سو ذات الرؤية المجسمة
عندما لاحظ جالين، في القرن الثاني، ومن بعده ليوناردو بثلاثة عشر قرنًا، أن الصور التي تستقبلها العينان كانت مختلفةً بعض الشيء، لم يُقدِّر أيٌّ منهما الأهميةَ الكاملة لهذه الاختلافات. ولم يكُن حتى ثلاثينيَّات القرن التاسع عشر حين بدأ تشارلز ويتستون، وهو فيزيائي شاب، في افتراض أنه على الرغم من أن الدماغ يدمج هذه الصورَ تلقائيًّا ودون وعي، فإن التفاوتاتِ بين الصور على شبكيَّتَي العينَين كانت في الواقع ذات أهميةٍ بالغة لقدرة الدماغ الغامضة على توليد إحساس بالعمق.
أكَّد ويتستون صحةَ حَدسه بطريقةٍ تجريبية بسيطة ورائعة بالقدر نفسه. فقد صمَّم أزواجًا من الرسومات لجسمٍ صلب كما يُرى من مناظير مختلفة بعض الشيء للعينين، ثم صمَّم أداةً تستخدم المرايا لضمان أن كل عين ترى الرسم الخاص بها فقط. وأطلق على الجهاز إستريوسكوب أو المِنظار المجسِّم، من الكلمة اليونانية التي تعني «الرؤية التجسيمية». فإذا نظر المرء عبر المنظار المجسم، يندمج الرسمان المسطَّحان لإنتاج رسم واحد ثلاثي الأبعاد ثابت في الفضاء.
(لا يحتاج المرء إلى منظار مجسِّم لرؤية عمق مجسَّم؛ فمن السهل نسبيًّا على معظم الأشخاص تعلُّم كيفية «الدمج الحر» لمثل هذه الرسومات، ببساطةٍ عن طريق مباعدة أو تقريب العينين. لذلك فمن الغريب أن الرؤية التجسيمية لم تُكتشَف قبل ذلك بقرون؛ فكان بإمكان إقليدس أو أرشميدس رسمُ مخطَّطات مجسَّمة على الرمال، كما أشار ديفيد هوبل، واكتشاف الرؤية التجسيمية في القرن الثالث قبل الميلاد. لكنهما لم يفعلا ذلك، على حدِّ علمنا.)
في عام ١٨٦١، عقَّب أوليفر ويندل هولمز (مُخترع منظار هولمز المجسم المحمول الشهير)، في أحد المقالات العديدة التي نُشِرت في مجلة «ذا أتلانتيك مانثلي» حول المناظير المجسمة، على المتعة الخاصة التي بدا أن الناس يستمدُّونها من هذا الوهم السحري للعمق:
يخلق استبعادُ الأشياء المحيطة، وتركيزُ كل الانتباه … شعورًا حالمًا بالنشوة … نبدو فيه وكأننا نترك الجسدَ وراءنا ونُبحر في مشاهد غريبة الواحد تِلو الآخر، كأرواح بلا جسد.
في منزل صِباي، في لندن خلال ثلاثينيَّات القرن العشرين، كان لدينا منظاران مجسِّمان؛ أحدهما خشبي كبير وقديم الطِّراز، وكان يعمل بالشرائح الزجاجية، والآخر أصغر محمول باليد، وكان يعمل بصور فوتوغرافية مجسمة من الورق المقوَّى. كان لدينا أيضًا كتبٌ تحتوي على صور مجسَّمة ثنائية الألوان، وهي عبارة عن صورٍ فوتوغرافية مجسمة مطبوعة باللونين الأحمر والأخضر، ويلزم لرؤيتها ارتداءُ نظارة بعدسة حمراء وأخرى خضراء، تقيِّد كلَّ عين بفاعلية برؤية صورة واحدة فقط.
لذلك عندما تولَّد لديَّ شغفٌ بالتصوير الفوتوغرافي، حين كنت في العاشرة من عمري، أردتُ بالطبع أن أصنع أزواجَ الصور المجسمة الخاصة بي. كان من السهل القيامُ بذلك، عن طريق تحريك الكاميرا أفقيًّا بمقدار بوصتين ونصف تقريبًا بين مواضع التعريض الضوئي، مُحاكيًا المسافة بين العينَين. (لم يكن لديَّ بعدُ كاميرا مجسمةٌ مزدوجة العدسات، وهي التي تلتقطُ أزواجًا متزامنة من الصور المجسمة.)
بعد الحرب العالمية الثانية، انتشرَت تقنيات وأشكال جديدة للتصوير المجسم. فظهر جهاز فيو ماستر، وهو منظار مجسِّم صغيرٌ مصنوع من البلاستيك، يعمل ببكراتٍ من أفلام كودا كروم الشفَّافة، التي تُقلب بالضغط على مقبض. لقد وقعت في حب أمريكا البعيدة في هذا الوقت، جزئيًّا من خلال بكرات فيو ماستر ذات المشاهد المَهيبة للغرب والجنوب الغربي الأمريكيَّين.
كان بالإمكان أيضًا اقتناءُ أجهزة الفكتوجراف ذاتِ العدسات المستقطبة، التي كانت تُستقطَب فيها الصور المجسمة بزوايا قائمة كلٌّ منها على الأخرى، وكان ذلك يُرى باستخدام نظارة مستقطبة مع استقطاب العدسات أيضًا بزوايا قائمة؛ ما يضمن أن ترى كلُّ عين صورتَها فقط. وكان يمكن لأجهزة الفكتوجراف هذه، على عكس الصور المجسمة الحمراء والخضراء، أن تكون بالألوان الكاملة، ما أعطاها جاذبيةً خاصة.
ثم ظهرت الصورُ المجسمة العدسية، حيث كانت الصورتان تُطبعان في أشرطة ضيِّقة رأسية مُتعاقبة، مغطَّاة بالبلاستيك المخدَّد الشفَّاف. فقد كانت تلك الأخاديدُ تعمل على نقل كلِّ مجموعة من الصور إلى العين المناسبة؛ لتقضيَ بذلك على الحاجة إلى أي نظارات خاصة. كانت المرة الأولى التي أرى فيها صورةً مجسمة عدسية بعد الحرب مباشرة في مترو أنفاق لندن، حيث كان هناك إعلان، بالصدفة، لحمالات صدر «ميدينفورم». كتبت لشركة «ميدينفورم» متسائلًا عما إذا كان بإمكاني الحصولُ على أحد إعلاناتهم، لكني لم أتلقَّ أي رد؛ لا بد أنهم تخيَّلوا أنني مُراهقٌ مهووس بالجنس، وليس مجردَ شخصٍ بسيط مولَعٍ بالصور المجسمة.
وأخيرًا، في أوائل الخمسينيَّات من القرن العشرين، كانت هناك أفلامٌ ثلاثية الأبعاد (مثل فيلم الرعب «بيت الشمع»)، التي كانت تُشاهَد باستخدام نظارات حمراء وخضراء أو نظارات مستقطبة. من وجهة نظر سينمائية، كان بعضٌ من هذه الأفلام شنيعًا، لكن القليل منها، مثل فيلم «الجحيم»، كان جميلًا للغاية، واستخدم التصوير الفوتوغرافي المجسم بطريقةٍ رائعة، ولطيفة، وغير مزعجة.
على مرِّ السنين، جمعت مجموعة من الصور المجسمة والكتب عن التصوير المجسم. وأصبحتُ عضوًا ناشطًا في جمعية نيويورك للتصوير المجسم، وقد صادفت في اجتماعاتنا هواةً آخَرين للتصوير المجسم. نحن هواةَ التصوير المجسم نُسجِّل في مجلات الصور المجسمة، والبعض منا يحضرون مؤتمرات التصوير المجسم. وأكثرُنا حماسةً يأخذون كاميرات التصوير المجسم الخاصة بهم، ويذهبون في عطلات نهاية الأسبوع لممارسة التصوير المجسم. معظم الناس لا يُدركون على نحوٍ خاص ما يُضيفه التصويرُ المجسم إلى عالمهم البصري، لكننا نستمتع به. ففي حين أن بعض الناس قد لا يُلاحظون أي فرقٍ كبير إذا أغلقوا إحدى عينَيهم، فنحن المولَعين بالصور المجسمة نُدرك تمامًا حدوثَ تغييرٍ كبير؛ إذ يفقد عالمنا فجأةً رَحابته وعمقه، ويصبح مسطحًا كأوراق اللعب. ربما يكون تصويرنا المجسم أكثرَ دقة، وربما نعيش، بصورةٍ ذاتية، في عالمٍ أعمق، أو ربما نكون ببساطة أكثرَ وعيًا به، كما قد يكون الآخرون أكثرَ انسجامًا مع الألوان أو الأشكال. نحن نريد أن نفهم كيف يعمل التصوير المجسم. المشكلة ليست مشكلةً تافهة؛ لأنه إذا تمكَّن المرءُ من فهم التصوير المجسم، فإنه بذلك لا يفهم فقط حيلةً بصرية بسيطة ورائعة، ولكن أيضًا شيئًا من طبيعة الإدراك البصري، وطبيعة الوعي نفسه.
•••
على المرء أن يفقد استخدامَ إحدى العينين مدةً كبيرة كي يعرفَ كيف تتغير الحياة في غيابها. روى بول رومانو، وهو طبيبُ عيونِ أطفال متقاعدٌ يبلغ من العمر ثمانيةً وستين عامًا، قصتَه الخاصةَ في الدورية ربع السنوية «بينوكيولار فيجن آند سترابيزموس كوارترلي». لقد عانى من نزيفٍ عيني شديد تسبَّب في فقدانه الرؤيةَ بالكامل تقريبًا في إحدى عينيه. بعد يوم واحد من الرؤية الأحادية، لاحظ حسبَ قوله: «أرى أشياء لكن غالبًا ما لا أدركها؛ لقد فقدتُ ذاكرة الموضع المادية الخاصة بي … أصبح مكتبي في حالةٍ من الفوضى … والآن بعد أن تقلَّص عالمي إلى عالمٍ ثنائي الأبعاد، لا أعرف مكانَ أي شيء.»
وفي اليوم التالي كتب قائلًا: «الأشياء ليست كما هي على الإطلاق في الرؤية الأحادية كما كانت في الرؤية الثنائية … عند تقطيع اللحم في الطبق، من الصعب أن ترى الدهون والغضاريف التي تريد التخلصَ منها … لا أتعرف عليها تمامًا كدهون وغضاريف عندما تكون ثنائية الأبعاد فقط.»
بعد ما يقرُب من شهر، وعلى الرغم من أن الدكتور رومانو أصبح أقلَّ خرقًا، كان لا يزال لديه شعورٌ بالخَسارة الفادحة:
على الرغم من أن القيادة بالسرعة العادية تجعل الرؤية التجسيمية الحركية تحلُّ مَحل فقدان الإدراك الحسِّي بالعمق، فقد فقدتُ قدرتي على التوجه المكاني. لم يعد لديَّ الشعورُ الذي طالما كان لديَّ بالمعرفة الدقيقة بمكاني في الفضاء والعالم. كان الشمال هنا بالأعلى من قبل، الآن لا أعرف مكانه … أنا متأكدٌ من أنني فقدت تقديري للمواضع.
كان استنتاجه، بعد خمسةٍ وثلاثين يومًا، أنه «حتى على الرغم من أنني أتأقلمُ على نحوٍ أفضل مع الرؤية الأحادية كلَّ يوم، لا يمكنني تصور أن أقضيَ بقية حياتي بهذه الطريقة … إن إدراك العمق المجسم بكلتا العينَين ليس مجردَ ظاهرةٍ بصرية. إنه أسلوب حياة … الحياة في عالمٍ ثنائي الأبعاد مختلفة للغاية عنها في عالمٍ ثلاثي الأبعاد وأدنى منها بكثير.» مع مرور الأسابيع، أصبح د. رومانو أكثرَ ارتياحًا في عالمه الأحادي الرؤية، ولكن كان من دواعي الارتياح الشديد أنه، بعد تسعة أشهُر، استعاد أخيرًا رؤيتَه المجسمة.
في سبعينيات القرن العشرين، كانت لي تجرِبتي الخاصة مع فقدان الرؤية المجسمة عندما وُضعتُ في غُرفةٍ صغيرة بلا نوافذ في أحد مستشفيات لندن، وذلك بعد إجراء عملية جِراحية إثر إصابتي بتمزُّق في وتر العضلة الرباعية الرءوس. كانت الغُرفة بالكاد أكبرَ من زنزانة السجن، واشتكى الزائرون منها، ولكني سرعان ما تكيَّفتُ عليها، بل واستمتعتُ بها. فلم تتَّضح لي آثارُ أفقها المحدود إلا فيما بعد، كما وصفت في كتاب «أريد ساقًا أقفُ عليها»:
انتقلت إلى غُرفةٍ جديدة، غُرفةٍ فسيحة جديدة، بعد عشرين يومًا في زنزانتي الصغيرة. كنت أكيِّف نفسي، بسرور، عندما لاحظتُ فجأة شيئًا غريبًا. كان لكل شيء قريب مني صلابته ورحابته وعمقُه المناسبون، ولكن كل شيء أبعد كان مسطحًا تمامًا. خلف بابي المفتوح كان باب الجَناح المقابل، ووراء هذا الباب كان هناك مريضٌ يجلس على كرسي متحرك، ووراءه، على حافة النافذة، مِزهرية من الزهور، ووراءها، على طول الطريق، النوافذ الجملونية الشكل للمنزل المقابل، وكل هذا، الذي ربما يمتدُّ لمائتَي قدم … يبدو متمددًا كشريط فيلم كودا كروم عملاق في الهواء، ملوَّن ومفصَّل بإتقان، ولكنه مسطحٌ تمامًا.
***
عندما كنتُ طبيبَ أعصاب مُقيمًا في أوائل ستينيَّات القرن العشرين، قرأت الأوراق البحثية الرائعة لديفيد هوبل وتورستن فيزل حول الآليات العصبية للرؤية. لقد أحدث عملُهما، الذي فاز فيما بعد بجائزة نوبل، ثورةً في فهمنا لكيفية تعلُّم الثدييات للرؤية، وعلى وجه الخصوص فهمنا لمدى الأهمية البالغة للتجرِبة البصرية المبكرة لتطور الخلايا، أو الآليات الخاصة في الدماغ اللازمة للرؤية الطبيعية. ومن بينِ هذه الخلايا خلايا الرؤية الثنائية في القشرة البصرية، التي تُعد ضروريةً لبناء إحساس بالعمق من التباينات الشبكية. أظهر هوبل وفيزل أنه إذا أصبحت الرؤية الثنائية العادية بكلتا العينين في الحيوانات مستحيلةً بسبب حالة خلقية (كما في القطط السيامية، التي غالبًا ما تولد مُصابة بالحوَل) أو عن طريق التجربة (استئصال إحدى عضلات مُقَل العيون، بحيث أصبح الحيوان جاحظَ العينين)، فستعجز خلايا الرؤية الثنائية هذه عن التطور، وستفتقر الحيوانات للرؤية المجسمة على نحوٍ دائم. يُصاب عددٌ كبير من الأشخاص بحالاتٍ مُماثلة — وتُعرف مجتمعةً باسم الحوَل أو الخَزَر — وهي عبارة عن اختلال في المحاذاة يكون أحيانًا دقيقًا للغاية لدرجةٍ لا تُلاحظ، ولكنه كافٍ للتداخل مع تطور الرؤية المجسمة.
حاولتُ أن أُجادله، وأُسهِب في طبيعة وجمال الرؤية التجسيمية. لكن لا يمكن للمرء أن يشرح ماهيةَ الرؤية التجسيمية لفاقدها؛ لأن الجودة الذاتية، أو السِّمة المميزة، للرؤية التجسيمية فريدةٌ، ولا تقلُّ في روعتها عن الألوان. ومهما كانت براعةُ وذكاء الشخص ذي الرؤية الأحادية في التعامل والأداء، فإنه، في هذا الجانب، يُعاني من نقصٍ تام.
في الرئيسيات أمثالنا، تكون للأعيُن المواجهة للأمام وظائفُ أخرى. فعيون الليمور الضخمة والقريبة بعضها من بعض تعمل على فكِّ تشابك أوراق الشجر الداكنة الكثيفة، التي، في حالة ثبات الرأس، يكاد يكون من المستحيل التعاملُ معها دون رؤية تجسيمية، وفي غابةٍ مليئة بالوهم والخداع، لا غِنى عن الرؤية التجسيمية في اكتشاف التمويه. على الجانب الأكثر حيويةً، فإن البهلوانيات الهوائية كقرد الجيبون قد تجد صعوبةً بالغة في القفز من فرع لآخر دون القدرات الخاصة التي تمنحها لها الرؤيةُ التجسيمية. قد لا يستطيع الجيبون ذو العين الواحدة التنقلَ جيدًا، والأمر نفسه قد ينطبق على القرش ذي العين الواحدة أو الحبار.
إن الرؤية التجسيمية مُفيدةٌ للغاية لمثل هذه الحيوانات برغم تكاليفها، التي تتضمَّن التضحية بالرؤية البانورامية، والحاجة إلى آلياتٍ عصبية وعضلية خاصة للتنسيق ومُحاذاة العينَين، وتطوير آليات دماغية خاصة لحساب العمق من تباينات الصورتَين البصَريتين، وهو الأمر الذي لا يقلُّ أهميةً عن سابقَيه. ومن ثَم، يمكن أن تكون الرؤية التجسيمية في الطبيعة أي شيء إلا أن تكون وسيلةَ تحايُل، حتى لو تمكَّن بعضُ البشر من التعايش، بل وربما الاستمتاع بمزايا معيَّنة بدونها.
•••
في ديسمبر ٢٠٠٤، تلقَّيت رسالةً غيرَ متوقَّعة من امرأة تُدعى سو باري. ذكَّرتْني كيف التقينا في عام ١٩٩٦ في حفل إطلاق مكوك فضائي في كيب كانافيرال (فقد كان زوجها دان رائدَ فضاء). كنا نتحدث عن طُرقٍ مختلفة لمواجهة العالم؛ كيف، على سبيل المثال، سيفقد دان ورُوَّاد الفضاء الآخرون قدراتِهم على التوجيه؛ أي إحساسهم بالاتجاهات «أعلى» و«أسفل»، في ظروف الجاذبية المتناهيةِ الصِّغر للفضاء الخارجي، وكيف سينبغي عليهم إيجادُ طرقٍ للتكيف. أخبرتني سو وقتها عن عالمها البصري؛ فمنذ كبرتْ وهي مُصابة بالحوَل، لم تعمل عيناها على نحوٍ مُتزامن؛ ومن ثَم كانت ترى العالم بعينٍ واحدة في كل مرة؛ إذ تتبادل عيناها الرؤيةَ بسرعة ودون وعي. سألتها عما إذا كان هذا قد سبَّب لها أي ضرر. فقالت لا؛ فقد تكيَّفت بشكل جيد؛ فكانت تقود السيارة، وتُجيد لعب الكرة اللينة، واستطاعت أن تفعل ما يستطيع أن يفعله أيُّ شخص آخر. ربما لا تستطيع رؤيةَ العمق مباشرةً، كما يستطيع الآخرون، ولكن يمكنها تقديره جيدًا مثل أيِّ شخص آخر، باستخدام مُنبهات أخرى.
سألتُ سو عما إذا كان بإمكانها «تخيلُ» شكل العالم في حال رؤيته مجسَّمًا. قالت سو إنها تعتقد أنَّ بإمكانها ذلك؛ فقد كانت في النهاية أستاذةً في علم الأعصاب، وقد قرأتْ أوراقَ هوبل وويزل البحثيةَ وغيرها الكثير في مجال المعالجة البصرية، والرؤية الثنائية، والرؤية التجسيمية. وقد رأتْ أن هذه المعرفة قد أعطتها تصورًا ثاقبًا خاصًّا لما كانت تفتقده؛ فقد كانت تعرف ماهية الرؤية التجسيمية، حتى لو لم تكُن قد اختبرتها مطلقًا.
لكن الآن، بعد ما يقرب من تسع سنوات من محادثتنا الأولى، شعرت بأنها مضطرَّة إلى الكتابة لي عن هذه المسألة:
لقد سألتَني عما إذا كان بإمكاني تخيلُ كيف سيبدو العالم عند رؤيته بعينَين. وأخبرتُك أنني اعتقدتُ أنه بإمكاني ذلك … لكنني كنتُ مُخطئة.
لقد استطاعت أن تقول ذلك لأنها في ذلك الوقت صارت تتمتَّع بالرؤية التجسيميَّة، وقد فاقت أيَّ شيء كان بإمكانها أن تتخيَّله. ومضَت تسرُد لي تفاصيلَ تاريخها البصري، بدءًا بملاحظة والدَيها أنها مُصابة بالحوَل بعد ولادتها ببضعة أشهُر:
أخبرهما الأطباءُ أنني على الأرجح سأتجاوز هذه الحالة مع التقدم في العمر. ربما كانت هذه أفضلَ نصيحةٍ في ذلك الوقت. كان ذلك في عام ١٩٥٤، قبل أحدَ عشر عامًا من نشر هوبل وفيزل لأوراقهما البحثية المحورية حول التطور البصري، والمراحل الحرِجة، وحَوَل الهِرَرة. اليوم، يمكن لجرَّاحٍ أن يُعيد محاذاةَ عين طفل مُصاب بالحوَل أثناء «المرحلة الحرِجة» … من أجل الحفاظ على الرؤية الثنائية والرؤية التجسيمية. فالرؤية الثنائية تعتمد على المحاذاة الجيدة بين العينين. وينصُّ المبدأ العامُّ على أنه يجب إعادة محاذاة العينين في العام الأول أو الثاني من عمر الطفل. فإذا أُجريت الجراحة في وقتٍ متأخر عن ذلك، فسيكون الدماغ قد أعاد ضبطَ نفسه بالفعل بطريقةٍ تمنع الرؤية الثنائية.
أجرتْ سو عملياتٍ جِراحيةً لتصحيح الحوَل، في عضلات العين اليمنى أولًا، عندما كانت في الثانية من عمرها، ثم في العين اليسرى، وفي النهاية، في كِلتا العينين عندما كانت في السابعة. وعندما بلغت التاسعة من عمرها، أخبرها جرَّاحُها أن بإمكانها الآن «فِعل أيِّ شيء يمكن لشخصٍ ذي قدرةٍ إبصارية طبيعية فِعلُه باستثناء قيادة الطائرات.» (على ما يبدو أن وايلي بوست كان قد نُسي بحلول الستينيَّات من القرن العشرين.) لم تعد تبدو مُصابةً بالحوَل للناظر العادي، ولكنها كانت شِبهَ مُدركةٍ أن عينَيها ما زالتا لا تعملان معًا، وأنه لا يزال هناك خطأ، وإن كانت لم تستطع تحديدَ هذا الخطأ. فكتبت قائلةً: «لم يذكر لي أحدٌ أنني كنتُ أفتقر إلى الرؤية التجسيمية، وبقيت سعيدةً بجهلي بالحقيقة حتى وصلت إلى عامي الثالث في الكلية.» ففي ذلك الوقت أخذتُ دورة في الفسيولوجيا العصبية:
وصف أستاذ الجامعة تطور القشرة البصرية، وأعمدة السيادة العينية، والرؤية الأحادية والثنائية، والتجارِب التي أُجريت على الهِررة التي نشأت مصابة بالحول المصطنع. وذكر أن هذه القطط ربما تفتقرُ إلى الرؤية الثنائية والرؤية التجسيمية. بُهتُّ تمامًا. فلم يكن لديَّ أدنى فكرة عن وجود طريقة لرؤية العالم كنت أفتقر إليها.
بعد اندهاشها الأوَّلي، بدأت سو في التحقُّق من رؤيتها التجسيمية:
ذهبتُ إلى المكتبة، وشققت طريقي بصعوبةٍ عبر الأوراق العلمية. جرَّبتُ كلَّ اختبار من اختبارات الرؤية التجسيمية استطعتُ أن أجدَه ورسبتُ فيها جميعًا. حتى إنني علِمتُ أنه من المفترَض أن يرى المرء صورةً ثلاثية الأبعاد عبر جهاز فيو ماستر، تلك اللعبة العارضة للصور المجسمة التي أُعطيتُ إياها بعد عمليتي الثالثة. وجدتُ اللعبة القديمة في منزل والديَّ، ولكنني لم أتمكَّن من رؤية صورة ثلاثية الأبعاد بها. في حين أن جميع من جرَّبوا اللعبة سواي استطاعوا ذلك.
في هذه المرحلة، تساءلتْ سو عما إذا كان هناك أي علاج يُمكِّنها من الرؤية الثنائية، لكن «الأطباء أخبروني أن محاولة علاج الرؤية ستكون مَضْيعة لوقتي ومالي. كان الأوان قد فات ببساطة. كان بإمكاني فقط تطويرُ رؤية ثنائية لو كانت عيناي قد جرت محاذاتهما على نحوٍ صحيح في سنِّ الثانية. ونظرًا إلى أنني كنت قد قرأت عمل هوبل وويزل حول التطور البصري والمراحل الحرِجة المُبكرة، فقد قبِلت نصيحتهما.»
•••
مرَّت خمسةٌ وعشرون عامًا، تزوجت خلالها سو وأنشأت عائلة بينما واصلتْ مسيرتها المهنية الأكاديمية في البيولوجيا العصبية. وعلى الرغم من مواجهتها بعض الصعوبات في القيادة — الاندماج على المداخل المنحدرة إلى الطرق السريعة؛ إذ وجدت صعوبة في تقدير سرعة السيارات القادمة — فقد تقدَّمتْ على نحوٍ جيِّد للغاية في العموم في طرقها الأحادية للحكم على المساحة والمسافة. بل إنها من آنٍ لآخر، كانت تُضايق الأشخاص ذَوي الرؤية الثنائية على سبيل المداعبة:
أخذتُ بعض دروس التنس مع مُحترفٍ بارع. وذات يوم، طلبتُ منه أن يرتديَ رُقعة على عينه حتى يُضطر إلى ضرب الكرة باستخدام عينٍ واحدة فقط. ضربتُ الكرة باتجاهه عاليًا في الهواء، وشاهدتُ هذا الرياضيَّ الرائع يفقد الكرة تمامًا. ونتيجةَ إحباطه، مزَّق رقعة العين وألقاها بعيدًا. أشعر بالخجل من الاعتراف بذلك، لكنني استمتعتُ وأنا أشاهده يتعثَّر، كنوعٍ من الانتقام من كل الرياضيِّين الذين يتمتعون برؤيةٍ ثنائية.
لكن عندما كانت سو في أواخر الأربعينيات من عمرها، بدأت مشاكلُ جديدة:
باتت رؤية الأشياء عن بُعدٍ تزداد صعوبةً. لم تُرهق عضلات عيني بسرعةٍ أكبر فحسب، بل كان العالم يبدو وامضًا عندما كنتُ أنظر من مسافةٍ بعيدة. كان من الصعب التركيزُ على الحروف على لافتات الشوارع، أو تمييزُ ما إذا كان شخصٌ ما يمشي تجاهي أم يبتعد عني … في الوقت نفسِه، أصابتني نظارتي، التي كنت أستخدمها للرؤية البعيدة، أصابتني بطول النظر. في حُجرة الدراسة، لم أستطع قراءةَ ملاحظات محاضرتي ورؤية الطلاب في الوقت نفسِه … قرَّرت أن الوقت قد حان للحصول على العدسات الثنائيةِ البؤرة أو المتعددة البؤر. وعزمتُ على البحث عن طبيب عيون كي يُعطيَني كلًّا من العدسات المتعددة البؤر لتحسين حدة البصر، وتمارين عيونٍ لتقوية عضلات عيني.
استشارت الدكتورة تيريزا روجيرو، اختصاصية تصحيح الإبصار التطوري، التي اكتشفت أن عينَي سو كان يظهر بهما أشكالٌ مختلفة من عدم التوازن — وهذا يحدث في بعض الأحيان بعد جِراحات الحوَل — حتى إن الرؤية المعقولة التي كانت تتمتَّع بها عقودًا باتت تضعفُ الآن.
أكَّدت الدكتورة روجيرو أنني كنت أرى العالم بعينٍ واحدة. كنت لا أستخدم العينَين معًا إلا عند النظر على بُعد بوصتين من وجهي. أخبرتني أنني كنت أُسيء تقديرَ مواقع الأشياء باستمرار عند مشاهدتها بعيني اليسرى فقط. والأهم من ذلك، أنها اكتشفتُ أن عينيَّ الاثنتين لم تكونا متحاذيتَين عموديًّا. كان مجال إبصار عيني اليسرى أعلى بنحو ثلاث درجات من مجال إبصار عيني اليمنى. وضعت د. روجيرو موشورًا زجاجيًّا أمام عدسة عيني اليمنى حرَّك مجال إبصار العين اليمنى بالكامل لأعلى … من دون الموشور، واجهتُ مشكلة في قراءة لوحة فحص النظر على شاشة جهاز كمبيوتر على الجانب الآخر من الغُرفة؛ لأن الحروف بدَت وامضة. أما عند استخدام الموشور، فقد قلَّ الوميض إلى حدٍّ كبير.
(أوضحت سو لاحقًا أن «الوميض» ربما كان مصطلحًا مخففًا للغاية؛ لأنه لم يكن مثلَ الوميض الذي قد يراه المرء مصاحبًا لضبابٍ خفيف حارٍّ في يومٍ صيفي، بل كان بالأحرى تذبذبًا سريعًا مُسببًا للدُّوار يحدث عدةَ مرات في الثانية.)
حصلَت سو على نظارتها الجديدة مزوَّدةً بالموشور في ١٢ فبراير ٢٠٠٢. وبعد يومين، حضرتْ أُولى جلسات علاج الرؤية مع د. روجيرو، وكانت جلسةً طويلة حاولت فيها دمج الصورتين باستخدام نظارة مستقطبة لإتاحة عرض صورة مختلفة لكلِّ عين. في البداية، لم تفهم معنى «الدمج»، وكيف يمكن دمجُ الصورتين معًا، لكن بعد المحاولة عدةَ دقائق وجدتْ أنها قادرةٌ على القيام بذلك، ولو لثانيةٍ واحدة فقط في كل مرة. وعلى الرغم من أنها كانت تنظر إلى زوج من الصور المجسمة، لم يكن لديها إدراكٌ للعمق، ومع ذلك خطَت الخطوة الأولى، محققةً «دمجًا غير مُجسِّم» كما أسمته د. روجيرو.
تساءلت سو عما إذا كانت في حال محافظتها على محاذاة عينَيها مدةً أطول، فإن ذلك لن يُتيح فقط دمجًا غير مُجسِّم، بل دمجًا مُجسِّمًا أيضًا. وصفت لها د. روجيرو المزيدَ من التمارين للحفاظ على تثبيت مسار التتبُّع وتثبيت نظرها، وواظبتْ على هذه التمارين بكَدٍّ في المنزل. بعد ثلاثة أيام، حدث شيءٌ غريب:
لقد لاحظتُ اليوم أن وحدة الإضاءة المُتدلية من سقف مطبخنا تبدو مختلفةً. يبدو أنها تشغَلُ مساحةً ما بيني وبين السقف. والحواف أكثر استدارة أيضًا. إنه تأثيرٌ دقيق ولكنه ملحوظ.
في جلستها الثانية مع د. روجيرو في ٢١ فبراير، كرَّرتْ سو تمرين النظارة المستقطبة، وجرَّبت تمرينًا جديدًا باستخدام الخرز الملوَّن على مسافاتٍ مختلفة على خيط. إن هذا التمرين، المعروف باسم سلسلة بروك، علَّم سو تثبيتَ كلتا العينين على النقطة نفسِها في الفضاء، بحيث لا يُخفي جهازُها الإبصاري الصورَ عن عين أو الأخرى، بل يدمجها معًا. كان تأثير هذه الجلسة فوريًّا:
عُدتُ إلى سيارتي، وتصادف أن ألقيت نظرةً خاطفة على عجلة القيادة. لقد «خرجت» من لوحة القيادة. أغلقتُ عينًا واحدة، ثم الأخرى، ثم نظرتُ بكلتا العينَين مرةً أخرى، وبدَت عجلة القيادة مختلفة. قرَّرت أن الضوء القادم من شمس المغيب كان يخدعني، وقدتُ سيارتي إلى المنزل. لكن في اليوم التالي استيقظت، ومارستُ تمارين العينين، ودخلت السيارة لأقودها إلى العمل. عندما نظرتُ إلى مرآة الرؤية الخلفية، رأيتها خارجة من الزجاج الأمامي.
كتبت سو أن رؤيتها الجديدة كانت «مُبهجة للغاية». وعلى حدِّ تعبيرها «لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما كنتُ أفتقده. بدَت الأشياء العادية غيرَ عادية. طفَت وحدات الإضاءة، وعلَّقَت صنابير المياه بعيدًا في الفضاء.» لكن الأمر كان «مُربكًا أيضًا بعض الشيء. لا أعرف إلى أيِّ مدًى يجب أن «يخرج» جسمٌ أمام جسم آخر لمسافة معيَّنة بين الجسمين … [إن الأمر] يُشبه بعض الشيء بيت الرعب أو الانتشاء بالمخدرات. ظَلِلت أحدِّق في الأشياء … يبدو العالم مختلفًا حقًّا.» وقد أرفقتْ بالرسالة بعض المقتطفات من يومياتها:
-
٢٢ فبراير: لاحظت حافة باب مكتبي المفتوح وقد بدَت وكأنها بارزةٌ نحوي. الآن
أدركتُ أنني طالما كنت أعرف أن الباب كان بارزًا نحوي عندما كان
مفتوحًا بسبب شكل الباب، ومنظور الرؤية، ومنبهات الرؤية الأحادية
الأخرى، لكنني لم أرَه بعمقٍ قط. أدهشني الأمر، وجعلني أتحقق وأنظر إليه
بعينٍ واحدة ثم بالأخرى كي أقنع نفسي بأنه بدا مختلفًا. كان غريبًا
بالتأكيد.
عندما كنت أتناول الغداء، نظرتُ لأسفل إلى شوكتي فوق طبق الأرز، وكانت الشوكة تتأرجح في الهواء أمام الوعاء. كانت ثَمة مساحة بين الشوكة والطبق. لم أرَ ذلك من قبل … ظلِلتُ أنظر إلى حبة عنب تتأرجح عند حافة شوكتي. لقد استطعت رؤيتها بعمق.
- ١ مارس: كنت أسير اليوم بجوار هيكلٍ عظمي كامل لحِصان في قبو المبنى الذي أعمل فيه عندما رأيتُ جمجمة الحصان بارزةً بشدة، لدرجة أنني قفزتُ إلى الوراء وصرخت.
- ٤ مارس: بينما كنتُ أركض هذا الصباح مع الكلب، لاحظت أن الشُّجيرات بدَت مختلفةً. بدَت كلُّ ورقة بارزةً في مساحتها الصغيرة الثلاثية الأبعاد. لم تكن الأوراقُ متداخلة معًا كما اعتدتُ أن أراها. كان بإمكاني رؤيةُ «المساحة» بين أوراق الشجر. الأمر نفسُه ينطبق على الأغصان فوق الأشجار، والحصى على الطريق، والحجارة في جدارٍ حجري. لكل شيء نسيج أكثر كثافة.
استمرَّت رسالة سو على هذا المِنوال المعبِّر، واصفةً تَجارِب جديدةً عليها تمامًا، تتجاوز أيَّ شيء كان يمكن أن تتخيَّله أو تستنتجَه من قبل. اكتشفتْ أنه لا بديل لها عن التجرِبة، وأن هناك ثغرةً لا يمكن رأبُها بين ما أسماه برتراند راسل «المعرفة بالوصف» و«المعرفة بالاطلاع»، وأنه لا سبيل للذَّهاب من أحدهما إلى الآخر.
قد يعتقد المرء أن الظهورَ المُفاجئ لجودة إحساس أو إدراك جديدة تمامًا قد يكون محيِّرًا أو مُخيفًا، لكن سو بدا أنها تتكيَّف مع عالمها الجديد بسهولةٍ ملحوظة. كانت مُجفِلة ومتحيِّرة في البداية، وكان عليها ضبطُ إدراكها البصري الجديد للعمق والمسافة مع أفعالها وحركاتها. ولكنها في الغالب كانت تشعر براحةٍ تامة ومُتزايدة مع الرؤية التجسيمية. وعلى الرغم من استمرار إدراكها لحداثةِ الرؤية التجسيمية وابتهاجها حقًّا بها، فإنها تشعر الآن أيضًا أن الأمر «طبيعيٌّ»، أنها ترى العالم كما هو حقًّا، كما يجب أن يكون. إنها تقول إن الزهور تبدو «حقيقيةً للغاية، ومُنتفشة»، بينما كانت «مسطحة» أو «منكمشة» من قبل.
كان لاكتساب سو للرؤية التجسيمية بعد نحو نصف القرن من فقدانها فائدةٌ عمَلية عظيمة أيضًا. فقد أصبحت القيادةُ أسهل، وكذلك سَلْك الخيط في سَم الإبرة. وعندما تنظر في مِجهرها الثنائي العينين في العمل، يمكنها أن ترى طحالب المتناعلات تَسبح في مختلِف المستويات، وترى هذا مباشرةً، بدلًا من الاستدلال عليه بإعادة تركيز المجهر لأعلى أو لأسفل. وهذا مصدرٌ مستمر للإعجاب والجاذبية:
في الندوات … كان انتباهي مأسورًا تمامًا بالطريقة التي يظهر بها كرسيٌّ فارغ في الفضاء، وكان صفٌّ كامل من الكراسي الفارغة يَشغل انتباهي لدقائق. كنت أحبُّ أن أقضيَ يومًا كاملًا فقط في التجول و«النظر». لقد هربتُ اليوم بالفعل مدة ساعة إلى الدفيئة بالكلية؛ فقط للنظر إلى النباتات والزهور من جميع الزوايا.
معظم المكالمات والرسائل الهاتفية التي أتلقَّاها تدور حول حوادث صغيرة، ومشاكل، وخسائرَ من مختلِف الأشكال. ولكن خطاب سو كان عبارةً عن قصة، ليس عن خَسارة وحسرة، بل عن اكتسابٍ مُفاجئ لشعور وحساسية جديدَين، وما ترتَّب عليه من شعور بالبهجة والسرور. ومع ذلك، فقد بدَت رسالتُها أيضًا رسالةَ حيرة وتحفُّظ؛ لم تكن تعرف أيَّ تجرِبة أو قصة مثل قصتها، ووقعَت في حيرةٍ حين اكتشفت، في كل ما قرأته، أن تحقيق الرؤية التجسيمية في حياة البالغين كان «مستحيلًا». تساءلت، هل كان لديها دائمًا خلايا للرؤية الثنائية في قشرتها البصرية تنتظر فقط المُدخَل الصحيح؟ هل كان من الممكن أن تكون المرحلة الحرجة في بدايةٍ أقلَّ حرجًا مما كان يُعتقد عامةً؟ ماذا استنتجتُ من كل هذا؟
•••
رحَّبت بنا سو، وأثناء حديثنا عرَضتْ لنا بعضًا من صور الطفولة؛ لأننا كنا مهتمِّين بمحاولة إعادة تشكيل تاريخها البصري المبكِّر. كان الحوَل الذي أصابها في طفولتها، قبل الجِراحة، واضحًا تمامًا في الصور. سألناها، هل تمكَّنتْ في أي وقتٍ مضى من الرؤية الثلاثية الأبعاد؟ فكَّرَت سو للحظة وأجابت بنعم؛ ففي بعض الأحيان، عندما كانت طفلةً، كانت تستلقي على العُشب، وربما كانت قد رأت فجأةً لثانية أو ثانيتين ورقةَ عُشب بارزةً من خلفيَّتها، ولكنها كانت قد نسيت هذا الأمر تقريبًا حتى سألناها. كان لِزامًا أن يكون العُشب قريبًا جدًّا من عينَيها، في حدود بوصات، ما يتطلب منها (مثل أيٍّ منا) أن تُحول عينَيها. ومن ثَم كان هناك اقتراحٌ بأن القدرة على الرؤية التجسيمية كانت لديها، وكان يمكن إظهارُها لو كانت قد حرَّكَت عينَيها في الموضع المناسب للرؤية المجسمة.
كتبتْ سو في رسالتها، قائلةً: «أعتقد أنني كنت أرغب، طوالَ حياتي، في رؤية الأشياء بعمقٍ أكبر، حتى قبل عِلمي بأني أُعاني من ضعفٍ في إدراكي للعمق.» هذه الملاحظة المؤثِّرة والغريبة جعلتْني أتساءل عمَّا إذا كانت قد احتفظتْ بذِكرى باهتةٍ واعية بالكاد لرؤيتها للأشياء في وقتٍ ما بعمقٍ أكبر (لأنها لم يكن ليُراودها إحساسٌ بالخَسارة أو الحنين إلى شيءٍ لم تمتلكه من قبل). كان من المهمِّ اختبارُها بالصور المجسمة التي ليس لها مُنبهات أو أدلة فيما يتعلَّق بالعمق، أي بلا منظورٍ أو احتواء، على سبيل المثال. أحضرت صورةً مجسمة بها سطورٌ مطبوعة — كلمات غير مترابطة وعبارات قصيرة — في حال رؤيتها بشكلٍ مجسم، تبدو على سبعة مستويات مختلِفة من العمق، ولكن إذا نُظر إليها بعينٍ واحدة أو دون رؤية تجسيمية حقيقية، تبدو على مستوًى واحد. نظرتْ سو إلى هذه الصورة باستخدام المنظار المجسم ورأتها كسطحٍ مُستوٍ. فقط عندما حثَثتُها بإخبارها بأن بعض الطباعة كانت على مستوياتٍ مختلفة، نظرت إليها مرةً أخرى وقالت: «أوه، الآن أرى.» بعد ذلك، استطاعت تمييزَ جميع المستويات السبع ووضعها في الترتيب الصحيح.
ربما كانت سو ستتمكَّن من رؤية جميع المستويات السبع بمفردها، حال إعطائها الوقتَ الكافيَ، ولكن هذه العوامل «التنازلية» — كمعرفة أو امتلاكِ فكرة عما يجبُ أن يراه المرء — هي عواملُ بالغةُ الأهمية في العديد من جوانب الإدراك. فقد يكون الانتباهُ الخاص، أو البحث الخاص، ضروريًّا لتعزيز ملَكةٍ فسيولوجية ضعيفة نسبيًّا. ويبدو من المحتمل أن لمثل هذه العواملِ فاعليةً قوية مع سو، خاصة في هذا النوع من المواقف الاختبارية. فالصعوباتُ التي تُواجهها في الحياة الواقعية أقلُّ من ذلك بكثير؛ لأن كلَّ العوامل الأخرى هنا — المعرفة، والسياق، والتوقُّعات التي لا تقلُّ عن المنظور، والاحتواء، والإزاحة البصرية الحركية — تُساعدها على معايشة الواقع الثلاثي الأبعاد من حولها.
تمكَّنتْ سو من رؤية العمق في رسومات باللونَين الأحمر والأخضر كنتُ قد أحضرتُها معي. كانت إحدى هذه الصور — وكانت عبارةً عن شوكة رنَّانة ثلاثيةِ الأسنان يستحيل وجودُها في الواقع ربما كالَّتي رسمها إم سي إيشر، ذات أسنان ثلاثة مُتزايدة في الارتفاع — «مذهلة» من وجهة نظر سو؛ فقد رأت الجزء العُلوي من السنِّ العليا مرتفعًا بثلاثة أو أربعة سنتيمترات فوق مستوى الورقة. ومع ذلك، وصفت سو نفسها بأنها تتمتع فقط برؤيةٍ تجسيمية «ضحلة»، وفي الواقع، رأى كلٌّ من بوب ورالف السنَّ العليا مرتفعةً بنحو اثنَي عشر سنتيمترًا فوق مستوى الورقة، بينما رأيتها أنا مرتفعةً بخمسة سنتيمترات.
***
في وقتٍ لاحق من اليوم، قمنا بزيارة إلى اختصاصية تصحيح الإبصار التي تُباشر حالة سو، د. تيريزا روجيرو، التي وصفت كيف استشارتها سو أولَ مرة في عام ٢٠٠١. كانت سو تشكو في ذلك الوقتِ من إجهاد العين، خاصةً عند القيادة، وضعف الوضوح، وقفز أو اهتزاز مُربِك للصور، لكنها لم تذكُر شيئًا عن افتقارها للرؤية التجسيمية.
قالت د. روجيرو إنها نفسها كانت سعيدةً للغاية عندما جرَّبَت سو الرؤيةَ التجسيمية مباشرةً بعد تحقيق الدمج غير المُجسِّم. خمَّنت روجيرو أن الجهد الواعيَ والقيام بتحريك عينَيها إلى الموضع الصحيح لدمجِ الرؤية الثنائية ربما كانا حاسمَين في تطور سو. وبالإضافة إلى الإنجاز الأوَّلي للرؤية التجسيمية، أكَّدت على تفاعل سو المغامر والإيجابي مع هذا، وعزمها الشديد على التمسُّك به وتعزيزه، مهما استلزم من جهد.
وقد استلزم الكثيرَ من الجهد بالفعل، ولا يزال يستلزم الكثير؛ إذ تمارس تمارين الدمج الشاقة لمدة عشرين دقيقة على الأقل كلَّ يوم. ومن خلال هذه التمارين، وجدتْ سو أنها بدأت في إدراك العمق على مسافاتٍ أكبر وأكبر، حيث كانت في البداية ترى العمق القريب فقط، كما هو الحال مع عَجلة القيادة. وواصلت تحقيق طفرات في تحسُّن حدة رؤيتها التجسيمية، حتى تمكَّنتْ من رؤية العمق مع تبايناتٍ أصغرَ وأصغر، ولكن عندما توقَّفت عن العلاج لمدة ستة أشهُر، تراجعتْ سريعًا. وقد أزعجها هذا بشدة، واستأنفت تمارينَ العين، وراحت تُمارسها كل يوم، «بتفانٍ ودأب».
تستخدم سو استعارةً حرَكية لتعلُّم كيفية استخدام الرؤية التجسيمية؛ إذ تُقارن ذلك بتعلُّم المشي مجدَّدًا. وقد كتبتْ مؤخرًا تقول: «كان عليَّ تطويرُ تصميم جديد لحركات عيني؛ كيف أحرك عينيَّ بتناغم، قبل أن أتمكَّن من الاستفادة من دوائر الرؤية الثنائية الكامنة والرؤية بعمق تجسيمي.»
في العَقد أو العقدَين الماضيَين، انتشرت الصور المجسمة الذاتية على نطاقٍ واسع في كتب «العين السحرية». الأوهام عبارةٌ عن صورٍ فردية نُشاهدها دون استخدام المنظار المجسِّم، لكنها تحتوي على صفوفٍ أفقية من أنماط «خلفية» متكررة تختلف قليلًا فيما بينها. للوهلة الأولى، تبدو جميع الأنماط على المستوى نفسِه، ولكن إذا تعلَّم المرء كيف يُباعد العينين أو يُقربهما، مُتيحًا لكلِّ عين التركيزَ على صفٍّ مختلف، فستظهر أوهام مجسمة مذهلة. تحبُّ سو هذه الأوهام، وقد أضافت بُعدًا آخر إلى حياتها الوليدة مع الرؤية المجسمة؛ فقد كتبت مؤخرًا تقول: «أجد هذه الصور المجسمة الذاتية الخلفية سهلةً (ومثيرة للغاية)؛ ربما لأنني أُمارس الدمجَ بالتقارب والتباعد بصورةٍ مُنتظمة.»
في صيف ٢٠٠٥، قمت أنا وبوب واسرمان بزيارةٍ أخرى لسو، هذه المرة في وودز هول بماساتشوستس، حيث كانت تُدير برنامج زمالة في البيولوجيا العصبية. ذكرت لي أن الخليج هناك كان أحيانًا ما يعجُّ بكائناتٍ مُضيئة، أغلبُها من طحالب السوطيات الدوَّارة الدقيقة، وأنها استمتعت بالسباحة بينها. عندما وصلنا، في منتصف أغسطس، وجدنا أن توقيتَنا كان مثاليًّا؛ إذ كان الماء مُشتعلًا بالمخلوقات المُضيئة (قالت سو: ««بريق البحر»، أحبُّ هذا الاسم»). بعد حلول الظلام، ذهبنا إلى الشاطئ مسلَّحين بالأقنعة وأنابيب التنفس. رأينا الماء يتلألأ من على الشاطئ، كما لو كانت به خنافس مُضيئة، وعندما غمرنا أنفُسنا وحرَّكنا أذرُعنا وأرجُلنا في الماء، أضاءت سُحبٌ من الألعاب النارية البالغة الصِّغر حول أطرافنا. عندما سبحنا، اندفعت أضواءُ الليل أمام أعيُننا كالنجوم المندفعة كلمح البصر أمام سفينة إنتربرايز في مسلسل ستار تريك عند وصولها للسرعة القصوى. في إحدى المناطق، حيث كان بريق البحر كثيفًا للغاية، قال بوب: «إن الأمر أشبهُ بالسباحة في مجرَّة، وسط عنقود نجمي مغلق.»
قالت سو عندما سمعت هذا: «الآن أراها ثلاثيةَ الأبعاد، فقد كانت من قبلُ تبدو جميعًا متلألئةً على سطح مستوٍ.» هنا، لم يكن ثمة وجودٌ لخطوطٍ كفافية، أو حدود، أو أجسام كبيرة لاحتوائها أو إعطائها منظورًا. لم يكن يوجد سياقٌ على الإطلاق — كان الأمر أشبهَ بالانغماس في صورةٍ مجسمة عملاقة عشوائية النقاط — ولكن سو الآن كانت ترى طحالب بريق البحر على أعماقٍ ومسافات مختلفة، في فضاءٍ ثلاثي الأبعاد. أردنا سؤالها بمزيد من التفصيل عن تجرِبتها، ولكن سو، التي كانت بطبيعتها مُتحمسةً للتحدث عن الرؤية المجسمة، كانت مأسورةً بجمال الكائنات المتلألئة. فقالت: «كفاكما تفكيرًا! استسلِما لبريق البحر.»
•••
في خِضمِّ كفاحها لإيجاد تشبيه لتجربتها، أشارت سو، في رسالتها الأصلية إليَّ، أن تجربتَها ربما تكون مشابهةً لتجرِبة شخص مولود بعمى ألوان تامٍّ، فلا يمكنه الرؤيةُ إلا بظلالٍ رمادية، وفجأةً وُهِب القدرةَ على الرؤية بجميع الألوان. فكتبتْ قائلةً إن مثل هذا الشخص «على الأرجح سيُغمَر بجمال العالم. فهل يمكنه التوقفُ عن النظر؟» على الرغم من أنني أحببتُ شاعريَّة التشبيه الذي كتبتْه سو، لم أكُن مُتأكدًا من الفكرة. (اعتقد صديقي وزميلي كنوت نوردبي، الذي كان مُصابًا بعمى ألوانٍ تام، أن الحصول على الألوان باعتبارها «ميزةً إضافية» بعد عمر كامل من دونها سيكون أمرًا مُربكًا للغاية، ومن المستحيل دمجُها مع عالمه البصري المكتمل بالفعل. كان يشعر أن الألوان ستكون غامضة، وليس لها روابطُ ولا معنًى لشخصٍ مثله.)
تابَع ديفيد هوبل حالةَ سو باهتمام، وراسَلها وراسَلني عنها. وقد أشار إلى أننا ما زلنا نجهل تمامًا الأساس الخلويَّ للرؤية التجسيمية. فلا نعرف، حتى في الحيوانات، ما إذا كانت الخلايا الحسَّاسة للتباين (الخلايا المجهرية المخصَّصة للرؤية التجسيمية) موجودة عند الولادة (وإن كان هوبل يشك في ذلك). نحن لا نعرف ما يحدث لهذه الخلايا في حالة الحوَل أو الافتقار إلى تجربة الرؤية الثنائية في حياة المريض المبكرة أو، وهو الأهم، ما إذا كان يمكن استعادتها إذا تعلَّم الشخص فيما بعدُ وضع عينَيه في الموضع الصحيح لإحداث دمج الرؤية الثنائية. وقد كتب أنه بالنسبة إلى حالة سو «يبدو لي أن [استعادتها للرؤية التجسيمية] قد حدث بسرعةٍ أكثرَ من اللازم لكي تُعزى إلى إعادة إنشاء الروابط، وبالأحرى أخمِّن أنها كانت تمتلك الأدواتِ اللازمةَ طوال الوقت، ولم يتطلب الأمر سوى إعادةِ إنشاء للدمج لإظهارها.» ولكنه أضاف أن «ذلك مجرد تخمين!»
ما يتبيَّن من تجربة سو هو أنه يبدو أن هناك لُدونةً كافية في دماغ البالغين لإعادة تنشيط هذه الخلايا والدوائر الخاصة بالرؤية الثنائية في مرحلةٍ متأخرة كثيرًا، إذا تجاوز البعضُ منها المرحلة الحرِجة. في مثل هذا الموقف، على الرغم من أن الشخص ربَّما يكون قد عانى من ضعفٍ في الرؤية التجسيمية أو افتقارٍ كامل لها يمكنه تذكُّره، فإن إمكانية الرؤية التجسيمية موجودة مع ذلك، وقد تعود للحياة — على نحوٍ غير متوقَّع في الغالب — إذا أمكن الوصول إلى مُحاذاةٍ جيدة للعينين. ومن المُدهش للغاية أن هذا هو ما حدث على ما يبدو مع سو بعد فترة خمول لما يقرب من خمسين عامًا.
على الرغم من أن سو كانت تعتقد في الأصل أن حالتها فريدة من نوعها، فقد وجدت، على الإنترنت، عددًا من الأشخاص الآخرين المُصابين بالحوَل وبمشاكل ذات صلةٍ تمكَّنوا من الرؤية التجسيمية على نحوٍ غير متوقَّع من خلال معالجة الإبصار. وتوحي تجارِبهم، شأنها في ذلك شأن تجربة سو، بأنه حتى إذا كان لدى المرء جزرٌ صغيرة من الوظائف في القشرة البصرية، فقد تكون هناك فرصةٌ جيدة لإعادة تنشيطها وتوسيع نطاقها في وقتٍ لاحق من العمر على الرغم من مرور عقود.
مهما كان أساسه العصبي، فإن التوسع في عالم سو البصري كان فعَّالًا في منحها إدراكًا مُضافًا، وهو وضعٌ بالكاد يستطيع بقيَّتُنا تصوُّرَه. بالنسبة إليها، ما زال للرؤية التجسيمية طابَعُ الإلهام. وعن ذلك كتبتْ تقول: «بعد ما يقرب من ثلاث سنوات، تستمرُّ رؤيتي الجديدة في مفاجأتي وإسعادي. ففي أحد أيام الشتاء، كنتُ أتسابق من حجرة الدراسة إلى متجر المأكولات الباردة لتناوُل غداء سريع. بعد اتخاذ خطوات قليلة فقط من مبنى حجرات الدراسة، توقَّفتُ فجأةً. كان الثلج يتساقط كسولًا من حولي في رُقاقاتٍ رَطبة كبيرة. استطعت أن أرى المسافة بين كل رقاقة والأخرى، وشكَّلَت الرقاقاتُ جميعها معًا رقصةً جميلة ثلاثية الأبعاد. في الماضي، كان الثلجُ يبدو أنه يتساقط على صفحةٍ مسطَّحة في مستوًى واحد نوعًا ما أمامي. كنت أشعر كما لو كنتُ أمرُّ بالثلوج مرورًا عابرًا. لكن الآن، شعرت أنني وسط تساقط الثلج، بين رقاقات الثلج. نسيتُ الغداء؛ إذ شاهدتُ الثلج يتساقط لعدة دقائق، وبينما كنت أشاهده غمَرني إحساسٌ عميق بالفرح. إن تساقط الثلج يمكن أن يكون في غاية الجمال والروعة، خاصةً عندما تراه للمرة الأولى.»
ملحوظة
بعد سبع سنوات من اكتسابها للتصوير المجسم، لا تزال سو مبتهجةً بحاسَّتها «الجديدة»، وتجد عالمها البصريَّ أكثر ثراءً إلى ما لا حدود بفضله. منذ أن راسلتني في عام ٢٠٠٤، واصلت التفكير في تجاربها الخاصة، والتواصل مع العديد من الأشخاص في مواقف مُماثلة، وكذلك مع الباحثين في مجال الإبصار. وفي عام ٢٠٠٩، نشرت كتابًا جميلًا وعميقًا عن تجارِبها، بعنوان «تثبيت نظرتي: رحلة عالمة إلى الرؤية الثلاثية الأبعاد».
هوامش
لعِب مايكل فاراداي، بالإضافة إلى دراساته الكهرومغناطيسية، دورًا في تصميم أدوات تُشبه الزويتروب كانت تعرض سلسلةً من الرسومات الثابتة أمام العينَين في تتابُع سريع، موضِّحًا بذلك أن هذه الرسومات عند معدلٍ حرجٍ ما يمكن أن تُدمَج بواسطة الدماغ لخلق إحساس بالحركة.
كان جيمس كليرك ماكسويل مفتونًا بفرضية توماس يونج القائلة إن هناك ثلاثةَ أنواع — ثلاثة فقط — مختلفة لمستقبِلات الألوان في شبكية العين، كلٌّ منها يستجيب لضوء بطولٍ موجي معيَّن (ما يُناظر تقريبًا الأحمر، والأخضر، والأزرق). وقد ابتكر اختبارًا رائعًا لهذا عن طريق تصوير قوسٍ ملوَّن عبر مرشحات حمراء، وخضراء، وبنفسجية، ثم عرض الصور الثلاث عبر مرشحاتها المناظرة. وعند تراكُب الصور الثلاث الأُحادية اللون تمامًا، انطلقَت الصورة ملونةً بالكامل.
رأى الجاموس، لا يزال يرعى مُتكاسلًا على بُعد عدة أميال، بعيدًا في الأسفل. فالتفت إليَّ وقال: «ما تلك الحشرات؟» لم أفهم في البداية، ثم أدركتُ أن نطاق الرؤية في الغابة محدودٌ للغاية بحيث لا توجد حاجةٌ كبيرة إلى المد التلقائي للمسافة عند تقدير الحجم … عندما أخبرت كينجي أن الحشرات كانت جاموسًا، قهقهَ وأخبرني ألَّا أقول مثلَ هذه الأكاذيب الغبيَّة … وكلما اقتربنا، كانت «الحشرات» بالتأكيد تبدو أكبرَ فأكبر. ألصقَ كينجي وجهه بالنافذة، التي لم يكن من شأن شيء أن يجعلَه يفتحُها. لم أستطع اكتشاف ماهيَّة اعتقاده بشأن ما يحدث، ما إذا كان يعتقد أن الحشرات تتحول إلى جاموس، أم أنها كانت جاموسًا مصغرًا ينمو بسرعة كلما اقتربنا. كان تعليقه الوحيد هو أنها لم تكن جاموسًا حقيقيًّا، وأنه لن يخرج من السيارة مرةً أخرى حتى غادرنا المتنزَّه.
في رسالة وُجهت في عام ٢٠٠٤ إلى محرر «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين»، أشار اختصاصيَّا البيولوجيا العصبية في جامعة هارفارد مارجريت ليفينجستون وبيفيل كونواي، بعد فحص لوحات رامبرانت الشخصية، إلى أن الرسام كان مصابًا بالحوَل الوحشي إلى حدٍّ جعله فاقدًا للرؤية التجسيمية، وأن «عمى الرؤية التجسيمية قد لا يكون إعاقةً لبعض الفنَّانين، بل قد يكون مصدرَ قوة.» واقترحا بعد ذلك، بعد النظر في الصور الفوتوغرافية لفنَّانين آخرين، أنَّ كثيرًا منهم — مثل دي كونينج، وجونز، وستيلا، وبيكاسو، وكالدر، وشاجال، وهوبر، وهومر، من بين آخرين — يبدو أيضًا أنهم كان لديهم حوَلٌ ملحوظ في العينَينن وربما كانوا أيضًا مصابين بعمى الرؤية التجسيمية.
(بالإضافة إلى ذلك، يوجد تأثيرٌ واضح للممارسة، حتى إن الأشخاص الذين يمرِّنون قدراتهم على الرؤية المجسمة — على سبيل المثال، من خلال استخدام مجهر للرؤية الثنائية — قد يجدون تحسيناتٍ مذهلةً في حدةِ وعمق التجسيم على مدى أوقاتٍ أطول. والآلية الأساسية هنا أيضًا غير معروفة.)