استدامة الرؤية
في ١٧ ديسمبر ٢٠٠٥، في أحد أيام السبت، ذهبتُ لأُمارس سباحتي الصباحية المعتادة، ثم قرَّرت الذَّهاب إلى السينما. وصلتُ مبكرًا بضع دقائق، وجلستُ في مقعد في الصفوف الخلفية من السينما، دون أيِّ إشارة تُنذر بوجود أي شيء غير عادي، حتى بدأت العروضُ المسبقة. وحينئذٍ أصبحتُ مدركًا على الفور لنوعٍ من الارتعاش، عدم استقرار في الرؤية، في الجانب الأيسر. اعتقدتُ في البداية أنها كانت بدايةً لصداعٍ نصفي بصري، لكنني سُرعان ما أدركتُ أن كل ما كان متأثرًا هو العين اليمنى فقط؛ ومن ثَم لا بد أن يظهر في العين نفسِها، وليس في القشرة البصرية، كما يحدث في الصداع النصفي.
عندما أظلمَت شاشة السينما بعد العرض المسبق الأول، اشتعل المكانُ الذي كان يرتعش على يساري كفحمٍ مُلتهب، بألوانٍ طيفية — فيروزي، أخضر، برتقالي — على أطرافه. انزعجت؛ هل كنتُ أعاني من نزيف في العين، أو انسداد في الشريان المركزي للشبكية، أو انفصال في الشبَكية؟ أدركتُ بعد ذلك وجودَ بقعة عمياء في المنطقة الساطعة؛ فعند استخدام عيني اليمنى فقط والنظر إلى اليسار، حيث يُشير خطٌّ من الأضواء الصغيرة على طول الأرضية إلى طريق الخروج من السينما، وجدت أن كلَّ الأضواء الأمامية كانت في هذه اللحظة «غائبة».
شعرتُ بالذُّعر يتصاعد. هل ستستمرُّ المنطقة المظلمة في الاتساع حتى تصبح العينُ اليمنى عمياءَ تمامًا؟ هل ينبغي أن أغادر في الحال؟ هل أذهب إلى غُرفة الطوارئ؟ هل أتَّصل بصديقي بوب طبيب العيون؟ أم هل يجب أن أمتنع عن اتخاذ خطوة وأرى ما إذا كان الاختلال سيزول من تلقاء نفسه؟ بدأ الفيلم، لكنني لم أهتمَّ به كثيرًا؛ فقد كنت مُنشغلًا تمامًا بفحص بصري كلَّ بضع ثوانٍ.
وأخيرًا، بعد مرور نحو عشرين دقيقةً، اندفعتُ خارجًا من السينما؛ لربما يبدو كل شيء على ما يُرام عندما أخرجُ إلى ضوء النهار، إلى العالم الحقيقي. لكن ذلك لم يحدث. خمدَ الالتهاب قليلًا، ولكن عندما استخدمتُ عيني اليمنى فقط، كان جزءًا على شكل فطيرة لا يزال مفقودًا من مجالٍ إبصاري إلى يساري. مشيتُ، شِبه راكض، عائدًا إلى شقَّتي، واتصلتُ ببوب. طرح بعضَ الأسئلة، واقترح بعض الاختبارات الفورية، ثم طلب مني أن أذهب إلى طبيب عيون على الفور.
بعد ساعتين كنتُ في عيادة أحد أطباء العيون. حكيتُ قصَّتي مرةً أخرى، وأشرتُ إلى ربع الدائرة الأعمى في عيني اليمنى. أنصتَ بعناية، ولم يبدُ عليه أي شيء، وبعد فحص مجالات إبصاري، التقطَ منظار العين وأمعن النظرَ في العين. ثم أنزل المِنظار، وانحنى للخلف، وحدَّق في وجهي، كما اعتقدت، بنظرةٍ مختلفة في عينَيه. كان من قبلُ يتمتع بخفَّة أو عفوية، لم نكن أصدقاءَ بمعنى الكلمة، لكننا كنَّا زملاءَ؛ إذ كان كِلانا من رجال الطب. الآن وفجأةً، أصبحت في فئةٍ مختلفة تمامًا بالنسبة إليه. تكلَّم بعناية مُنتقيًا كلماته، وكان أسلوبه يتَّسم بالجِدية والقلق. قال: «أرى تصبغًا، شيئًا خلف الشبكيَّة. يمكن أن يكون كتلةً دموية، أو قد يكون ورمًا. إذا كان ورمًا، فقد يكون حميدًا أو خبيثًا.» ثم بدا أنه قد أخذ نفَسًا عميقًا. وتابَع قائلًا: «دعنا ننظر إلى أسوأ السيناريوهات.» لا أعرف ما قاله بعد ذلك؛ إذ انطلق صوتٌ في رأسي صارخًا: «سرطان، سرطان، سرطان …» ولم يعُد بإمكاني سماعُه. قال إنه سيُرتب لي زيارة إلى الدكتور ديفيد أبرامسون، أحد كبار الخبراء في مجال أورام العيون، بأسرع وقتٍ ممكن.
عندما عدتُ إلى شقَّتي في مساء ذلك اليوم، اختبرتُ عيني اليمنى، وارتعبتُ حين رأيت أن القضبان الأفقية على مكيِّف الهواء بدَت كلُّها مُلتوية ومُتقاربة، وقد هوى كلٌّ منها على الآخر، بينما كانت القضبان العمودية متباعدةً. لا أستطيع الآن أن أتذكَّر كيف قضيت ما تبقَّى من عطلة نهاية الأسبوع. كنت قلِقًا للغاية، وكنت أذهب للتمشية مسافاتٍ طويلة، وعندما كنتُ داخل المنزل، كنت أذرع الشقة جيئةً وذهابًا. وكانت أوقات الليل تمرُّ على نحو في غاية السوء، واضطُررت إلى إخماد نفسي بالحبوب المنوِّمة.
١٩ ديسمبر ٢٠٠٥: التشخيص
تمكَّنتُ من زيارة د. أبرامسون كأول شيء يوم الإثنين. وجاءت معي كيت — فهي صديقتي المقرَّبة، بالإضافة إلى كونها مساعدتي — لإعطائي الدعم المعنوي. كان د. أبرامسون رجلًا هادئًا، ورصينًا، ومتزنًا، ومتحفظًا، وفي عينَيه بريقٌ مُزعج. قلت: «تشرَّفت بلقائك.»
أجاب: «لقد التقينا من قبل»، وذكَّرني بأنه كان أحدَ طلابي في ستينيَّات القرن العشرين. كانت لديه ذكرياتٌ حية عن تدريسي وبعض طبائعي الغريبة. تذكَّر أن صفِّي كان الوحيد خلال مسيرته في كلية الطب الذي كان يختتم كلَّ أسبوع بمناقشةٍ عامة مع فنجان شاي. فكَّرت في نفسي (وربما هو أيضًا)، كم أنه غريبٌ أن أصبح الآن مريضه بعد أن كنت مُعلمه منذ أكثرَ من خمسة وثلاثين عامًا.
أجرى فحصًا أوليًّا لعينيَّ، ثم وضع بعض القطرات لتوسيع بؤبؤ العين. وأتبع هذا بتصوير وفحص بالموجات فوق الصوتية لشبكية العين. لم نقل سوى القليل أثناء هذه الاختبارات. ثم جلسنا في غُرفةٍ أخرى أكبر. أخرج د. أبرامسون نموذجًا كبيرًا للعين، مقطوعًا ومفتوحًا للكشف عن تشريحه الداخلي. وأخذ جسمًا أسودَ بشعَ الشكل — غيرَ منتظم وملتفًّا، كثمرة قنبيط أو ملفوف أسود صغيرة — ووضعه بالقرب من مدخل العصب البصَري. كان معنى هذا واضحًا؛ كان لديَّ ورم، ورمٌ خبيث. فكَّرت كيف أنه، في إنجلترا، يرتدي القاضي قبعةً سوداء قبل النطق بحكم الإعدام. كان للملفوف الأسود المعنى ذاتُه. شعرت بأنني قد حُكِم عليَّ بالإعدام.
قال مؤكدًا: «إنه ورمٌ ميلانيني»، ولكنه واصَل على الفور قائلًا إن ميلانوما العين من النادر انتشارُها؛ إذ كانت الفرصة ضئيلةً لأي انتشار بعيدًا عن العين. ومع ذلك، لم يكن من الممكن السماحُ له بالاستمرار والنموِّ في العين؛ أي عدم معالجته. حتى وقتٍ قريب بعض الشيء، كان الإجراء الموصى به هو إزالة العين كاملةً (وقد أجرى هو نفسُه ألفَ عملية استئصال كلِّي كهذه على مرِّ السنين)، ولكن الآن، كان هناك شعورٌ بأن الإشعاع يمكن أن يكون فعَّالًا بالقدر نفسه، ما يسمح للمرء بالاحتفاظ بالعين وما تبقَّى بها من قدرةٍ إبصارية. لم يكَد د. أبرامسون يُصرح بهذا حتى سألته عن أقربِ وقت لإجراء هذا الإشعاع: غدًا؟ فقال إن الأمر سيتأخَّر ثلاثة أسابيع — كانت إجازات أعياد الميلاد والعام الجديد على الأبواب — ولكنه طمْأنَني أن الورم لن يشهد نموًّا كبيرًا في هذا الوقت؛ إذ تميل هذه الأشياء إلى النموِّ على نحوٍ بطيء للغاية. وسوف يستغرق الأمر بعضَ الوقت لتشكيل اللوحة المشعَّة نفسِها، وتصميمها لتركيز الإشعاع بدقَّة على الورم. بعد ذلك تُثبَّت اللوحة بجانب العين، الأمر الذي سيتطلب فصل إحدى عضلات العين. وفي عمليةٍ ثانية بعد بضعة أيام، ستُزال اللوحة ويُعاد توصيل العضلات.
أضاف قائلًا إنه لا بد أن ورمي قد استغرق بعضَ الوقت للوصول إلى هذا الحجم، وسألني، هل لاحظتُ أيَّ خلل في مجالي البصري في الأشهُر السابقة؟ للأسف، لم أتحقَّق من ذلك مطلقًا. لم ألحظ وجود أي شيء خاطئ حتى قبل يومين، في السينما، ثم الانحرافات البصرية الغريبة، تلك التشوهات الأفقية والرأسية، خلال عطلة نهاية الأسبوع. قال د. أبرامسون إن هذا كان بسبب تورُّم الشبكية وتشوُّهها، وسيختفي مع علاج الورم والوذمة المصاحبة له للعلاج. ولكنه أشار إلى أن التشوهات إذا تفاقمت، فربما أُفكر في ارتداء رقعة عين لبضعة أسابيع حتى تهدأ.
واصَل قائلًا إن جميع أورام ميلانوما العين تقريبًا حساسةٌ للإشعاع. وتابَع بقوله إنه كانت هناك فرصةٌ جيدة للغاية أن يتم القضاء على الورم بالإشعاع، على أن يُتبع بالليزر إذا لزم الأمر. ولسوء الحظ، كان ورمي في موقعٍ سيِّئ؛ إذ كان هناك ما يَزيد قليلًا عن مائة خلية، على بُعد مِلِّيمتر واحد من النقرة، وهو الجزء من شبكية العين الذي يُحملق به الإنسان، حيث تكون حِدة البصر في أوجها. ولكن إذا أمكن إيقافُ الورم في مساره، كما قال، فسأحتفظ مدةً من الوقت برؤية ٢٠/٢٠ التي طالما تمتَّعتُ بها في هذه العين. وفي وقتٍ لاحق، قد تكون هناك بعضُ الخسارة في الرؤية، بسبب التأثيرات المتأخِّرة للإشعاع. ومع ذلك، لا بد أنني سأتمتع ﺑ «مدة» كبيرة — ربما سنوات — من الرؤية الجيدة قبل حدوث هذا.
قلت للدكتور أبرامسون: «أعتقد أنه عليك إخبار العديد من المرضى بأخبار كهذه.» وسألته كيف بدَوت عندما تلقَّيت الخبر. قال إنني تلقَّيته بهدوءٍ شديد، لكن الأمر كان يحتاج إلى بعض الاستيعاب.
١٩ ديسمبر ٢٠٠٥
أستيقظُ على كابوس. ففي اللحظة التي أفتح فيها عيني اليمنى، أدركُ أن ثمة خَطبًا ما. كان الظلام أمامي ببضع بوصات، وبالكاد أستطيع رؤية أي شيء الآن على يساري. أنا هادئ وعقلاني ظاهريًّا؛ فأنا أعلم أنني في أكثر أيدٍ أمينة مع ديفيد أبرامسون، لكني أشعر بداخلي بطفلٍ مُرتعب، طفل يصرخ طلبًا للمساعدة.
٢١ ديسمبر ٢٠٠٥
إن الإصابة بالسرطان، أيًّا كان نوعه، تعني تغييرًا فوريًّا في وضع المرء، وفي حياته. فالتشخيص بمثابة عتبة يَكمُن وراءها عمرٌ كامل — أيًّا كان طوله — من الاختبارات، والعلاجات، والاحتراز والترقُّب، ودائمًا ما ينطوي، سواءٌ بوعي أو لاوعي، على شعور بالتحفظ إزاء المستقبل. اليوم، أول أيام الشتاء، ينبغي إجراءُ اختبارات وظائف الكبد. هل انتشر الوحش إلى الكبد؟ هل غرَز مخالبه في أعضائي الحيوية؟ هل سأموت من الميلانوما؟ إن الفكرة تُسيطر على ذهني طوال الوقت.
لقد عقَدتُ صفقة مع الورم؛ يمكنك الحصول على إحدى عينَي، إذا أصررتَ، ما دمتَ ستترك بقيةَ جسدي وشأنَه.
في مركز ميموريال سلون كيترينج لعلاج السرطان، يوجد رصيفُ مُشاة خاصٌّ مميز بعبارة «مخصَّص للمرضى الذاهبين إلى مركز ميموريال سلون كيترينج.» كنتُ ألاحظه من حينٍ لآخر عندما كنت أزور المرضى في المستشفى. «تافهون مساكين»، هكذا كنتُ أفكر عندما أرى أشخاصًا يسلكونه. الآن هذا هو المسار الذي أسلكه أنا نفسي.
يُسحب مني الدم، فهل سيكون طبيعيًّا؟ الفحص الروتيني: النبض، وضغط الدم، وما إلى ذلك. ضغطي مرتفع قليلًا، ١٥٠ / ٨٠، في حين يكون في الأحوال العادية أقلَّ من ١٢٠ / ٧٠. يبدو المِصعد المؤدي إلى قسم الأشعة السينية على شكلٍ شِبه مُنحرف غريب، حيث تتقارب جدرانه للداخل إلى الخلف. أهذا جزءٌ من عالم بيت الرعب، عالم التشويه المتري والطبولوجي، الذي سيكون عليَّ اجتيازُه؟ تؤكِّد لي كيت أن الأمر في هذه المرة، على الأقل، ليس مُتعلقًا بعينيَّ. فالمصعد بالفعل يأخذ شكلًا شِبه مُنحرف.
بعد جولةٍ من الاختبارات والأوراق في المستشفى، عدتُ إلى عيادة د. أبرامسون، الكائنة على بُعد بضع بنايات. أبدأ في التعرف على المكان وطاقمه، وبدَءوا هم الآن يعرفونني. انضممت إلى نادٍ جديد، نادي ميلانوما العين في نيويورك الكبرى (مثلما أنتمي إلى نادي التعدين في نيويورك … وجمعية نيويورك للتصوير المجسِّم، التي ربما قد أصبح قريبًا العضو الوحيد فيها ذا الرؤية الأحادية).
أقول لكيت: «الحادي والعشرون من ديسمبر، أول أيام الشتاء.»
تردُّ قائلةً محاولةً إبهاجي: «يومٌ مبشِّر. سيبدأ النهار يزداد طولًا.»
أعلِّق عابسًا: «أيامكِ، ربما».
٢٢ ديسمبر ٢٠٠٥
الرابعة صباحًا: أستيقظ. أشعر بالبرد. بالخوف. أفتح عيني اليمنى. لقد ازداد الظلام مرةً أخرى، إنه قادمٌ ليُحيط بجزيرة بصري الصغيرة، نقطة تثبيت بصري، النقرة. ستُبتلَع بالكامل عمَّا قريب.
العاشرة صباحًا: الرؤية أفضلُ بكثير. أعتقد أن ما لاحظته في الساعة الرابعة صباحًا كان مرتبطًا بالظلام الجزئي الذي يُخيم على غُرفة نومي، وبحقيقة (كما أتعلم) أن المنطقة العمياء، أو العتمة، تختلف باختلاف الإضاءة؛ إذ يُمكنها أن تصبح أكبر، بل وتتغلب على الرؤية المركزية، إذا كان الضوء خافتًا.
عندما أغلق عيني اليمنى، أرى أضواءً ساطعة مجددًا، تلك الأضواء الشديدة السطوع التي تُنذر بالعمى. ثَمة هلال بطرَفٍ مُنحنٍ، ذو حافة مليئة بالألوان، فوق نقطة تثبيت بصري مباشرةً.
٢٣ ديسمبر ٢٠٠٥
أجد أنني لا أتمكَّن من القراءة إذا استخدمتُ عيني اليمنى فقط؛ فالأسطُر غير واضحة، وزلِقة، ومشوَّهة على نحوٍ رهيب، وتهتزُّ من لحظة إلى أخرى. لم أدرك أن هذا سيحدث لي بهذه السرعة. ربما تجنَّبت القراءة في الأيام القليلة الماضية، أو قمتُ بها بالكامل بعيني اليسرى، دون أن أدرك ذلك. فأنا أميل إلى إغلاق عيني اليمنى عندما أقرأ؛ إنه شيء غير واعٍ، لا إرادي، شِبه تلقائي.
٢٤ ديسمبر ٢٠٠٥
استيقظت بعد ليلة نوم جيدة، ومع تدفُّق شمس الصباح عبر نافذتي، نسيتُ للحظةٍ أنني الآن «من ضحايا السرطان». شعرت أنني بحالةٍ جيدة، ولم تكُن الأعراض البصرية اقتحاميَّة. دائمًا ما يكون الشعور بأنني في حالةٍ جيدة خطيرًا بعضَ الشيء بالنسبة إليَّ؛ فهو يُغريني بالإفراط. هذا الصباح سبحت مدةً أطول مما ينبغي في المسبح؛ ساعة، أغلبها على ظهري، ولكني بعدها مارستُ السباحة الحرةَ بمسافاتٍ أطول، وهو النوع الذي نصح د. أبرامسون بتجنُّبه (لأنه، ربما، يميل إلى التسبب في تجمع وذمة بالشبكية)، وعقب ذلك نصف ساعة من التمارين القويَّة باستخدام الحصيرة والكرة. في هذا الوقت، بدأتُ أفقد رؤيتي مرةً أخرى؛ فعند اختبار عيني اليمنى بعد ساعة، وجدت أنني لا أستطيع قراءة حتى العناوين الرئيسية الكبيرة لصحيفة «نيويورك تايمز». أرعبني هذا، وأظهر لي كيف يبدو فقدانُ الرؤية المركزية.
الآن، بعد ساعتين ونصف الساعة، استقرَّت الوذمة (إن كانت وذمة)، على الرغم من أن الرؤية في العين اليمنى لا تزال ضبابيةً؛ فالأسطُر والأسطُح تتلوَّى كالأفعى وتنحني. أرى أن من الأسهل أن أضع رقعة على العين اليمنى، وأن أستخدم العينَ اليسرى فقط، التي تتمتع على الأقل برؤيةٍ مستقرَّة.
داخل الحافة اللامعة المُتوهجة المُلتهبة للعتمة، يستمر التصور اللاإرادي، بلا انقطاع، بجميع أنواعه؛ الوجوه، الأشكال، المشاهد الطبيعية. كنت أرى صورًا مماثلة لوقتٍ قصير في بداية الصداع النصفي، أو قبل أن أخلد إلى النوم، لكنني لم أرَ أبدًا، حسبما أتذكَّر، صورًا ذهنية متواصلة كالتي أراها الآن.
٢٥ ديسمبر ٢٠٠٥
الكل يقول: «عيد ميلاد سعيد!» وأردُّ بالمثل، لكن هذا هو أحلكُ عيد ميلاد عرفتُه على الإطلاق. في صحيفة «نيويورك تايمز» اليوم صور وقصص عن أشخاص مختلفين ماتوا في عام ٢٠٠٥. هل سأكون من بين هؤلاء الأشخاص في عام ٢٠٠٦؟
تُحاول كيت أن تظلَّ مُتفائلة. فقد قالت: «قال د. أبرامسون إن هذا لن يقتلك. مهما يحدث، سنتعامل معه.» لست متأكدًا للغاية. تُرعبني فكرة العمى، مثلما تُرعبني فكرة أنني ربما سأكون من بين تُعساء الحظ الذين تُشكل نسبتهم واحدًا في المائة.
٣٠ ديسمبر ٢٠٠٥
الثامنة صباحًا: عندما فتحت عينيَّ هذا الصباح، كانت السحابة الداكنة في عيني اليمنى أكبرَ بكثير. فعندما جلست ونظرت من النافذة بعيني اليمنى، لم أتمكَّن من رؤية السماء على الإطلاق، ووجدت عندما نظرت لأعلى إلى مركز مِروحة السقف أن ثلاثًا من ريشاتها الخمسِ كانت بالكاد مرئيةً لعيني اليمنى؛ إذ لم أتمكَّن إلا من رؤية أعقاب الريشات، بالقرب من نقطة تثبيت بصري.
العاشرة صباحًا: الآن، بعد ساعتين من الاستيقاظ، أجد العتمة قد تراجعَت، وأستطيعُ أن أرى الريشات كلَّها باستثناء ريشة واحدة. الموقع مهم؛ إذ يبدو أن الوذمة تتجمَّع عندما أستلقي في وضع مستوٍ في الليل، ربما يجب أن أنام ورأسي مسنود.
أجد صعوبةً في التركيز، وفي تهدئة نفسي. وصعوبة أيضًا في الكتابة — فلم أكتب أيَّ شيء (بخلاف بعض الرسائل) منذ انتهائي من فصل عن الصرع الموسيقي منذ أسبوع — على الرغم من أنني كنتُ أفكر، على الأقل، في الكتابة عن التصاحب الحسِّي والموسيقى.
الرابعة مساءً: المزاج والطاقة أفضلُ بكثير! لقد كتبت لتوِّي الجزءَ الأكبر من فصل «الموسيقى الملونة» حول موضوع التصاحب الحسي.
١ يناير ٢٠٠٦
في يوم رأس السنة الجديدة هذا، أجد نفسي أُكنُّ مخاوفَ وآمالًا، وأواجه تحدِّياتٍ من نوعٍ جديد تمامًا. هناك احتماليةٌ قليلة ولكنها خطيرةٌ أن يكون هذا هو عامي الأخير، ولكن سواءٌ أكان الأمر كذلك أم لا، فإن حياتي ستتغيَّر بالتأكيد، بل تغيَّرتْ بالفعل تغيرًا جذريًّا. واكتسبت أمور الحب والعمل وما يهمُّ حقًّا قوةً وإلحاحًا من نوعٍ خاص.
٥ يناير ٢٠٠٦
لا أُطيق صبرًا، وأشعر بالضِّيق جرَّاء اضطراري إلى الانتظار وقتًا طويلًا للغاية لإجراء العملية. هل تُكلف فترة العطلة هذه وقتًا ثمينًا، ما يسمح للورم بالاستمرار في الْتهام بصري؟ أنا مطمئنٌّ إلى أن د. أبرامسون سيفعل كل ما هو ممكن للقضاء على هذا الورم مع الحفاظ على أكبرِ قدر ممكن من بصري. وأنا سعيدٌ أنني قابَلته مرةً أخرى (ولكن ليس في هذه الظروف). إنه ليس طبيبًا بارعًا فحسب، بل أيضًا رجلٌ حسَّاس للغاية، وهو أمرٌ مهم جدًّا عند التعامل مع أولئك المُصابين بالسرطان. لا يبدو أبدًا على عَجلة من أمره أو نافدَ الصبر. فهو يُصغي باهتمام لما أقول، ويستجيب بقدرٍ كبير من الرقة واللباقة. أعتقد أنه يفهم جيدًا ما أحتاج إليه، وما يحتاج إليه ورمي الميلانيني.
٨ يناير ٢٠٠٦
كان نومي مُتقطعًا ليلةَ أمس، وراوَدتني أحلامٌ وقلاقلُ تتعلق بعيني، وبصري، وفوق هذا، حياتي. تتسارع المخاوف من كل نوع في ذهني، مختلطة بحسرات (عقيمة) واتهامات مضادَّة بأن الورم لم يُشخَّص مبكرًا عن ذلك. لماذا لم أدرك أهميةَ تلك الخطوط المُتموجة القريبة بعضها من بعض، والنجوم الصغيرة، وكتل العُشب النامي، التي كنت أراها على السقف الأبيض لحمَّام السباحة في الأشهُر القليلة الماضية كلما مارستُ سباحةَ الظهر؟ كيف كنت بهذه السذاجة لأصرفَ نظري عنها باعتبارها «آثارًا للصداع النصفي» أو انعكاسًا لرموشي في النظَّارة الواقية، في حين أن تجرِبةً لحظية كانت ستُبين لي — كما اكتشفتُ أمس — أنها لا تُرى إلا بالعين اليمنى فقط، وتكون ظاهرةً بالمثل من دون النظَّارة الواقية؟ كان يمكنني، بل كان «ينبغي» عليَّ، الانتباهُ والتساؤل، والسعيُ لاستيضاح ما يحدُث منذ أشهُر.
ومع ذلك، يشعر بوب أن هذا لم يكن ليُحدِث اختلافًا ملموسًا، ولكن الشيء البشع — وهنا أنا غاضبٌ من طبيب العيون السابق، ومن كيت، ومن نفسي — أنني قد أغفلتُ فحص العين «السنوي» بطريقةٍ أو بأخرى سنتَين متتاليتَين؛ ومن ثَم قضيتُ اثنين وثلاثين شهرًا دون فحص لعيني. كان من شأن هذا التأخير أن يُكلفني بصري بل وحياتي، ولكن يجب ألا أُفكر في هذا، بل يجب أن أركِّز على كم أنا محظوظٌ أن الأمر قد اكتُشف الآن وأنه، كما يقول د. أبرامسون، قابلٌ للعلاج والشفاء الكامل.
٩ يناير ٢٠٠٦: الجِراحة
العاشرة صباحًا: من المقرَّر أن أخضع للجِراحة في غضون ساعة أو نحو ذلك، ولا أعرف إلى أيِّ مدًى سأكون، أو أريد أن أكون، واعيًا. في الجِراحات السابقة — جِراحة الكتف والساق — كنتُ مُتلهفًا لمعرفة الإجراءات، بل والمشاركة فيها. ولكني هذه المرةَ، أودُّ أن أكون غائبًا عن الوعي، غائبًا تمامًا. كانت كيت وبوب هنا معي ويُحاولان طمأنتي وإلهائي.
الآن، بعد ستِّ ساعات، مستلقيًا في السرير، أرى من حينٍ لآخرَ شرارات أو ومضات في عيني اليمنى. أتساءل عما إذا كانت هذه من الجُسيمات أو الأشعَّات المُنبعثة من اليود المشعِّ الضارب في شبكيَّة عيني. (يجعلني هذا أفكر مرةً أخرى في أقراص الساعات المُشعة التي اعتاد عمي آبي صُنعها، وكيف كنت أضغط بها على جفنيَّ المغلقَين عندما كنت طفلًا وأرى ومضاتٍ مماثلة … هل يمكن أن يكون لهذا دورٌ في التسبب في ورمي؟)
عيني مغطَّاة بحشوةٍ سميكة من الشاش ورقعة عين صُلبة لحماية العين من أي اصطدام. وعلى باب غرفتي توجد لافتةُ تحذير بوجود نشاطٍ إشعاعي. لا يمكن لأحد الدخولُ إلى غرفتي إلا إذا التزم بالتعليمات، ولا يمكنني مغادرتُها. غير مسموح بدخول الأطفال أو النساء الحوامل، وغير مسموح لأحد بتقبيلي خلال الأيام التي أضع فيها اللوحة المشعة. وغير مسموح لي كذلك بالذَّهاب إلى المنزل؛ فأنا رهن الاعتقال في المستشفى. أنا «مُشع».
١٠ يناير ٢٠٠٦
الرابعة صباحًا: أستيقظ قلِقًا، ولم أعُد أستطيع النوم أكثرَ من ذلك. فالرقعة تضغط على عيني، تُرهقني (واتَت أحدَ الأشخاص فكرةٌ ذكية بإحضار كتاب بعنوان «الغمامة»، تأليف سيري هوستفيدت)، لكن عِرق النَّسا — الذي عذَّبني أشهرًا — لا يزال ألمه مُتوقفًا على نحوٍ غامض. الغرفة هادئة، ومطمئنة، ومُريحة، ويمكنني التحديقُ في النهر الشرقي الذي يتدفق ببطء.
التاسعة صباحًا: عندما نظرت عبر النافذة بعيني اليسرى المكشوفة، أذهلني أن أرى سياراتٍ عالقةً في أغصان الأشجار، كأنها لعب. عند إغلاق إحدى العينين، لا يصبح لديَّ إحساس بالمسافة أو العمق أيًّا كان، في تجربةٍ مسبقة لما سيكون الحال إذا فقدت الرؤية المركزية في العين اليمنى.
الثالثة مساءً: لا يتوقف الزائرون والمكالمات الهاتفية منذ هذا الصباح. إنه أمرٌ رائع، لكنه مُرهق. خرجت كيت لتبحثَ لي عن بعض الطعام المهدئ لتسرِّيَ عني، وعادت بالخبز والسمك الأبيض، وأحضر أصدقاءُ آخرون الشوكولاتة والفواكه، وحساءَ كرات الماتزو، وخبز الحلة، والرنجة المخللة. إن الرنجة والسمك المدخَّن هما أكثر ما أشتهيه عندما أكون مكتئبًا. وبهذه الأشياء إلى جانب طعام المستشفى، صار لديَّ مخزون جيد، وأنا سعيدٌ للغاية لكوني بمفردي الآن.
الرابعة مساءً: حطَّت سحابةٌ على المدينة، ضبابٌ رماديٌّ رقيق يجعل النهر الشرقي غيرَ مرئي، ويُضعف من الخطوط الكفافية المُتكتلة للمباني من حولي. إنها سحابةٌ لطيفة وجميلة.
الخامسة مساءً: ألمٌ مُفاجئ طاعنٌ في عيني، ثم عاصفة من أشكالٍ أرجوانية مشعَّة، تبدو كنجم البحر، أو زهور أُقْحوان، تمتد للخارج من عدة نقاط مُنفصلة. يبدو أن هذه العاصفة تملأ المجال البصريَّ بأكمله. إنها تبهرني وتُخيفني. هل ثمة شيءٌ ضالٌّ، منحرف، خاطئ في عيني؟ أم إن عقلي هو ما يصبُّ أو يولِّد رُؤًى، كردِّ فِعل لانقطاع الرؤية عن العين التي أجريت فيها الجِراحة؟
السابعة مساءً: دخل د. أبرامسون من أجل حديث مطوَّل في حوالَي الساعة السادسة: كيف كنت أشعر عمومًا؟ وماذا عن عيني؟ وصفت «عاصفتي البصرية»، ونجم البحر، وما إلى ذلك. اعتقد أن ذلك ربما كان ردَّ فِعل شبَكيًّا تجاه الإشعاع. وبالتركيز على هذا، ذكرت فكرتي — بأسلوبٍ جمَع ما بين الجِد والمُزاح — عن أن النشاط الإشعاعي في عيني قد يكون قويًّا بما يكفي لجعل معادني الفلورية تتوهج. ربما استطعت أن أجعلها تُضيء عن طريق تركيز عيني المشعة، بما فيها من إشعاعات، عليها؛ ستكون خدعةً جيدة للغاية في الحفلات! ضحِك د. أبرامسون، وقال إنه ينبغي أن أطلب من كيت إحضارَ المعادن، وإنه سينزع الضمادة حتى أتمكَّن من المحاولة.
تحدَّث أيضًا عن كيف أنه في غضون أسابيع قليلة قد يكون من الجيد استخدامُ الليزر على شبكية العين، وقتل أي خلايا خبيثة ربما تكون قد نجَت من الإشعاع. لكن ورمي يقعُ أعلى النقرة تقريبًا، وإذا تلفت النقرة فسأفقد الرؤيةَ المركزية بالكامل. فكر في حلٍّ وسط؛ استخدام الليزر على ثلثَي الورم الأبعدِ عن النقرة، ولكن مع الابتعاد تمامًا عن النقرة نفسِها. وذكر بعض العلاجات الأحدث أيضًا؛ حقن مادةٍ ما في العين قد تمنع نُموَّ الأوعية الدموية داخل الورم؛ ومن ثَم تمنع عنه الدم، ولقاح جديد مضاد للورم الميلانيني لا يزال تحت التجرِبة. لكن كل هذا في الوقت الحالي افتراضي، ولن يتمَّ إلا في المستقبل، ويأمُل أن يصل الإشعاع والليزر إلى النتيجة المطلوبة.
في غضون ذلك، لا يزال لديَّ ست وثلاثون ساعةً أخرى حتى بعد ظهر يوم الخميس، حيث سأخضع لعملية جِراحية مرةً أخرى لإزالة اللوحة المُشعة.
١١ يناير ٢٠٠٦
جاء صديقي العزيز كيفن في الساعة السادسة والربع من صباح هذا اليوم، ظهورٌ مفاجئ ولكنه موضعُ ترحيب شديد، بحاجبَيه الضخمين الكثيفين. كان يقوم بجولاتٍ مُبكرة على مَرْضاه، وكان لا يزال يرتدي مِعطفه الأبيض. قال مُشيرًا إلى النافذة: «انظر!» ونظرت فرأيتُ فجرًا ورديًّا ناعمًا إلى أقصى حدٍّ يخترق سماء الليل، ثم شروقًا داخنًا يكاد يُشبه الشروق في جُزر كراكاتوا البركانية فوق النهر الشرقي.
إن عتمتي نفسها ليست أشبهَ ببقعةٍ عمياء بقدرِ ما هي أشبهُ بنافذةٍ أرى من خلالها مبانيَ غريبة، وأشكالًا مُتحركة، ومشاهدَ صغيرة تتحرك أمامي. في أوقاتٍ أخرى، أرى كتابةً، حروفٌ مختلطة لا أستطيع قراءتها — هيروغليفية أو رونية — في جميع أجزاء العتمة. ذات مرة رأيت قطعةً دائرية هائلة عليها أرقام، تُشبه جزءًا من ساعة أو تقويم الآزتك. ليس لي سُلطة للتحكم في أيٍّ من هذه الخيالات؛ فهي تنبثق ذاتيًّا، وليس لها رابطٌ يمكنني إدراكُه بما أفكر فيه أو أشعر به. ربما تكون الشرارات، أو العواصف البصرية، قادمةً من شبكية العين، لكن هذه الخيالات، بالتأكيد، لا بد أنها قادمة من مستوًى أعلى، ولا بد أنها من تكوينٍ عقلي، الذي يستدعي مخزونه من الصور، وإن كان بصورةٍ غير مباشرة.
إذا كنت أنظر إلى شيءٍ ما ثم أغلق عيني، فإنني أستمرُّ في رؤيته بوضوحٍ بالغ لدرجة أنني أتساءل عما إذا كنت قد أغلقت عينيَّ بالفعل. حدث مثالٌ مُذهل على هذا قبل بضع دقائق عندما كنتُ في الحمام. كنت قد غسلت يدي، وكنتُ أحدق في حوض الغسل، ثم لسببٍ ما أغلقتُ عيني اليسرى. وكنت لا أزال أرى حوض الغسل أمامي. عدتُ إلى غرفتي، معتقدًا أن الضمادة فوق العين اليمنى لا بد أنها شفَّافة تمامًا! كان هذا أولَ ما تبادرَ إلى ذهني، وقد كانت، كما أدركتُ بعد لحظة، فكرةً عبثية. لم تكن الضمادة شفَّافةً على الإطلاق، بل كانت كتلةً كبيرة من البلاستيك، والمعدن، والشاش، بسُمك نصف بوصة. وكانت عيني تحتها لا تزال إحدى عضلاتها مفصولةً وغيرَ قادرة على رؤية أي شيء. على مدى الخمس عشرة ثانيةً أو نحو ذلك التي أبقيتُ فيها عيني السليمة مغلقةً، لم أستطع رؤية أيِّ شيء على الإطلاق. ولكنني رأيت حوض الغسل واضحًا وبرَّاقًا، وحقيقيًّا بقدرِ ما يمكن أن يكون. لسببٍ ما، لم تكن الصورة على شبكية العين، أو في دماغي، تُمحى بالطريقة العادية. ولم تكن مجرد صورة تلوية. فالصور التلوية، بالنسبة إليَّ على الأقل، هي صورٌ قصيرة وهزيلة للغاية — إذا نظرت إلى مصباح، فقد أرى الخيط المتوهِّج لثانية أو نحو ذلك — ولكن هذه الصورة كانت مفصلة كالواقع نفسه. استمررت في رؤية حوض الغسل، والخِزانة بجانبه، والمرآة فوقه؛ أي المشهد بأكمله لمدة خمسَ عشرة ثانية، في استدامةٍ حقيقية للرؤية. كان شيءٌ شديدُ الغرابة يحدث في دماغي. لم تمرَّ عليَّ ظاهرة كهذه من قبل. هل كان هذا — كصُوَري الذهنية اللاإرادية، أو هلاوسي عن الأنماط والأشخاص — ببساطةٍ نتيجة تعصيب إحدى العينَين؟ أم كانت شبكية العين الغاضبة شِبه المدمرة والمصابة بالسرطان، التي هي الآن وسط لهيب إشعاع اليود المشع، تُرسل إشاراتٍ جامحةً غريبة إلى دماغي؟
١٢ يناير ٢٠٠٦
الثامنة صباحًا: بعد ظهر اليوم، بعد ست وسبعين ساعة بالضبط، سيُزال الزرع المشع، وسيُعاد ربط عضلة العين المنفصلة، وإذا سار كلُّ شيء كما يجب فسأخرج من المستشفى غدًا.
السادسة مساءً: اعتقدتُ أن هذه الجِراحة ستكون لطيفةً وغير مؤلمة كالأولى، ولكن عندما تلاشى أثرُ التخدير عانيتُ من أسوأ ألمٍ عرَفته على الإطلاق؛ ألمٍ جعلني ألهث. لا يمكنني تجنبُه إلا بإبقاء العين ثابتة تمامًا؛ يبدو أن أقلَّ حركة تشدُّ عضلة العين المعاد توصيلها للتَّو بقوة.
السابعة مساءً: دخل د. أبرامسون لفحص عيني. نزع الرقعة، وكان كل شيء ضبابيًّا للغاية، لكنه قال إن هذا سيزول في غضون يوم أو نحو ذلك. أعطاني تعليماتٍ دقيقةً حول وضع قطرات في العين عدة مرات في اليوم، وقال إنني لا يجب أن أقلق إذا أُصبت برؤيةٍ مزدوجة عابرة، وألا أتردَّد في الاتصال به في النهار أو الليل إذا شعرتُ بحدوث أي شيء غير متوقَّع.
ثَمة شعورٌ غير سارٍّ باللُّزوجة والخشونة في العين، ربما من قطرات العين الكثيرة. عليَّ أن أقاوم الرغبة في فركها.
منتصف الليل: وأخيرًا، بدأ الألم يكون محتملًا. فعلى مدار الساعات الست الماضية، تلقَّيتُ جرعاتٍ ضخمةً من عقارَي بيركوسيت وديلاوديد. لا يبدو أن شيئًا قد أثَّر في الألم، حتى قبل ساعة واحدة حين أمر د. أبرامسون بجرعةٍ هائلة من التايلينول. وعلى نحوٍ غريب، أدَّى هذا إلى النتيجة المطلوبة عندما فشلَت المسكِّنات في المساعدة.
١٣ يناير ٢٠٠٦
عدتُ إلى المنزل هذا الصباح. عادةً ما يسعد المرضى بالخروج من المستشفى، لكنني كنتُ آسفًا لمغادرتي. ففي المستشفى، كنت محاطًا بأشخاص يقِظين يعتنون بجميع الاحتياجات؛ كان الناس يزورونني باستمرار، كنتُ مدلَّلًا. والآن ذهب كل هذا، وها قد عدت إلى شقَّتي وحدي. لا أستطيع الخروج — فقد كان هناك تساقطٌ كثيف للثلوج، والشوارع مغطاة بالثلوج — ولا أجرؤ على الذَّهاب للتمشية بعينٍ واحدة فقط، في الواقع، في الوقت الحالي.
١٥ يناير ٢٠٠٦
السابعة صباحًا: كانت هناك عاصفةٌ ثلجية ورياح تَعوي، ليلًا، لكنها تبدو جميلة، بحسب ما يمكنني رؤيته منها الآن. أما أوقات الصباح، فهي أسوأ. فأنا أستيقظ على نافذةِ رؤيةٍ صغيرة، وخافتة، وغائمة في عيني اليمنى، مع خطوطٍ وبُقع تتحرك عبرها، وتشويه جَسيم أفقيًّا ورأسيًّا، مثلما قد يحدث حين ينظر المرء بعدسة عين السمكة.
العاشرة صباحًا: مرَّ ما يقرُب من أسبوع على الجِراحة، ومَلِلت من البقاء في المنزل، فغامرت بالخروج مستندًا على ذراع أحد الأصدقاء على الرغم من الثلوج. الطقس بالخارج شديدُ البرودة، ومُتجمد، وعاصف. تدور عجلات السيارات عاجزةً عن التحرك، ورأينا سيارةً واحدة متوقفة على الجليد، كانت قد اندفعتْ بالفعل إلى الأمام بمقدار بوصة أو بوصتين إثر عصفة ريح قويةٍ مفاجئة.
كل شيء في العين اليمنى عائم، مجازيًّا وحرفيًّا؛ فأنا أنظر عبر طبقة رقيقة متحركة من سائلٍ ما. أشكال كل شيء سائلة، متحركة، مشوَّهة. أتخيَّل أن الشبكية شبهُ طافية في السائل المتجمع أسفلها، مُغيرة شكلها كقنديل بحر، أو ربما سرير مائي.
بالنظر عبر النافذة إلى مبنًى مستطيل طويل في الجهة المقابلة من الشارع، أراه، كما في بيت الرعب، وقد صارت قمَّته أو جزؤه الأوسط (حسب موضع تثبيت بصري) مفلطحًا ومنتفخًا. ينطبق هذا على جميع الأشكال العمودية، بينما تميل الأشكال الأفقية للانسحاق معًا. وفي مرآة الحمام، أرى الجزء العُلويَّ من انعكاسي مشوهًا، ويبدو رأسي مفلطحًا على نحوٍ غريب.
قيل لي إن هذه التأثيرات تأتي من وذمةٍ أسفل الشبكية، وإنها ستُشفى في غضون أيام قليلة. لا أستطيع دائمًا تصديقَ هذا؛ أشعر أن شيئًا ما يقترب من العمى في عيني اليمنى قد ألمَّ بي أسرعَ بكثير مما كنت أتوقع (أو يتوقع أيُّ شخص آخر). إلى جانب هذا، هناك الارتياب من وجود بطءٍ مدمِّر بين التشخيص والعلاج. ففي تلك الأسابيع الثلاثة، وقع ضررٌ إضافي لا رجعة فيه؛ إذ تدهورَت الرؤية، وتحوَّلت من بقعةٍ عمياء صغيرةٍ بعض الشيء إلى دمارٍ فِعلي لنصف الدماغ العُلوي الخاص بالرؤية بالكامل. لا أستطيع منع نفسي من الشعور بأن الورم الميلانيني كان يجب أن يُعالج كحالةٍ طارئة، ويُستخدم معه الإشعاع دون تأخير. أنا متأكد من أن تفكيري غير منطقي، وآمُل أن أكون مخطئًا في هذه الأمور، لكنها تُشكل نواةً من عدم الثقة والشك، يمكن أن تنفجر في إعصار من جنون الارتياب.
١٦ يناير ٢٠٠٦
كتبتُ للتَّو إلى سايمون وينشستر أُخبره بمدى السعادة الجمَّة التي أستمدُّها من الاستماع إلى الشريط الصوتي لكتابه «القواعد الأمامية».
إنني أعيش في عالمٍ من الكلمات، وأحتاج إلى القراءة؛ فكثيرٌ من أوقات حياتي أقضيها في القراءة. هذا ليس بالأمر السهل الآن، مع «غياب» عيني اليمنى في الوقت الحالي، وما ألمَّ بالعين اليسرى من مشاكل طويلة الأمد. لقد تعرَّضتُ للَكمةٍ في عيني اليسرى عندما كنت صبيًّا؛ ما أدَّى إلى إصابتي بإعتام في عدسة العين، وأصبحت الرؤية بها دون المستوى منذ ذلك الحين. لم يكن هذا يهمُّ عندما كانت عيني اليمنى المسيطرة تتمتع برؤية ٢٠ / ٢٠، لكنه الآن يُقلقني. فنظَّارة القراءة المعتادةُ الخاصة بي ليست قويةً بما يكفي لعيني اليسرى؛ لا بد أن أستخدم عدسةً مُكبرة، وهي تجعل القراءة أبطأ بكثير، وتمنعُني من تصفُّح صفحات كاملة في كل مرة.
عندما كنت أتجوَّل بالخارج مع كيت إلى متجر الكتب للحصول على بعض الكتب ذات الطباعة الكبيرة، أزعجَني أن أجد أن غالبيةَ كتبهم ذات الطباعة الكبيرة الحجم تقريبًا هي أدلةُ تعليمات أو رواياتٌ رومانسية. بالكاد حصلتُ على كتابٍ واحد لائق في قسم الطباعة الكبيرة بأكمله. يبدو الأمر كما لو أن ضِعاف البصر يُعدُّون أيضًا ضِعافًا فكريًّا. أشعر أنني أريد كتابة مقال رأي غاضب حول هذا الأمر لصحيفة «التايمز». الكتب المسموعة لها نطاقٌ أكبر، لكنني كنتُ قارئًا طوال حياتي، ولست مغرَمًا بأن يُقرأ لي بوجهٍ عام. لكن سايمون وينشستر كان استثناءً سارًّا للقاعدة.
١٧ يناير ٢٠٠٦
حذَّرني د. أبرامسون من أنه بينما لا تزال الشبكية تسبح في الوذمة، فقد أرى بوضوحٍ ذاتَ يوم، وقد أُصبح شبهَ أعمى في اليوم التالي، لكني ما زلت أبالغُ في ردِّ الفعل تجاه هذه التقلبات؛ فأجدني أبتهج وأتهلَّل في الأوقات الجيدة، ويائسًا في الأوقات السيئة. فكما قال دبليو إتش أودين في قصيدته: «أتأرجحُ بين عبوس وجذل، متحدثًا إلى نفسي.»
أفتقد السباحة بشدَّة؛ فحمام السباحة هو المكان الذي أشعر فيه بأنني في أفضل حالاتي، وأفكِّر فيه بأفضل صورة، وأحتاج إليه كلَّ يوم. ولكن غير مسموح لي بالسباحة لمدة أسبوعَين بعد الجِراحة. يعرف د. أبرامسون جيدًا معنى حِرماني من هذا؛ فهو سبَّاح شَغوف أيضًا؛ إذ تَعرِض جدران عيادته العديدَ من الميداليات التي حصل عليها. ربما كان سيُصبح رياضيًّا محترفًا لو لم يختر الطب.
١٨ يناير ٢٠٠٦
الظهيرة: كانت العين لا تزال مشوشةً ومتَّسعة للغاية في الساعة التاسعة صباحَ هذا اليوم، ولكن هذا تضاءلَ في الساعات الثلاث التالية، وبدأت في الساعة الثانية عشرة والواحدة ظهرًا في الرؤية مرةً أخرى عندما أركز على وسط الساعة.
لكنَّ شيئًا ما قد حدث لإدراك الألوان في العين. فعندما ذهبتُ في نزهة هذا الصباح، فقدَت كرةُ تنس خضراءُ زاهية قابعة في المِزراب لونَها بالكامل عندما نظرتُ إليها بعيني اليمنى فقط. وحدث الأمر نفسُه مع تفاحة خضراء وإصبع موز؛ إذ تحول لوناهما إلى لونٍ رَمادي بشع. عندما أمسكت بالتفاحة على مسافة ذراع، وجدتُ أن الجزء الأوسط الضبابيَّ منها محاط بلونٍ أخضرَ عادي، كما لو أن رؤية الألوان ما زالت موجودة حول النقرة، ولكن ليس بداخلها. فكلُّ الأشياء ذات اللون الأزرق، والأخضر، والبنفسجي، والأصفر، تبدو خفيفةً أو مفقودة، أما الأحمر الزاهي والبرتقالي فهما الأقل تأثرًا؛ لذلك عندما ألتقط برتقالة من صحن الفاكهة لاختبار نفسي، يبدو لونها شبه طبيعي.
٢٥ يناير ٢٠٠٦
اليوم وأمس، اللذان يُوافقان اليومَين الثاني عشر والثالث عشر بعد انتهاء العلاج الإشعاعي، لاحظتُ للمرة الأولى في أسبوع دلائلَ قاطعةً على وجود تحسُّن. بدأ التفاح يستعيد خُضرتَه، كما تحسَّنت حدةُ الرؤية كذلك. في الليلة الماضية، استطعت قراءة الطباعة ذات الحجم الطبيعي (السيرة الذاتية للوريا) لمدة نصف الساعة قبل أن أذهب إلى النوم. ولم أكُن أتمكَّن من القراءة لنفسي حتى أغفوَ، كعادتي المعتادة، في معظم أيام الشهر منذ دخولي المستشفى.
لكن الأحلام الغريبة، وأحيانًا الكوابيس، مستمرَّة. في أحد هذه الأحلام، منذ ليلتَين، كان هناك أشخاص يُعذبون ويُعمون بغَرز إبرٍ مُلتهبة في أعيُنهم. عندما جاء دوري قاومتُ، وأطلقت صرخةً ضعيفة، وبدأت أدفع نفسي دفعًا للاستيقاظ. أمسِ استيقظتُ (أو ربما كنت نصفَ نائم فقط) بسبب البرق. تفاجأت — فلم يكن من المتوقَّع هبوبُ عواصف — وانتظرت الرعد. لكن لم يظهر أيُّ رعد. كانت السماء صافية. أدركت بعد ذلك أن هذا ربما كان بريقًا من شبَكية عيني التالفة ذات النشاط غير الطبيعي. رأيت ومضاتٍ من قبلُ ولمعانًا، ولكني لم أرَ مثل هذا البريق الصاعق قط.
حلمت هذا الصباحَ ببستان من أشجار الشاي، التي لها، حسَبما فهمت، قدرةٌ وقائية قوية ضد السرطان إذا عاش المرء تحتها.
٢٦ يناير ٢٠٠٦
لم تتجاوز الساعةُ الثامنةَ صباحًا، ويوجد بالفعل تسعة أشخاص هنا في غرفة انتظار د. أبرامسون. هل هم، أقصد نحن، جميعًا مُصابون بميلانوما العين؟ لا يوجد أطفالٌ اليوم، لكن يوجد العديد من الشباب من الجنسَين على الرغم من أن ميلانوما العين أكثرُ شيوعًا بعد سنِّ الستين. هل كنت أحمل جين ميلانوما العين في الأربعينيات أو العشرينيات من عمري؟ أم إنها كانت طفرةً واحدة من الطفرات العديدة المتزايدة باستمرار على كوكبنا الملوث المُسرطن؟
أخبرت د. أبرامسون عن الفقدان المؤقت للرؤية المركزية في العين اليمنى الذي أصابني بعد التعرض للضوء الساطع لمنظار عين بوب، وبالتغيرات التي لاحظتها منذ ذلك الحين في الألوان. قال إن كل هذا على الرغم من أنه ربما يكون قد تفاقمَ بسبب الجراحة، والإشعاع، والضوء الساطع، فهو على الأرجح مؤقَّت، وسيختفي حتمًا. عند الفحص، رأى بعض النخر والتكلس في الورم، وهي النتيجة المتوقَّعة للإشعاع. وكان انطباعه أننا «على المسار الصحيح»، إلا أنني ربما سأحتاج إلى «رتوش» بالليزر في غضون شهر أو نحو ذلك. لا أحتاج إلى الحد من نشاطي أكثرَ من ذلك؛ لقد سُمح لي بالسباحة. مَرحى!
السابعة مساءً: برغم كل شيء، لم يكن أسبوعًا غيرَ مُثمر بالكامل. فقد كتبت لي كيت (مع تكبير الطباعة) فصلَين من فصولي عن الموسيقى كي أراجعهما، وقابلت العديد من الأشخاص من أصحاب التصاحب الحسي هذا الأسبوع، جميعهم رائعون على اختلاف طرائقهم. ربما، على الرغم من الصعوبات التي أواجهها في القراءة وهوسي باختبار المجالات البصرية، وتغيُّرات الألوان وما إلى ذلك، لا يزال بإمكاني أن آمُل في الانتهاء من كتاب الموسيقى.
•••
خلال الأسابيع القليلة التالية، ظللتُ أعاني من التقلبات، وكانت العين اليمنى شبهَ عمياء في بعض الأيام وأفضل في أيامٍ أخرى، بالإضافة إلى تشوُّهات «عين السمكة» البصرية، وحساسية كبيرة للضوء. كان عليَّ أن أرتدي نظَّارة شمسية كبيرة كاملة الإظلام بالخارج، وأن أتجنَّب الشمس المتوهجة أو المصابيح الومضية، التي يمكن أن تُعميَ تلك العين لساعات. ارتديت رقعةً على عيني لكثير من الوقت؛ حتى لا تُضطرَّ الصورة الطبيعية الصادرة من عيني اليسرى السليمة إلى التنافس مع التشوهات الصادرة من العين اليمنى. في مارس، أتبع د. أبرامسون علاجي الإشعاعيَّ ببعض العلاج بالليزر؛ وبعد بضعة أسابيع، بدأت الوذمة تنحسر أخيرًا. وهكذا، بدأت الرؤية في عيني اليمنى تستقر، وبدأت التشوهات البصرية وحساسية الضوء تختفي تدريجيًّا.
غير أن الاضطرابات في إدراك الألوان ما زالت باقية، على الرغم من أنها لم تكن تظهر (على عكس التشوهات) إذا استخدمت كلتا العينين. فإذا أغلقت عيني السليمة، كنت أجد نفسي فجأةً في عالمٍ لوني مختلف. فقد يصبح حقلٌ من الهِندباء الصفراء فجأةً حقلًا من الهندباء البيضاء، بينما تتحول الزهور الأغمق إلى اللون الأسود. وتحول نوع من نبات السرخس الأخضر الزاهي، يُسمى الكفعان، إلى الأزرق الداكن عندما أمعنتُ النظر فيه عبر عدسة بعيني اليمنى. (كانت عيني اليمنى هي المسيطرة دائمًا، وكنتُ أضع تلقائيًّا عدسةً أو أداةَ تكبير أحادي العينية على تلك العين، على الرغم من أنها أصبحت الآن أسوأ بكثير من عيني اليسرى.)
كان هناك أيضًا حالاتُ انتشار أو تصاعد غريبة للألوان. على سبيل المثال، عندما نظرتُ بعيني اليمنى إلى زهرة بنفسَجية باهتة محاطة بأوراق خضراء، ساد المحيط الأخضر وملأ المكان، بحيث ظهرت الزهرة كلُّها باللون الأخضر. عندما نظرت إلى مرج من عشب الجريس وأغلقت عيني اليسرى، تحوَّل الجريس إلى اللون الأخضر، ولم يَعُد مميزًا عن الغطاء النباتي المحيط به. لقد كان الأمر بمثابة خدعة لاستحضار الأرواح — إذ تراها حينًا ولا تراها حينًا آخر — وكان أمرًا مُذهلًا للغاية أن تُدرك مثل هذه العوالم المختلفة بكل عين.
عندما رأيت د. أبرامسون في مايو، قال إن الوذمة قد زالت تمامًا وإن الورم بدأ في التقلُّص، وإنه ببعض الحظ يمكنني أن آمُل في الاستمتاع برؤيةٍ جيدة ومستقرة لسنواتٍ قادمة.
استمر الشهرين التاليين، وقلَّت تدويناتي أكثرَ فأكثر في دفاتر ملاحظاتي السوداء الثقيلة التي أعطيتها اسم «يوميات الميلانوما». لم أستأنف كتابةَ الملاحظات التفصيلية لمدة عام تقريبًا. ولكن بدءًا من يوليو ٢٠٠٦، كانت هناك عودة تدريجية للمشاكل البصرية — خاصةً التشويه، وتناقُص حدة الإبصار، والحساسية للضوء — إلى جانب تجدُّد نمو الورم في إحدى المناطق.
استخدم د. أبرامسون كلمة «الاستدامة» الأخفَّ وطأةً لوصف هذا، ورأى أن عملية ليزر أخرى أبسط ستعتني بالأمر. ولكن عندما أجريت العملية في ديسمبر، لم تأتِ بأي نتائج. وبدأ الأمرُ يبدو كأنه في نهاية المطاف سينبغي التضحيةُ بهذا الشريط الضيق لشبكية العين المجاور النقرة، التي تجنَّب بعناية تعريضها إلى أشعة الليزر من أجل الحفاظ على بعض الرؤية المركزية.
بحلول أبريل ٢٠٠٧، أصبحت التشوهاتُ شديدةً في العين اليمنى، وكان لهذا تأثيرٌ على بصري حتى وعينايَ الاثنتان مفتوحتان. تحوَّل الناس إلى كائناتٍ غريبة الأطوار مستطالة تُشبه رسومات إل جريكو مائلة لليسار؛ ذكَّروني بالمخلوقات الفضائية التي تُشبه الحشرات التي ورد وصفُها في الطبعة التي أملكها من رواية إتش جي ويلز «أوائل الرجال على القمر». كما أن نوع الانتشار البصري الذي بدأ قبل عام، وكان مُقتصرًا في البداية على الألوان، قد أثَّر الآن على كل شيء أنظرُ إليه. وكانت الوجوه، على وجه الخصوص، تكتسب نتوءاتٍ شبهَ شفَّافة، ممتلئة، وشبه بروتوبلازمية، كلوحةٍ شخصية لفرانسيس بيكون.
وجدتُ نفسي أغلق عيني اليمنى لا إراديًّا أكثر وأكثر. كانت حِدة الإبصار بها، بحلول مايو ٢٠٠٧، قد تراجعت إلى ٢٠ / ٦٠٠، حتى إنني لم أكُن أتمكَّن من قراءة أكبر حرف على الشاشة. واعتقدتُ في هذه اللحظة أنني قد فقدتُ الرؤية المركزية، ولكن بصري الآن أصبح ضعيفًا للغاية ومشوهًا جدًّا، لدرجة أنني بدأتُ أتساءل عما إذا كنتُ سأكون أفضلَ مع فقداني للرؤية المركزية تمامًا في العين اليمنى. وعلى نحوٍ مُتزايد، بدا ما لديَّ لأخسرَه في تناقص؛ ومن ثَم رتَّبنا لعملية ليزر ثالثة، سيكون من شأنها أن تهزم في النهاية ما تبقَّى من الورم، وربما ما تبقَّى من الرؤية المركزية في تلك العين.
يونيو ٢٠٠٧
استغرقت عملية الليزر، التي أُجريت بعد أسبوعَين، نحو ساعة، وتضمَّنَت عشراتٍ من عمليات الكيِّ الدقيقة، وغادرتُ المستشفى بضمادةٍ ثقيلة على العين لحمايتها حتى يزولَ أثر التخدير. وفي نحو الساعة التاسعة مساءً في تلك الليلة، أزلتُ الضمادة، ولم أكُن أعرف ما الذي سأراه أو ما الذي لن أراه.
رأيتُ عتمةً سوداء ضخمة تحجب الرؤية المركزية جزئيًّا، مثل أميبا بأرجُلٍ كاذبة. بدَت تتمدَّد، وتنكمش، وتنبض، لكن حافتها كانت حادَّة للغاية. غرزتُ إحدى أصابعي فيها فاختفت الإصبَع، كأنما ابتلعها ثَقبٌ أسود. عندما ذهبتُ إلى مرآة الحمام، وأصبحتُ في مواجهة انعكاسي فيها، لم أتمكَّن من رؤية رأسي بعيني اليمنى، فقط كتفايَ وأسفل لحيتي. كما لم أستطع رؤية طرَف القلم عندما كتبت.
عندما خرجتُ في صباح اليوم التالي، لم أرَ سوى النصفِ السفلي من الأشخاص السائرين. تذكَّرتُ كيف كانت هناك شخصية، في رواية «يوليسيس» لجويس، تُدعى سينيور أرتيفوني، الذي وُصِف بأنه «كسروالٍ بدين» يتجوَّل في دبلن. كانت الشوارع تعجُّ بالتنانير والسراويل، والأرجُل والأفخاذ المتحركة دون أنصافٍ عُلوية. (بعد هذا بأيامٍ قليلة، انتشرَت العتمة، ولم أستطع أن أرى سوى أقدامهم.)
يحدث هذا، بالطبع، عندما أُغلق عيني اليسرى. فقد أصبحَت رؤيتي الآن بكلتا عيني «طبيعيةً» على نحوٍ ملحوظ، أكثر بكثير مما كانت عليه لشهور، وذلك منذ أصبحَت العين اليمنى لا تتداخل مع اليسرى. إنها خارج السباق، عمياء تمامًا، على الأقل فيما يتعلق بالرؤية المركزية. الغريب في الأمر أن هذا قد أصبح مصدرَ ارتياحٍ كبير؛ أتمنَّى لو كنت قد أجريتُ عملية الليزر منذ أشهُر.
ومع ذلك، فمنذ أن أصبحتُ أرى بعينٍ واحدة في أغلب الأحيان، أصبحت الرؤيةُ المجسمة منقوصةً تمامًا؛ فهي مفقودة تمامًا، في النصف العُلوي من مجالي البصري أو في ثُلثَيه، على الرغم من كونها سليمةً جزئيًّا في النصف السفلي، حيث ما زلتُ أتمتَّع ببعض الرؤية المحيطية. لذلك أرى النصفَ السفلي للأشخاص بعمقٍ مجسم، بينما أرى نصفَهم العُلوي مسطحًا بالكامل وثنائيَّ الأبعاد. وبطبيعة الحال، فبمجرد أن «أنظر» إلى نصفهم السفلي باستخدام ما تبقَّى من رؤيتي المركزية، يُصبح هو الآخر مسطحًا أيضًا.
•••
في أول مساء أنزع فيه الضمادة، رأيت بعيني اليمنى لطخةً سوداء، في شكل أميبا. وبحلول اليوم التالي، تحوَّلَت هذه اللطخةُ إلى ظلمةٍ تتخذ شكل قارة أستراليا، مزوَّدة بانتفاخٍ صغير في الركن الجنوبي الشرقي، وقد ذكَّرتني بجزيرة تاسمانيا الواقعة بها. ذُهلت في تلك الليلة الأولى من حقيقة أنني عندما نظرتُ إلى السقف اختفَت اللطخة، وأصبحت مموَّهة لدرجة أنني لم أعُد متأكدًا من وجودها. كان عليَّ أن أُجريَ اختبارًا لأتأكَّد، لكنها كانت لا تزال موجودة؛ فقد تحوَّل ثَقبي الأسود إلى ثَقبٍ أبيض متخذًا لونَ السقف من حوله. كان لا يزال ثقبًا، وإذا حرَّكت إصبعي من المحيط إلى المركز، فإنها تختفي بمجرد عبورها حافةَ العتمة التي أصبحت غيرَ مرئيةٍ الآن.
كنتُ أعلم أن البقعة العمياء العادية، التي لدينا جميعًا، حيث يدخل العصَب البصري إلى العين، تُملأ تلقائيًّا؛ ومن ثَم لا نُدرك وجودها. لكن البقعة العمياء العادية شديدة الصغر، في حين أن عتمتي كانت ضخمة، وتطمس أكثرَ من نصف المجال البصري لعيني اليمنى بأكمله. ومع ذلك، ففي غضون ثانية أو ثانيتَين من النظر إلى سطحٍ أبيض، كان يمكنه أن يملأ المساحةَ بالكامل فتتحول إلى الأبيض بدلًا من الأسود. اختبرت هذا الأمر في اليوم التالي بالنظر إلى السماء الزرقاء، ووجدتُ النتيجة نفسَها. فقد أصبحت العتمة في زُرقة السماء، ولكن في هذه المرة لم أكُن بحاجة إلى تحديد حوافها بإصبعي؛ إذ إنه عندما مرَّ سِربٌ من الطيور طائرًا، اختفى فجأةً في عتمتي، وخرج من الجانب الآخر بعد بضع ثوانٍ، كما لو كان قد توارى في عباءة التخفِّي كإحدى سفن كلينجون الحربية.
اكتشفت أن هذا الملءَ كان موضعيًّا تمامًا، ويعتمد على التثبيت المستمرِّ للنظر. فإذا كانت هناك حركةٌ طفيفة في العين، يتشتت الملء، وتعود الأميبا السوداء القبيحة. وهو ملءٌ موضعي لكنه مستديم؛ لأنني إذا نظرتُ إلى سطحٍ أحمر لبضع دقائق ثم إلى حائطٍ أبيض، كنت أرى أميبا حمراء كبيرة (أو قارة أستراليا) على الحائط، تستمر نحو عشر ثوانٍ قبل أن تتحول إلى اللون الأبيض.
إن البقعة العمياء، كما يُطلق عليها، لا تُملأ بالألوان فحسب، بل بالأنماط أيضًا، وقد استمتعت باختبار عتمتي، واختبار قدراتها وحدودها. كان من السهل ملءُ العتمة بنمطٍ بسيط متكرر — مبتدئًا بالسجادة في مكتبي — على الرغم من أن النمط يستغرق وقتًا أطولَ من اللون؛ إذ قد يحتاج إلى عشر ثوانٍ أو خمسَ عشرة ثانيةً ليُنتج نسخةً ثانية منه. كانت تمتلئُ من الحواف، كجليدٍ يتبلور في بركة. وكان التردد المكاني ودقَّة التفاصيل في النمط عاملًا حاسمًا في الأمر. واجهَت قشرتي البصريةُ مشاكلَ محدودة في الملء بأنماطٍ دقيقة الحُبيبات، بينما استحال الأمر مع الأنماط الأكثر خشونة. لذلك، على سبيل المثال، إذا وقفت على بُعد قدمَين من جدار من القرميد، كان لون عتمتي يتحوَّل إلى اللون الأحمر القرميدي، ولكن دون تفاصيل. وإذا وقفت على بُعد عشرين قَدمًا، كانت تُملأ ببناء قرميدي ذي مظهر مَهيب تمامًا.
لم أستطع التأكدَ مما إذا كان البناء القرميدي قد اتخذَ شكل البناء الأصلي نفسَه أو لا، لكنه كان جيدًا بما يكفي ليُشكِّل مُحاكاةً معقولة للجدار «المفقود». لا يمكنني التأكد من الاستنساخ الدقيق إلا إذا حدقت في أنماطٍ متكررة يمكن التنبؤ بها تمامًا كألواح الشِّطرنج أو ورق الحائط. عندما نظرت ذات مرة إلى سماءٍ مليئة بالسُّحب الغائمة المُمتلئة، كانت السماء الزائفة التي تولَّدت داخل العتمة تحتوي على غيومٍ رفيعة وهزيلة. شعرت أن قشرتي البصرية كانت تبذل قُصارى جهدها، ربما عن طريق أخذ العينات أو تقدير نسبة السحابة البيضاء إلى السماء الزرقاء، على الرغم من أن الأشكال الفعلية لكل سحابة على حدة لم تكن صحيحة. بدأت أفكر في قشرتي البصرية ليس فقط كجهاز نسخ جامد، ولكن كجهاز لحساب المتوسطات قادر على أخذ عينات مما كان يُقدَّم له، ويصنع منها تمثيلًا معقولًا إحصائيًّا (إن لم يكن دقيقًا تصويريًّا). تساءلت عما إذا كان هذا هو ما فعله الحبار والأخاطبُ عندما أخفَتْ أنفسها، متخذةً الألوان والأنماط، وحتى تراكيب قاع البحر أو النباتات أو المرجان من حولها، ليس بدقة، ولكن بدرجةٍ معقولة بما يكفي لخداع كلٍّ من المفترسات والفرائس.
وجدتُ أن الحركة يمكنها أيضًا أن تملأ العتمة إلى حدٍّ ما. فعندما كنت أنظر إلى نهر هدسون، الذي يدور أو يموج ببطء بموجاتٍ صغيرة، كانت هذه الموجات أيضًا تُستنسخ في عتمتي.
ولكن كانت ثَمة قيودٌ صارمة. فلم أستطع محاكاة وجه، أو شخص، أو جسم معقَّد. لم أستطع ملء المنطقة الناقصة من صورة رأسي في المرآة التي فرَّغتها العتمة. ومع ذلك فقد اكتشفتُ هنا اكتشافًا آخر، اكتشافًا ملأني بالدهشة. بينما كنتُ أعبث في تَراخٍ محاولًا إحداث عتمة، ذات يوم، نظرت إلى قدمي بعيني اليمنى و«بتَرتُها» ببقعتي العمياء، من عند أعلى الكاحل بقليل. ولكن عندما حرَّكتُ قدمي قليلًا، بهزِّ أصابع القدم، بدا أن الجدعة ينمو منها ما يُشبه امتدادًا ورديًّا شبهَ شفَّاف، مع هالةٍ شبحية بروتوبلازمية من حوله. وعندما واصلتُ هزَّ أصابع قدمي، أخذ هذا الأمر شكلًا أكثرَ تحديدًا حتى حصلتُ على قدمٍ شبحية بالكامل، بعد دقيقة أو نحو ذلك، شبح بصري مزوَّد بأصابع القدم المفقودة، التي بدَت تتحرك مع الحركات التي كنتُ أقوم بها. لم تبدُ القدم بالكامل مجسمةً أو حقيقية؛ لأنها افتقرتْ إلى التفاصيل السطحية؛ أي شكل الجلد، لكنها كانت مع ذلك رائعةً للغاية. حدث شيء مشابهٌ مع يدي عندما عتمتها؛ إذ «بترتها» من أعلى الرُّسغ. حاولت بعد ذلك القيامَ بالشيء نفسِه مع أيادي الآخرين، لكن ذلك لم ينجح على الإطلاق. كان واضحًا أن الأمر يتطلب إجراؤه على قدمي أو يدي، حركاتي وأحاسيسي، صورة جسدي أو نواياي.
بعد عملية الليزر التي خضعتُ لها في يونيو، لاحظتُ أن بإمكاني تخيُّل ذراعيَّ أو أجزاء أخرى من جسدي وهي تتحرك، حتى عندما تكون عيناي مُغمَضتَين، وذلك على نحوٍ أوضح بكثير من أي وقتٍ مضى. بدَت «رؤية» ذراعيَّ وأنا أُحركهما دليلًا على حساسية أو اتصالٍ مُتصاعد بين المناطق البصرية والحركية في القشرة؛ قوة اتصال أو ارتباط فيما بينها لم أشهده من قبل.
هالَني شيءٌ غريب آخر بعد يوم أو يومين من عملية الليزر في يونيو من عام ٢٠٠٧. ففي وقتٍ ما، بعد التحديق في أرفُف الكتب في غرفة نومي لبضع دقائق، أغلقتُ كلتا العينَين ورأيت، لمدة عشر ثوانٍ أو خمس عشرة ثانيةً، مئاتِ الكتب المصفوفة على الأرفف بتفصيلٍ كبير به شبهُ إدراك حسِّي. لم يكن هذا مَلئًا، بل شيئًا مختلفًا تمامًا؛ إنها استدامة للرؤية مماثلة لما اختبرته في المستشفى منذ ثمانيةَ عشر شهرًا عندما بدا لي أنني أرى حوضَ الغسل بوضوحٍ شديد «من خلال» رقعة عيني.
ربما كان فقدانُ الرؤية المركزية في العين اليمنى مُكافئًا لتغطيتها برُقعة بعد جِراحة، من حيث حِرمان الدماغ من المعلومات الإدراكية الحسية. كان لديَّ شعور بأن قشرتي البصرية كانت الآن في حالة من القوة أو التحسس، ومحرَّرة إلى حدٍّ ما من القيود الإدراكية البحتة.
حدث شيءٌ مُشابه بعد بضعة أيام عندما توجَّهت سيرًا إلى تقاطعٍ مُزدحم مليء بالدرَّاجات والسيارات والحافلات، والناس يتحركون بنشاط وهمَّة في جميع الاتجاهات. فعندما أغمضتُ عيني لمدة دقيقة، كنت لا يزال بمقدوري «رؤية» المشهد المعقَّد بأكمله، مليئًا بالألوان والحركة، بوضوح مثلما رأيته وعيناي مفتوحتان.
فاجأني هذا على نحوٍ خاص؛ لأن قدراتي في التخيُّل ضعيفة للغاية بطبيعتها. فأجد صعوبةً في استحضار صورةٍ ذهنية لوجهِ صديق، أو لغُرفة معيشتي، أو لأي شيء على الإطلاق. كانت تجرِبة استدامة الرؤية التي مررت بها مفصلةً على نحوٍ ثري، ولا يتطلب أيَّ تفكير أكثر بكثير من أي صورة إرادية أخرى. كانت شديدةَ التفصيل لدرجة أنه كان بإمكاني أن أرى ألوان السيارات، وأن أقرأ أحيانًا لوحاتها المعدنية، التي لم أكُن أوليها اهتمامًا واعيًا. وعلى نحوٍ لا إرادي، وغير انتقائي، ولا يمكن إيقافه، بدَت الصورةُ لي مشابهةً للصور الفوتوغرافية، أو الصور التخيلية الحية، ولكن على عكس الصور التخيلية، كانت لها مدةٌ محددة وقصيرة للغاية؛ إذ تدوم عشر ثوانٍ أو خمس عشرة ثانيةً ثم تتلاشى.
في وقتٍ ما وبينما كنت أسير مع أحد الأصدقاء، رأيت رجلَين يسيران تجاهَنا، كلاهما يرتدي قميصًا أبيضَ بياضًا ناصعًا في شمس العصر المتأخر. توقَّفتُ وأغمضت عينيَّ، ووجدتُ أن بإمكاني الاستمرارَ في رؤيتهما، وأنهما على ما يبدو لا يزالان سائرَين نحونا. عندما فتحتُ عينيَّ، أذهلني أن أجد أن الرجلَين ذوَي القميصين الأبيضين لم يعودا موجودَين في أي مكان يمكن رؤيتهما فيه. لقد مرَّا بجانبنا وتجاوَزانا بالطبع، ولكنني كنت مستغرقًا للغاية فيما «رأيته» بعينيَّ المغمضتين — الذي كان بمثابة جزءٍ متوقف من الماضي — لدرجة أنني انتابتني صدمةُ انقطاعٍ مفاجئة. صحيحٌ أنني أقول «مُتوقفًا»، لكن ما رأيته في ذهني كان يتحرك أيضًا. كان الرجلان يمشيان، بخُطًى واسعة، ولكنهما بقيا في مركز عين عقلي أثناء سيرهما، دون أن يذهبا إلى أيِّ مكان، كما لو كانا على جهاز ركض. التقطتُ هذا الجزء من الحركة، كفيلم حلقي أُعيد تدويره في ذهني حتى بعد انتهائه. كان لهذا طبيعةٌ مُتناقضة، كلقطة حركة دون أي عبور فِعلي.
لقد استمتعتُ نوعًا ما بهذه الاستدامة في الرؤية، وقد أصبح ميدانُ تايمز سكوير بأضوائه الملوَّنة الرائعة ولوحاته الإعلانية المتحركة والبرَّاقة مكانًا مفضَّلًا لاختبارها. كان الباعث الأكثرُ فاعليةً على الإطلاق هو التدفقَ البصري، تيَّار سريع من الصور يمرُّ بعينيَّ، تمكَّنتُ من الاستمتاع به استمتاعًا خاصًّا عندما كنت مستقلًّا سيارةً تتحرك سريعًا.
شعرت بوجود تشابُه وربما قرابة بين ظاهرة الملء واستدامة الرؤية. فكلاهما ظهر بقوة بعد فقدان الرؤية المركزية، على الرغم من وجود إشارات على كلٍّ منهما من قبل. وقد ظلَّ كلاهما قويًّا لمدة شهرَين إلى ثلاثة أشهُر في صيف عام ٢٠٠٧، ثم ازداد ضعفًا (على الرغم من استمرارهما، في شكلٍ مخفَّف، في الوقت الحاضر). بدا لي «الملء» مصطلحًا غيرَ وافٍ لعملية لا تقتصر دائمًا على إعادة تكوين منطقة عمياء، بل يُمكنها أن تمضيَ إلى نوعٍ من الانتشار البصري المنفلِت. (كان ثَمة تنبؤٌ بهذا أيضًا في تلك الأسابيع الماضية التي عانَيت فيها من العمى الجزئي قبل عملية الليزر في يونيو عندما تمدَّدت الوجوه وبرزَت كوجوه فرانسيس بيكون الوحشية.)
ربما يتعين هنا استخدامُ كلمة «مرَضي»؛ لأنه من الصعب أن يعيش الشخص حياةً بصَرية طبيعية إذا تمدَّد كلُّ إدراك وتلطَّخ في المكان والزمان؛ فالمرء يحتاج إلى قيد أو تثبيط، إلى حدودٍ واضحة؛ للحفاظ على التمييز في الإدراك.
كان مَرْضى كريتشلي مُصابين بأورامٍ دماغية أو اضطرابات دماغية أخرى، بينما أنا كنتُ أعاني فقط من تلف في الشبكية. ومع ذلك فمن الواضح أنني كنت أيضًا أعاني من ظواهرَ دماغية، وقد تصوَّرتُ أن اعتلال الشبكية قد أدَّى إلى استثارةٍ غير طبيعية في قشرتي البصرية. منذ سنوات عديدة — وقد وصفتُ هذا في كتاب «أريد ساقًا أقف عليها» — تعرَّضت لإصابة في الأعصاب والعضلات بإحدى ساقيَّ تسبَّبت في بعض الأعراض الدماغية الغريبة الشبيهة بأعراض اضطراب الفص الجداري. عندما كتبت لطبيب الأعصاب والأمراض النفسية الروسي إيه آر لوريا بشأن هذا، تحدث عن «الرنين المركزي للاضطراب المحيطي.» كنت ألاحظ في ذلك الحين مثل هذا الرنين في عالم الرؤية.
•••
في يونيو عام ٢٠٠٧، عانيتُ أيضًا من طفرةٍ حادَّة في الهلاوس — خيالات كانت تظهر فجأةً ولا علاقة لها بالعالم الخارجي — واستمر هذا، إلى حدٍّ ما، منذ ذلك الحين. يتحدث أطباء الأعصاب عن الهلاوس البصرية البسيطة أو الأولية، في مقابل الهلاوس البصرية المعقَّدة. في الهلاوس البصرية البسيطة، يرى المريض هلاوسَ الألوان والأشكال والأنماط، أما في الهلاوس البصرية المعقَّدة، فقد يرى شخصيات، وحيوانات، ووجوهًا، ومشاهد طبيعية، وما إلى ذلك. في أغلب الأحيان، تنتابني الهلاوس البسيطة.
منذ البداية تقريبًا، ظهرت شرارات، أو خطوط، أو لطخات من الضوء في مجالي البصري، وكذلك أنماط معقَّدة تُشبه جلد التمساح. وأحيانًا ما يراودني اعتقاد بأن أحد الجدران مزخرف أو منقوش، بينما هو ليس كذلك، وكان عليَّ أن ألمسه لأتأكَّد مما إذا كان الترقُّط الذي أراه حقيقيًّا.
غالبًا ما أرى عددًا كبيرًا من الخصلات الصغيرة، ككتلٍ من عشبٍ نامٍ، في كل مكان في مجال بصري، حتى عندما تكون كلتا عينيَّ مفتوحتَين. وفي أوقاتٍ أخرى، أرى لوحات شِطرَنج، وعادةً ما تكون باللونين الأسود والأبيض، ولكن في بعض الأحيان تكون بألوانٍ باهتة. يعتمد الحجم الظاهري للوحات الشطرنج هذه على مكانٍ «عرَضي» لها. فإذا نظرت إلى قطعة من الورق على بُعد ست بوصات، فقد أرى لوحة شِطرنج عليها بحجم طابَعٍ بريدي، وإذا نظرت إلى السقف، فقد تبدو بحجم قدم مربَّعة، وإذا نظرت إلى جدارٍ أبيض في الجهة المقابلة من الشارع، فقد تكون لوحة الشطرنج بحجم نافذة متجر. بعض لوحات الشطرنج التي أراها تكون مستقيمةَ الخطوط، وبعضها الآخر منحني الخطوط، وبعضها على شكل قطع زائد تقريبًا. وأحيانًا ما تمرُّ لوحة الشطرنج بعملية دمج أو تضاعف، فتتحول إلى دُزينة من لوحاتٍ أصغر مرتَّبة في صفوف وأعمدة. الرُّقع أو الفُسيفساء المعقَّدة شائع أيضًا، وتبدو كأشكالٍ مختلفة أو معقدة من النقوش الأساسية للوحة الشطرنج. وتميل هذه الأشكال إلى التحول من واحد إلى آخر في تغيرٍ لوني مستمر.
أرى أيضًا أسطُحًا مقرمدة أو اصطفافات فُسيفسائية مكوَّنة من قِطع متعددة الأضلاع (سُداسية في كثير من الأحيان)، بعضها مسطَّح وبعضها الآخر ثلاثي الأبعاد، كأقراص العسل أو الشَّعوعيات. في بعض الأحيان توجد أشكالٌ حلزونية، أو حلقات متَّحدة المركز، أو أنماط شعاعية كالمفارش المزخرَفة بالثقوب. وأحيانًا أرى «خرائط» لمدنٍ هائلة غير معروفة، كتلك التي قد تُرى في الليل من طائرةٍ تطير على مستوًى مُنخفض، مع طُرقٍ دائرية وبرامق شعاعية مضاءة، تبدو وكأنها شبكات عنكبوت عملاقة من الضوء.
العديد من هذه الأنماط مفصَّلة تفصيلًا مِجهريًّا. فأرى آلافَ الأضواء في مُدني الليليَّة. تتميز هذه الصور أو الهلاوس بوضوحٍ أكبر وحُبيبات أكثر دقةً مما في الإدراك الحسي نفسه، كما لو أن حدة إبصار عيني الداخلية ٢٠ / ٥ وليس ٢٠ / ٢٠.
في معظم الأوقات، يمكنني تجاهلُها كما أتجاهل الطنين الذي أُصبت به في السنوات القليلة الماضية. ولكن في كثيرٍ من الأحيان في المساء، عندما تقلُّ مشاهد وأصوات النهار، قد أُصبح فجأةً مُدركًا لهذه الهلاوس الخافتة. وغالبًا ما يكون فراغٌ بصري — سقف، أو حوض غسل أبيض، أو سماء — هو ما يجعلني واعيًا بالأنماط البصرية والصور المتلاحقة عبر مجالي البصَري باستمرار. ولكن هذه الهلاوس القليلة مثيرة للاهتمام بطريقةٍ ما؛ إذ تظهرُ لي نشاط الخلفية، حالة الخمول، لجهازي البصري، وعملية توليد الأنماط وتغييرها التي لا تهدأ أبدًا.
الخميس ٢٠ ديسمبر ٢٠٠٧
كنت أشعر بالارتياح إلى حدٍّ ما بشأن الورم الذي أعاني منه؛ فقد بدا خاملًا وتحت السيطرة نسبيًّا، وقد قال د. أبرامسون إن من النادر أن تنتشرَ ميلانوما العين كالتي أعاني منها. لكن في يوم الإثنين (السابع عشر، بعد عامَين من ظهور الورم) لاحظتُ، في صالة الألعاب الرياضية، بقعةً سوداء شبهَ دائرية بحجم عُملة الدايم على الجلد أسفلَ كتفي اليسرى مباشرةً. كنتُ مندهشًا وخائفًا؛ فقد كانت البقعة فاحمةَ السواد وذات حدٍّ واضح ومرتفعةً قليلًا؛ لم تبدُ ككدمةٍ عادية بأيِّ حال من الأحوال. هل كان الأمر يُنذر بخطر أكبرَ كبدايةٍ لورم ميلانيني جلدي انتشر من الورم الذي أصاب عيني؟
عندما عرضتُ البقعة على ماركس وبيتر، اللذين أتيَا لتناول العشاء معي الليلة، بدا كلاهما مُجفلًا وقلِقًا. قال مارك: «تبدو سيئة، إنها داكنةٌ للغاية. أعتقد أن عليك عرضَها على طبيب لفحصها في غضون أربع وعشرين ساعة.» وأضاف أنها لا تُشبه الورم الميلانيني، ولكنها أيضًا لا تُشبه أي شيء رآه من قبل. كانت إجازات أعياد الميلاد على الأبواب، كما كان الأمر في عام ٢٠٠٥، وهذا يعني أن عليَّ أن أذهب لفحصها غدًا؛ وإلا فسيكون عليَّ الانتظار حتى حلول العام الجديد. أخشى أن يتحول الأمر إلى هوَس، وأن أُدخِل نفسي في حالةٍ أقربَ إلى الهلع إذا لم يتَّضح الأمر فورًا. أشعر الآن بالاضطراب … أعتقد أنه عليَّ أن أُهدئ نفسي.
الجمعة ٢١ ديسمبر ٢٠٠٧
رتَّب لي طبيب الأمراض الجلدية، د. بيكرز، وهو رجلٌ لطيف وحسَّاس وواسعُ المعرفة أيضًا، موعدًا اليوم عندما أدرك قلقي. نظر إلى ذراعي وبقية جلدي، ولم يرَ أي خَطب. قال إن السواد كان مجرد نزيف بسيط في إحدى البُقع البُنية التي تُحدِث بقعًا في الجلد باستمرار مع تقدُّم العمر. ربما أكون قد اصطدمتُ بشيءٍ ما، وسيُصبح لون الدم صافيًا في غضون يومين. أشعر بارتياحٍ كبير؛ كنت سأُجنُّ لو كنت انتظرتُ حتى شهر يناير لإجراء الفحص.
•••
على مدى عَقد من الزمان أو نحو ذلك، قبل إصابتي بالميلانوما، كنت عضوًا نشطًا في جمعية نيويورك للتصوير المجسم؛ فلَطالما استمتعتُ باللعب بالمناظير المجسمة وبالخدع التجسيمية منذ الطفولة. كانت رؤية العالم بعمق دائمًا ما تبدو طبيعيةً، جزء لا يتجزأ من عالمي البصري مثلها في ذلك مثل رؤية الألوان. كانت تمنحُني إحساسًا بصلابة الأشياء وحقيقة الفراغ، ذلك الوسط الرائع الشفَّاف الذي نَحيا فيه. كنتُ أدرك بشدةٍ كيف كان عالمي البصري يُطوى فور إغلاقي إحدى عينَي، وكيف كان يتمدَّد مرةً أخرى في اللحظة التي أفتحها فيها مرةً أخرى. وكالعديد من زملائي الأعضاء في جمعية التصوير المجسم، كان يبدو أنني أعيش في عالمٍ أعمق، بصَريًّا، من معظم الناس.
كان لتجربتي مع سو ذاتِ الرؤية المجسمة وسعادتها البالغة عندما اكتسبَت الرؤية المجسمة بعد عمرٍ من فقدانها؛ دورٌ في تعزيز شعوري بتقدير الرؤية المجسمة. في الواقع، لقد أمضيتُ جزءًا كبيرًا عامَي ٢٠٠٤ و٢٠٠٥ منشغلًا بالرؤية المجسمة، وفي التفكير فيها والكتابة عنها ومراسلة سو.
ثم في يونيو ٢٠٠٧، عندما اعتدَت الميلانوما على نقرتي، وكان لا بد من إزالتها بالليزر، فقدتُ الرؤية المركزية بالكامل في تلك العين، وفقدتُ معها الرؤيةَ المجسمة. لقد أصبح التسطيح الكامل والمفاجئ للعالم البصري، الذي كنتُ أجرِّبه في صِباي بإغلاق عينٍ واحدة، الآن حالةً دائمة. بعض الناس لا يتمتَّعون برؤية مجسمة قوية من البداية، أو لا يستفيدون إلا نادرًا من منبِّهات الرؤية الثنائية لدرجة أنهم بالكاد يُلاحظون الفرق إذا فقدوا الرؤية المجسمة. كان وضعي مختلفًا للغاية. فلطالما كانت الرؤية المجسمة جزءًا أساسيًّا من حياتي البصرية، وكان لفقدانها تأثيرٌ عميق على عدة مستويات؛ بدايةً من التحديات العملية التي تفرضها الحياة اليومية وصولًا إلى مفهوم «الفراغ» بالكامل. في الواقع، كانت هذه التغييرات جذريةً للغاية، لدرجة أنني كنتُ بطيئًا في إدراكها كاملةً.
تكمُن الأهمية القصوى للرؤية المجسمة في الجوار المباشر للشخص، وكان هنا مَكمَن جميع المشاكل الأولية التي واجهتُها، التي كان بعضها كوميديًّا وبعضها خطيرًا. عندما مدَدتُ يدي لتناول أحدِ المقبِّلات في حفل كوكتيل، وجدتُ نفسي مُمسكًا بالهواء، حيث أخطأت الهدف بمقدار ست بوصات أو أكثر. وذات مرة صببتُ النبيذ في حجر صديق لي، مخطئًا موضعَ الكأس بنحوِ قدم.
الأخطر من ذلك أنني أُخفق في رؤية درجات السُّلم أو الحواجز، وقد أتعثَّر أو أسقط بقوة. إذا لم تكن هناك ظلالٌ أو منبهات إضافية، لا أرى درجات السلالم إلا كخطوطٍ على الأرض، ولا تكون لديَّ أدنى فكرة عن مدى عُمقها، فضلًا عن معرفة ما إذا كانت صاعدةً أو هابطة. أما درجات السلَّم الأكثرُ خداعًا، فهي تلك التي لا أستطيع توقُّعها، كوجود درجتَي سُلَّم في ساحةٍ خارجية أو في غرفة معيشة غائرة لأحد الأشخاص (فغالبًا ما تفتقر هذه أيضًا إلى الدرابزين، الذي من شأنه أن يُمثل منبهًا بصَريًّا). يُشكِّل نزولُ درجات السُّلم خطرًا حقيقيًّا ومرعبًا في بعض الأحيان، وأحتاج إلى تلمسِ طريقي بحذر، واختبار كلِّ درجة سُلم بقدمي. في بعض الأحيان قد يُراود عيني ذلك الإحساسُ القهري بالتسطح حتى إنها تُنافسها مع ما تقوله قدمي. حتى عندما يخبرني كلُّ حسٍّ آخر، بما في ذلك حس البديهة، بوجود درجات أخرى، أجدُني مترددًا ومرتبكًا إذا عجزتُ عن رؤية عمقها. بعد وقفةٍ طويلة سأثقُ في قدمي، لكن قوة البصر المُهيمنة تجعل الأمر أبعدَ ما يكون عن السهولة.
دفعتني هذه التجارِبُ (مثل العديد من التجارِب الأخرى في السنتين الماضيتين) إلى التفكير في كتاب إدوين أبوت الكلاسيكي الصادر عام ١٨٨٤ «الأرض المسطَّحة»، حيث سكَّان عالمه الثنائي الأبعاد أنفسُهم عبارةً عن أشكال هندسية ثنائية الأبعاد. من حينٍ لآخر، يُواجهون التغييراتِ العفوية في مظهر الأشياء التي لا يمكن تفسيرُها، كما يقول لهم مُنظِّروهم، إلا إذا افترض المرءُ وجود أجسام ثلاثية الأبعاد تتحرك في فضاءٍ ثلاثي الأبعاد، تبرز شرائحُ من نفسها أثناء تقاطعها مع مستوى «الأرض المسطحة». هكذا يستنتج سكانُ الأرض المسطحة وجودَ بُعد مكاني لا يمكنهم رؤيته. إن في ذلك تشبيهًا قياسيًّا بعيدًا لحالتي، لكنه دائمًا ما يتبادر إلى الذهن عندما يتعيَّن عليَّ استنتاجُ العمق، على الرغم من التسطح الساحق الذي تُواجهه عيني في بعض الأحيان.
والمفارقة أنني فقدتُ خوفي من المرتفعات. فلطالما كان ينتابني بعضُ الارتعاش، وشعورٌ طفيف بالانزعاج، عندما كنت أنظر للأسفل من مبنًى شاهق إلى الشارع بالأسفل. عندما كنتُ أعيش في وادي توبانجا كانيون، كنت أتجنبُ الاقتراب من الحواف الشديدةِ الانحدار لطريق الوادي المتعرِّج. فقد كانت فكرةُ السقوط تُصيبني بالقُشَعريرة. ولكن الآن بعد أن فقدتُ إدراك العمق، اختفَت هذه المشاعر، ويمكنني النظرُ للأسفل من ارتفاعاتٍ كبيرة في لامبالاةٍ تامة.
من حينٍ لآخر، أمرُّ بتجارِبَ لرُؤًى مجسمة زائفة، على سبيل المثال عندما يكون هناك شيءٌ مسطح، كجريدةٍ مُلقاة على الأرض، يبدو لي كما لو كان عالقًا في الهواء. وعندما أفتح بابي، كنت أظن مِمسحةَ الأرجُل طاولةً وأتوقَّف توقفًا مفاجئًا ومربكًا. وأحيانًا أتخيَّل أنه قد تكون هناك درجات سُلَّم عندما أرى خطوطًا على الأرض، أو حافة سجادة صغيرة، أو أي حدٍّ آخر. هل يتوافق الحدُّ الذي أراه مع درجة سُلم أم لا؟ إذن عليَّ التوقفُ واختبار خطواتي بعنايةٍ بإصبعِ قدم. نادرًا ما كنتُ أواجه سوءَ إدراك كهذا عندما كانت لديَّ عينان؛ لأن الرؤية المجسمة تعمل على توضيح المواقف التي قد تكون فيها منبهاتُ الرؤية الأحادية غامضةً أو خادعة، وإزالة الغموض عنها.
يتطلَّب عبور الشوارع، والتعاملُ مع الدرج، والتنزهُ — تلك الأشياء التي لم تكن تحتاج إلى اهتمام واعٍ من قبل — الآن عنايةً مستمرةً وتروِّيًا. إن الأشخاص الذين قضَوا معظم حياتهم فاقدين للرؤية المجسمة، مثل سو، قد يتكيَّفون بسهولة نسبيًّا مع هذه التحديات، ولكن لأنني طالما كنتُ نزَّاعًا نزعةً استثنائية وربما مفرِطةً بمنبهات الرؤية الثنائية للتصوير المجسم، كنتُ أجد أنه من الصعب للغاية العيش بعينٍ واحدة.
أستيقظ كلَّ صباح على عالمٍ فوضوي، حيث كل شيء فوق الآخر. لا توجد مساحةٌ في أي مكان، ولا مسافة بين الأشياء.
لطالما كنتُ أستمتع بمصابيح الإضاءة الصغيرة المعلَّقة على أشجار المدينة في أعياد الميلاد؛ إذ كانت تبدو وكأنها تصنع كراتٍ من الأضواء المتلألئة المعلَّقة في الهواء. الآن، أرى شجرةً مليئة بمثل هذه الأضواء كقرص، بعمق لا يَزيد عن عمق سماءٍ مليئة بالنجوم. وعندما أذهب إلى حديقة النباتات، لم يعُد بإمكاني، كما كنتُ أحب في الماضي، أن أتأملَ أوراق الأشجار والشُّجيرات الكثيفة وأرى طبقةً بعد طبقة، وعمقًا فوق عمق؛ فقد أصبح كلُّ هذا فوضى مسطحة الآن.
على الرغم من أنني، في معظم الأحيان، أكرهُ التسطح الذي يبدو عليه كل شيء، وأحزن على فقدان العمق، يُراودني من حينٍ إلى آخر إحساسٌ بالتقدير لعالمي الثنائي الأبعاد. أحيانًا ما أرى غرفة، أو شارعًا هادئًا، أو طاولةً موضوعة كحياةٍ ساكنة، كتكوينٍ بصَري جميل، كما أتخيَّل أن يراها رسَّام أو مصوِّر مكلَّف بإعداد لوحة زيتية مسطَّحة على قماش أو فيلم. أجد سعادةً جديدة في النظر إلى اللوحات أو الصور الفوتوغرافية بعد أن أصبحتُ أكثرَ وعيًا بفنِّ التكوين. يمكنها أن تكونَ أكثر جمالًا في هذا السياق، على الرغم من أنها لم تعد تمنحُني حتى وهمَ العمق.
في عصر أحد الأيام، ذهبتُ إلى مطعم ياباني قريب لتناول السوشي، وكان أحدُ عوامل الجذب في طاولتي الكائنة على الرصيف منظرَ شجرة جنكة في الجهة المقابلة للشارع. في منتصف اليوم، في ذلك الوقت من العام، تُلقي أشعةُ الشمس ظِلالًا تفصيلية للشجرة وأوراقها الرقيقة على السور الأصفر الكائن خلفَها بخمس أقدام. لكن بدون الرؤية المجسمة، رأيت الآن الشجرةَ وظِلَّها على المستوى نفسِه، كما لو كان كلاهما مرسومًا على السور، في مشهدٍ مزعج وخلَّاب على حدٍّ سواء؛ إذ تحوَّل الواقع الثلاثيُّ الأبعاد إلى لوحةٍ يابانية.
قد تكون الرؤية المجسمة عن بُعدٍ أقلَّ إلحاحًا في الأهمية، ولكن عدم القدرة على تقدير المسافة يُثير لديَّ شكوكًا وأوهامًا عميقة، وغالبًا ما تكون سخيفة. في قصة إدجار آلان بو «أبو الهول»، يرى الراوي مخلوقًا عملاقًا ذا مفاصلَ يتسلَّق إحدى التلالِ البعيدة، ولم يُدرك إلا لاحقًا أن ما يراه هو حشَرة دقيقة أمام أنفِه تقريبًا. كنت أرى أن قصة «أبو الهول» مستحيلةٌ بعض الشيء حتى فقدتُ الرؤية المجسمة. فأنا أمرُّ الآن بمثلِ هذه المواقف باستمرار. فقد رأيتُ منذ بضعة أيام قطعةً من نُسالة على نظَّارتي، وحاولتُ إزالتها، ولكنني أدركت أن «النُّسالة» لم تكن سوى ورقةٍ على الرصيف.
لم يكن الشعور بالعمق والمسافة هو ما تقوَّض فحسب، وإنما أيضًا، في بعض الأحيان، الشعور بالمنظور نفسه، وهو أمرٌ شديد الأهمية للغاية لإدراك أن الإنسان في عالمٍ من الأجسام الصُّلبة مصفوفة في الفراغ. عندما زرتُ حظيرة أحد الأصدقاء في لونج آيلاند، فشلتُ في البداية في إدراك أنها حظيرة؛ لأنني لم أرَ سوى خطوطٍ رأسية وأفقية وقُطرية كمخطَّط هندسي منقوش في السماء. ثم فجأةً اكتسبتُ منظورًا، وأدركتُ أنها حظيرة، على الرغم من أنها كانت لا تزال مسطحةً مثل صورة فوتوغرافية أو لوحة.
تقودني عدمُ قدرتي على رؤية العمق أو المسافة إلى الجمع بين الأشياء القريبة والبعيدة، أو الخلط بينها في أشكالٍ هجينة، أو كائناتٍ خرافية غريبة. شعرت ذاتَ يوم بِحَيرة حين وجدتُ شبكةً رمادية بين أصابعي قبل أن أدرك أنني كنت أرى السجادة الرمادية الواقعة أسفل مني بثلاث أقدام؛ إذ أراها الآن على نفس مستوى يدَيَّ وتظهر لي كجزءٍ منهما. ذات مرةٍ انتابني شعورٌ بالرعب عندما نظرتُ إلى صديقة من الجانب لأُلاحظ أن ثَمة أغصانًا صغيرةً أو شظايا من الخشب تخرج من عينَيها، ولكني سرعان ما أدركت أنها تخص شجرة في الجهة المقابلة من الشارع. رأيتُ رجلًا يعبر الطريق في ميدان الاتحاد بسقَّالات ضخمة على كتفَيه، فاعتقدت أن من الجنون أن يحمل شيئًا كهذا، ثم أدركتُ أن السقالات كانت خلفه بثلاثين قدمًا، وأن هذا كان مجردَ دمجٍ آخر. وفي مرةٍ أخرى، رأيت قمة سيارة إطفاء تبدو مغروزةً على سقف سيارتي، ثم أدركتُ أن سيارة الإطفاء كانت خلف السيارة باثنتَي عشرة ياردة. ولكن للغرابة أن معرفة هذا أو تحريك رأسي لتبيُّنه من خلال الإزاحة الحركية لا يُحدِث فارقًا كبيرًا في الوهم.
كذلك كان ثَمة جسرٌ عائم عملاق يبلغ ارتفاعه مائةَ قدم شاهدتُه وسط الازدحام المروري، تبيَّن أنه مِرآةُ الرؤية الجانبية لسيارة أمامي مباشرةً. كما أن مِظلةً خضراء غريبة تُمسك بها امرأةٌ تبيَّن أنها شجرةٌ خلفها بمائة قدم. أما الواقعة الأشدُّ رعبًا، فكانت عندما كنتُ أقرأ في السرير ذاتَ ليلة و«رأيت» مِروحة السقف على وشك الاصطدام بمصباح القراءة فوق رأسي مباشرةً؛ «أعرف» أن هذَين الشيئين يفصل بينهما مسافةُ أربع أقدام على الأقل، لكن هذا لم يمنع الوهمَ المفاجئ.
لم يعد هناك شيءٌ يبرز أو يتراجع بالنسبة إليَّ؛ فليس ثَمة شعورٌ مباشر بما هو «قبل» أو «خلف»، فقط استدلال قائم على الاحتواء والمنظور. كان الفراغ فيما مضى كريمًا، كان عالَمًا عميقًا يمكنني تحديدُ موقعي والتجول فيه متى أشاء. كان يمكنني الدخولُ إليه، وعِشت فيه، وكانت لي علاقةٌ مَكانية بكلِّ ما كنت أستطيع رؤيته. الآن لم يَعُد مثلُ هذا الفراغ موجودًا بالنسبة إليَّ بصَريًّا، أو ذهنيًّا.
بعد عامين بدون رؤيةٍ مجسمة، أتعامل الآن على نحوٍ جيد للغاية. تعلَّمتُ كيف أُصافح، وكيف أصبُّ النبيذ، وأجتاز درجاتِ السلم. وقد عدتُ إلى ركوب الدرَّاجات وقيادة سيارتي، الأمر الذي لم يُصبح ممكنًا إلا عبر الإزاحة الحركية وحقيقة أن الإدراك يكتملُ بالحركة، وأنني «أتعامل» في عالمٍ ثلاثي الأبعاد، على الرغم من أنه لا يزال يبدو لي ثنائيَّ الأبعاد. في معظم الوقت، يمكنني إدراك حقيقة أوهامي وإدماجاتي. لكن هذا لا يُغير إحساسي بأنَّ جانبًا أساسيًّا من العالم البصري قد اقتُطع وزال، وأن الأشياء لن تبدوَ أبدًا كما كانت عليه من قبل، لن تبدوَ صحيحة أبدًا. إن الواقع البصريَّ الذي أواجهه خاطئٌ تمامًا؛ لأنني أعرف جيدًا كيف كانت الأشياء، وكيف يجب أن يكون.
الحالة الوحيدة التي أرى فيها برؤيةٍ مجسمة الآن هي في الأحلام؛ لأني كنتُ أرى أحلامًا مجسَّمة من حينٍ لآخر طوال حياتي، وعادةً ما تكون أحلامًا أنظر فيها عبر منظارٍ مجسِّم إلى زوجٍ ساحر من الصور المجسمة، ربما إلى مشهدٍ طبيعي حضَري، أو أعماق الأخدود العظيم. أستيقظ من هذه الأحلام على واقعٍ مسطح تسطحًا جنونيًّا لا يمكن إصلاحه، ولا رجعةَ فيه.
•••
كان كلُّ هذا على موعد مع التغيير في ٢٧ سبتمبر ٢٠٠٩. بدأ اليوم كأيِّ يوم آخر؛ ذهبتُ لممارسة السباحة، وتناولت الإفطار، وكنت أنظف أسناني عندما بدا لي أنَّ ثَمة غشاوةً مرَّت عبر عيني اليمنى. كانت رؤيتها المحيطيَّة، وهي الرؤية الوحيدة التي ما زالت تحظى بها، ضبابيةً. تساءلت عما إذا كانت نظارتي قد أُعتمَت؛ ومن ثَم خلعتها ونظفتها، لكن الغشاوة ظلَّت موجودة. كان بإمكاني رؤيةُ الأشياء عبرها، لكن حدودها لم تكن واضحة.
ظننتُ أنها «أحد تلك الأشياء العشوائية» (على الرغم من أنها كانت لا تُشبه أي شيء مررتُ به من قبل). «سوف تزول خلال بضع دقائق.» ولكنها لم تَزُل، بل ازدادت كثافةً أكثر وأكثر. وتملَّكَني شعورٌ بالخوف والخطر؛ ما الذي كان يحدث؟ اتصلتُ بعيادة د. أبرامسون، ولكنه لم يكن موجودًا، فاقترح زميله أن آتيَ إلى العيادة على الفور. عندما فحص د. مار عيني، أكَّد شكوكي: كان هناك نزيف، ربما من الشبكية، وكان الدمُ في ذلك الوقت يتسرَّب إلى الخلط أو الجسم الزجاجي في الجزء الخلفي من العين. كان سبب النزيف غيرَ واضح، لكن ربما تسبَّب الورم، والتعرضُ للإشعاع، وتَكرارُ استخدام الليزر في جرح شبكية العين، ما جعلها أكثرَ هشاشةً، وزاد من فُرَص تآكُل أحد الأوعية الدموية أو سقوطها. لم يكن هناك شيءٌ يمكن فِعله في هذه المرحلة.
بحلول وقتٍ متأخر من العصر، لم أعد أستطيع عدَّ أصابعي أو رؤيةَ أي شيء بوضوح بالعَين اليمنى. ولم أشعر إلا بإضاءةٍ منتشرة من النافذة وبعض الحركة على النحو الذي يمكن أن يرى به المرءُ يدًا ملوِّحةً أمام عينَيه، في الضوء الساطع، حتى عندما يكون الجَفنان مغلقَين. قيل لي إن الدمَ سيزول في النهاية، لكن هذا قد يستغرق ستة أشهُر أو أكثر، وفي هذا الوقت كانت عيني اليمنى، عمَليًّا، قد فقدت الرؤية تمامًا.
لم أستطع التوقفَ عن التفكير في ذلك اليوم، حين بدأ كل شيء يسوء، في نهاية عام ٢٠٠٥، وفي الصراع الذي ظلَّت فيه العينُ لما يقرُب من أربع سنوات، إثر تعرُّض الجزء الأكبر من الشبكية للتآكل أو التلَف. هل كانت هذه هي الضربةَ القاضية النهائية؟
في سبيل إبعاد تفكيري عن الأمور البصرية، اتجهتُ إلى البيانو وأغمضتُ عيني وعزفتُ قليلًا. ثم، لتخفيف حدَّة مشاعري وتجنُّب التفكير، تناولتُ قُرصَي منوِّم وذهبتُ إلى الفِراش.
نِمت بعمق. أيقظني مِذياعي ذو الساعة، واستمعتُ إليه وعينايَ مُغمَضتان في تلك الحالة الحالمة بين اليقظة والنوم، ولم أتذكَّر ما حدث فجأةً إلا عندما فتحتُ عينيَّ ولم أرَ شيئًا بالعين اليمنى سوى ضوءٍ خافت غامض حيث كانت شمسُ الصباح تغمر غُرفتي.
في صباح يوم الإثنين، زارتني كيت واقترحَت أن نذهبَ للتمشية معًا. بمجرد خروجنا إلى الصَّخب الصباحي في شارع جرينتش الصاخب المزدحم بأشخاصٍ يُحاولون الموازنةَ بين أكواب القهوة والهواتف الجوَّالة بين أيديهم، وأشخاص خرجوا لتمشية كلابهم، وآباء وأمهات مع أطفالهم في طريقهم إلى المدرسة، أدركتُ أنني كنتُ في ورطة. كنتُ مذهولًا، بل مُرتعبًا؛ لأن الناس والأشياء بدَوا فجأةً وقد تجسَّدوا في صورٍ مادية، ويبرزون لي على الجانب الأيمن دون سابقِ إنذار. لو لم تكُن كيت تسير على يميني، حاميةً جانبي الأعمى، لاصطدمتُ بكل شيء، ولتعثَّرت في الكلاب، واصطدمتُ بعربات الأطفال دون أدنى وعي بوجودها.
نحن لا نُقدر رؤيتنا المحيطية كما يجب؛ لأننا في أغلب الأحيان لا يكون لدينا وعيٌ واضح بها إلا قليلًا. نحن ننظر، ونُركز، ونستهدف باستخدام نقراتنا، برؤيتنا المركزية. لكن الرؤية المحيطية، التي تُحيط بذلك، هي ما يُعطينا السياق، الشعور بموقعٍ ما ننظر إليه أيًّا كان في العالم الأوسع. والحركة بصورةٍ خاصة هي ما تضبط عليه الرؤية المحيطية؛ فالرؤية المحيطية تُنبهنا إلى الحركات غير المتوقعة على كِلا الجانبين، ثم تتحرَّك الرؤية المركزية لاستهدافها.
٩ نوفمبر ٢٠٠٩
لا يمكنني التعاملُ مع هذا إلا بإدارة رأسي باستمرار لرؤية ما يجري في المنطقة العمياء. (في الواقع، يتعيَّن عليَّ أن ألويَ الجزء العُلوي من جسدي بالكامل لتعويض الدرجات الستِّين أو نحو ذلك التي أفتقدُها.) لكن القيام بذلك ليس مُرهقًا فحسب، بل هو شعورٌ سخيف؛ لأنه فيما يتعلق بإدراكي الخاص، فإنني أتمتَّع بمجالٍ بصريٍّ كامل، فلا أفتقد شيئًا، بصورةٍ شخصية؛ ومن ثَم فليس ثَمة شيءٌ لأبحث عنه. قد يبدو الأمرُ غريبًا للآخرين أيضًا، الذين يشعرون أنني أتصرف بغرابة عندما ألوي جسدي أو أستدير وأُحدق فيهم.
ثَمة تجارب مُوازية مع حواسَّ أخرى بخلاف البصر. على سبيل المثال، إذا كان النخاع الشوكيُّ لشخص مخدَّرًا بالكامل، فإنه يفقد كامل الإحساس والقدرة على الحركة في النصف السفلي من الجسم. لكن هذا الوصف لا يُعبر بدقةٍ كاملة عن الغرابة التي يمكن أن يشعر بها الشخص. إنَّ وعي المرء، أي شعوره بجسده، ينقطع تمامًا، في الواقع، في مرحلة التخدير، وما يخضع لذلك لا يعود محسوسًا للمرء كجزءٍ من نفسه؛ لأنه لا يُرسل أيَّ معلومات إلى الدماغ تدلُّ على وجوده. لقد اختفى آخذًا مكانه، آخذًا حيِّزه، معه.
يمكن للمرء بالطبع أن «ينظر» إلى ساقَيه «المفقودتين»، وهذا أيضًا أكثرُ غرابةً نوعًا ما؛ لأن الساقَين تَبدُوان غيرَ حقيقيتين على نحوٍ غريب، كنماذج الشمع في مُتحف لعِلم التشريح. لقد تبيَّن، عبر التصوير الوظيفي، أن الأجزاءَ المُخدَّرة من الجسم تفقد بالفعل تمثيلها في القشرة الحسية. هكذا يبدو الأمرُ في الجانب الأيمن من مجالٍ بصَري؛ إذ لم يعد يُرسل أي إشارات إلى الدماغ؛ أي لم يعد له أيُّ تمثيل هناك. فهو بالنسبة إلى المخ لا وجود له.
٦ ديسمبر ٢٠٠٩
مرَّت الآن عشَرة أسابيع منذ حدوث النزيف الذي أُصبت به، وما زلت لم أحقِّق سوى القليل بصورةٍ تدعو إلى الدهشة في طريق التكيُّف. يجب أن أُذكِّر نفسي مِرارًا وتَكرارًا بالتحقُّق، بالتأكد من عدم تجاهل أو نسيان أي شيء في الجانب الأعمى؛ فالأمر لا يزال بعيدًا للغاية عن الأداء التلقائي. أتساءل عمَّا إذا كنت سأتكيَّف يومًا ما، وأفكر في شيءٍ كتبه لي أحدُ مراسليَّ، يُدعى ستيفن فوكس:
ما كان أسوأ بكثير من فقدان العمق هو القيد الجديد الذي فُرِض على مجالِ بصَري. فقد أصبحَت ذراعي اليمنى مغطَّاةً بالكدمات نتيجة الاصطدام بإطارات الأبواب؛ لأن دماغي كان لا يَزال يتعامل كما لو كان يستمدُّ الرؤية البانورامية الكاملة من العينَين. كذلك كنت كثيرًا ما أُسقط أشياءَ من على الطاولة بذراعي اليُمنى. في الواقع، لا يزال النطاقُ المحدود مشكلةً حتى بعد مرور ٢٢ عامًا، خاصةً في محطات مترو الأنفاق المزدحمة حيث قد تحتشد مسارات الناس فجأةً وبصمت على يميني؛ ما يؤدي إلى اصطداماتٍ عرضية ومُحرجة.
لا يزال شارع جرينتش والعالم الخارجي عمومًا مليئًا بالمخاطر، الحقيقية والمتخيَّلة، كما كان حين خرجتُ للتمشية لأول مرة بعد إصابتي بالنزيف منذ عدة أسابيع. يندفع الناسُ هنا وهناك، مُنشغلين تمامًا بالهواتف الجوَّالة والرسائل النصية لدرجةٍ تجعلهم هم أنفُسهم صُمًّا وعُميًا وغيرَ واعين بمحيطهم، وآخرون برفقتهم كلابٌ صغيرة تُشبه الحشرات، يقودونها بسلاسل طويلةٍ غير مرئية من شأنها أن تُصبح أسلاكًا للتعثر لضعاف البصر، وأطفال يندفعون في كلِّ مكان تحت مستوى العين على درَّاجات الاسكوتر الصغيرة. ثَمة مخاطرُ أخرى أيضًا؛ البالوعات، والمواقد، وصنابير الحريق، والأبواب التي تفتح فجأةً، وراكبو الدرَّاجات الذين يوصلون الوجبات؛ يبدو المشهدُ بأكمله يهدف لزيادة زبائن جرَّاحي العظام. لا أجرؤ على السير وحدي، ولحسن الحظ يُساعدني أصدقائي بالمشي معي والعمل كمُرشدين ودروعِ حماية على جانبي الأعمى. ولم أكُن لأحلمَ بالقيادة في هذه المرحلة.
أحاول التزامَ الجانب الأيمن من الرصيف حتى لا يمكن لأحدٍ اجتيازي ومباغتتي على الجانب الأعمى، لكن هذا ليس ممكنًا دائمًا؛ فالرصيف غالبًا ما يكون مزدحمًا وليس مِلكًا لي لأستوليَ عليه كما أشاء. أجد نفسي أفقدُ أشياءَ على مكتبي — نظارة القراءة، قلَم الحبر السائل، خِطابًا كتبته للتَّو — إذا وضعتها إلى يميني.
ومع ذلك (كما قيل لي في كتاب فرانك برادي «رؤية أحادية: فن الرؤية بعينٍ واحدة») فإن كلَّ من يفقدون إحدى عينَيهم تقريبًا يتكيَّفون مع فقدانها بسهولةٍ أكبر إذا كان صغيرًا في السنِّ أو إذا كان فقدان البصر تدريجيًّا، وبخاصة أيضًا إذا كانت العينُ المصابة ليست هي العينَ المهيمنة، وكانت الرؤية في العين الأخرى جيدة. (للأسف، آتي في مركزٍ مُتدنٍّ إلى حدٍّ ما في كل هذه المعايير). فيصبح معظم الناس مع الوقت قادرين على العودة إلى حياةٍ كاملة وحرَّة، وذلك، كما يؤكد برادي، ما داموا محتفظين بوعيٍ خاص؛ أي وعي فائق بالجانب المفقود.
ربما سيُصبح هذا ممكنًا بالنسبة إليَّ أيضًا في المستقبل. لكنه بعيدٌ عن الحدوث في ظلِّ وضعي الحاليِّ. ثَمة حوادث غريبة تبدو أنها تُحاصرني طوال الوقت. فعندما كنتُ عائدًا قبل أيام من نُزهة مع صديقي بيلي، «فقدته» عندما دخلتُ المِصعد. التفتُّ إلى اليمين وكان شخصٌ ما يقف هناك، ظننتُ للحظةٍ أنه بيلي. ثم أدركت أنه كان شخصًا غريبًا، بدا هو نفسه مُندهشًا وحائرًا، بل وقلِقًا بعضَ الشيء، من التفاتي وتحديقي به بنظرةِ ارتباك. لا بد أنه اعتقد أنني مختلٌّ. ولم أجد بيلي إلا عندما استدرتُ أكثرَ إلى اليمين، حيث كان عن يسار الشخص الغريب، في أعماق اللامكان الخاص بي.
بعد خمس دقائق، عندما وصلنا إلى شقَّتي والتفتُّ لأضعَ غلَّاية الشاي، اختفى بيلي مرةً أخرى، ولكنني وجدتُه، بعد وقفةٍ حائرة، في المكان الذي تركتُه فيه بالضبط. لم يتحرَّك، لكنَّ التفاتي بعيدًا وضعه في بُقعتي العمياء؛ أي في «اللامكان» البصَري والعقلي الخاص بي. اندهشتُ مرةً أخرى من إمكانية حدوث هذا في غضون ثوانٍ، وعلى نحوٍ مُعارض تمامًا للذاكرة والإدراك السليم. وفي كل مرة يحدث فيها هذا، يُصيبني بالدهشة ذاتها.
سيحسم الوقتُ ما إذا كنتُ قادرًا على التكيف مع هذا التحدِّي البصري الجديد، أو ربما سيختفي النزيف أولًا وأستعيد بعض الرؤية المحيطية على الأقل في عيني اليمنى. في غضون ذلك، لديَّ «لا مكان» كبيرٌ في مجال بصري بالعَين اليمنى وفي دماغي، لا مكان لا أعيه وعيًا مباشرًا ولا يمكن أن أكونَ كذلك أبدًا. بالنسبة إليَّ، لا يزال الأشخاص والأشياء «تنشقُّ الأرض وتبتلعهم» أو «يظهرون فجأةً من العدم»؛ فلم تعد هذه مجردَ استعارات بالنسبة إليَّ، ولكن أقرب ما يمكنني قوله في وصف تجربة العدم واللامكان.
هوامش
في الوقت الحالي، تعلَّمتُ تفسير كل تلميح ينتج عن تغير الإضاءة واستكمال التأثير العام من الذاكرة. بدأتُ أعتاد على شبه الظلام الغريب هذا الذي كنت أعيش فيه، وكدتُ أبدأ في الإعجاب به. كنت لا أزال أرى الشكل العامَّ للأشخاص جيدًا جدًّا، وكان خيالي يُزودني بالتفاصيل كرسَّامٍ يملأ إطارًا فارغًا. كنتُ أحاول تكوين صورة لأي وجه أراه أمامي بملاحظة صوت الشخص وحركاته. كان الناس غالبًا ما تنتابهم الدهشة حين يجدون أنني لا أستطيع التمييز بين الألوان والظلال، لكن كان بإمكاني التقاط تعبيرات الوجوه اللحظية التي لا يُلاحظها أحدٌ من ذَوي القدرة البصرية الطبيعية. وكنت أنا أيضًا مُندهشًا. ففكرة أنني ربما أُصبتُ بالعمى بالفعل أصابتْني برعبٍ مُفاجئ … لم يكُن بإمكاني سوى استخدام كلمات الناس وأصواتهم لإعادة بناء العالم الحقيقي المفقود، تمامًا كما تفعل أذهاننا في اللحظة التي ننام فيها؛ إذ تُشكِّل صورًا تُشبه تلك الموجودةَ في الحياة الواقعية من الوَبصات التي تتراقص أمام أعيُننا المغلقة. وقفت على عتبةٍ بين الواقع والخيال، وبدأت أشكُّ في حقيقة كلٍّ منهما. كانت عيني الجسدية وعينُ عقلي تمتزجان في عينٍ واحدة، ولم يعد بإمكاني التأكد أيٌّ منهما كانت لها الهيمنة الفعلية.
كان لبعض مراسليَّ تجارِب معاكسة في التأثير مع الحشيش في بعض الأحيان؛ فقدان الرؤية المجسمة، بحيث يبدو عالمهم البصريُّ الثنائيُّ الأبعاد مثلَ لوحةٍ مرسومة.
بالنسبة إلى المكفوف، ليس للأشخاص وجودٌ ما لم يتكلَّموا. لقد واصلت الحديث عدة مرَّات مع صديقٍ مُبصر فقط لأكتشفَ أنه غير موجود. ربما يكون قد انصرف دون أن يُخبرني. ربما يكون قد أومأ برأسه أو ابتسمَ ظانًّا أن المحادثة قد انتهت. أما بالنسبة إليَّ، فقد اختفى فجأةً.
عندما تكون أعمى، تُمسك بك يدٌ فجأة. ويُخاطبك صوتٌ فجأةً. لا يوجد تأهُّب أو استعداد … أنا عامل سلبي في وجود من يُخاطبني … يمكن للشخص العادي أن يختار من يريد التحدث إليه، وهو يتجول في الشوارع أو السوق. فالناس موجودون بالفعل بالنسبة إليه، لديهم وجودٌ مسبق مهيَّأ لتحيَّته إيَّاهم … أما بالنسبة إلى الكفيف، فالناس قيد الحركة، إنهم مؤقَّتون، يأتون ويذهبون. يخرجون من العدم، ثم يختفون.