إليها بريبة وازدراء كأنما هي عُملةٌ بخسةٌ من فئة نصفِ البِنْس في حين
كان ينبغي أن تكون جنيهًا وألقَت بها في حافظةِ نقودها، يجب أن تصبر على
الأمر، مهما كان وضيعًا وتعِسًا، الأوقاتُ غدَت عصيبةً، عصيبةً جدًّا؛
واستمرَّت السيدة المتألِّمة مسز هولمان في الكلام، بصوتها الذي يشبه صريرَ
الباب، عن الفتاةِ ذات المفصل المتورِّم. آه، كان أمرًا مأساويًّا، هذا
الجشع، جعجعةُ الكائنات البشرية، مثلهم كمثل صفٍّ من الطيور المائية الضخمة
الشَّرهة، تعوي وتصفِّق بأجنحتها طلبًا للتعاطف — كان أمرًا مأساويًّا، بوسع
المرء أن يشعر به وليس فقط أن يتظاهر بأنه يشعر به!
على أنها هذه الليلةَ وداخل فستانها الأصفر هذا لم تكن قادرةً على أن
تعتصر قطرةً واحدةً أكثر؛ كانت تريده كلَّه
١٢ لها، كلَّه لنفسها هي وحدَها. كانت تعرف (استمرَّت في النظر إلى
المرآة، غارقةً داخل بحيرة الاستعراض الزرقاء المرعبة تلك) أنها كانت
منتقَدةً ومستنكَرةً، مُقصاةً ومُزدراة، متروكةً على هذا النحو في المياه
الخلفية الراكدة، ذاك لأنها تلك المخلوقة الهشَّة المتذبذِبة؛ وبدا لها
الفستان الأصفر تكفيرًا عن خطاياها، وكانت تستحق ذلك، ولو أنها كانت قد
ارتدَت مثل روز شاو فستانًا أخضر ضيقًا جميلًا بكرانيش من زَغَب الإوَزِّ
الناعم؛ لكانت استحقَّت ذلك أيضًا؛ ولذلك فقد كانت تؤمن أنْ لا مهربَ لها
— لا مهربَ على الإطلاق مهما فعلَت. لكنه لم يكن خطأها تمامًا مع كل ذلك. بل
السبب هو كونُها فردًا في أسرة من عشرة أفراد؛ ليس لديها أبدًا ما يكفي من
المال، تقتيرٌ دائم وعيش على الفُتات؛ أمُّها كانت تحمل تنكاتِ الصفيح
الضخمة، ومشمَّع الأرضية بالٍ وممزَّق عند حواف السُّلَّم، ثم كارثةٌ منزلية
بائسة صغيرة في إثر كارثةٍ منزلية بائسة صغيرة لا شيءَ فجائعي، نقصٌ في مزرعة
الأغنام، لكن ليس نقصًا كاملًا؛ أخوها الأكبر يتزوج امرأةً أدنى منه طبقةً
لكنْ ليس بكثير — لا غراميات، لا شيءَ لديهم مبالغًا فيه. جميعُهم نشئوا
بالتتابع في ملاجئ الساحل؛ كلُّ مكان من الأمكنة المائية كان يضمُّ واحدةً من
عمَّاتها، وحتى الآن لا بدَّ إحداهن نائمة في غرفةٍ ما نوافذها الأمامية لا
تواجه البحرَ تمامًا. وكان ذلك يشبههم جدًّا — فقد كان عليهم دائمًا أن
ينظروا إلى الأشياء من جوانب عيونهم. وهي نفسُها كانت تفعلُ الشيءَ نفسَه —
تشبه عمَّاتِها تمامَ الشبه. من حيث إن كلَّ أحلامها كانت تدورُ حول العيش في
الهند، والزواج من بطلٍ ما مثل السير هنري لورانس،
١٣ أحد بُناة الإمبراطورية (ما زال منظرُ أحدِ أبناء الوطن مُعتمرًا
عِمامةً فوق رأسه يشحنُها بالعاطفة)، على أنها أخفقَت الإخفاقَ كلَّه. فقد
تزوَّجَت هيبورت، بمهنته المتواضعة لكنْ الدائمة الآمنة في ساحاتِ محاكم
القضاء، وعرفا كيف يدبران أمرَهما على نحو محتمَل في مسكنهما الفقير، دون
خادمات، لحمٌ مفروم مع البطاطا حين تكون وحدها وإما فقط مجرد خبز وزبد، لكنْ
من وقت لآخر كانت مسز هولمان تبتعد عنها، معتقِدةً أنها أكثر الأغصان جفافًا
وافتقارًا للعاطفة بين كل مَن قابلتْهم في حياتها، وفستانها مُضحِك، أيضًا،
وربما سوف تخبر كلَّ واحد عن مظهر مايبيل الفانتازي — هكذا كانت مايبيل
وارينج تفكر من وقت لآخر، وهي متروكةٌ وحيدة على الأريكة الزرقاء، تَلكُم
الوسادةَ المحشوَّة بقبضتها لكي تبدو ممتلئة، ذاك أنها لن تنضمَّ إلى تشارلز
بيرت وروز شو، اللذين يثرثران مثل غربان العَقعَق وربما يضحكان عليها الآن
فيما يقفان جوارَ المِدفأة — من وقت لآخر، ثَمة لحظاتٌ حلوة كانت تقتحمها
بالفعل، القراءة في السرير في إحدى الليالي، على سبيل المثال، أو النزول
جنوبًا على شاطئ البحر تحت الشمس فوق الرمال، في عيد الفصح — فلتسترجعْ تلك
اللحظات من الذاكرة — عناقيد ضخمة من العشب بلونِ الرمل الشاحب تنتصب
متشابكةً مثل كتلةٍ كَثَّة من الرماح تعترض في وجه السماء، التي كانت زرقاءَ
مثل بيضةٍ مصقولة من الخزف، متماسكة جدًّا، صلبة جدًّا، ثم بعد ذلك موسيقى
انسيابِ الأمواج — «هوش، هوش، صهٍ صهٍ:» يقولون، ثم صيحاتُ الأطفال وهم
يُجدِّفون — أجلْ، كانت لحظةً سماويةً مقدسة، هنالك استلقَت وتمدَّدَت، هنالك
شعَرَت، وهي في يد الرَّبَّة الإلهة التي كانت هي العالم؛ إلهة قاسية القلب
قليلًا، لكنها فاتنة الجمال، شعرَت وكأنها حمَلٌ صغير راقد عند مذبح
القُدَّاس (المرء قد يفكر أن هذه الأشياء سخف، وليس من أهمية لها ما دام أحد
أبدًا لم يقُلْها). وكذلك مع هيبورت في بعض الأحيان كانت على غير توقُّع
أبدًا تقبض على مثل هذه اللحظة — تقطيع لحم الضأن في عشاء يوم الأحد، ليس
لسبب محدَّد، لحظةُ فتحِ رسالةٍ ما، لحظةُ دخولِ غرفة — لحظاتٌ سماويةٌ
قدسية، حينها تقول لنفسها (لأنها لا تجرؤ أبدًا أن تقول هذا لأيِّ مخلوقٍ
آخر)، «ها هي ذي. لقد حدثَت. ها هي ذي!» والجانبُ الآخر من هذا الأمر هو على
نفس القدر من الإدهاش — إذ إنه، حين يكون كل شيء مُعَدًّا — الموسيقى، الطقس،
العُطلات، حين كلُّ أسباب السعادة حاضرة — لا شيءَ يحدث بالمرَّة. والمرء لا
يكون سعيدًا. بل يبدو كلُّ شيء فاترًا، فقط فاترًا، ولا شيءَ أكثر.
إنها من جديد روحُها البائسة، ولا شك! لقد كانت دائمًا أُمًّا نَكِدة،
هشَّة، غيرَ راضية، وزوجةً متذبذِبة، تترنَّح حول نفسها بتراخٍ وكسَل مثل
بزوغ الشفق المُغبَّش الكاذب، لا شيءَ واضح جدًّا، لا شيءَ جسور جدًّا، لا
شيءَ أكثر من شيء، مثل كل إخوتها وأخواتها، ربما باستثناء هيبورت — جميعُهم
كانوا الكائناتِ نفسَها التعسةَ التي يجري في عروقها ماءٌ ولا تفعل شيئًا
البتَّة. ثم في غمرة تلك الحياة التسلقية الزاحفة، وجدَت نفسَها فجأةً فوق
ذروة الموجة. تلك الذبابة الضئيلة — أين قرأَت تلك القصة التي لا تني تقفزُ
في رأسِها عن الصَّحن والذبابة؟ — التي ظلَّت تُصارِع طويلًا وتُكافِح. أجل،
صحيحٌ أنها نَعِمَت بتلك اللحظات فيما مضى، سوى أنها الآن وقد غدت في
الأربعين، لربما سوف يكون من النادر أكثر فأكثر أن تُعاوِدها تلك اللحظات.
بالتدريج فيما بعدُ سوف تتوقف عن الكفاح. لكنه شيءٌ مؤسف! لم يكن ذلك أمرًا
مُحتملًا! هذا ما جعلها تشعرُ بالخجل من نفسها!
غدًا كانت سوف تذهب إلى مكتبة لندن. وكانت سوف تجد كتابًا ما رائعًا
ونافعًا ومُذهلًا، بالصدفة البحتة، كتابًا كتبه كاهنٌ أكليروسي، أو كتابًا
بقلم أمريكي لم يسمع به أحدٌ من قبل؛ أو أنها سوف تهبط جنوبًا نحو الشاطئ
وتقوم بزيارة غير متوقَّعة، بالصدفة أيضًا، لرواق الجامعة حيث أحدُ عمالِ
المناجم كان يحكي عن الحياة داخل حفرة تحت الأرض، وفجأةً سوف تغدو إنسانًا
جديدًا. سوف تتبدَّل تبدلًا كليًّا. سوف ترتدي زيَّ الراهبات؛ وسوف يغدو
اسمُها الأخت «كذا»؛ ولن تلقي بعدها بالًا للثياب أبدًا. ووقتها وإلى الأبد
سوف تصبح واضحة تمامًا تجاه تشارلز بيرت والآنسة ميلان وهذه الغرفة وتلك
الغرفة؛ وسوف يكون ذلك دائمًا وإلى الأبد، يومًا بعد يوم، كما لو أنها كانت
تتمدَّد تحت الشمس أو تقطِّع لحمَ الضأن. ذلك ما سيكون!
وهكذا نهضَت من على الأريكة الزرقاء، فنهض أيضًا في المرآة الزرُّ الأصفر
هو الآخر، ثم لوَّحَت بيدها لكلٍّ من تشارلز وروز كي تُظهِر لهما أنها لا
تُعوِّل عليهما قِيدَ أنملة، وبعدها تحرَّكَ الزرُّ الأصفر خارجًا من المرآة،
فتجمَّعَت كلُّ الرماح في صدرها وهي تمشي صوب مسز دالواي لتقول لها: «عِمْتِ
مساءً.»
«لكنَّ الوقتَ لا يزال مبكرًا جدًّا على الذهاب،» قالت مسز دالواي، التي
كانت على الدوام مهذَّبةً جدًّا وفاتنةً.
«معذرةً لكن يجب أن أمضي،» قالت مايبيل وارينج. لكنها أضافت بصوتها
الواهن المُتذبذِب الذي يبدو سخيفًا فقط حين تحاول أن تجعلَه قويًّا، «لقد
استمتعتُ للغاية.»
«لقد استمتعتُ للغاية،» قالت للسيدة دالواي، التي التقت بها على
الدَّرَج.
«أكاذيب، أكاذيب، أكاذيب!» قالت لنفسها، فيما تهبط درجات السُّلَّم،
و«داخلَ منتصفِ الصَّحن بالضبط!» قالت لنفسها وهي تشكر مسز بارنيت التي
ساعدتها في تدثير نفسها ولفِّها، لفَّةً إثرَ لفَّةٍ إثرَ لفَّة، في عباءتها
الصِّينية، تلك التي ظلَّت ترتديها طيلةَ عشرين عامًا.