أحلام
كانت سهير تريد أن تختفي، على الأقل من مكتبها، لتفكر بعيدًا عن ضجة البيت، وما فيه من أم وأب وإخوة وأخوات.
وأخذت كتابًا تحت إبطها، وقامت في تثاقل تجر جسدًا منهكًا لم يَنَم ليالي كاملة. وأغلقت باب حجرة المكتب بالمفتاح إشارة لمن في البيت إلى أنها ستراجع دروسها، ولا تريد أية مشاغل خارجية. وما إن اطمأنت إلى أنها وحدها حتى ألقت بالكتاب على المكتب في ضجر، وتمددت في إعياء على الأريكة القصيرة التي لا تسمح لها بأن تمدد جسمها الطويل عليها، إلا إذا أطلت قدماها من نهايتها، وتعلقتا في الهواء.
وبين سهير وبين هذه الأريكة عداء شديد، لا تدري له سببًا، ولعل طول قامتها أيام المدرسة الثانوية كان مساويًا لطول الأريكة فلم تكن قدماها حين ذاك تتعلقان في الهواء، أو لعل الأريكة كانت أحسن حالًا منها الآن، فلم تكن أسلاك التنجيد تبرز من بطنها وتشك ظهرها وهي نائمة، ورغم كل ما تعرفه سهير عن هذه الأريكة فإنها لم تفكر فيها حينما ألقت جسدها المتعب عليها، كانت في رأسها الصغير معركة حامية يكاد لهبها يذيب مادة مخها ويفتتها، كما فتت الأرق جسمها النحيل أربع ليالٍ كاملة.
وأخفت سهير وجهها بكفيها وخرجت رغمًا عنها كلمة أصبحت تلازمها في خطواتها: يا رب.
ورفعت كفيها عن وجهها وعينيها نحو السقف وشفتاها ترددان كأنها في غيبوبة: يا رب.
وأخذت تفكر، هل يمكن أن يصنع ربنا من أجلها شيئًا؟ هل يستطيع أن يمحو من الوجود ما حدث لها، وهو على كل شيء قدير؟
– أستغفر الله العظيم.
نطقت بها سهير في وجل كأنها تخاف أن تكفر بالله فلا يبقى أمامها أمل، وأملها الوحيد الباقي هو الله، أن يصنع من أجلها معجزة ليقتل هذا المخلوق الثقيل الذي يتمسك بالحياة كأنها قطعة من الحلوى، والذي رغم ما فعلته من قفز وجري وخبط على بطنها، يصر على أن يظل متشبثًا بأحشائها ملتصقًا بكيانها لا يتزحزح أبدًا.
ورفعت سهير جفنين متورمين من السهر والبكاء، ونظرت حولها في دهشة، كيف حدث لها ذلك؟ إنه لم يخطر ببالها قط أن تقع في مشكلة كهذه، خصوصًا هي، هي التي لم ترسب في المدرسة أبدًا، هي التي يقول عنها أبوها إنها أحسن البنات، كيف تصبح سهير بعد هذا كله أمًّا بلا زواج لجنين غريب لا تعرف شكله ولا تعرف حتى كيف جاء؟! فهي لم تكن تحب، ولم تكن تفكر في الحب.
وحينما كانت تخلو إلى نفسها لم تكن تفكر في الرجال مثل فتحية وزينب وإلهام، وإنما كانت تفكر في نفسها بعد أن تتم علومها وتتخرج.
ولم تدرِ كيف تسلل إليها ذلك الولد، أجل ذلك الولد! كان زميلًا لها في الدراسة واشتهر بسلوكه المستهتر، تساعده عليه عربته الزرقاء الصغيرة التي يملكها، وإن سهير لتعرف جيدًا أنه لم يلفت نظرها، لا هو ولا عربته، رغم أن فتحية وزينب وإلهام كن دائمًا يغمزنها كلما أقبل بعربته الزرقاء، ويشهقن جماعة قائلات: ياختي عليه، شكله حلو، شوفي يا سهير العربية بتاعته، مش الفقر بتاعنا وركوب الأتوبيسات!
وتعرف حق المعرفة أنها لم تكن تتأثر بكلامهن ولا بشهقاتهن، بل كانت تلقي عليهن دائمًا نصائح في المبادئ والمثل، وأن الفقر ليس عيبًا، وأن الأتوبيس ليس متعبًا، وأن الحياة لذتها الكفاح، وأن الرجل لا يقاس بشكله الحلو، أو عربته الزرقاء وإنما بشخصيته.
شخصيته! هذه الكلمة التي كانت تسمعها من أبيها أحيانًا، وتقرؤها في الروايات، وهذه المبادئ التي كانت تلقنها لزميلاتها، كانت فعلًا تؤمن بها في قرارة نفسها، ولا تمثل دور القديسة أو النبيلة، كانت هي كذلك! ولكن كيف حدث لها ما حدث؟!
ورغم المخلوق الصغير، الذي لم يكتمل، والذي يعيش في أعماقها منذ شهور، ورغم أنها تعرف أن هذا المخلوق لا يأتي هكذا من عند الله، لأنها ليست مريم العذراء، ورغم أنها تخاذلت فعلًا في لحظة ضعف قصيرة مرت كالبرق، رغم كل هذا فهي تحس أنها بريئة، وأنها وإن أخطأت دقيقة فيكفي عذابها وأرقها ليالي طويلة ليكفِّرا عن هذا الخطأ، ولا داعي أبدًا لأن تعيش في مشكلة لا حل لها إلا أن تشرب سمًّا وتموت ويموت معها هذا المخلوق الغريب، أو تعيش، ولكن كيف تعيش؟ لا تدري! وماذا يقول أبوها الذي يؤمن بها وباستقامتها كما يؤمن بالله، وماذا تقول أمها، وأقاربها، والجيران، والناس، و… و…
وأخفت سهير وجهها بين كفيها وأجهشت بالبكاء.
ومرة أخرى تقول يا رب، الأمل الوحيد في أن يصنع معجزة، أي معجزة، أن يأخذها إليه أو يتصرف في ذلك المخلوق ويأخذه قبل أن تنتهي من عد عشرين، وأخذت تعد على أصابعها قائلة بصوت عالٍ: واحد، اتنين، تلاتة، يا رب، أربعة، خمسة، ستة، يا رب، سبعة، يا رب، تمانية، يا رب، لا يمكن أن تنتهي سهير هذه النهاية، وما من أحد يتصور ذلك، فتحية ممكن أو زينب أو إلهام، فهن معروفات بالعفرتة والضحك الكثير، والنكات والحديث عن الرجال، ولكن «سهير» سهير؟! يا سلام! نحس! نحس!
صحيح نحس، حظها نحس، وظروفها نحس، ومعرفتها بهذا الولد، كما تسميه، نحس، ما الذي ساقه إليها؟ وفي أي ظرف نحس تعرَّف إليها؟ لم تكن تذكر، كان في نظرها مجرد ولد غني مهرج يتسكع بعربته الزرقاء ويستعرض قمصانه الحريرية وبدله الغالية أمام البنات، وليس في رأسه عقل ولا ينتظر أن يتابع دراسته أبدًا.
ما الذي غير هذه الفكرة؟ وما الذي جعله يتقرب إليها؟ وما الذي جعله يحدثها عن المبادئ وعن المثل العليا، إن المظلوم يجب ألا يظلم، يجب أن يكون له من يدافع عنه، وإن الحق يجب أن يسود دائمًا، كان يكلمها وكانت تستمع إليه وهي مشدوهة، أيمكن أن يخرج هذا الكلام الجميل من ذلك الولد؟ صحيح أنها خُدعت، لقد ظلمته في فكرتها عنه، ليست العربة الزرقاء ولا البدل الغالية دليلًا على الاستهتار والفساد، وبدأت تقترب منه، وبدأت تحس أنه رجل، رجل قوي، جريء، غني، ليس فيه عيب، أي عيب!
لم تدرِ متى بدأت تحبه لكنها تذكر أنه غاب ذات يوم فأحست أنها لم تستطع أن تركز انتباهها في الدرس، وظلت قلقة حائرة حتى قابلته في اليوم التالي وقلبها يقفز من الفرح، لم تعرف أن هذا هو الحب الذي يكتبون عنه، ويهمسون به، وإن كانت تسأل نفسها حينما تخلو إلى حجرتها: هل هذا هو الحب؟
ولم تعرف أنه الحب إلا بعد ذلك اليوم، كان يوم جمعة وشمس الشتاء تشيع الدفء في الأجسام وتشجع على الخروج، أول موعد في حياتها، وأول مرة تكذب على والدها، وخرجت متعللة بزيارة صديقة لها، وقابلته، كان ينتظرها بجوار الرصيف داخل عربته الزرقاء، ودخلت بسرعة، وجلست إلى جواره، ولأول مرة يمسك يدها فترتجف، ولأول مرة في حياتها يقبلها رجل.
كانت تنتفض ومناظر الطريق خارج العربة تتراقص أمام عينيها كأنها ذاهبة في غيبوبة.
ولم تفق إلا حينما عادت إلى بيتها ودخلت في السرير وشدت على رأسها الغطاء، أفاقت من غيبوبتها وسألت نفسها بعنف كيف سمحت له بأن يقبلها؟ إنها إذن مثل الفتيات اللائي يقبلهن الرجال وتُروى عنهن الشائعات، وتنظر إليهن باحتقار حينًا وبإشفاق أحيانًا. وأغمضت عينيها، وقرأت سورة «يس» كعادتها وقالت لنفسها في عنف إنها لن تسمح له بأن يقبلها مرة أخرى.
وفي اليوم التالي لم تدرِ لماذا نسيت هذا العزم، وكيف ضغطت بإصبع الروج على شفتيها رغم أنها لم تكن تحب الأحمر الثقيل وتكتفي بأحمر خفيف، وكيف كانت سعيدة وهي تمشي في الشارع، وكيف كانت تحرك رأسها هنا وهناك طول الصباح تبحث عنه.
وطبيعي أنها لم تستطع بعد كل هذا أن تقول له لا، حينما طلب منها نزهة ثانية في العربة، وطبيعي أيضًا أنها لم تستطع أن تقول له لا، حينما طلب منها قبلة ثانية.
ولكن غير الطبيعي أنها قالت له نعم، حينما طلب منها أن تأتي معه إلى بيته، ولم يكن طبيعيًّا أيضًا أنها لم تعرف بالضبط ماذا حدث هناك، كان أول رجل يعانقها، وكانت أول مرة تحس فيها أنها أنثى، ومضت اللحظة سريعة كالبرق لم تحس بها تمامًا.
وعادت إلى بيتها ووضعت رأسها تحت الغطاء وفكرت، وتساءلت، كيف حدث هذا؟ كانت خائفة، تحس أنها تدخل حياة أخرى غير التي كانت تعيشها، كانت مبهورة، مذهولة، لكنها لم تفكر أبدًا أن شيئًا كهذا سيحدث، وأن مخلوقًا جديدًا سيبدأ الحياة في أعماقها بعد هذه اللحظة، لم تكن تتصور أن الناس يخلقون بهذه السهولة، وبهذه السرعة.
ولكن ماذا تفعل الآن وقد حدث ما حدث، وتكوَّن مخلوق جديد سخيف؟ لا شيء أمامها سوى أن تنتهي، تموت، ويموت معها ما بداخلها وما بخارجها.
وقامت عن «الأريكة» وظهرها يؤلمها من السلك البارز، وفتحت الباب وتسللت إلى غرفة النوم، ولبست فستانًا قديمًا لا تلبسه إلا في البيت، ونظرت إلى فستانها الجديد المعلق في الدولاب والدموع في عينيها وقالت لنفسها: خسارة! خسارة الفستان الجديد في الموت، خليه لوفاء تلبسه.
إنها تفكر في أختها وفاء وهي في طريقها إلى الموت، هذا دليل على أنها طيبة وأنها بريئة، وأنها قديسة!
وتسللت إلى الخارج دون أن يحس بها أحد، ودون أن تستأذن أباها، إنها أول مرة في حياتها تخرج من البيت بدون إذن، ولكن هل يجب أن تستأذن قبل الموت؟ ومشت في الطريق كالتائهة، ووصلت إلى كوبري الجامعة، وألقت على من حولها نظرة وداع حزينة، وسارت في خطًى بطيئة على الكوبري وهي تحاول ألا تفكر في شيء، إنها ستموت، ويجب أن تموت، لا لتعاقب نفسها، ولكن لأن الحياة سخيفة، ليس لها معنى، والناس أيضًا كلهم سخفاء؛ فهم يُخلقون بطريقة سخيفة، وفي لحظة تافهة سريعة، والموت بالطبع أحسن من الحياة، وأحسن من الناس، والآخرة لا بُدَّ جميلة، والله يعرفها جيدًا ويعرف أنها بريئة، ولا شك في أنه سيدخلها الجنة، لأنها ليست ساقطة، لقد عاشت متدينة دائمًا.
وعند منتصف الكوبري وقفت، ونظرت إلى الماء بقوة غريبة كأنها تتحدى الحياة، وصعدت على سور الكوبري، ثم ألقت بنفسها في الماء.
آه، تحركت سهير، استيقظت من نومها عندما صاحت، وفتحت عينيها: ما هذا؟ أين أنا؟ ونظرت حولها، ورأت المكتب وساعة المنبه عليه تشير إلى الثامنة، كيف؟ لقد قضت الليل كله على الأريكة، ورفعت جسمها عن الأريكة وهي تدلِّك ظهرها من وجع السلك، ورأت الكتاب بجوارها ما يزال مفتوحًا عند آخر صفحة وقفت عندها قبل أن يغلبها النوم، وتأملت الصفحة، ثم ابتسمت لنفسها وهي تغلق الكتاب بهدوء.