تحت الملاءة
كان ذلك في فصل الصيف، والدنيا ليل، أول ليل، والناس في كل مكان إلا في السرير.
لكن «هيام» كانت في السرير وحدها، تخفي وجهها وجسمها تحت الملاءة البيضاء الرقيقة، وتُخرج أنفاسها في هدوء واطمئنان، وتحرِّك ذراعيها وساقيها، وتتمطى في رضًا عن نفسها، إنها اليوم ليست على ميعاد مع أحد، تستطيع أن تغمض عينيها وترخي بدنها هكذا تحت الملاءة دون أن يزعجها شيء.
وبدأت تعد على أصابعها الرقيقة: واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة، وتوقفت عن العد بعد برهة وصلت فيها إلى رقم يقرب من العشرين، ووضعت يدها تحت رأسها الصغير وابتسمت لنفسها وهي تتثاءب: لماذا أحبني كل هؤلاء الرجال؟
سألت نفسها وهي تراجع صورهم الباهتة في ذاكراتهم، فقد انقطعت صلتها بهم وانقطعت صلتهم بها، لكنها لا تزال تذكر أن أحدهم كان غريب الأطوار غليظ الشفتين اسمه فتحي، كان إذا تكلم انقلبت شفتاه وانطلق كلامه مبللًا بلعابه، وكان فيما عدا هذا رجلًا وسيمًا، غاية في الأناقة.
كان كثير الكلام، رغم أنه يتكلم بصدق ودقة، ويميل إلى التحليل والشرح، لكنه، كان إذا ذُكر الحب احمرَّ وجهه النضر الناصع البياض، وحاول أن يلتقط شفته السفلى بأسنانه كأنما يخشى أن تقع منه، وتدمع عيناه عندما يتأثر، فيبدو في جثته الضخمة وشفتيه الحمراوين أقرب إلى السرور منه إلى الحزن. وكانت هيام تشفق عليه، وتحتمل في صمت ثرثرته، وتمسح خلسة بمنديلها ما يصيب وجهها من رذاذ كلماته وشفتيه.
وتنفست هيام في استرخاء تحت الملاءة؛ إن في ذاكرتها صورة أخرى لرجل كان زوجًا ذا أولاد، لكنه أحبها وظل يطاردها عامًا كاملًا، ويسافر إليها ويبثها غرامه.
وكان قصيرًا بدينًا، له نظرة حادة، وأنف مقوس حتى ليشبه وجهه وجه الحدأة.
وكان ذا سلطان وجاه، يزورها في مكتبها ومعه حرس من رجاله المقربين الذين يتعاونون معه على حل مشاكل قلبه، وهو يبدو بينهم قويًّا عنيفًا، وسرعان ما يتسللون الواحد تلو الآخر بطريقة غبية، ويبقى هو وحده معها، وهنا تحس أن قوته تسربت هي الأخرى مع من تسربوا، وتركته لاهثًا صامتًا، لكنه يهدأ بعد قليل ويختلس نظرة إليها ثم يرتد إلى الوراء، فيسند ظهره إلى الكرسي ويقول لها كلمته المأثورة في كل زيارة: «إنك جميلة يا هيام، لكنك قوية، وأنا أحب الضعف.»
وتبتسم هيام ابتسامة عنيدة أكثر منها قوة وهيبة.
وظل هكذا عامًا كاملًا يذهب ثم يعود.
وتصادف ذات يوم أن أتى لزيارتها كعادته فوجد عندها رجلًا آخر، وكان ضابطًا، وأحست «هيام» أنه يصوب نظراته النارية إلى الضابط الشاب الذي كان يبدو في قوامه الفارع وملابسه الرسمية رجلًا مكتملًا يملأ العين، وحينما خرج الضابط سألها مستطلعًا فردت عليه «هيام» في غيظ قائلة: «إنه صديق عزيز.»
– وما سبب زيارته لك؟
– وما سبب زيارتك أنت؟
وتقلبت هيام تحت الملاءة، ولفحت أنفاسها الساخنة خديها الملتهبين، وابتسمت لنفسها، لقد تخلصت من واحد، وبقي آخرون، منهم ذلك الضابط الشاب الذي أصبح يتردد عليها لأسباب تافهة غريبة، وكان رغم ردائه العسكري وشاربه الأسود يبدو كغلام صغير لا يفتأ يسأل ويستفهم!
وفي كل مرة يسألها عن شيء جديد، حتى الملوخية سألها هل تعرف طريقة طهوها. وابتسمت هيام وهي تسأله: «ولماذا تريد أن تعرف؟»
– لأني أحبك، وأحب الملوخية أيضًا!
– ولكني لا أحب الملوخية، ولا أحبك أيضًا!
وضحك من النكتة، لكنه سرعان ما فهمها فاختطف الكاب من على المكتب ووضعه على رأسه ثم اختفى.
وتمطت هيام، وفردت جسمها تحت الملاءة وهي تستعرض أصناف الرجال الذين مروا بمكتبها، وهي محامية ناشئة في السادسة والعشرين، شديدة الجاذبية. ومن العجيب أنك لا تستطيع أن تحدد مركز الجاذبية فيها، هل هو في عينيها السوداوين اللامعتين؟ أم في صوتها العميق الدافئ كأنها تتكلم من أعماقها، وليس من حبالها الصوتية؟ أم في قوامها الفارع وخصرها النحيل، وهي تمشي مشيتها الخفيفة كأنها لا تلمس بقدميها الأرض؟
ولم تكن هيام ترى شيئًا من جمالها أو جاذبيتها في المرآة، وإنما ترى صورة مشوشة هي صورة نفسها من الأعماق، وكانت هذه الأعماق مضطربة، ونفسها ضائعة في التيه الواسع الذي يمتد في أعماقها. أشياء كثيرة تدركها بإحساسها ولا تفهمها بعقلها، أشياء كثيرة تراها هامة جدًّا، وهي في نظر الناس تافهة، وكانت تسأل نفسها كثيرًا لماذا لم تحب واحدًا من هؤلاء الرجال؟ لقد كانت صديقتها سميرة تصفها دائمًا بالعبط إذ تراها تتخلص من رجل بعد آخر، وخصوصًا حينما رأت عندها «حافظ» ذلك المهندس الطويل العريض الذي أعجبت به سميرة!
لماذا لم تحبه؟ أليست كباقي النساء؟ ألا يعجبها في الرجل ما يعجبهن؟
ولم تشكَّ هيام في قلبها؛ إذ كانت تعرف أي قلب يغفو في أعماقها مستسلمًا إلى نُعاس خفيف، يتثائب كالعملاق الكسول من وقت إلى آخر، ويرفع رأسه من نعاسه أحيانًا كأنما يتشمم شيئًا ما، لعله رائحة حب انتشرت بالقرب منه، ويزم شفتيه ويمط عنقه ويجذب نفسًا طويلًا ثم يخرجه زفيرًا طويلًا، ويضيع حماسه، وينحني رأسه على صدره ويعود إلى نعاسه.
لهذا لم تشكَّ أبدًا في قلبها، كانت تحس به وتعرف ما يريد، وأي نوع من الرجال يخرجه من غفوته، ولم تهتم بكلام سميرة: «أليس لك قلب؟!»
وتخلصت هيام أيضًا من المهندس الطويل العريض الذي أُعجبت به سميرة، كان يدعوها للعشاء في نادي الصيد، وحينما كانا يأكلان اللحم البارد ويشربان الجعة، كانت هيام تختلس إليه النظرات فترى يديه البيضاوين الناعمتين بأظافرهما التي شذبها بعناية فائقة، وتراه وهو يأكل برقة وأناقة ويمضغ بخفة ولين، ويجتهد ألا يبلل شفتيه، وإذا ابتلت شفته السفلى مسحها بالشفة العليا في دقة وبلا صوت. وكان فيه شيئان يلمعان دائمًا بشدة، الخاتم في إصبع يده اليمنى الصغيرة، ودبوس ربطة العنق، ويلفت نظرها شكل رقبته وهو يبلع، كانت سميكة، محاطة قبل نهايتها بياقة مُنَشَّاة، يرسم طرفها المُنَشَّى مع لحمه النظيف دائرة حمراء خفيفة.
– مش بتاكلي ليه يا هيام؟
– أبدًا، أنا باكل.
– إنت سرحانة خالص.
– لا أبدًا.
– لا أبدًا، إيه يا أمورة؟
وتحس هيام أنه يقول «أمورة» بطريقة مائعة غاية في الميوعة، لا تلبث أن تتميع معها أمعاؤها ويدركها الغثيان.
– ليه بتتكلم كده؟
– عشان باحبك يا أمورة!
– لكن إنت مش على طبيعتك.
– إزاي؟
– بتغير حاجة في نفسك، في صوتك، في شكلك، فيك إنت، من برَّه أو جوَّه، مش عارفة!
والغريب أنه كان يضحك من هذه الكلمات، ويدعوها دائمًا إلى صحبته، وفي بعض الأحيان كانت تمتنع، منتحلة أسبابًا متعددة، كقضية مستعجلة، أو كتاب تريد أن تقرأه، أو راحة تنشدها في النوم، أو أنها على موعد آخر.
وأحست هيام أن أنفاسها الساخنة تحت الملاءة قد ألهبت جسدها فأخرجت رأسها خارج الملاءة في حذر، لكن سرعان ما أعادتها داخل الملاءة ثانية، إن سلسلة الذكريات تنقطع من ذاكرتها بمجرد أن يضيع الجو الحار تحت الملاءة. وودت أن تنهض لتذهب إلى صديقتها سميرة في مجلة «عالم الفن» ذلك أن الدكتور عبد العظيم كان قد وعد بزيارة أسرتها اليوم.
والدكتور عبد العظيم صديق حميم لأبيها رغم أنه في الخامسة والثلاثين، إن ابنة خالته تزوجت من شهور بابن عم زوجة خالها؛ لهذا يعده أهلها من الأسرة، فضلًا عن أنه يحتل مركزًا مرموقًا، فهو أستاذ مساعد في الجامعة، وقد سافر إلى أمريكا منذ عامين، ولم يكن يسعد «هيام» بزيارة الدكتور عبد العظيم سوى تلك الفرحة التي تبدو في عيني أبيها وهو يجلس معه ويناقشه في العلم والسياسة والدين، في الوقت الذي تسمع فيه كركبة في المطبخ، وصينية تلمع بالفيم وأكوابًا تغسل بالليفة والصابون مرة ومرتين وثلاثًا، وفي كل مرة تشمها الأم وتعيدها إلى الخادمة الصغيرة مع سبة أو سبتين توزعهما بالعدل بين أبي الفتاة وأمها!
وتسمع هيام صوت أبيها: «يا أستاذة هيام تعالي سلِّمي.»
وتدخل هيام وتسلم وتجلس، وتستمع إلى حديث الدكتور عن أمريكا ومصر، وترى أسنانه الصفراء المشرشرة عندما يضحك، ويقفز لحم وجهه حول عينيه الضيقتين فيسدهما تمامًا، وتمتلئ صلعته وخداه بخطوط كثيرة.
كان الدكتور عبد العظيم رجلًا مثاليًّا في نظر أبيها، والرجل الوحيد في العالم بعد أبيها في نظر أمها، فهو قريب الأسرة، وهو حائز على جميع شهادات مصر، ومعظم شهادات «بلاد برة» وهو يملك عربة «ستروين» سوداء.
وكان الدكتور عبد العظيم فصيحًا جدًّا وواثقًا من كل شيء فيه، إلا شكله! وكانت «هيام» تحس أنه يخجل حينما يسير منفردًا أمام مجموعة من الناس، وظل الدكتور عبد العظيم يتردد عليهم حتى أحست هيام أن شيئًا جديدًا حدث، فقد زادت الفرحة يومًا في عيني أبيها، وزادت كركبة المطبخ، وأخذ الحماس أمها، وهي تشم رائحة الأكواب وتعيدها إلى الخادمة بقدر سخي من السب تعدى أباها وأمها وشمل أسرة الخادمة جميعًا، وهمست أمها في أذنها وهي فرحة: «الدكتور عبد العظيم خطبك من بابا، ده عريس أد الدنيا! قومي البسي الفستان الوردي وحطي شوية بودرة واحمر، ياللا قومي!»
وقامت العاصفة في البيت بعد هذا اليوم، عاصفة شديدة، تشنجت الأم، وارتعش الأب، وصممت هيام على الرفض، وهدأت العاصفة شيئًا فشيئًا، وتركت خلفها آثارها، البيت صامت مكتئب، والأب عاكف على كتاب، والأم حزينة لا ترمش لها عين من على مفرش تطرزه، وهيام هاربة من هذا البيت إلى مكتبها، أو إلى مجلة «عالم الفن».
ومددت هيام ساقيها تحت الملاءة، وتثاءبت في خمول، لقد رفضت الدكتور عبد العظيم، لم تكن تتصور كيف ترى منظره يلبس «البيجاما» بجوارها على السرير؟!
وفي مجلة «عالم الفن» كانت صديقتها سميرة تعمل محررة، ولم تكن سميرة حائزة على شهادة في الأدب أو الفن، لكنها كانت حائزة على أنف جميل، وعينين خضراوين ناعستين، وقوام ملفوف رشيق.
وكانت، فوق جمالها ورشاقتها، تعرف كيف تستغل أنوثتها وتصوب سهامها، ولا بُدَّ لها أن تصيب هدفًا.
وكان رئيس التحرير معجبًا بها، أو محبًّا لها، فما من أحد كان يعرف الحقيقة.
وكانت سميرة تحب المرح، وتضحك ضحكة ناعمة تنتشي لها الأجسام وتتحمس للاستهتار بكل شيء، وللاستمتاع بأي شيء، وإذا وُجدت امرأة بهذه الصورة، وسط مجموعة من الرجال، فلا بُدَّ أن يكون الجو مسليًّا!
وذات يوم كانت شلة سميرة تجلس كالمعتاد، بين سخرية ولهو وتهكم، وهيام بينهم واجمة تحس أنها تضيع عمرها في قضايا تافهة وتسلية فارغة.
وفجأة خرج من الحجرة المجاورة شاب طويل يلبس قميصًا وبنطلونًا، ويمسك في يده لوحة، واتجه إلى أحد المحررين وجلس إلى جواره، وأخذا يتفرجان معًا على اللوحة ويتحدثان بصوت خفيض.
وأحست هيام أن شيئًا ما أو حادثًا ما، يحيط بهذا الشاب، ورأت في عينيه وملامحه شبهًا كبيرًا بفكرة في رأسها، كأنما هو يعبر عنها بحركاته ونظراته.
واستعرضت هيام المحررين أمامها، كانوا يتكلمون ويحركون شفاههم، ولفت نظرها أشكال آذانهم، ووجدت شبهًا كبيرًا بينهم وبين الأرانب، والتفتت نحو الشاب الجديد، كانت لا ترى منه سوى ظهره، لكنها أحست أنه بسيط، واثق من نفسه، طبيعي جدًّا، لا يلقي بالًا شديدًا لمن حوله، وأحست هيام أنها تريد أن تكلمه وأن تسمع صوته، وأن تعرف آراءه.
وحينما وقفت لتودع سميرة صافحت زملاءها، وصافحته هو أيضًا، وهي تنظر في أعماق عينيه لترى شيئًا تبحث عنه.
وتقلبت هيام تحت الملاءة وتثاءبت وتمطَّت، إنها الليلة ليست على ميعاد مع أحد، ويمكنها أن تظل تحت الملاءة كما تريد، لكنها شبعت من النوم، والجو حار لا يغري بالبقاء في السرير.
ولكن إلى أين تذهب؟
وطافت برأسها فكرة، ليست جديدة، ولكنها بدت جديدة: أروح لسميرة، لمجلة عالم الفن.
وخُيل إليها أنها تتردد، وعرفت هيام لماذا تتردد، لقد أحست أن ذهابها هذه المرة لن يكون من أجل سميرة، ولا من أجل فراغ تريد أن تقضيه بأي شكل.
وتثاءبت هيام في تراخٍ وكسل: آه يا تعبي!
وأغمضت عينيها كأنما ستنام، ولكنها لم تنم، كانت تنظر في أعماقها وتختلس نظرة حذرة إلى العملاق الناعس في هذه الأعماق.
ترى كيف حاله؟ هل آن له أن يستيقظ؟
وتشبثت أصابعها الرفيعة بالملاءة لا تدري أهي تدفعها عنها أم تُحكم أطرافها حول رأسها، لكنها أحست كأنها تتمنى شيئًا.
ورفعت بقدميها الملاءة عن جسدها، ووقفت حافية على الأرض، تفرك عينيها وتهذب شعرها بأصابعها، ومشت تترنح حتى وصلت إلى المرآة فألقت نظرة على أعماقها، نظرة سريعة، وهمست للراقد الناعس في هذه الأعماق متسائلة مشفقة: ترى هل سنستريح معًا من النوم؟
وارتدت ملابسها، وذهبت إلى مجلة «عالم الفن»!