القراءة الآنية
في يناير من عام ١٩٩٩، تلقَّيت الرسالة التالية:
عزيزي د. ساكس
مشكلتي (غير المألوفة تمامًا) تتلخَّص في عبارةٍ واحدة، وبمصطلحاتٍ غير طبية، في أنني لا أستطيع القراءة. لا أستطيع قراءة النُّوَت الموسيقية، أو قراءة أي شيء آخر. في عيادة طبيب العيون يُمكنني قراءة الحروف المُنفردة على لوحة فحص النظر وصولًا إلى السطر الأخير. لكني لا أستطيع قراءةَ الكلمات، والمشكلة ذاتُها مع الموسيقى. لقد عانَيت من هذا سنوات، وذهبت إلى أفضل الأطباء، ولم يتمكن أحدٌ من مساعدتي. سأكون في غاية السعادة والامتنان إذا استطعتَ إيجاد الوقت لرؤيتي.
اتصلتُ بالسيدة كالير — فقد بدا أن هذا هو ما ينبغي فِعله، على الرغم من أنني في الأحوال العادية كنت سأردُّ برسالةٍ مكتوبة — فبرغم أنه كان يبدو أنها لا تجد صعوبة في كتابة رسالة، فقد قالت إنها لا تستطيع القراءة على الإطلاق. تحدَّثتُ إليها ورتَّبت مَوعدًا لرؤيتها في عيادة الأعصاب التي كنت أعمل بها.
جاءت السيدة كالير إلى العيادة بعد ذلك بوقتٍ قصير — وكانت امرأةً مثقَّفة ومَرِحة في السابعة والستين، وتتحدَّث بلكنة براج قوية — وروَت لي قصتها بمزيد من التفصيل المُسهب. قالت إنها كانت عازفة بيانو، وفي الواقع عرَفتُها من اسمها بصفتها عازفةً لامعة لموسيقى شوبان وموتسارت (أدَّت أُولى حفلاتها الموسيقية العامة وهي في سن الرابعة، ووصَفها جاري جرافمان، عازف البيانو الشهير، بأنها «واحدة من أكثر الموسيقيِّين الذين عرَفتُهم على الإطلاق تلقائيةً وطبيعيةً»).
قالت إن أول إشارة إلى وجود مشكلة جاءت أثناء حفل موسيقي في عام ١٩٩١. كانت تؤدِّي معزوفات كونشرتو على البيانو لموتسارت، وحدَث تغيير في برنامج الحفل في اللحظة الأخيرة، من كونشرتو البيانو التاسع عشر إلى الكونشرتو الحادي والعشرين. ولكن عندما فتحت المدوَّنة الموسيقية للكونشرتو الحادي والعشرين، فوجئَت حين وجدتها غير مفهومة تمامًا لها. فعلى الرغم من أنها رأت المدرجات والسطور، وكل نوتة على حِدَة، حادَّةً وواضحة، لم يبدُ أن أيًّا منها كانت مُترابطةً مع الأخرى بحيث تُعطي أيَّ معنًى. اعتقدَت أن تلك المشكلة لا بد أنها تتعلق بعينَيها. ولكنها واصَلَت أداء الكونشرتو بلا أخطاء من الذاكرة، وتجاهلت هذه الواقعة الغريبة مُعتبرةً إياها «واحدة من تلك المصادفات السيئة».
بعد عدة أشهُر تكرَّرَت المشكلة، وبدأت قدرتها على قراءة المدوَّنات الموسيقية في التذبذب. فإذا كانت مُتعَبة أو مريضة لم تكُن تستطيع قراءتها على الإطلاق، على الرغم من أنها عندما تكون في أوج نشاطها تكون قراءتها الآنيَّة سريعةً وسهلة كشأنها دائمًا. ولكن تفاقَمت المشكلة عمومًا، ورغم أنها استمرَّت في التدريس، والتسجيل، وإقامة الحفلات في جميع أنحاء العالم، تزايدَ اعتمادها على ذاكرتها الموسيقية وذخيرتها الموسيقية الواسعة؛ إذ صار تعلمُ موسيقى جديدة بالنظر في ذلك الحين مستحيلًا. وفي ذلك قالت: «طالما كنتُ رائعة في القراءة الآنية، وأستطيع بسهولةٍ عزف كونشرتو موتسارت بالنظر، والآن لا أستطيع ذلك.»
عانت ليليان (كما طلبت مني أن أدعوَها)، من حينٍ لآخر في الحفلات الموسيقية، من هفوات في الذاكرة، على الرغم من أنها كانت ماهرةً في الارتجال، وكانت عادةً ما تتمكن من تدارُك هذه الهفوات. وعندما تكون على سجيَّتها، مع الأصدقاء أو الطلاب، كان عزفها يبدو جيدًا كما كان دائمًا. ومن ثَم كان بإمكانها أثناء الكسل أو الخوف، أو أي نوع من أنواع من التكيف، أن تتغاضى عن مشاكلها الغريبة في قراءة الموسيقى؛ لأنها لم يكن لديها مشاكل بصرية أخرى، وكانت ذاكرتها وبراعتها لا تزالان تُتيحان لها حياةً موسيقيةً كاملة.
في عام ١٩٩٤، بعد ثلاث سنوات أو نحو ذلك من أول مرة لاحظَت فيها مشاكل قراءة الموسيقى، بدأت ليليان تُواجه مشكلات في قراءة الكلمات. مرةً أخرى، مرَّت بها أيامٌ جيدة وسيئة في تلك المرحلة، بل مرَّت بأوقاتٍ بدَت فيها قدرتها على القراءة تتغير من لحظة إلى أخرى؛ فكانت الجُمل تبدو غريبةً وغير مفهومة في البداية، ثم فجأةً تبدو لا بأس بها، ولا تُعاني صعوبة في قراءتها. غير أن قدرتها على الكتابة لم تتأثر تمامًا، واستمرَّت في الحفاظ على عددٍ كبير من المراسلات مع الطلاب والزملاء السابقين المنتشرين في جميع أنحاء العالم، على الرغم من ازدياد اعتمادها على زوجها في قراءة الرسائل التي كانت تتلقَّاها، وحتى في إعادة قراءة الرسائل التي تكتبها.
بحلول عام ١٩٩٥، بدأت ليليان تُعاني من المزيد من المشاكل البصرية. فقد لاحظَت أنها تميل إلى «إغفال» الأشياء إلى يمينها، وبعد بعض الحوادث البسيطة قرَّرَت أن من الأفضل أن تكفَّ عن القيادة.
كانت تتساءل في بعض الأحيان عما إذا كانت مشكلتها الغريبة مع القراءة ربما كانت مشكلةً عصبية في الأساس، وليست مشكلةً طبِّية مُتعلقة بالعيون. تساءلت: «كيف يمكنني التعرُّف على الحروف مفردةً، حتى الصغيرة منها في السطر السفلي بلوحة فحص النظر لدى طبيب العيون، ولا يمكنني القراءة؟». ثم في عام ١٩٩٦، بدأت تقع في أخطاء مُحرجة من حين لآخر، كالفشل في التعرف على الأصدقاء القدامى، ووجدت نفسها تُفكر في قصة إحدى حالاتي كانت قد قرأت عنها قبل سنوات في كتاب «الرجل الذي حسب زوجته قبعة»، الذي يدور حول رجلٍ كان بإمكانه رؤية كل شيء بوضوح، ولكنه لم يكن يتعرف على أي شيء. كانت قد ضحِكت ضحكةً خافتة عندما قرأته أولَ مرة، لكنها في ذلك الحين بدأت تتساءل عما إذا كانت الصعوبات التي تُواجهها قد تتشابه على نحوٍ غريب في طبيعتها مع تلك الحالة.
وعلى عكس هذه المشاكل البصرية الشديدة، كان كلٌّ من فَهمها للحديث والتَّكرار والطلاقة اللفظية طبيعيًّا. وكانت أشعَّة الرنين المِغناطيسي التي أُجريَت على الدماغ طبيعية أيضًا، ولكن عندما أُجريَ لها تصويرٌ مقطعي بالإصدار البوزيتروني — الذي يمكنه الكشف عن تغييراتٍ طفيفة في عملية التمثيل الغذائي لمناطق مختلفة في الدماغ، حتى عندما تبدو طبيعية من الناحية التشريحية — وُجِد لدى ليليان نشاطٌ أيضيٌّ متقلِّص في الجزء الخلفي من الدماغ؛ أي في القشرة البصرية. وكان هذا أكثرَ وضوحًا في الجانب الأيسر. ومع ملاحظة الانتشار التدريجي للصعوبات في التعرف البصري — على الموسيقى أولًا، ثم الكلمات، ثم الوجوه والأشياء — شعر أطبَّاء الأعصاب الذين يُباشرون حالتها أنها لا بد أنها تُعاني من حالةٍ تنكُّسية، اقتصرَت في ذلك الحين على الأجزاء الخلفية للدماغ. وكان من المحتمل أن تستمرَّ في التدهور، وإن كان ببطءٍ شديد.
لم يكُن المرض الأساسي قابلًا للعلاج الجذري، لكن أطباء الأعصاب الذين كانوا يُباشرون حالتها اقترحوا أنها قد تستفيد من بعض الاستراتيجيَّات، مثل «تخمين» الكلمات على سبيل المثال، حتى عندما لا تستطيع قراءتها بالطريقة العادية (إذ كان واضحًا أنها كان لا يزال لديها آليةٌ ما، تُمكِّنها من التعرف اللاواعي أو ما قبل الشعوري على الكلمات). واقترَحوا أيضًا أنها من الممكن أن تستعين بمعاينةٍ متروية وواعية وعيًا مُفرِطًا للأشياء والوجوه، مع الملاحظة الدقيقة لسِماتها المُميزة، بحيث يُمكنها التعرُّف على هذه الأشياء أو الوجوه عندما تُقابلها فيما بعد، حتى عندما تكون قدراتها «التلقائية» على التمييز متضرِّرة.
أخبرتْني ليليان أنها في السنوات الثلاث أو نحو ذلك التي انقضت بين هذا الاختبار العصبي وزيارتها الأولى لي، استمرَّت في عزف الموسيقى، وإن لم يكُن بالمهارة أو بالوتيرة المُعتادة. ووجدَت أن ذخيرتها تتضاءل؛ لأنها لم تعُد قادرةً على التحقق بصريًّا حتى من المدوَّنات الموسيقية المألوفة. وقد عقَّبَت على ذلك بقولها: «لم تعد ذاكرتي تتغذَّى.» وكانت تعني التغذية البصرية؛ لأنها شعرت بأن ذاكرتها السمعية وتوجُّهها السمعي قد زادا لدرجة أنها كان يُمكنها في ذلك الحين، بدرجةٍ أكبر بكثير من ذي قبل، تعلُّم مقطوعة موسيقية وإعادة عزفها بالأُذن. ولم تتمكن فحسبُ من عزف مقطوعة بهذه الطريقة (أحيانًا بعد جلسة استماع واحدة فقط)، بل كان يمكنها إعادةُ ترتيبها في ذهنها. ومع ذلك، كان هناك، مع أخذ كل الأمور في الاعتبار، انكماشٌ في ذخيرتها، وبدأت تتجنَّب تقديم حفلات عامة. وواصلت العزفَ في أماكن أقلَّ رسميةً، والتدريسَ في فصول الماجستير في كلية الموسيقى.
سلَّمتْني التقرير العصبيَّ الخاص بها من عام ١٩٩٦، وعلَّقت قائلةً: «يقول جميع الأطباء إنه «ضُمور في القشرة الخلفية للنصف الدماغي الأيسر، على نحوٍ شاذٍّ للغاية»، ثم يبتسمون مُعتذرين، ولكن ليس هناك ما يمكنهم فِعله.»
•••
بالنظر إلى الرسومات في كُتيِّب اختبارات عصبية قياسي، قالت عندما رأت قلمَ رصاص: «يمكن أن يكون أشياء كثيرةً جدًّا. قد يكون كمانًا … قلمًا.» ومع ذلك، تعرَّفَت على منزل على الفور. وعندما رأت صافرة، قالت: «ليست لديَّ فكرة.» وعندما عُرضت عليها رسمة مِقص، نظرت بثبات إلى المكان الخطأ، في الورقة البيضاء أسفل الرسم. هل كانت الصعوبة التي وجدَتْها ليليان في التعرف على الرسومات ترجع ببساطة إلى «سطحيَّتها»؛ أي إلى كونها ذاتَ بُعدَين، وافتقارِها للمعلومات؟ أم إنها عكسَت صعوبةً أعلى درجةً في إدراك التمثيل على هذا النحو؟ هل كانت ستُظهر استجابةً أفضل مع الأشياء الحقيقية؟
عندما سألتُ ليليان عن شعورها تجاه نفسها وتجاه حالتها، قالت: «أعتقد أنني أتعامل مع الأمر على نحوٍ جيِّد للغاية، في معظم الأوقات … أعلم أنه لا يتحسن، ولكنه فقط يَسوء ببطء. لقد توقَّفتُ عن الذَّهاب إلى أطباء الأعصاب. صِرتُ أسمع الشيء نفسه دائمًا … لكنني شخصٌ شديد المرونة. لا أُخبر أصدقائي. فلا أريد أن أُحمِّلهم عبئًا، وقِصَّتي الصغيرة ليست مبشِّرةً كثيرًا. لقد وصلت إلى طريقٍ مسدود … أتمتَّع بحسِّ دعابةٍ جيِّد. وهذا كل ما في الأمر، بإيجاز. عندما أفكِّر في الأمر، أجده مُحبطًا؛ أواجه إحباطاتٍ يومية. ولكن لا يزال في انتظاري أيامٌ وسنواتٌ طيِّبة عديدة.»
بعد مغادرة ليليان، لم أتمكَّن من العثور على حقيبتي الطبِّية، وكانت حقيبةً سوداء تحمل بعض التشابهات (حسَبما تذكَّرتُ الآن) مع إحدى الحقائب العديدة التي كانت قد أحضرَتها معها. وعند عودتها إلى المنزل في سيارة الأجرة، أدركَت أنها قد أخذت الحقيبة الخطأ عندما رأت شيئًا أحمرَ الرأس يبرُز منها (مِطرقة المُنعكسات الطويلة خاصتي ذات الرأس الأحمر). كانت قد جذبَت انتباهها بلونها وشكلها عندما رأتها على مكتبي، والآن أدركَت خطأها. فعادت لاهثةً ومعتذرةً إلى العيادة، وقالت: «أنا المرأة التي حسبت حقيبة الطبيب حقيبةَ يدها.»
كان أداءُ ليليان سيئًا للغاية في الاختبارات الرسمية للتعرف البصري، لدرجة أنني وجدتُ صعوبةً في تخيُّل كيف تُدير حياتها اليومية. كيف كانت تتعرف على سيارة أجرة، على سبيل المثال؟ كيف كان يُمكنها التعرف على منزلها؟ كيف كان يمكنها التسوُّق — إذ أخبرتني أنها تتسوَّق — أو تتعرف على الأطعمة وتُقدمها على طاولة؟ كل هذا وأكثر بكثير — من حياةٍ اجتماعية نشِطة، وسفر، وذَهاب إلى الحفلات الموسيقية، وتدريس — كانت تفعله بنفسها عندما كان زوجها، الذي كان موسيقيًّا أيضًا، يذهب إلى أوروبا عدةَ أسابيع في كل مرة. لم أستطع أن أتخيَّل كيف تُنجز ذلك من رؤيتي لأدائها المخيِّب في الأجواء الفقيرة والمصطنَعة لعيادة طب الأعصاب. فكان لِزامًا أن أراها في بيئتها المألوفة.
***
في الشهر التالي، زُرتُ ليليان في المنزل، الذي كان عبارةً عن شقةٍ لطيفة في مانهاتن العُليا، حيث عاشت هي وزوجها أكثر من أربعين عامًا. كان كلود رجلًا جذَّابًا، ولطيفًا، وفي نفس عمر زوجته تقريبًا. وقد التقيا كطالبَي موسيقى في تانجلوود منذ ما يقرُب من خمسين عامًا، وباشَرا مسيرتَيهما المهنية الموسيقيَّة جنبًا إلى جنب، وكانا كثيرًا ما يعزفان على المسرح معًا. كان للشقة أجواءٌ تتَّسم بالودِّ والثقافة، مع بيانو كبير، والعديد من الكتب والصور لابنتِهما وللأصدقاء والعائلة، ولوحات تجريديَّة حديثة على الجدار، وتذكارات من رِحلاتهما على كل سطح مُتاح. كانت مُزدحمة، بل وغنيَّةً بالتاريخ والمعاني الشخصية في تصوُّري، ولكنها كانت كابوسًا، وفوضى كاملةً لشخص يُعاني من العمَه البصري. كانت هذه، على الأقل، فِكرتي الأولى عندما دخلتُ وأنا أشقُّ طريقي بين الطاولات المليئة بالتُّحف الصغيرة الزهيدة. لكن ليليان لم تكُن تجد صعوبةً مع الفوضى، وشقَّت طريقها بثقةٍ عبر العقَبات.
ونظرًا إلى أنها واجهَت صعوبة في اختبار التعرف على الرسومات، أحضرتُ معي عددًا من الأشياء الصُّلبة، مُتسائلًا إن كان أداؤها سيتحسَّن مع هذه الأشياء. بدأتُ ببعض الفاكهة والخضراوات كنتُ قد اشتريتها للتَّو، وهنا أدَّت ليليان أداءً جيدًا على نحوٍ مُدهش. فقد تعرَّفَت على الفور على «ثمرة فُلفل أحمرَ جميلة»، مميِّزةً إيَّاها من الجانب الآخر من الغُرفة، وتعرَّفَت كذلك على ثمرة موز. لم تكُن مُتأكدةً للحظةٍ إذا ما كان الشيء الثالث هو تفاحة أم ثمرة طماطم، على الرغم من أنها سُرعان ما قرَّرَت، على نحوٍ صحيح، أنه الأول. عندما عرضت عليها نموذجًا بلاستيكيًّا صغيرًا لذئب (إذ أحتفظ بمجموعةٍ مُتنوعة من هذه الأشياء، للاختبار الإدراكي، في حقيبتي الطبية)، صاحت قائلةً: «إنه حيوانٌ رائع! فيلٌ صغير، ربما؟» وعندما طلبتُ منها أن تنظر عن كثب، قرَّرَت أنه «نوع من الكلاب».
جعلني النجاح النِّسبي لليليان في تسمية الأشياء الفعلية، بعكس رسوماتها، أتساءل مرةً أخرى عما إذا كانت تُعاني من عمَهٍ خاص بأشكال التصوير التمثيلي. قد يتطلب التعرف على أشكال التصوير التمثيلي نوعًا من التعلم، كاستيعاب رمز أو اصطلاح، يفوق ذلك اللازمَ للتعرف على الأشياء. لذلك يُقال إن الناس المُنتمين إلى الثقافات البدائية الذين لم يرَوا صورًا فوتوغرافية من قبلُ قد يفشلون في إدراك أنها تمثيلات لشيءٍ آخر. فإذا كان هناك نظامٌ معقَّد للتعرف على التمثيلات البصرية يجب بناؤه خصوصًا بواسطة الدماغ، فهذه القدرة قد تُفقَد بسبب تلف في ذلك النظام نتيجةَ سكتةٍ دماغية أو مرضٍ ما، تمامًا مِثلما قد يُفقَد الفَهم المُكتسَب للكتابة، على سبيل المثال، أو أي قدرة مُكتسَبة أخرى.
تبِعتُ ليليان إلى المطبخ، حيث شرَعَت في أخذ الغلَّاية من على المَوقد وسكبِ الماء المَغلي في إبريق الشاي. بدَت وكأنها تتنقل في مطبخها المُزدحم جيدًا، مع العلم، على سبيل المثال، أن جميع المقالي والأواني كانت معلَّقة على مَشاجب على جدارٍ واحد، وكانت هناك مؤنٌ مختلفة محفوظة في أماكنها المُعتادة. وعندما فتحنا الثلَّاجة واختبرتها في محتوياتها، قالت: «عصير برتقال، وحليب، وزبد على الرفِّ العُلوي، ونقانق لطيفة، وإذا كنتَ مهتمًّا، فهناك واحدةٌ من تلك الأشياء النمساوية … أجبان.» تعرَّفَت كذلك على البَيض في باب الثلَّاجة؛ وعندما سألتُها، عدَّته عدًّا صحيحًا، ناقلةً إصبعها من بيضة إلى أخرى بينما كانت تفعل ذلك. استطعتُ أن أرى من نظرة خاطفة أنها ثماني بيضات — صفَّان؛ كلٌّ منهما يتألف من أربع بيضات — لكن ليليان، كما أظن، لم تستطع إدراك كونها ثمانيًا، وفقًا لنظرية الجشتالت أو التكوُّن الإدراكي، بسهولة، وكان عليها عدُّ البيضات واحدةً بواحدة. وقالت إن التوابل التي لديها «كارثة». فكلُّها تأتي في زجاجاتٍ مُتطابقة ذات أغطية حمراء، وبالطبع، لم تكن تستطيع قراءة ملصقات الأسماء. لذلك: «أشمها! … وأطلب المساعدة في بعض الأحيان.» أما فرن الميكروويف، الذي كانت تستخدمه كثيرًا، فقالت عنه: «لا أرى الأرقام. وأستخدمه بالإحساس، أطبخ، وأتذوَّق الطعام، وأرى ما إذا كان بحاجة إلى مزيد من الطهي.»
على الرغم من أن ليليان كانت بالكاد يمكنها التعرف بصريًّا على أي شيء في المطبخ، فقد نظَّمته بطريقةٍ تجعلها نادرًا ما تُخطئ، إن أخطأتْ من الأساس، وذلك باستخدام نوع من أنظمة التصنيف المبسَّطة بدلًا من المعرفة الإدراكية المباشرة. فلم تُصنَّف الأشياء حسَب معناها، ولكن حسب اللون، والحجم، والشكل، والموضع، والسياق، والارتباط، إلى حدٍّ ما كما قد يُرتب شخصٌ أمِّيٌّ الكتبَ في مكتبة. كان لكل شيء مكانه، وقد حفِظَت هذا المكان.
وبرؤية كيفية استدلال ليليان على طبيعة الأشياء حولها بهذه الطريقة، لا سيَّما باستخدام اللون كعلامة تمييز، تساءلتُ عما ستفعل مع الأشياء المُتشابهة الشكل، كسكاكين السمك وسكاكين اللحم، التي بدَت مُتشابهةً إلى حدٍّ كبير. اعترفَت أن هذه كانت مشكلة، وأنها كثيرًا ما كانت تخلط بينها. ربما كان يمكنها وضعُ علامة، كما اقترحتُ عليها، كنقطةٍ خضراء صغيرة على سكاكين السمك، وأخرى حمراء على سكاكين اللحم؛ حتى تتمكَّن من رؤية الفرق بمجرَّد النظر. قالت ليليان إنها فكَّرَت في هذا بالفعل، لكنها لم تكُن مُتأكدةً من رغبتها في «التباهي» بمشكلتها أمام الآخرين. فكيف كان سيرى ضيوفُها أدوات مائدة وأطباقًا ذاتَ رموز ملوَّنة، أو شقة ذات رموز ملوَّنة؟ («كتجرِبةٍ نفسية أو عيادة» على حدِّ قولها.) أزعجها «التصنُّع» الذي يُحيط بمثل هذه الفكرة، ولكنها وافَقتني في أنها قد تحتاج إليها إذا تفاقمَت حالة العمه لديها.
عندما كان نظام تصنيف ليليان لا يُجْدي في بعض الحالات، كما كان الحال في استخدام الميكروويف، كان يُمكنها العمل بطريقة التجرِبة والخطأ. ولكن إذا لم تكن الأشياء في مكانها، كان من الممكن أن تظهر صعوباتٌ كبيرة. ظهر ذلك على نحوٍ مُخيف في نهاية زيارتي. كان ثلاثتنا — ليليان، وكلود، وأنا — جالسين إلى طاولة غُرفة الطعام. كانت ليليان قد أعدَّت المائدة، ووزَّعت حلوى البسكوتي والكعك، ثم جلبت إبريقَ شاي يتصاعد منه البخار. كانت تتحدث ونحن نتناول الطعام، ولكن مع الإبقاء على انتباهٍ معيَّن؛ إذ كانت ترصد موضعَ وحركةَ كل طبق، وتتبع أثر كل شيء (أدركتُ ذلك لاحقًا)، حتى لا «يتوه». نهضَت لأخذ الأطباق الفارغة إلى المطبخ، ولم تترك سوى البسكوتي، الذي لاحظَت أنه أعجبني للغاية. تجاذبنا أطراف الحديث أنا وكلود بضعَ دقائق، وكان ذلك أولَ حديث لنا وحدنا، دافعَين طبق البسكوتي بيننا.
عندما عادت ليليان، وهممتُ بحزم حقيبتي استعدادًا للانصراف، قالت: «يجب أن تأخذ بقية البسكوتي معك»، ولكن في تلك اللحظة الآن، وعلى نحوٍ غريب، لم تستطع أن تجدَه، وتملَّكها الضِّيق، وصارت شِبه ثائرة بسبب هذا. كان البسكوتي إلى اليمين على الطاولة في طبقه، ولكن نظرًا إلى أن الطبق قد تحرَّك من موضعه، لم تعُد تعلم أين هو، أو حتى في أي اتجاه تنظر. بدَت لا تملك استراتيجيةً للنظر. ومع ذلك، كانت مُندهشةً للغاية لرؤية مِظلَّتي على الطاولة. لقد فشلَت في التعرف عليها باعتبارها مظلةً، ولم تلحظ إلا أن هناك شيئًا مُنحنيًا ومُلتويًا قد ظهر، وتساءلَت نِصفَ لحظة في جِدِّية عما إذا كان هذا الشيء ثعبانًا.
قبل أن أغادر، طلبتُ من ليليان أن تتَّجه نحو البيانو، وسألتها عما إذا كان من الممكن أن تعزف لي شيئًا. تردَّدَت. كان من الواضح أنها فقدتْ قدرًا كبيرًا من ثقتها بنفسها. بدأت على نحوٍ جميل، بإحدى فوجات باخ، لكنها توقَّفتْ فجأةً مُعتذرةً بعد بضع فواصل. عندما رأيت مجلدًا لمازوركات شوبان على البيانو، سألتُ عنها؛ وبعد تشجيع أغمضت عينَيها، وعزفَت مازوركتَين من المقطوعة رقم ٥٠ دون تعثُّر، وبحيوية وإحساس رائعَين.
أخبرتني بعد ذلك أن الموسيقى المطبوعة «قابعةٌ بلا حَراك فحسب»، قائلةً: «تُشتِّتني رؤية المدوَّنة، أو قلبُ الناس للصفحات، أو يدي، أو لوحة المفاتيح» وهكذا، في مثل هذه الظروف، قد ترتكب أخطاءً، خاصةً بيدها اليمنى. كان عليها أن تُغلق عينَيها وتؤديَ دون النظر، مستخدمةً فقط «ذاكرتها العضلية»، وأذنها المُرهَفة.
ماذا يمكنني أن أقول عن طبيعة مرض ليليان الغريب وتطوُّره؟ لقد تقدَّم تقدمًا واضحًا إلى حدٍّ ما منذ خضوعها إلى الفحص العصبي قبل ثلاث سنوات، وكانت توجد إشاراتٌ — وإن لم تزِد عن كونها إشارات — إلى أن مشاكلها ربما لم تعد بصريةً بحتة. فعلى وجه الخصوص، كانت تُواجه أحيانًا صعوبةً في تسمية الأشياء حتى عندما تتعرف عليها، وكانت تتحدث باضطراب وتلعثُم عندما لم تكن تستطيع التوصل إلى الكلمة.
طلبتُ إجراء تصويرٍ جديد بالرنين المِغناطيسي لمقارنته بالتصوير السابق، وأظهرَ وجود بعض الانكماش الآن في المناطق البصرية على جانبَي الدماغ. هل كانت ثَمة أيُّ علامة على وجود تلف حقيقي في مكانٍ آخر؟ كان من الصعب الجزم بذلك، على الرغم من أنني كنت أشكُّ في وجود بعض الانكماش في الحصين أيضًا، وهي أجزاءٌ من الدماغ أساسية لتسجيل الذكريات الجديدة. لكن التلف كان لا يزال محصورًا إلى حدٍّ كبير في عظام القذالي والقشرة الصدغية القذالية، وكان واضحًا أن معدَّل التقدم بطيءٌ للغاية.
عندما ناقشتُ نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي مع كلود، شدَّد على ضرورة أن أتجنَّب مصطلحات بعينها في حديثي مع ليليان، على رأسها التسمية المُخيفة لمرض ألزهايمر. قال: «إنه ليس ألزهايمر، أليس كذلك؟» من الواضح أنهما كانا يُفكران في هذا الأمر كثيرًا.
قلت: «لست متأكدًا. ليس بالمعنى المُعتاد. ينبغي النظر إلى الأمر على أنه شيءٌ أكثر ندرةً، وأقلُّ حِدَّة.»
***
كان أول مَن وصف الضُّمورَ القشري الخلفي رسميًّا هو فرانك بنسون وزملاؤه في عام ١٩٨٨، على الرغم من عدم وجوده بلا شك، وعدم الاعتراف به إلى ما بعد ذلك بكثير. لكن ورقة بنسون وآخَرين البحثية أثارت موجةً مُفاجئة من الاعتراف به، ووصفتْ عشرات الحالات به الآن.
يحتفظ الأشخاص المُصابون بالضمور القشري الخلفي بالجوانب الأساسية للإدراك البصري، مثل حدَّة البصر أو القدرة على تبيُّن الحركة أو اللون. لكنهم يميلون إلى الإصابة باضطراباتٍ بصرية معقَّدة، كصعوبات القراءة، أو التعرف على الوجوه والأشياء، وأحيانًا الهلاوس. قد يصبح الخلل البصري شديدًا؛ إذ يتوه بعضُ المرضى في أحيائهم أو حتى في منازلهم، ويُطلق بنسون على هذا «العمهَ البيئي». وعادةً ما يتبع ذلك صعوباتٌ أخرى، كالتَّوَهان اليَميني اليساري، وصعوبة في الكتابة والحساب، وحتى عَمَه أصابع المرء نفسه، وهي مجموعةٌ من أربع مشاكل تُسمَّى أحيانًا بمتلازمة جيرستمان. وفي بعض الأحيان قد يكون المريض الذي يُعاني من الضمور القشري الخلفي قادرًا على التعرف على الألوان وتنسيقها، ولكنه غير قادر على تسميتها، وهو ما يُسمَّى بفقد تسمية الألوان. وفي حالاتٍ أكثر ندرةً، قد توجد صعوبة في الاستهداف البصري وتتبُّع الحركات.
وفي مُقابل هذه الصعوبات، تَميل الذاكرة، والذكاء، والاستبصار، والشخصية إلى البقاء على حالها حتى مرحلةٍ مُتأخرة من مسار المرض. فقد كتب بنسون يقول إن كلَّ مريض وصَفه «كان بإمكانه تقديم تاريخه، ومُدركًا للأحداث الجارية، وأظهرَ قدرًا كبيرًا من الإدراك والتمييز لمِحنته.»
على الرغم من أن الضمور القشري الخلفي مرضٌ تنكُّسي دماغي بشكلٍ واضح، فإنه يبدو مختلفًا تمامًا في طبيعته عن الأشكال الأكثر شيوعًا لمرض ألزهايمر؛ إذ قد تظهر تغيُّراتٌ جَسيمة في الذاكرة والتفكير، وفي فَهم اللغة واستخدامها، وفي السلوك والشخصية غالبًا، وتُفقَد القدرة على تمييز واستبصار ما يحدث (ربما على نحوٍ رحيم) عمومًا في وقتٍ مبكِّر.
في حالة ليليان، بدا مسار المرض حميدًا نسبيًّا؛ فحتى بعد تسع سنوات من ظهور الأعراض الأولى، لم تَتُه في منزلها أو الحي الذي تَقطُنه.
لم يسَعْني إلا أن أقارنَ حالتها، كما فعلتْ ليليان نفسُها، بحالة مريضي الدكتور بي «الرجل الذي حسب زوجتَه قُبَّعة». فكلٌّ منهما كان موسيقيًّا مُحترفًا وموهوبًا للغاية، وكلٌّ منهما أُصيب بعمهٍ بصري حاد، بينما ظل كلٌّ منهما سليمًا بصورةٍ ملحوظة في العديد من الجوانب الأخرى، واكتشف كلٌّ منهما، أو طوَّر، طُرقًا بارعة للتحايل على مشكلاته؛ حتى يتمكَّن من الاستمرار في التدريس على أعلى مستوًى في كليات الموسيقى، على الرغم مما قد يبدو أنه إعاقاتٌ مدمِّرة تمامًا.
ومع ذلك، كانت الطُّرق الفعلية التي تَكيَّف بها كلٌّ من ليليان ودكتور بي مع مرضه مختلفةً تمامًا؛ وهو ما انعكس في جزءٍ منه من خلال شدة الأعراض لدى كلٍّ منهما، وفي جزءٍ آخر من خلال اختلافات في الحالة المزاجية والتدريب. كان الدكتور بي يُعاني بالفعل من مشكلةٍ خطيرة عندما رأيتُه، وكان ذلك بعد ثلاث سنوات تقريبًا من ظهور الأعراض الأولية عليه. لم يكُن يُعاني فقط من صعوباتٍ بصرية بل في اللمس أيضًا؛ فقد أمسك برأس زوجته وحسبه قُبعة. وأظهر نوعًا من الاستخفاف أو اللامُبالاة، والقليلَ من الإدراك لحقيقة أنه كان مريضًا، وكثيرًا ما كان يَهذي بأشياءَ من وحي خياله ليُعوِّض حقيقة أنه لا يستطيع تحديد ما كان يراه. وكان هذا مُتناقضًا إلى حدٍّ كبير مع ليليان، التي — بعد تسع سنوات من ظهور أوَّل الأعراض عليها — لم تكن لديها مشاكل جَسيمة تتعدى مشاكلها البصرية، وكانت لا تزال قادرةً على السفر والتدريس، وأظهرت إدراكًا حادًّا لحالتها.
•••
بعد بضعة أشهُر، في يونيو ١٩٩٩، عاودتُ زيارةَ ليليان وكلود في شقَّتهما، وكان كلود قد عاد لتوِّه من أسابيعه التي يَقضيها في أوروبا، وكانت ليليان، كما فهمتُ، تتحرَّك بحريةٍ في نطاق أربع بنايات من شقَّتهما شكَّلَت نصف دائرة، فكانت تذهب إلى مطعمها المفضَّل، والتسوُّق، وقضاء احتياجاتها. عندما وصلت، رأيتُ أن ليليان كانت تُرسل بطاقاتٍ إلى أصدقائها حول العالم؛ فقد كانت هناك أظرُفٌ موجَّهة إلى كوريا، وإلى ألمانيا، وإلى أستراليا، وإلى البرازيل، مُتناثرة عبر الطاولة. كان واضحًا أن تعذُّر القراءة الذي كانت تُعاني منه لم يُقلل من مُراسَلاتها على الرغم من أن الأسماء والعناوينَ أحيانًا ما تكون منتشرة عشوائيًّا على المظروف. ولكن بدَا أن الأمور تسير معها على نحوٍ جيِّد في شقَّتها، ولكن كيف كانت تتعامل مع التسوُّق وتحدِّيات السير في أي حي من أحياء نيويورك المُزدحمة، أو حتى الحي الذي تَقطُنه؟
قلت: «دَعونا نخرج، دَعونا نتجوَّل.» فبدأتْ ليليان على الفور في غناء الأغنية الألمانية «المتجول» — فهي تحبُّ شوبرت — ثم انتقلتْ إلى مقطوعة «فانتازيا المتجوِّل» التي كانت امتدادًا للأولى.
في المِصعد، حيَّاها بعضُ الجيران. لم يكن واضحًا لي ما إذا كانت قد تعرَّفَت عليهم بالنظر أم عبر أصواتهم. فقد كانت تُدرك الأصواتَ على الفور، الأصواتَ من جميع الأنواع، بل إنها في الواقع بدَت مُفرِطة الانتباه في هذا الشأن، كما كانت مع الألوان والأشكال. فقد اكتسبَت أهميةً خاصة باعتبارها إشارات.
لم تجد صعوبةً في عبور الشارع. صحيحٌ أنها لم تستطع قراءةَ لافتتَي السير والتوقُّف، ولكنها كانت تعلم موقع ولون كلٍّ منهما، وكانت تعرف أيضًا أن بإمكانها أن تمشيَ عندما كانت الإشارة تُومض. أشارت إلى كنيس على الناصية المُقابلة، وتعرَّفَت على محلَّاتٍ تِجارية أخرى من خلال الأشكال أو الألوان، كما هو الحال مع مطعمها المفضَّل، الذي كان له بلاطٌ أسود وأبيض بالتناوب.
ذهبنا إلى سوبر ماركت وأخذنا عربةَ تسوُّق؛ إذ توجَّهتْ على الفور إلى الكوة التي توجد بها هذه العربات. لم تجد صعوبةً في العثور على قسم الفاكهة والخضراوات، أو في التعرف على التفاح، والكُمَّثرى، والجزر، والفُلفل الأصفر، والهليون. لم تتمكن في البداية من تسمية الكرَّاث، لكنها قالت: «هل هو من عائلة البصل؟» ثم توصَّلَت إلى الكلمة المفقودة «كراث». وقد حيَّرتْها فاكهةُ الكيوي، حتى جعلتها تُمسك بها. (رأت أنها شيء «فروي رائع، كفأرٍ صغير.») مدَدتُ يدي إلى شيء معلَّق فوق الفاكهة. وسألتُ: «ما هذا؟» حدَّقت ليليان في تردُّد. «هل هو شيءٌ يؤكَل؟ أهو ورق؟» عندما جعلتُها تلمسه، انفجرت في ضحكٍ مُحرج بعض الشيء. وقالت: «إنه قفاز فرن، حامل أوعية. كيف لي أن أكون بهذه البلاهة؟»
عندما انتقلنا إلى القسم التالي، صاحت ليليان، بطريقة عامل مِصعد في متجرٍ متعدِّد الأقسام، قائلةً: «صلصات السلطات على اليسار، والزيوت على اليمين». كان واضحًا أن لديها خريطةً للسوبر ماركت بأكمله في رأسها. ولأنها كانت تريد صلصةَ طماطم معيَّنة، من بين اثنتَي عشرة علامةً تِجارية مختلفة، التقطتها من على الرفِّ لأن مُلصَقها كان يحتوي على «مستطيلٍ أزرق غامق تحته دائرةٌ صفراء». وأكَّدت مرةً أخرى أن «اللون هو الأساس». كان هذا هو أكثر منبِّه بصري مباشر بالنسبة إليها، حيث يُمكنها التعرُّف عليه عندما لا تتمكَّن من التعرف على أي شيء آخر. (لهذا السبب، وخوفًا من أن نتفرق، ارتديتُ كامل ملابسي باللون الأحمر أثناء زيارتنا؛ لعلمي أن ذلك سيُمكِّنها من تحديد موقعي على الفور إذا تفرَّقنا.)
لكن اللون لم يكن كافيًا دائمًا. فإذا واجهتها حاويةٌ بلاستيكية، فقد لا يكون لديها أدنى فكرةٍ عما إذا كانت تحتوي على زبدة الفول السوداني أم الشمَّام. وكثيرًا ما كانت تجد أن أبسط استراتيجية لها أن تُحضِر معها عُلبةً من القصدير أو كرتونةً مستعملة، وتطلب من أحد الأشخاص مساعدتَها في إيجاد مثيلتها.
عندما غادَرنا السوبر ماركت، اصطدمتْ بلا قصدٍ بعربة التسوق في كومة من سِلال التسوُّق على يمينها. كانت مثل هذه الحوادث، عندما تحدُث، دائمًا في جِهتها اليمنى؛ بسبب ضعف وعيها البصري في هذا الجانب.
•••
بعد بضعة أشهُر، رتَّبتُ لرؤية ليليان في مكتبي وليس في العيادة؛ حيث أتت لي من قبل. وصلتْ على الفور، بعد أن شقَّت طريقها إلى جرينتش فيليدج من محطة بنسلفانيا. لقد كانت في نيو هافن الليلة السابقة، حيث كان زوجها يعزف في حفلٍ موسيقي، وتأكَّد من أنها استقلَّت قطارًا في صباح ذلك اليوم. قالت: «أعرفُ محطة بنسلفانيا كما أعرف ظهر يدي»؛ لذلك لم يكن لديها مشاكل هناك. لكن في الخارج، وسط صخب الناس وحركة المرور، أشارت إلى أنه «كانت هناك لحظاتٌ كثيرة اضطُررتُ فيها إلى السؤال.» عندما استفسرتُ عن حالها، قالت إن العمهَ يزداد سوءًا. «عندما ذهبتُ أنا وأنت إلى السوبر ماركت معًا، كان هناك الكثير من الأشياء التي تمكَّنتُ من التعرُّف عليها بسهولة. لكن الآن، إذا أردت شراء الأشياء نفسها، أُضطرُّ إلى أن أسأل الآخرين.» وبوجهٍ عام، كان عليها أن تطلبَ من الآخرين أن يُعرِّفوا لها الأشياء، أو أن يُساعدوها إذا كان هناك دَرَج عسير، أو تغييرات مُفاجئة في مستوى السير، أو انحرافات في الأرض. كانت تعتمد أكثرَ على اللمس والسمع (للتأكد، على سبيل المثال، من أنها تُواجه الطريق الصحيح). وتزايدَ اعتمادُها على ذاكرتها، وتفكيرها، ومنطقها، وحِسِّها السليم لمساعدتها في التغلب على عقباتٍ ما كان ليُصبح — على المستوى البصري — عالمًا غيرَ مفهوم.
ومع ذلك، فقد تعرَّفتْ على الفور على صورة لها في مكتبي على غلاف قرصٍ مضغوط، ظهرتْ فيها وهي تعزف لشوبان. فقالت مُبتسمةً: «تبدو مألوفةً بعض الشيء.»
سألتُها عما رأت على جدارٍ معيَّن في مكتبي. أولًا، لم تُدِر كرسيَّها إلى الحائط بل إلى النافذة، وقالت: «أرى مَباني.» ثم أدرتُ لها كرسيَّها حتى أصبحتْ في مواجهة الحائط. كان عليَّ أن أوجِّهها رُويدًا رُويدًا. «هل ترَين الأضواء؟» نعم هناك، وهناك. استغرق الأمر قليلًا من الوقت لتُقرر أنها كانت تنظر إلى أريكةٍ تحت الأضواء، رغم أنها علقت على لونها على الفور. لاحظتْ شيئًا أخضرَ قابعًا على الأريكة، وأذهلتْني بقولها، الذي كان صحيحًا، أنه كان حبْلَ شد. وقالت إن مُعالجها الطبيعيَّ كان يُعطيها حبلًا كهذا. سألتُها عما رأت فوق الأريكة (وكانت لوحةً ذات أشكالٍ هندسية مجرَّدة)، فقالت: «أرى أصفر … وأسود.» سألتها ما هو. جازفت ليليان وقالت إنه شيء يتعلَّق بالسقف. أو مروحة. أو ساعة. ثم أضافت: «لم أعرف حقًّا ما إذا كان شيئًا واحدًا أو أكثر.» كانت في الواقع لوحة رسمها مريضٌ آخر، وكان رسَّامًا مُصابًا بعمى الألوان. لكن من الواضح أن ليليان لم يكن لديها أدنى فكرةٍ عن أنها كانت لوحة، ولم تكن مُتأكدة حتى من أنها كانت شيئًا واحدًا، واعتقدتْ أنها قد تكون جزءًا من بِنْية الغُرفة.
وجدتُ كلَّ هذا محيِّرًا. كيف لها ألا تستطيع تمييز لوحةٍ لافتة للنظر بوضوح من الجدار نفسه، على الرغم من أنها تمكَّنتْ من التعرف على الفور على صورةٍ فوتوغرافية صغيرة لها على قُرصٍ مضغوط؟ كيف تمكَّنتْ من التعرف على حبل شدٍّ أخضر نَحيل بينما فَشِلت في رؤية الأريكة نفسِها التي كان عليها أو التعرف عليها؟ وكان هناك عددٌ لا يُحصى من مثلِ هذه التناقضات قبل ذلك.
خرجنا في نزهة سيرًا على الأقدام، ارتديت فيها قبعةً ذات ألوان زاهية لتتعرف عليَّ. كانت ليليان مندهشةً من الأشياء الموجودة في نافذة أحد المتاجر، ولكنني كنتُ كذلك أيضًا. كان هذا متجرًا للمصنوعات اليدوية التبتية، لكن كان من الممكن أن تكون مصنوعاتٍ مرِّيخية؛ نظرًا إلى الطبيعة الغريبة غيرِ المألوفة لكل شيء به. أما المتجر المُجاور لهذا المتجر، فكان من الغريب أنها تعرَّفتْ عليه على الفور، وذكَرَت أنها مرَّت به في طريقها إلى عيادتي. كان متجرًا للساعات، به عشراتُ الساعات من مختلِف الأحجام والأشكال. وقد أخبرتْني لاحقًا أن أباها كان لديه شغفٌ بالساعات.
شكَّل قُفلٌ على باب متجرٍ آخر لغزًا محيِّرًا تمامًا، على الرغم من أن ليليان اعتقدتْ أنه قد يكون شيئًا «يُفتح … مثل صنبور.» ولكن في اللحظة التي لمستْه فيها، عرَفَت ماهيَّته.
توقَّفنا قليلًا لتناوُل القهوة، ثم أخذتُها إلى شقَّتي في المبنى التالي. أردتُ منها أن تجرِّب البيانو الكبير الخاصَّ بي، وكان بيانو بيكشتاين طراز ١٨٩٤. لدى دخولها شقَّتي، تعرَّفتْ على الفور على الساعة الدقَّاقة الضخمة في الرَّدهة. (على النقيض من ذلك، حاوَل الدكتور بي مصافحة ساعة دقَّاقة.)
أسهم ارتباكُ ليليان الواضحُ إزاء الأشياء التي كانت موجودةً في مكتبي، وفي الشوارع الصغيرة والمتاجر المُحيطة به في تكوين فَهمٍ أفضل لديَّ لمدى اعتمادها على المألوف، والمحفوظ، ومدى ارتباطها القوي بشقَّتها والحي الذي تَقطُنه. وبمرور الوقت، إذا كانت ستزور مكانًا على نحوٍ مُتكرر، فربما ستصبح أكثرَ درايةً به تدريجيًّا، ولكنها ستكون مغامرةً بالغة التعقيد؛ إذ ستتطلَّب الكثيرَ من الصبر وسَعة الحيلة، ونظامًا جديدًا بالكامل للتصنيف والحفظ. كان واضحًا لي، بعد زيارة ليليان هذه لعيادتي، أنه في المستقبل يجبُ أن أقتصر على المكالمات المنزلية، وزيارتها في شقتها، حيث كانت تشعر بالتنظيم، والتحكُّم، والراحة. فقد كان الخروج، بالنسبة إليها، يتحول على نحوٍ مُتزايد إلى تَحدٍّ بصَري سريالي، مليء بالتصورات الخاطئة الخيالية والمُخيفة أحيانًا.
•••
كتبتْ لي ليليان مرةً أخرى في أغسطس عام ٢٠٠١، معبِّرةً عن قلقٍ مُتزايد. قالت إنها كانت تأمُل أن أكونَ قادرًا على المجيء قريبًا لزيارتها، واقترحت عطلة نهاية الأسبوع القادم.
وقفتْ بجانب بابها لترحِّب بي؛ لعلمها بما لديَّ من اختلالات (كنت أعاني منها طَوال حياتي) في الرؤية والإدراك الطبوغرافي، وخَلْطي بين اليسار واليمين، وعدم قدرتي على شقِّ طريقي داخل المباني. رحَّبتْ بي بحرارةٍ كبيرة، ولكن أيضًا بلمسةٍ من القلق الذي بدا وكأنه يحوم حولنا طوال الزيارة.
استهلَّت حديثها بعد أن أجلستني وأعطتني كأسًا من المياه الفوَّارة، قائلةً: «إن الحياة صعبة.» فقد واجهتْ صعوبة في العثور على المياه الفوَّارة في ثلَّاجتِها؛ ولأنها لم ترَ الزجاجة، التي كانت «مُتوارية» خلف إبريق من عصير البرتقال، بدأتْ في استكشاف الثلاجة بيدها، مُتلمسةً طريقها بحثًا عن زجاجةٍ بالشكل الصحيح. «لا يوجد أي تحسُّن … العينان في حالةٍ سيئة للغاية.» (تعلم بالطبع أنهما بخير، وأن الأجزاء المسئولة عن الرؤية في الدماغ هي التي تَضعُف — في الواقع، أنها أدركتْ هذا قبل أي شخص آخر — لكنها وجدَت أن من الأسهل، والأكثر طبيعية، أن تُشير إلى «عينَيها السيِّئتَين») عندما ذهبنا للتسوق معًا قبل عامَين، بدا أنها تعرَّفتْ على كل شيء رأته تقريبًا، أو على الأقل أعطته رمزًا بشكل، ولون، وموقع؛ ومن ثَم كانت بالكاد تحتاج إلى المساعدة. في ذلك الوقت أيضًا، كانت تتحرك بطريقةٍ لا يشوبها خطأ في أنحاء مطبخها، دون أن تضيع أي شيء، وكانت تعمل بكفاءة. أما اليوم، فقد «أضاعت» كلًّا من المياه الفوارة والرنجة المخلَّلة، وهو ضياعٌ لم يقتصر فقط على نسيان المكان الذي وضعتْهما فيه، ولكنها لم تتعرَّف عليهما كذلك عندما رأتهما. ولاحظتُ أن المطبخ كان أقلَّ تنظيمًا مما كان عليه من قبل، والتنظيم أمرٌ ضروري للغاية في حالتها.
كذلك تفاقَمت مشكلةُ فَقْد التسمية لدى ليليان؛ أي مشاكلها في العثور على الكلمات. فعندما عرَضتُ عليها بعض أعواد الثقاب التي تُستخدَم في المطبخ، تعرَّفَت عليها في الحال، بصَريًّا، لكنها لم تستطع أن تقول «عود ثقاب»، وقالت بدلًا منها: «هذا لإشعال النار.» بالمثل، لم تستطع تسمية بديل السكر، ولكنها عرَفَته بأنه «أفضل من السكر.» كانت مُدركةً تمامًا لهذه الصعوبات، ولاستراتيجيَّاتها في التعامل معها. فقد قالت موضِّحةً: «عندما لا أستطيع أن أقول شيئًا، أعيِّن حدوده.»
قالت إنها على الرغم من أنها سافرت مؤخرًا إلى أونتاريو، وكولورادو، وكونيكتيكت برفقةِ زوجها، فلم تكن لتتمكَّن من القيام بذلك وحدها، كما فعلت فقط قبل بضع سنوات. شعرت بأنها كانت لا تزال قادرةً تمامًا على الاعتناء بنفسها في المنزل عندما كان كلود بعيدًا. ومع ذلك قالت: «عندما أكون وحدي، يكون الوضع مُريعًا. أنا لا أشتكي، بل فقط أصف الأمر.»
عندما كانت ليليان في المطبخ ذاتَ مرة، سألتُ كلود عن شعوره تجاه هذه المشاكل. أعربَ عن تعاطُفه وتفهُّمه، لكنه أضاف قائلًا: «ينفد صبري أحيانًا عندما أعتقد أنه قد تكون ثَمة مبالغةٌ في بعض مواطن ضعفها. سأعطيك مثالًا. أشعر بالحيرة والانزعاج أحيانًا لأن «عمى» ليليان يكون «انتقائيًّا» في بعض الأحيان. ففي الجمعة الماضية، لاحظتْ ليليان أن إحدى اللوحات كانت معلَّقة مائلة ببضعة مِلِّيمترات. وأحيانًا تُعلَّق على تعابيرِ وجوه الأشخاص في صورٍ مُتناهية الصغر. بينما تلمس ملعقة وتقول: «ما هذا؟» ثم بعد خمس دقائق تنظر إلى مِزهريَّة وتقول: «لدينا واحدةٌ مُماثلة.» لم أجد أيَّ نمط في الأمر، فقط تضارُب. كيف يجب أن يكون موقفي عندما تُمسك بكوب وتقول: «ما هذا؟» في بعض الأحيان لا أخبرها. ولكن قد يكون هذا خطأً، وذا تأثيرٌ كارثي. ماذا يجب أن أقول؟»
كانت هذه، بالفعل، مسألةً شديدة الحسَّاسية. فإلى أي مدًى يُمكنه أن يتدخل عندما كانت تُواجه حيرةً إدراكية؟ إلى أي مدًى ينبغي علينا أن نُلقِّن صديقًا أو مريضًا عندما ينسى أحدَ الأشخاص؟ إلى أي مدًى أرغب أنا نفسي — عندما أفقد الإحساس بالاتجاه — في النجاة من التخبُّط في الاتجاه الخاطئ أو أن أُترك لخوض معركة العثور على الطريق الصحيح بنفسي؟ إلى أي مدًى يُحب أيٌّ منا أن «يُخبَر» بأي شيء؟ كان السؤال مُزعجًا على نحوٍ خاص مع ليليان؛ لأنها بينما كانت بحاجة إلى حلِّ المشكلات والصعوبات، وتدبُّر أمورها بنفسها، كانت صعوباتها البصرية تزداد حدةً وتفاقمًا طوال الوقت، وكانت تُهددها في بعض الأحيان، كما لاحظ كلود، بإدخالها في نوبة ذُعر نتيجةَ الارتباك والتوهان. قلتُ لكلود إنني لا أستطيع اقتراح أي قاعدة، باستثناء الكِياسة؛ فكل موقف سيستدعي الحلَّ الخاص به.
ولكنني، أنا الآخَر، انتابتني حيرةٌ من التباين العجيب في وظائف ليليان البصرية. فبعضها، كما بدا، كان مُتماشيًا مع تضاؤل أداء قشرتها البصرية التالفة وعدم استقراره، تمامًا كما حدث قبل ذلك بعشر سنوات عندما ظهرتْ أولى مشاكلها، حين تذبذبت قدرتها على قراءة الموسيقى. اعتقدتُ أن بعض هذه التباينات قد يعكس تقلُّباتٍ في تدفُّق الدم. لكنَّ بعضًا من هذه التباينات بدا مُتماشيًا مع تناقص القدرة على التعويض عن ذلك بطريقتها المُعتادة، أيًّا كان سبب هذا التناقص. وشعرتُ في ذلك الحين أن قدراتها على الاستفادة من ذاكرتها وقدراتها الفكرية، كبديلٍ عن الإدراك البصري المباشر، ربما تكون متَّجِهة إلى التضاؤل أيضًا في هذه المرحلة. لذلك، كان من الأهمية بمكانٍ أكثر من أي وقتٍ مضى لليليان أن «تضع رموزًا» للأشياء؛ أي أن تُوفر أدلةً حسِّية سهلة الاستخدام، في مقدمتها اللون، الذي ظلَّت شديدة الحساسية له.
ما أثار اهتمامي على نحوٍ خاص ما ذكره كلود عن قدرات ليليان المُفاجئة، كقدرتها، على سبيل المثال، على إدراك تعابير الوجه في صورةٍ شديدة الصغر، على الرغم من أنها كانت تُعاني في معظم الأحيان من صعوبة في التعرف على الأشخاص من الأساس. لم أستطع منعَ نفسي من التساؤل عمَّا إذا كان هذا مثالًا على القدرات قبل الشعورية التي أظهرتْها في الاختبارات السابقة، كما حدث عندما استطاعت تصنيفَ الكلمات، على الرغم من أنها لم تستطع التعرف على الأشياء التي تُمثلها باعتبارها «كائنات حية» أو «غير حية». إن مثل هذا الإدراك اللاواعي قد يكون ممكنًا إلى حدٍّ ما على الرغم من العمه المُصابةِ به، وعلى الرغم من التلف القشري الذي تُعاني منه؛ لأنها استغلَّت آلياتٍ أخرى لا تزال سليمة في جهاز الإبصار.
•••
اعتقد الأطباءُ المُعالجون لليليان في البداية أنها أيضًا أُصيبت بسكتةٍ دماغية، وأن التباينات في قدراتها قد يكون مُتلازمًا مع هذا الأمر. لكن مثل هذه التقلبات مألوفةٌ في أيِّ جهاز عصبي تعرَّض لتلفٍ مُستديم، بصرف النظر عن السبب. فمرضى عِرق النَّسا الناتجِ عن ضغط جذور الأعصاب يمرُّون بأيامٍ جيدة وأخرى عَصيبة، وكذلك المرضى الذين يُعانون من ضعف البصر أو السمع. فعندما يكون أحدُ الأجهزة تالفًا، يكون هناك مخزونٌ أقل وفائضٌ أقل، ويكون أسهلَ في تشتيته وإفقاده توازُنَه عن طريق العوامل العرَضيَّة، كالإجهاد، أو الضغط، أو الأدوية، أو العدوى. وتكون مثل هذه الأجهزة التالفة أيضًا عُرضةً للتقلبات العفوية، كما كان مرضاي الذين ذكرتهم في كتابي «فترات الصَّحوة» يُعانون باستمرار.
كانت ليليان تتميز بالإبداع والمرونة في السنوات الإحدى عشرة أو الاثنتَي عشرة منذ بداية مرضها. فقد جلبَت مواردَ داخلية من كل نوع لمساعدتها؛ بصرية، وموسيقية، وعاطفية، وفكرية. وساعَدها الجميع على التكيُّف، وكان في المقدمة عائلتها، وأصدقاؤها، وزوجها، وابنتها، وأيضًا طلابها، وزملاؤها، والأشخاص المُتعاونون في السوبر ماركت أو في الشارع. كانت تكيُّفاتها مع العمهِ فريدةً من نوعها؛ كانت درسًا فيما يمكن فِعله للحفاظ على حياةٍ مُتماسكة وصامدة في مواجهة تحدٍّ إدراكي ومعرفي آخِذ في التقدم باستمرار. لكن لم تتكيَّف ليليان فقط مع المرض في فنها وموسيقاها، ولكنها تجاوَزتْه كذلك. وكان هذا واضحًا عندما عزفت على البيانو، وهو فنٌّ يتطلب ويوفِّر نوعًا من التكامل الفائق، تكامل كلِّي للحواسِّ والعضلات، للجسم والعقل، للذاكرة والخيال، للفكر والعاطفة، ولذَّات المرء بالكامل، وللبقاء على قيد الحياة. لحسن الحظ أن قدراتها الموسيقية لم تتأثَّر بالمرض.
كان عزفُها على البيانو دائمًا ما يُضيف طابَعًا ساميًا إلى زياراتي، ويُذكرها، على نحوٍ لا يقل أهميةً، بهُويَّتها كفنَّانة. فقد كان يُظهر البهجة التي لا يزال بإمكانها الحصولُ عليها وتقديمها، مهما كانت المشاكل الأخرى التي تُحيط بها من كل جانب.
عندما عاودتُ زيارة ليليان وكلود في عام ٢٠٠٢، وجدتُ الشقة مليئةً بالبالونات. فقالت ليليان مُوضحةً لي الأمر: «كان هذا عيدَ ميلادي، منذ ثلاثة أيام.» لم تبدُ في حالةٍ جيدة، وبدَت واهنةً بعض الشيء، على الرغم من أن صوتها وحماسها لم يتغيَّرا تمامًا. قالت إن قدراتها البصرية قد تدهورت أكثر، واتَّضح هذا للغاية عندما تلمَّسَت طريقها بحثًا عن كرسي لتجلس عليه، وسارت في الاتجاه الخاطئ، وتاهت داخل شقتها. بدا سلوكها في ذلك الوقت «أعمى» بدرجةٍ أكبر بكثير؛ ما عكس تزايُد عجزها عن حلِّ شفرة ما يُواجهها، وكذلك الافتقار التام للإدراك البصري.
كانت لا تزال قادرةً على كتابة الرسائل، ولكن صارت تجد استحالةً في القراءة، حتى القراءة الشديدة البطء حرفًا بحرف التي كانت قادرةً عليها قبل سنواتٍ قليلة. كانت تعشق أن يُقرأ لها — إذ كان كلود يقرأ لها من الصحف والكتب — ووعدتُها بأن أرسل لها بعض الأشرطة الصوتية. وكانت لا يزال بإمكانها الخروجُ قليلًا، والتمشية حول البناية مُمسكةً بذراع زوجها. فقد ازداد قربهما أكثرَ من أي وقتٍ مضى، مع تزايُد عجزها.
على الرغم من كل هذا، شعرَت ليليان بأن أُذنها بخير كما كانت دائمًا، وكانت قادرةً على الاستمرار في ممارسة التدريس قليلًا، من خلال قدوم طلاب من كلية الموسيقى إلى شقتها. ولكن بخلاف هذا، لم تعدْ تعزف على البيانو كثيرًا.
ومع ذلك، عندما ذكرت رباعية هايدن التي عزَفتْها لي من قبل، تهلَّل وجهها. وقالت: «كنت مفتونةً تمامًا بتلك المقطوعة. لم أكُن قد سمعتها من قبل. فنادرًا ما يعزفها أحد.» ووصفت لي مرةً أخرى كيف أعدَّتها ذِهنيًّا للعزف على البيانو بين عشيَّة وضُحاها؛ إذ لم تكُن قادرةً على إخراجها من رأسها. فطلبتُ منها أن تعزفها لي مرةً أخرى. اعترضت ليليان، ثم اقتنعت، وهمَّت بالتوجُّه نحو البيانو، ولكن في الاتجاه الخطأ. فصحَّحه لها كلود برفق. وعندما جلست إلى البيانو، تخبَّطت في البداية، وعزفت نغماتٍ خاطئة، وبدَت قلِقةً ومُرتبكة. صاحت قائلةً: «أين أنا؟» واعتصر قلبي من الحزن. لكنها وجدتْ موضعها بعد ذلك، وبدأت في العزف على نحوٍ رائع، وراح الصوت يُحلق عاليًا ثم يذوب ويلتفُّ حول نفسه. كان كلود مُنبهرًا ومُتأثرًا بهذا. وقال لي هامسًا: «إنها لم تعزف على الإطلاق منذ أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.» وبينما كانت تعزف، حدَّقتْ ليليان إلى أعلى، وأخذت تُدندن باللحن بهدوء لنفسها. عزَفَت ببراعةٍ فنِّية تامَّة، بكل ما كانت تُظهره من قوة وشعور من قبل؛ إذ تضخَّمت موسيقى هايدن إلى اضطرابٍ غاضب، أو مشادَّة موسيقية. بعد ذلك، عندما أوشكت الرباعية على الانتهاء، واتَّجهت النغمات إلى التآلف والثبات النهائيَّين، قالت بهدوء: «لقد تسامحتُ مع كل شيء.»
هوامش
ومع ذلك، فإن الضُّمور القشريَّ الخلفي ليس سوى تشخيصٍ تشريحي؛ فهو يُظهِر الجزءَ الأكثر تضررًا من الدماغ، لكنه لا يذكُر شيئًا عن تقدُّم المرض الأساسي؛ أي لا شيء عن سبب تلف هذه الأجزاء من الدماغ.
عندما وصف بنسون الضمورَ القشري الخلفي، لم يكن لديه معلوماتٌ عن الطبيعة المرَضية الأساسية له. ربما كان يُعاني مرضاه من ألزهايمر، كما كان يعتقد، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فقد كان ألزهايمر في شكلٍ شاذ إلى حدٍّ استثنائي. ربما كانوا مُصابين بمرض بيك، وهو اضطرابٌ تنكُّسي دماغي يُصيب، على نحوٍ أكثر شيوعًا، الفصوص الأمامية والصدغية للدماغ. ربما أيضًا كانوا يُعانون، كما خمَّن بنسون، من مرضٍ وعائي وليس تنكسيًّا؛ أي تراكُم لانسداداتٍ صغيرة في منطقة المهطل بين الدوران الخلفي والسُّباتي للدماغ.