لست أنا
كان الحفل صاخبًا زاخرًا بالضجيج، ناس يروحون، وناس يجيئون، ناس يتكلمون، وناس لا يسمعون، راقصة ترقص، ومطربة تغني، رجال يصفقون ويقهقهون ويترنحون، ونساء يتبخترن في ملابسهن البراقة الهفهافة، وكل منهن تنظر إلى فستان الأخرى من طرف خفي.
الكل مشغول، الكل منهمك، الموسيقى تصدح، والفرح يبدو على الجميع، إلا أنا.
كنت أجلس كالعجائز في ركن غير بعيد، أحاول أن أخفي حذائي القديم تحت الكرسي الذي أجلس عليه، وأجتهد ألا تصدر مني حركة قد تلتفت إليها «سنية» زميلتي في المدرسة منذ عشرة أعوام، وأخذت ألوم نفسي، وأعنفها، لماذا حضرت هذا الحفل؟ كان يمكن أن أعتذر، أو لا أعتذر، فمان كان أحد سيذكر هذا أو ذاك، لكني جئت لأسرِّيَ عن نفسي بالنظر إلى الناس والأنوار والطرب، وكنت قبل أن أرى «سنية» سعيدة بما أرى، أجلس وسط جمع من الناس لا يعرفونني ولا يدقق أحد منهم في منظري، وكدت أنسجم تمامًا مع هذا الجو المرح لولا وقوع نظري بغتة على سنية تسير مع بعض صديقاتها، كانت تلبس ثوبًا أنيقًا للسهرة وترفع شعرها إلى أعلى في تسريحة جذابة.
كانت تلمع وتبرق، وكل ما فيها يلمع ويبرق.
وأخفيت رأسي بين رءوس المدعوين أتظاهر بأنني أفتح حقيبتي وأخرج المنديل وأدخله، ثم أخرجه وأدخله عشرات المرات وأنا أضيع الوقت بإطراقي حتى تمر «سنية» بجواري.
ومرت سنية ولم ترني، كانت مشغولة بالحديث مع صديقاتها، وتنهدت بارتياح، فكم يكون خجلي لو رأتني ورأت فستاني الأجرب الذي أخرج به في الصباح والظهر والمساء، ووجهي الكالح الباهت الذي بقَّعتْه طبقة من المساحيق الرخيصة؟
وجلست سنية وصديقاتها — لسوء الحظ — في مكان قريب مني، بحيث أسمع منه حديثهن وضحكاتهن.
وسمعت صوت سنية ينطلق عذبًا رنانًا، فيه جرس السعادة والنعيم، فذكرني بصوتها منذ عشرة أعوام حينما كنا ندخل السرير لننام، وكان سريرها إلى جوار سريري، ودولابها جزء من دولابي، وكانت ضابطة الداخلية صارمة قاسية تحتم علينا أن ننام حينما يدق جرس النوم، لكن النوم كان يطير بمجرد سماع هذا الجرس، وتطل كل واحدة منا برأسها من تحت الأغطية، ونواصل الهمس والضحك المكتوم ساعات طوالًا، وحينما تمر علينا الضابطة تسترق السمع لتفتش على نومنا وأحلامنا نخفي رءوسنا في الأغطية بسرعة البرق، كما تفعل السلحفاة حينما تحس بالخطر.
وكانت الضابطة بالنسبة لي شيئًا مرعبًا، ولقد دهشت كثيرًا عندما علمت أن لها زوجًا وأولادًا، فقد خُيل إليَّ أنها ليست مثل سائر الناس، وكنت أقضي وقتًا طويلًا وأنا أفكر ماذا تفعل في بيتها، وأتخيلها وهي تأكل، وهي تستحم، وهي تلاعب أولادها، وهي تنظر إلى زوجها، وكنت أسائل نفسي كثيرًا، هل هي تحب زوجها؟ وهل تقبله أحيانًا؟ هذا ما لم أتخيله أبدًا، حتى رأيتها في يوم تقبل عليَّ وتمسك في يدها بخطاب، وكان وجهها غريبًا عليَّ، إذ شاعت في عينيها تلك النظرة الجامدة، واختفى من جبينها ذلك الخط الرأسي العميق، وانفرج فمها الرفيع كأنه بلا شفتين، وظهرت أسنانها في ابتسامة، وناولتني الخطاب وهي تربِّت على كتفي: والدك باعت يقول إن مامتك تعبانة شوية، وحضرة الناظرة صرحت لك بالسفر النهاردة.
– السفر؟ النهاردة؟
وتسمرت أمامها لحظة من الفرح، ثم أطلقت ساقاي للريح فوصلت في لمح البصر إلى حقيبتي ودسست فيها بعض الملابس، وعانقت ثلاثًا من صديقاتي دفعة واحدة وأنا أصيح: سعاد، آمال، فتحية، تصوروا، أنا مسافرة دلوقت.
وانفتح باب سجن الداخلية أمامي، وقفزت إلى الطريق، وأخذت أحرك ساقي وذراعي وأنا أسير لأتحقق من أنني أسير، وأحملق في وجوه الناس في الطريق لأتأكد أنني فعلًا خارج من المدرسة، وركبت القطار، وجلست بجوار النافذة لأطل منها وأسرح كيفما أشاء في أبي وأمي وإخوتي، وتذكرت الخطاب وأمي المريضة، وقلت لنفسي: لا بُدَّ أنها متعبة قليلًا فهي أحيانًا تشكو من ركبتيها ومفاصلها.
ووصلت البيت، وصافحت إخوتي، ولاحظت أنهم لا يبتسمون كعادتهم، وأحسست أن تغييرًا كبيرًا قد طرأ على بيتنا، وخفق قلبي، ولم أستطع أن أفكر في ذلك الذي وقع، فأحدث كل هذا التغيير، وبادرت إلى أختي أسألها في جزع ولهفة: «نجوى، جرى إيه؟!»
ونظرت إليَّ نظرة حزينة غريبة، وارتمت عليَّ وهي تجهش بالبكاء، ولا أدري لماذا لم أفهم، أهو الغباء أم أنني لم أكن أتخيل أبدًا أن ماما تموت.
وأخذت أدور في حجرات البيت أبحث عن أمي، وأحسست أنها في مكان ما في البيت كما عهدتها دائمًا، وكان كل شيء من البيت يؤكد لي أنها موجودة.
ولم أفق إلا في اليوم التالي، على صوت أبي وهو يضمني إليه ويقول: أنا فكرت أنك تسيبي المدرسة يا عفت وتقعدي في البيت، إخواتك عاوزين رعايتك دلوقت وإنت الكبيرة، واللا إيه؟
وكانت كارثة أخرى بالنسبة لي تمامًا كموت أمي، فقد كنت أحب المدرسة رغم ضابطة الداخلية، وأشعر أنها الفرجة الوحيدة في حياتي التي أخرج منها رأسي وأطل على الدنيا وأشم عبير الحياة، وبقيت في المنزل رغم أنفي أربِّي أخوتي، وأحضر لهم الطعام وأغسل ملابسهم، وأصبر على متاعبهم، وأتحمل قسوة أخي المغرور الذي كان يتدرب على رجولته معي، فيفرض عليَّ أحكامًا غريبة حمقاء كنت أعرف أنهم يلقنونها له في جمعية دينية، وكان عمري تسعة عشر عامًا، لكني كنت أشعر أنني امرأة في الثلاثين أو الأربعين تحمل هم بيت كبير بأولاده وبناته.
وجاءني أبي يومًا وهو يبتسم، ويربِّت عليَّ وفي عينيه بريق جديد: أنا حاسس يا بنتي إنك تعبانة قوي في البيت وإنت عارفة إن الماهية ما تستحملش خدَّامة.
وضمني إليه في حنان وعطف، وقد رأى دموعي، ثم اغتصب كلماته قائلًا: عشان كده فكرت إني أتجوز، واحدة ست كبيرة عندها حوالي أربعين سنة وطيبة جدًّا وحتساعدك كتير.
وتزوج أبي هذه المرأة، وبعد زواجه زاد من أخدمهم وأعد لهم الطعام، وزاد عدد الأطباق والملاعق التي أغسلها كل يوم ثلاث مرات، وبعد أن كنت المتصرفة في شئون البيت أصبحت الخادمة التي تتلقى الأوامر فتطيع، وإذا لم أطع جاءني أبي متأثرًا يقول لي: دي ست كبيرة، وإنت زي بنتها لازم تسمعي كلامها يا عفت.
وكان لا بُدَّ أن أصبر وأصبر حتى اعتدت هذه الحياة وأصبحت لا أحس بالتعاسة والذلة اللتين كنت أحس بهما، ولم أعد أنظر إلى سقف المطبخ وأنا أغسل الأطباق والملاعق وأشكو لربي وأنا أبكي في صوت مكتوم وأمسح دموعي قبل أن تراني واحدة من أخواتي.
ولم تعد مناظر البنات في الشارع بملابسهن الأنيقة تثير فيَّ مشاعر الحرمان والشقاء، وعرفت أن الذل لا يولد مع المرء، بل يتسرب إليه شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى دَرَك لا يليق به، لكنه لا يحس بشيء لأن التغير يكون بطيئًا، فإذا صادفه شيء يذكره بما كان عليه قبل هذا الانحدار تجلت أمام عينيه الهوة التي فصلته عن مستوى حياته الأولى.
هذا ما حدث لي، حينما رأيت سنية زميلة الدراسة، تذكرت نفسي الحقيقية فيها، وأحسست أنني لا يمكن أن أكون هذه الفتاة التي تنزوي في ركنها الخفي، وكعب حذائها قد تآكل واعوج، وشاب فستانَها هذه البقعُ السوداء والصفراء.
وأحسست أن الجو يخنقني وأن وخزًا كوخز الإبر ينخس قلبي، من أنا؟ لا أكاد أعرف من أنا.
لست أبدًا أنا، أبدًا.
وتحركت من مكاني دون أن أشعر فلمحتني سنية والتفتت نحوي، وأسبلت جفنيها قليلًا لتتأكد مني.
وخفق قلبي وارتعشت أحشائي، وتقابلت عيناها اللامعتان بعينيَّ المهزوزتين، ثم استدارت نحو صديقاتها وانهمكت معهن في الحديث كأن شيئًا لم يحدث.
وبلعت ريقي، وهدأت دقات قلبي وأنفاسي، وقمت وخرجت من الحفل وسرت في الطريق المظلم الموصل إلى بيتنا، ولفحت وجهي نسمة باردة فأحسست بشعور غامض غريب عرفت بعد ذلك أنه الحزن.