عين العقل
إلى أي مدًى نُعَد نحن مَن نؤلف أو نخلق تَجارِبنا الخاصة؟ إلى أيِّ مدًى تُحدد أدمغتنا أو حواسُّنا التي نولَد بها هذه التجارِب مسبقًا، وإلى أي مدًى نُشكل أدمغتنا من خلال التجرِبة؟ قد تُلقي آثار حرمان إدراكي عميق كالعمى ضوءًا غيرَ متوقَّع على هذه الأسئلة. ففقدان البصر، خاصةً في مرحلةٍ عمرية متأخرة، يضع الشخصَ أمام تحدٍّ ضخم، وربما ساحقٍ، لإيجاد طريقة جديدة للعيش وتنظيم عالمه، عندما تنهار الطريقة القديمة.
في عام ١٩٩٠، تلقَّيتُ كتابًا استثنائيًّا بعنوان «لمس الصخور: تجربة مع العمى»، من تأليف جون هال، أستاذ التربية الدينية في إنجلترا. نشأ هال وهو يُعاني من ضعف البصر؛ إذ أُصيب بإعتام في عدسة العين في عمر الثالثةَ عشرة، وأصبحت عينُه اليسرى عمياءَ تمامًا بعد ذلك بأربع سنوات. وظلَّت الرؤية في عينه اليُمنى معقولةً حتى بلغ الخامسةَ والثلاثين أو نحوَ ذلك، ولكن تلا ذلك عَقدٌ من الضعف المطَّرِد في الرؤية؛ ومن ثَم احتاج هال إلى عدساتٍ مُكبرة أقوى وأقوى، واضطُرَّ إلى الكتابة بأقلامٍ أكثر وأكثرَ سُمكًا. وفي عام ١٩٨٣، في عمر الثامنة والأربعين، أصبح فاقدًا تمامًا للبصر.
إن كتاب «لمس الصخور» هو اليوميات التي أملاها في السنوات الثلاث التي تلَت ذلك. إنه مليء بالرُّؤى الثاقبة حول تحوُّله للعيش كشخصٍ كفيف، ولكن كان أكثرُ ما أدهشني هو وصفه كيف عانى، بعد أن أصبحَ كفيفًا، من ضعفٍ تدريجي في الصور البصرية والذاكرة، ثم تلاشيهما تمامًا في النهاية (إلا في الأحلام)، وهي حالةٌ أسماها «العمى العميق».
لم يقصد هال بهذا فقدانَ الصور البصرية والذكريات فحسب، بل أيضًا فقدان «فكرة» الرؤية في حدِّ ذاتها، حتى إن مفاهيمَ مثل «هنا» و«هناك» و«مواجهة» يبدو أنها فقدَت معناها بالنسبة إليه. لقد اختفى الإحساس بأن للأشياء أشكالًا أو سِماتٍ مرئية. لم يعد بإمكانه تخيُّل كيف يبدو العدد ٣ إلا إذا تتبَّعه في الهواء بإصبعه. كان يُمكنه إنشاء صورة «حركية» للعدد ٣، ولكن ليس صورةً بصرية.
كان هال في أشدِّ الانزعاج والأسى من هذا في البداية؛ إذ لم يعد يستطيع استحضارَ وجوه زوجته أو أولاده أو المناظر الطبيعية والأماكن المألوفة والمحبَّبة لديه. لكنه بعد ذلك تقبَّل الأمر برباطة جأش ملحوظة، معتبرًا هذا ردَّ فعلٍ طبيعيًّا لفقدانه البصر. في الواقع، يبدو أنه قد شعر أن فقدان الصور البصرية كان شرطًا أساسيًّا للتطور الكامل لحواسه الأخرى وتعزيزها.
بعد عامين من إصابة هال بالعمى التام، أصبح خيالُه وذاكرته غيرَ بصَريَّين على ما يبدو كما لو كان شخصًا أعمى منذ الولادة. بطريقةٍ دينيَّة عميقة، وبلُغة تُذكرنا أحيانًا بلغة القديس يوحنا الصليب، دخل هال في حالة من العمى العميق مستسلِمًا له بنوعٍ من الإذعان والفرح. تحدَّث عن العمى العميق باعتباره «عالمًا حقيقيًّا ومستقلًّا، مكانًا مستقلًّا بذاته … أن تكون مبصرًا بكامل جسدك يعني أن تكون في واحدة من الحالات البشرية المركَّزة.»
أن يكون المرء «مبصرًا بكامل جسده»، من وجهة نظر هال، يعني تحويلَ انتباهه، مركز جاذبيته، للحواسِّ الأخرى، وأن هذه الحواسَّ اكتسبَت ثراءً وقوة جديدَين. ومن ثَم كتب عن كيف أن صوت المطر، الذي لم يسبق أنْ أولاه كثيرًا من الاهتمام، استطاع أن يرسمَ له مشهدًا طبيعيًّا كاملًا؛ لأن صوته فوق مسار الحديقة كان مختلفًا عن صوته عندما يقرعُ بصوتٍ إيقاعي على المروج، أو على الشُّجيرات في حديقته، أو على السِّياج الذي يَفصل الحديقة عن الطريق:
للمطر طريقةٌ في إبراز ملامح كلِّ شيء؛ إذ يُلقي طبقةً ملوَّنة على الأشياء التي لم تكن مرئيةً من قبل؛ فبدلًا من عالمٍ متقطِّع ومن ثَم مفتَّت، يخلق المطرُ المتساقطُ باطِّراد استمراريةً للتجرِبة الصوتية … يُوفر امتلاءً للموقع بأكمله في الحال … يُعطي إحساسًا بالمنظور وبالعلاقات الفعلية بين كل جزء من العالم والآخر.
بدا لي وصفُ هال مثالًا مذهلًا على مدى قدرةِ الفرد الذي يُحرَم من شكلٍ من أشكال الإدراك على إعادة تشكيل نفسه بالكامل، وتوجيهِها إلى مركزٍ جديد، إلى هُوية إدراكية جديدة. ومع ذلك، وجدتُ أنه من غير العادي أن يكون من الممكن لمثلِ هذا الاندثار للذاكرة البصرية، كما وصَفه، أن يحدث لشخصٍ بالغ يتمتَّع بتجرِبة بصريةٍ ثرية وقيمة امتدَّت لعقود، يمكنه الاستفادةُ منها. غير أنني لا يسَعني أن أشكَّ في صحة رواية هال، التي سردَها بأقصى قدر من الدقة والوضوح.
•••
عرَف علماء الأعصاب المعرفيُّون في العقود القليلة الماضية أن الدماغ أقلُّ جمودًا بكثير مما كان يُعتقَد من قبل. وقد كانت هيلين نيفيل واحدةً من الرُّوَّاد في ذلك؛ إذ أظهرَت أن الأجزاء السمعية في الدماغ لدى الأشخاص المصابين بالصمَم السابق للنطق (أي أولئك الذين وُلدوا صُمًّا أو أصبحوا كذلك قبل بلوغ عامَين أو نحو ذلك) لم تتدهور. بل ظلَّت نشطةً وتؤدي وظيفتها، لكن بنشاط ووظيفة جديدَين؛ فقد تحوَّلَت، أو «أُعيد تخصيصُها» على حدِّ تعبير نيفيل، لمعالجة اللغة المرئية. وتُظهر الدراساتُ المقارنة على أولئك الذين وُلدوا مكفوفين، أو أُصيبوا بالعمى في سنٍّ مبكرة، أن بعض مناطق القشرة البصرية يمكن إعادةُ تخصيصها واستخدامها لمعالجة الصوت واللمس.
عندما واجَه علماءُ الأعصاب مثلَ هذه النتائج والتقارير، بدَءوا في سبعينيات القرن العشرين في الاعتراف بإمكانية وجود بعض المرونة أو اللُّدونة في الدماغ، على الأقل في أول سنتين من عمر الإنسان. ولكن عند انتهاء هذه المرحلة الحرِجة، كما كان يُعتقد، يُصبح الدماغ أقلَّ لدونةً بكثير.
ومع ذلك، يظلُّ الدماغ قادرًا على إجراء تحوُّلات جذرية؛ استجابةً للحرمان الحسي. ففي عام ٢٠٠٨، أوضح لطفي مرابط وألفارو باسكوال-ليوني وزملاؤهما أنَّ تعصيب العينَين لمدةٍ قصيرة تصل إلى خمسة أيام قد أحدثَت تحولاتٍ ملحوظةً إلى الأشكال غير المرئية للسلوك والإدراك، حتى لدى البالغين المُبصِرين، وقد أظهَروا التغيرات الفسيولوجية في الدماغ التي توافقَت مع هذا. (ويرون أنه من المهمِّ التمييز بين مثل هذه التغييرات السريعة القابلة للعكس، التي يبدو أنها تستفيد من روابط موجودة مسبقًا، ولكنها روابط حسية مترابطة وكامنة، وبين التغيرات الطويلةِ الأمد التي تحدث بصورةٍ خاصة استجابةً للعمى المبكِّر أو الخِلقي، الذي قد يستلزم عملياتِ إعادة تنظيم كُبرى للدوائر القشرية.)
على ما يبدو أن قشرة هول البصرية، حتى في مرحلةِ الرشد، قد تكيَّفَت مع فقدان المدخلات البصرية من خلال تولِّي وظائف حسيَّة أخرى — السمع، واللمس، والشم — بينما تتخلى عن القدرة على التصور البصري. وقد حسبتُ أن تجربة هال كانت نموذجًا للعمى المكتسَب، أي الاستجابة العاجلة أو الآجلة، لكلِّ من فقدَ بصره، ومثالًا رائعًا على اللدونة القشرية.
•••
ولكن عندما نشرتُ مقالًا عن كتاب هال في عام ١٩٩١، فوجئت بتلقِّي عددٍ من الرسائل من أشخاص مكفوفين، غالبًا ما كانت رسائل مُحيرة بعضَ الشيء وساخطةً في نبرتها في بعض الأحيان. فقد كتب العديدُ من هؤلاء الأشخاص أنهم لا يستطيعون التماهيَ مع تجربة هال وقالوا إنهم أنفسهم، حتى بعد عقودٍ من فقدانهم البصر، لم يفقدوا تخيُّلاتهم البصرية أو ذكرياتهم. فكتبتْ إحدى النساء التي فقدت بصرها في الخامسة عشرة من عمرها تقول:
على الرغم من أنني عمياءُ تمامًا … أعتبر نفسي شخصًا بصريًّا للغاية. فما زلتُ «أرى» أشياءَ أمامي. وبينما أكتب الآن، أستطيع أن أرى يدَيَّ على لوحة المفاتيح … لا أشعر بالراحة في بيئةٍ جديدة حتى يكون لديَّ صورةٌ ذهنية لشكلها. كما أحتاج إلى خريطةٍ ذهنية لتحرُّكي المستقل أيضًا.
هل كنتُ مخطئًا، أو على الأقل أنظرُ من جانبٍ واحد، عندما اعتبرت تجربةَ هال استجابةً نموذجيةً لفقدان البصر؟ هل أذنبتُ بالتأكيد على نمطٍ واحد من الاستجابة أكثرَ مما يجب، مُتغاضيًا عن الاحتمالات الأخرى المختلفة جذريًّا؟
بلَغ هذا الشعورُ ذروتَه بعد بضعِ سنوات عندما تلقَّيتُ رسالةً من عالمِ نفسٍ أسترالي يُدعى زولتان توري. لم يكتب توري لي عن العمى، ولكن عن كتابٍ كتبَه عن معضلة الدماغ والعقل وطبيعة الوعي. ذكَر أيضًا في رسالته أنه أصيب بالعمى في حادث في سن الحادية والعشرين. ولكن على الرغم من أنه «نُصح بالتحوُّل من النمط البصري إلى السمعي من أجل التكيُّف»، سلك الاتجاهَ المعاكس، وعزَم بدلًا من ذلك على تطوير عينه الداخلية؛ أي قدراته على التصوُّر البصري، إلى أقصى حدٍّ ممكن.
قال إنه حقَّق نجاحًا استثنائيًّا في هذا؛ إذ طوَّر قدرةً ملحوظة على توليد الصور، والاحتفاظ بها، ومعالجتها في ذهنه، لدرجة أنه أصبحَ قادرًا على بناء عالم بصري افتراضي بدا حقيقيًّا وعميقًا بالنسبة إليه كالعالم الإدراكي الذي فقده، بل إنه في بعض الأحيان كان أكثرَ واقعيةً وأكثرَ عمقًا. بالإضافة إلى ذلك، مكَّنته هذه الصورُ من القيام بأشياءَ ربما بدا من الصعب على رجلٍ كفيف القيامُ بها.
كتب قائلًا: «لقد استبدلتُ مَزاريب السقف كاملة في منزلي المتعدِّد السقوف الجملونية بمفردي، مُعتمدًا فقط على قدرتي الدقيقة والجيدةِ التركيز على معالجة فَضائي العقلي الذي أصبح الآن مرِنًا للغاية وسريعَ الاستجابة.» أسهبَ توري لاحقًا في تفاصيل هذه الواقعة، مشيرًا إلى الانزعاج الشديد الذي أصاب جيرانَه من رؤية كفيف بمفرده على سطح منزله ليلًا (على الرغم من أن الظلام لم يكن يُحدث أيَّ فارق معه بالطبع).
وشعر أن صوره البصريةَ المعزَّزة حديثًا مكَّنَته من التفكير بطُرقٍ لم تكن متاحةً له من قبل، وأتاحت له أن يُلقيَ بنفسه وسطَ الآلات والأنظمة الأخرى، وتصور الحلول، والنماذج، والتصاميم.
رددتُ على رسالة توري، مقترحًا عليه أن يُفكر في تأليف كتاب آخر، ذي طابَع أكثرَ شخصية، يستعرض فيه كيفيةَ تأثُّر حياته بالعمى، وكيف استجاب لهذا بأكثرِ طريقةٍ مستبعَدة ومُتناقضة في ظاهرها. وبعد بِضع سنوات، أرسل لي مخطوطةَ كتابه «الخروج من الظلام». في هذا الكتاب الجديد، وصف توري ذكرياته البصرية المبكِّرة في الطفولة والشباب في المجر قبل الحرب العالمية الثانية: حافلات بودابست ذات اللون الأزرق السماوي، وقاطرات التِّرام ذات اللون الأصفر كصفار البيض، وضوء مصابيح الغاز، والسكة الحديد المعلَّقة على سفح تلال بودا. وصف شابًّا ينعم بالسعادة والرغَد، يجوب مع والده الجبال المشجرة فوق نهر الدانوب، ويلعب ويمرح في المدرسة، ونشأ في بيئةٍ رفيعة الثقافة وسط الكتَّاب والمُمثلين والمُتخصصين في كلِّ مجال. كان والد توري رئيسًا لاستوديو كبيرٍ للصور المتحركة، وكان غالبًا ما يُعطي ابنه السيناريوهات ليقرأها. كتب توري: «أتاح لي ذلك الفرصة لتصور القصص والحبكات والشخصيات، لإعمالِ خيالي، وهي مهارةٌ أصبحتْ طوقَ نجاة ومصدرَ قوة في السنوات التالية.»
انتهى كل هذا نهايةً وحشية مع الاحتلال النازي وحصار بودا، ثم احتلال السوفييت. وجد توري نفسه، وكان في ذلك مُراهقًا، منجذبًا بشغف إلى الأسئلة الكبرى: سرُّ الكون، والحياة، وفوق كل شيء سرُّ الوعي والعقل. عندما شعر في التاسعةَ عشرة من عمره أنه بحاجة إلى الانغماس في علم الأحياء، والهندسة، وعلم الأعصاب، وعلم النفس، ولعِلمه بعدم وجود فرصة للحياة الفكرية في المجر تحت حكم السوفييت، هرب توري واتَّجه إلى أستراليا، حيث عمِل في العديد من الوظائف اليدوية؛ لأنه كان مُفلسًا وليس له أيُّ علاقات. في يونيو من عام ١٩٥١، عندما كان يفكُّ السدادة في حوض لأحد الأحماض بمصنع للمواد الكيماوية كان يعمل فيه، تعرَّض للحادث الذي شطَر حياته:
كان آخر شيء رأيتُه بوضوحٍ تام وميضَ ضوء في فيض الحمض ابتلعَ وجهي وغيَّر حياتي. مرَّت نانو ثانية من الشرارة، مؤطَّرة بما يُشبه الدائرةَ السوداء لسطح طبلة، على بُعد أقلَّ من قدم. كان هذا هو المشهد النهائي، الشعرة التي تربطُني بماضِيَّ البصري.
عندما صار واضحًا أن قرنيَّتَيه قد تضرَّرتا تضررًا ميئوسًا منه، وأنه سيتعيَّن عليه أن يعيش حياته كرجلٍ كفيف، نُصح بإعادة بناء تمثيله للعالم اعتمادًا على السمع واللمس، و«نسيان البصر والتخيل تمامًا». لكن كان هذا أمرًا لم يستطع توري فِعله أو لم يكن ليفعله. لقد أكَّد في رسالته الأولى لي على أهمية اتخاذ الاختيار الأكثر حسمًا في هذه المرحلة: «قررتُ على الفور معرفة حدود قدرة الدماغ المحروم من الإحساس جزئيًّا على إعادة بناء الحياة.» بعبارةٍ أخرى، يبدو الأمر مجردًا، كتجربة. ولكن في كتابه، يشعر المرء بالمشاعر الهائلة الكامنة وراء قراره: الرعب من الظلام — «الظلام الفارغ»، كما يُطلق عليه توري عادةً، «الضباب الرمادي الذي كان يبتلعني» — والرغبة الشديدة في الاحتفاظ بالضوء والرؤية، الاحتفاظ بعالم بصري زاهٍ وحي، حتى لو كان ذلك فقط في الذاكرة والخيال. عنوان كتابه نفسه يقول كل هذا، وتظهر نبرة التحدِّي منذ البداية.
فقدَ هال، الذي لم يكُن يستخدم قدرته على التصور على نحوٍ متعمَّد، هذه القدرةَ في غضون سنتَين أو ثلاث سنوات، وأصبح غيرَ قادر على تذكُّر اتجاه رسم العدد ٣، أما توري، على الجانب الآخر، فسرعان ما أصبح قادرًا على ضرب أعداد مكوَّنة من أربعة أرقام في بعضها؛ إذ يتصور العملية الحسابية بأكملها في ذهنه كما لو كانت على سبورة، و«يرسم» العملياتِ الفرعيةَ بألوانٍ مختلفة.
حافَظ توري على موقفٍ حَذِر و«عِلمي» تجاهَ تصوُّره البصري، باذلًا جهدًا كبيرًا للتحقق من دقة صوره الذهنية بكل الوسائل المتاحة. وفي ذلك كتبَ يقول: «تعلَّمتُ الإبقاءَ على الصورة مؤقتًا، ومنْحَها المصداقية والمكانةَ فقط عندما تُرجح بعضُ المعلومات كِفَّة الميزان لصالحها.» وسرعان ما اكتسب الثقة الكافية في مصداقية تصوُّره البصري إلى حدِّ المجازفة بحياته اعتمادًا عليه، كما حدث عندما أجرى إصلاحاتٍ في السقف بنفسِه. وامتدَّت هذه الثقة إلى مشروعاتٍ أخرى ذهنية بَحتة. فقد أصبح قادرًا على «تخيُّل وتصوُّر، على سبيل المثال، ما بداخل عُلبة تروس تفاضليَّة أثناء عملها كما لو كنت بداخلها. كنتُ قادرًا على مشاهدة السنون عندما تتحرك، وتُغلق، وتدور، وتوزع الدوران كما يجب. بدأتُ أُجرب هذه الرؤيةَ الداخلية المتعلقة بالمشاكل الميكانيكية والتقنية بطُرقٍ مختلفة، مُتصورًا العلاقاتِ بين المكونات الفرعية في الذرَّة أو في الخلية الحيَّة.» اعتقد توري أن هذه القدرة على التصور كانت أساسيةً في تمكينه من الوصول إلى وِجهة نظر جديدة في معضلة الدماغ والعقل من خلال تصور الدماغ «كتلاعبٍ دائم للأنشطة الروتينية المتفاعلة.»
•••
بعد مدةٍ وجيزة من استلام مخطوطة كتابه «الخروج من الظلام»، تلقَّيتُ أدلةً على مذكراتٍ أخرى إضافية حول العمى: كتاب «طريقي يؤدي إلى التبت» لصبرية تينبركين. في حين أن هال وتوري مفكِّران مُنشغلان على اختلاف طُرقِهما بجوهر الأشياء وحالات الدماغ والعقل، فإن تينبركين شخصٌ عمَلي؛ فقد ارتحلَت، بمفردها في الغالب، عبر جميع أنحاء التبت، حيث ظلَّ المكفوفون عدةَ قرون يُعامَلون على أنهم أقلُّ من البشر ويُحرَمون من التعليم، أو العمل، أو الاحترام، أو الاضطلاع بدورٍ في المجتمع. غيَّرَت تينبركين، بمفردها في الواقع، وضعهم على مدى العَقد الماضي أو نحو ذلك؛ إذ ابتكرَت شكلًا من أشكال طريقة برايل لقراءة اللغة التبتية، وأنشأت أوَّل مدارس للمكفوفين هناك، ودمَجَت خرِّيجي هذه المدارس في مجتمعاتهم.
وعلى الرغم من أنها كانت عمياءَ تمامًا لعشرات السنين عندما ذهبَت إلى التبت، استمرَّت تينبركين في استخدام حواسِّها الأخرى جنبًا إلى جنب مع الأوصاف اللفظية والبصرية، والإدراك التصويري القوي والمُواكب لتكوين «صور» للمشاهد الطبيعية والمساحات، للبيئات والمشاهد — صور زاهية للغاية ومفصَّلة تُذهل مستمِعيها. قد تكون هذه الصور في بعض الأحيان مختلفةً اختلافًا جامحًا أو هزليًّا عن الواقع، كما جاءت روايتها لإحدى الحوادث عندما كانت في سيارةٍ مع أحد رفقائها إلى نام كو، البحيرة المالحة العظيمة في التبت. عندما استدارت تينبركين بشغفٍ في اتجاه البحيرة، رأت في خيالها شاطئًا من المِلح المتبلور المتلألئ كالثلج تحت شمس المساء، على حافة كتلةٍ ضخمة من المياه الفيروزية … وبالأسفل، على جوانب الجبَل الخضراء العميقة، كان هناك بعض البدو يُشاهدون ثيرانهم وهي ترعى. ثم اتَّضح أنها لم تكُن «تنظر» إلى البحيرة على الإطلاق، ولكنها كانت في مواجهة اتجاهٍ آخر، حيث كانت «تُحدق» في الصخور والمشاهد الطبيعية الرمادية. لم تُزعجها هذه التبايناتُ تمامًا، بل هي سعيدةٌ بأنَّ لديها خيالًا بصَريًّا شديدَ الحيوية. إن خيالها في الأساس من النوع الفني، الذي من شأنه أن يكون انطباعيًّا رومانسيًّا وليس واقعيًّا على الإطلاق، بينما خيالُ توري هو خيال المهندس، الذي يجب أن يكون واقعيًّا ودقيقًا حتى في أدقِّ التفاصيل.
•••
كان جاك لوسيران أحدَ مُناضلي المقاومة الفرنسية الذي تتناول مذكراتُه، التي بعنوان «وكان هناك نور»، في أغلبها تَجارِبه في مواجهة النازيِّين ثم في بوخنفالد، ولكنها تتضمَّن أيضًا العديدَ من التصويرات الوصفية الجميلة لمحاولات تكيُّفه المبكرة مع العمى. كان قد فقد بصرَه في حادث ولم يكن قد تجاوز ثمانيَ سنوات، وهي سنٌّ أصبح يشعر بأنها «مثالية» لمثلِ هذا الاحتمال؛ فبينما كانت لديه بالفعل تجربةٌ بصرية غنيَّة للرجوع إليها، كانت «عاداته كصبيٍّ في الثامنة من عمره لم تتشكَّل بعدُ، سواءٌ البدنية منها أو الذِّهنية. فقد كان جسده مرِنًا بلا حدود.»
في البداية، بدأ لوسيران يفقد تصوُّره البصري:
بعد مدةٍ قصيرة للغاية من فقداني البصر، نسيتُ وجوه أمي وأبي ووجوهَ معظم الناس الذين أحببتُهم … توقَّفتُ عن الاهتمام بما إذا كان الأشخاصُ من أصحاب البشرة الداكنة أو البيضاء، وما إذا كانوا بعيونٍ زرقاءَ أو خضراء. شعرت أن المُبصرين يقضون وقتًا أكثرَ مما ينبغي في مراقبة هذه الأشياء الفارغة … التي لم أعُدْ حتى أُفكر فيها. فلم يَعُد الناس يمتلكونها. وفي بعض الأحيان، كان الرجال والنساء يظهرون في ذهني بلا رءوس أو أصابع.
ثَمة تشابهٌ بين هذا وبين ما قاله هال الذي كتب يقول: «على نحو مُتزايد، لم أعُد أُحاول حتى تخيُّلَ شكل الأشخاص … أجد صعوبةً تتصاعد أكثرَ وأكثر مع الوقت في إدراكِ أن الأشخاص يَبدون كأي شيء، في إيجاد أيِّ معنًى لفكرة أنَّ لهم شكلًا محددًا.»
ولكن بعد ذلك، مع التخلِّي عن العالم المرئي الفعلي والعديد من قِيَمه وتصنيفاته، بدأ لوسيران في بناءِ واستخدام عالم بصري تخيُّلي يُشبه كثيرًا عالمَ توري. وأصبح يُعرِّف نفسه بوصفه مُنتميًا لفئةٍ خاصة، وهي «المكفوفون البصريون».
بدأت رؤية لوسيران الداخلية على هيئة إحساس بالضوء، إشعاع متدفِّق وغامر لا شكل له. يتعيَّن على المصطلحات العصبية أن تبدوَ اختزاليةً في هذا السياق شِبه الروحاني، ومع ذلك قد يُغامر المرء بتفسير هذا كظاهرة انطلاق، استثارة عفويَّة وشبه مُتهيجة للقشرة البصرية، المحرومة الآن من المدخَلات البصرية العادية. (ربما تُشبه مثل هذه الظاهرة طَنين الأذن أو الأطراف الوهمية، على الرغم من أنها قد مُنحت، في هذه الحالة، تجربةً تخيُّلية مخلصة ومبكِّرة لصبيٍّ صغير، مع عنصر من قوةٍ خارقة.) ولكن بعد ذلك، كما اتَّضح، وجد نفسَه يمتلك قدراتٍ كبيرةً على التصور البصري، وليس مجردَ رؤية أشعَّة لا شكل لها.
بعد تنشيط القشرة البصَرية، التي تُعَد العين الداخلية، بنى عقلُه «شاشة» يعرض عليها كلُّ ما كان يفكر فيه أو يرغب فيه، مع معالجته إذا اقتضت الحاجة، مثلما تُعرَض الأشياء على شاشة الكمبيوتر. كتب يقول: «لم تكن هذه الشاشة كالسبورة، مستطيلةً أو مربَّعة، سرعان ما يصل المعروض عليها إلى حافة إطارها.»
كانت شاشتي دائمًا كبيرةً بالحجم الذي أحتاج إليه. ولأنها لم تكن في مكانٍ محدَّد في الفراغ، فقد كانت في كلِّ مكان في الوقت نفسِه … لم تكن الأسماء، والأشخاص، والأشياء عمومًا تظهر على شاشتي بلا شكل، ولا بالأبيض والأسود فقط، ولكن كانت بجميع ألوان الطيف. لم يكن يدخل عقلي شيءٌ دون أن يغمرَه قدرٌ معيَّن من الضوء … وفي غضون بضعة أشهُر، كان عالَمي الشخصيُّ قد تحوَّل إلى استوديو رسَّام.
كانت القدراتُ الكبيرة على التصور فاصلةً في حياة لوسيران الشاب، حتى في شيءٍ غير مرئي (كما قد يظن المرء) كتعلُّم طريقة برايل للقراءة، وفي نجاحاته الرائعة في المدرسة. لم يكن التصور أقلَّ أهميةً في العالم الخارجي الحقيقي. فقد وصف لوسيران نزهاته مع صديقه المبصِر جين، وكيف كان يستطيع أن يقول لجين وهما يتسلَّقان معًا جانبَ أحد التلال فوق وادي السين:
«انظر! هذه المرةَ نحن على القمة … سترى المنحنى الكامل للنهر ما لم تدخل الشمسُ في عينَيك!» ذُهِل جان وفتح عينَيه على مِصراعَيهما وصاح: «إنك على حق.» كان هذا المشهد الصغير غالبًا ما يتكرر بيننا، بألف شكل.
في كلِّ مرة يذكُر فيها شخصٌ حدثًا ما، كان الحدث يعرض نفسَه على الفور في مكانه على الشاشة، التي كانت أقربَ إلى لوحةٍ زيتية داخلية … بمقارنة عالمي مع عالمه، وجد [جين] أن عالمَه يحمل عددًا أقلَّ من الصور، ولا يقترب في ألوانه من عالمي المتعدِّد الألوان. جعله هذا شِبهَ غاضب. كان يقول: «حين يتعلق الأمر بذلك، فمن منا الكفيف؟»
كانت قدراته الخارقة في التصور والمعالجة البصرية — تصوُّر أوضاع الأشخاص وحركاتهم، وتضاريس أي مساحة، وتصور استراتيجيات الدفاع والهجوم — مقترنةً بشخصيته الجذَّابة (و«أنفه» أو «أذنه» التي يبدو أنها لا تُخطئ في الكشف عن الخوَنة المحتملين) هي ما جعَلَت منه لاحقًا رمزًا للمقاومة الفرنسية.
كنتُ آنذاك قد قرأتُ أربع مذكرات، كلها مختلفة على نحوٍ لافت للنظر في وصفها للتجرِبة البصرية لأشخاصٍ مكفوفين؛ هال بهبوطه طواعيةً في «العمى العميق»، وتوري ﺑ «تصوُّره القهري» وبنائه الدقيق لعالمٍ بصريٍّ داخلي، وتينبركين بحرِّيتها البصرية المندفعة وشِبه الروائية، إلى جانب موهبتها الاستثنائية والمميزة في التصاحب الحسي، ولوسيران الذي عرَّف نفسَه بأنه أحد «المكفوفين البصريِّين». أتساءل: هل كان ثمة شيءٌ يمكننا أن نُعدَّه تجربةً نموذجية للعمى؟
***
دينيس شولمان، اختصاصيٌّ نفسي سريري ومحلِّل نفسي، يُحاضر في موضوعات عن الكتاب المقدس، وهو رجلٌ لطيف، وممتلئ الجسد، وذو لحية في الخمسينيات من عمره، فقدَ بصره تدريجيًّا في سنِّ المراهقة، وأصبح أعمى تمامًا تزامنًا مع التحاقه بالكلية. عندما التقَينا قبل بِضع سنوات، أخبرني أن تجرِبته كانت مختلفةً تمامًا عن تجربة هال:
ما زلتُ أعيش في عالم بصَري بعد خمسة وثلاثين عامًا من فقدان البصر. فلديَّ ذِكريات وصورٌ بصرية شديدةُ الوضوح. وأفكِّر بصريًّا في زوجتي التي لم أرَها قط. وفي أطفالي أيضًا. أرى نفسي بصَريًّا، ولكن كما رأيتها آخِر مرة عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، وإن كنتُ أحاول جاهدًا تحديثَ الصورة. غالبًا ما ألقي محاضراتٍ عامةً وتكون ملاحظاتي مكتوبةً بطريقة برايل، ولكن عندما أراجعها في ذهني، أرى الملاحظات المكتوبةَ بطريقة برايل بصريًّا؛ إنها صورٌ مرئية وليست لمسيَّة.
أخبرتني أرلين جوردون، اختصاصية اجتماعية سابقة في السبعينيات من عمرها، أن الأمور كانت مُشابهةً للغاية بالنسبة إليها. قالت: «لقد ذُهلت عندما قرأتُ [كتاب هال]. إن تجاربه مختلفةٌ تمامًا عن تجاربي.» وعلى غِرار دينيس، ما زالت تُعرِّف نفسَها من نواحٍ عديدة كشخصٍ بصري. قالت: «لديَّ إحساسٌ قوي جدًّا بالألوان. فأنا أختار ملابسي بنفسي. وأفكر في نفسي قائلةً: «أوه، هذا سوف يتماشى مع هذا أو ذاك» بمجرد أن يُخبرني أحدٌ بالألوان.» وقد كانت بالفعل ترتدي ملابسَ غايةً في الأناقة، وتتباهى بوضوح بمظهرها.
ذكَّرني تعليقُ أرلين بإيمي، وهي مريضة أُصيبت بالصمم بسبب الحمَّى القرمزية في سنِّ التاسعة، ولكنها كانت بارعةً للغاية في قراءة الشِّفاه لدرجة أنني غالبًا ما كنتُ أنسى أنها صمَّاء. ذاتَ مرة، عندما أشحتُ بوجهي بعيدًا عنها في شرودٍ أثناء حديثي معها، قالت بحدَّة: «لم أعُد أستطيع سَماعك.»
قلت: «تقصدين أنه لم يعد باستطاعتك رؤيتي.»
أجابت: «يُمكنك أن تُسميَها رؤية، لكنني أعتبرها سماعًا.»
على الرغم من أن إيمي صمَّاء تمامًا، كانت لا تزال تُكوِّن صوتَ الكلام في عقلها. وبالمثل، تحدَّث كلٌّ من دينيس وأرلين عن تعزيز في مستوى التصور البصري والتخيُّل منذ أن فقدَتا بصَرَيهما، وكذلك عمَّا بدا نقلًا أكثرَ جاهزيةً للمعلومات من الوصف اللفظي — أو من إحساسهما باللمس، أو الحركة، أو السمع، أو الشم — إلى شكلٍ مرئي. بدت تجارِبُهما عمومًا مشابهةً إلى حدٍّ كبير لتجرِبة توري، على الرغم من أنهما لم تستخدما قدراتهما على التصور البصريِّ استخدامًا منهجيًّا كما فعل، أو تُحاولا بوعيٍ إنشاءَ عالم افتراضي كامل من الرؤية.
•••
ماذا يحدث عندما لا تعود القشرة البصرية محدَّدةً أو مقيدة بأيِّ مدخلات بصرية؟ الجواب البسيط هو أن القشرة البصرية، عند عزلها عما بخارجها، تُصبح شديدة الحساسية للمثيرات الداخلية بجميع أنواعها؛ نشاطها المستقل، والإشارات الصادرة من مناطق الدماغ الأخرى — المناطق السمعية، واللمسية، واللفظية — والأفكار، والذكريات، والعواطف.
لعِب توري، على عكسِ هال، دورًا نشطًا للغاية في بناء تصوُّره البصري، وسيطر عليه من لحظة إزالة الضمادات من على عينَيه. ربما كان هذا لأنه كان بالفعل معتادًا تمامًا على التصور البصري، واعتاد التعامل معه بطريقته الخاصة. فنحن نعلم أنَّ توري كان ذا نزعةٍ بصرية كبيرة قبل الحادث الذي تعرَّض له، وأنه كان ماهرًا منذ الصِّبا في بناء روايات بصرية استنادًا إلى سيناريوهات الأفلام التي كان والده يُعطيه إياها. (ليس لدينا معلوماتٌ كهذه عن هال؛ لأنه لم يبدأ في كتابة يوميَّاته إلا عندما أصبح كفيفًا.)
تطلَّب الأمر من توري شهورًا من الانضباط المعرفي المكثَّف والمكرَّس لتحسين تصوُّره البصري، الأمر الذي جعله أكثرَ تماسكًا، وأكثرَ استقرارًا، وأكثر مرونةً، بينما بدا أن لوسيران قد نجح في هذا منذ البداية تقريبًا. ربما يرجع هذا إلى أن لوسيران لم يكن قد بلغ الثامنة من عمره عندما أُصيب بالعمى (بينما كان توري في الحادية والعشرين)؛ ومن ثَم كان دماغه أكثرَ قدرةً على التكيف مع الحادث الطارئ الجديد والقاسي. لكن القدرة على التكيُّف لا تنتهي مع بلوغ مرحلة الشباب. فمن الواضح أن أرلين، التي أصيبَت بالعمى في الأربعينيات من عمرها، كانت قادرةً أيضًا على التكيف بطُرقٍ جذرية تمامًا؛ إذ طوَّرَت لديها القدرة على «رؤية» يدَيها تتحركان أمامها، و«رؤية» كلمات الكتب التي تُقرَأ لها، وتكوين صورٍ بصرية مفصَّلة من الأوصاف اللفظية. ثَمة شعورٌ بأن تكيُّف توري قد تشكَّل إلى حدٍّ كبير بالدافع والإرادة والغرض الواعين، وأن تكيُّف لوسيران قد تشكَّل بنزعةٍ فسيولوجية جارفة، وأن أرلين في مكانٍ ما بينهما. في غضون ذلك، لا يزال أمرُ هال غامضًا.
•••
إلى أي مدًى تعكس هذه الاختلافات استعدادًا كامنًا مستقلًّا عن فقدان البصر؟ هل يحتفظ المبصرون، الذين يُجيدون التخيلَ ولديهم قدرةٌ قوية على التصور البصري، بقدراتهم على التصور أو حتى يُعززونها إذا أصيبوا بالعمى؟ على الجانب الآخر، هل يميل أولئك الذين لا يُجيدون التخيل إلى التحول نحو «العمى العميق» أو الهلاوس إذا فقدوا بصرهم؟ ما نطاق التصور البصري لدى المبصرين؟
كانت والدتي تأمُل في أن أسيرَ على خُطاها وأصبح جرَّاحًا، ولكن عندما أدركتُ مدى افتقاري للقدرات البصرية (ومدى حَماقتي وافتقاري للمهارة الميكانيكية أيضًا) استسلمتُ لفكرة أنني يجب أن أتخصَّص في شيءٍ آخر.
قبل بضع سنوات، خلال مؤتمر طبِّي في بوسطن، تحدَّثت عن تجرِبة توري وهال مع فقدان البصر، وكيف بدا توري «مُمكَّنًا» من خلال قدرات التصور التي طوَّرها، وكيف كان هال «عاجزًا» — في بعض النواحي، على الأقل — بسبب فقدان قدراته على التصور البصري والتذكر. بعد حديثي، جاءني رجلٌ من الجمهور وسألني عن مدى قدرة المبصرين على تدبُّر أمورهم، في تقديري، في حال افتقارهم للقدرة على التصور البصري. وأردفَ أنه ليس لديه تصورٌ بصري بأي شكل، على الأقل ليس على النحو الذي يُمكنه استحضارُه عمدًا، وأنه لا يوجد أحدٌ في عائلته لديه تلك القدرةُ أيضًا. في الواقع، لقد افترض أن هذا هو الحال مع الجميع، حتى شارَك في بعض الاختبارات النفسية، عندما كان طالبًا في جامعة هارفارد، وأدرك أنه يفتقرُ على ما يبدو إلى قدرةٍ عقلية يتمتع بها جميع الطلاب الآخرون، بدرجاتٍ متفاوتة.
سألتُه مُتعجبًا مما كان بإمكان هذا الرجل المسكين فعلُه: «وما عملُك؟»
أجاب: «أنا جرَّاح. جرَّاح أوعية دموية. وعالم تشريح أيضًا. وأصمِّم ألواحًا شمسية.» سألته كيف كان يدرك ما كان يراه؟
أجاب: «إنها ليست مشكلة. أعتقد أنه لا بد أن هناك تمثيلاتٍ أو نماذجَ في الدماغ تتطابق مع ما أراه وأفعله. لكنها ليست واعية. لا يُمكنني استحضارها.»
بدا هذا مُتعارضًا مع تجرِبة والدتي؛ فقد كان واضحًا أن لديها تصورًا بصريًّا قابلًا للمعالجة بسهولة ويتميَّز بالوضوح، على الرغم (كما بدا الآن) من أن هذا ربما كان ميزةً إضافية رفاهية، وليس مطلبًا أساسيًّا لمسيرتها المهنية كجرَّاحة.
هل هذا هو الحال أيضًا مع توري؟ هل تصوُّره البصري الذي طوَّره كثيرًا لا يُعدُّ ضرورةً أساسية كما اعتبره، على الرغم من أنه من الواضح أنه كان مصدرًا لقدرٍ كبير من المتعة؟ هل كان، في الواقع، قادرًا على فعل كلِّ ما فعله، من النجارة إلى إصلاح السقف إلى عمل نموذج للعقل، دون أي تصور واعٍ على الإطلاق؟ هو نفسه يطرح هذا السؤال.
استُكشف دور التصور الذهني في التفكير على يدِ فرانسيس جالتون في كتابه الصادر عام ١٨٨٣ «تحقيقات في القدرة البشرية وتطورها». (كان جالتون، وهو ابن عم لداروين، غيرَ قابل للسيطرة ومتوسِّعًا في المجالات المختلفة، ويتضمَّن كتابه فصولًا حول موضوعات متنوعة مِثل بصمات الأصابع، وتحسين النسل، وصافرات الكلاب، والإجرام، والتوائم، والتصاحب الحسِّي، والقياسات النفسية، والعبقرية الوراثية). أخذ تحقيقه في الصور البصرية غيرِ المتعمَّدة شكلَ الاستبيان بأسئلةٍ على غِرار «هل يمكنك أن تتذكر بوضوح ملامحَ جميع معارفك المقرَّبين والعديد من الأشخاص الآخرين؟ هل تستطيع وقتما شئتَ جعل صورتك الذهنية … تجلس، أو تقف، أو تستدير ببطء؟ هل يمكنك … رؤيتها بوضوح يكفي ليُمكِّنك من رسمها بتأنٍّ (على فرض أنك تُجيد الرسم)؟» لم يكُن جرَّاح الأوعية الدموية ليجتاز مثل هذه الاختبارات؛ في الواقع لقد كانت مثل هذه الأسئلة تصدمه عندما كان طالبًا في هارفارد. ومع ذلك، ما مدى أهميَّة ذلك في النهاية؟
فيما يتعلق بأهمية مثل هذا التصور، فإن جالتون غامض وحذِر. ففي لحظة يُشير إلى أن «رجال العلم، كطبقة، لديهم قدراتٌ ضعيفة على التمثيل البصري»، وفي لحظةٍ أخرى يُشير إلى أن «القدرة على التصور الواضح لها أهميةٌ كبيرة فيما يتعلق بالعمليات العليا للأفكار المعمَّمة». إنه يرى «أن الحقيقة بلا شك هي أن الميكانيكيين، والمهندسين، والمعماريين عادةً ما يملكون ملَكةَ رؤية الصور الذهنية بوضوح ودقة ملحوظَين»، لكنه يُضيف قائلًا: «ومع ذلك، لا بد لي أن أقول إنه يبدو أن الملَكة المفقودة يحلُّ محلَّها بطريقةٍ عملية للغاية طُرقُ تصورٍ أخرى … حتى إن الأشخاص الذين يعتبرون أنَّ لديهم قصورًا تامًّا في القدرة على رؤية الصور الذهنية يمكنهم، برغم ذلك، تقديم أوصاف حيَّة لما شاهَدوه، ويمكنهم التعبير عن أنفُسهم بطريقةٍ أخرى كما لو كانوا وُهِبوا خيالًا بصريًّا حيًّا. يمكنهم أيضًا أن يُصبحوا رسَّامين يحظَون بعضوية الأكاديمية الملكية للفنون.»
في كتابه «الصورة والواقع: كيكولي، وكوب، والخيال العلمي»، يُوضح آلان روك الدورَ الجوهري لمثل هذه الصور أو النماذج في الحياة الإبداعية للعلماء، وخاصةً الكيميائيِّين في القرن التاسع عشر. ويركِّز بصورةٍ خاصة على أوجست كيكولي وحُلم اليقظة الشهير، حيث كان يستقلُّ حافلةً من حافلات لندن، الذي قاده لتصوُّر بِنْية جُزيء البنزين، وهو مفهومٌ كان من شأنه أن أحدث ثورةً في الكيمياء. على الرغم من أن الروابط الكيميائية غيرُ مرئية، فقد كانت حقيقيةً لكيكولي، ويمكن تخيلُها بصَريًّا، شأنها شأن خطوط القوة حول المِغناطيس لفاراداي. وقد قال كيكولي عن نفسه إنه كانت لديه «حاجة لا تُقاوَم إلى التصور.»
في الواقع، يمكن أن يكون من الصعب الاستمرارُ في حديث عن الكيمياء من دون هذه الصور والنماذج، وقد كتب الفيلسوف كولين ماكجين في كتابه «رؤية العقل»: «إن الصور ليست مجردَ تبايناتٍ طفيفة في الإدراك والفكر ذات أهمية نظرية لا تُذكَر، بل هي فئةٌ عقلية قوية بحاجة إلى تحقيقٍ مستقل … والصور الذهنية … يجب أن تُضاف كفئةٍ ثالثة كبرى … إلى الركيزتين المتلازمتين؛ الإدراك والمعرفة.»
عندما أتحدَّث إلى الناس، سواءً مكفوفين أو مبصِرين، أو عندما أحاول التفكير في تمثيلاتي الداخلية، أجد نفسي غيرَ متأكدٍ مما إذا كانت الكلمات، والرموز، والصور بأنواعها المختلفة هي الأدواتِ الأساسيةَ للتفكير، أو أنَّ هناك أشكالًا فِكرية سابقة لكلِّ هذا؛ أي أشكالًا من التفكير لانمطية في الأساس. تحدَّث علماء النفس في بعض الأحيان عن «اللغة الاصطناعية» أو «اللغة العقلية»، التي يتصوَّرون أنها اللغة الخاصة بالدماغ، وقد اعتاد عالم النفس الروسي الكبير ليف فيجوتسكي الحديثَ عن «التفكير بمعانٍ بَحتة». لا يمكنني أن أقرِّر ما إذا كان هذا هُراءً أو حقيقةً عميقة؛ فهذا هو الحاجز الشائك الذي ينتهي بي الحال عنده عندما أفكِّر في عملية التفكير.
كان جالتون نفسُه في حَيرةٍ من أمره بشأن التصوُّر البصري؛ فقد كان له نطاقٌ هائل، وعلى الرغم من أنه في بعض الأحيان بدا جزءًا أساسيًّا من التفكير، فقد بدا في أحيانٍ أخرى لا علاقة به. وقد كانت حالةُ عدم اليقين هذه السِّمةَ المُميزة للجدل حول الصور الذهنية منذ ذلك الحين. فقد اعتقد أحدُ معاصري جالتون، وهو عالم النفس التجريبيُّ فيلهلم فونت، مُسترشدًا بالاستبطان، أن التصور جزءٌ أساسي في التفكير. وزعم آخرون أن التفكير خالٍ من الصور ويتألَّف بالكامل من افتراضاتٍ تحليلية أو وصفية، بينما لم يعتقد السلوكيون في التفكير على الإطلاق؛ فهم لا يعترفون بشيء سوى «السلوك». هل كان الاستبطان وحده طريقةً موثوقة للملاحظة العِلمية؟ هل كان من الممكن أن يُسفر عن بياناتٍ متَّسقة، قابلة للتَّكرار، وقابلة للقياس؟ لم يكن قبل أوائل سبعينيَّات القرن العشرين حين تصدَّى جيلٌ جديد من علماء النفس لهذا التحدي. فقد طلب روجر شيبرد وجاكلين ميتزلر من المشاركين في إحدى التَّجارِب أداءَ مهامَّ عقليةٍ تتطلب تدوير صورة لشكلٍ هندسي في أذهانهم، ذلك النوع من التدوير التخيلي الذي قامت به والدتي عندما رسمَت الهيكل العظمي للسحلية من الذاكرة. وقد استطاعا في هذه التجارِب الكمية الأولى أن يُقررا أن تدويرَ صورةٍ ما يأخذ مِقدارًا محدَّدًا من الوقت، وهو مقدارٌ يتناسب مع درجة الدوران. على سبيل المثال، استغرق تدويرُ صورة بمقدار ستين درجةً ضِعف المدة التي استغرقها تدويرُها بمقدار ثلاثين درجة، واستغرق تدويرها بمقدار تسعين درجة مدةً أطولَ ثلاث مرَّات. كان للتدوير الذهني معدَّل، وكان مستمرًّا وثابتًا، وتطلَّب جهدًا مثل أي فِعل إرادي آخر.
اقتحم ستيفن كوسلين موضوع التصوير البصري من زاويةٍ أخرى، وفي عام ١٩٧٣ نشر ورقةً بحثية إبداعية تتناقض مع أداء «المصوِّرين» و«اللفظيِّين» الذين طُلِب منهم تذكُّر مجموعة من الرسومات التي عُرِضت عليهم. افترض كوسلين أنه إذا كانت الصور الداخلية مكانيةً ومنظمة مثل الصور الفعلية، فمن المفترض أن يكون «المصوِّرون» قادرين على التركيز بصورةٍ انتقائية على جزءٍ من الصورة، وأن الأمر سيتطلَّب منهم وقتًا لتحويل انتباههم من أحد أجزاء الصورة إلى آخَر. ورأى أن الوقت المطلوب سيكون مُتناسبًا مع المسافة التي يتعيَّن على عين العقل اجتيازها.
اقترحَت الدراسات السريرية أيضًا أن الإدراك والتصور يتشاركان أساسًا عصبيًّا مشتركًا في الأجزاء البصرية من الدماغ. في عام ١٩٧٨، حكى إدواردو بيسياك وكلاوديو لوزاتي في إيطاليا عن حالتَين لمريضين أُصيب كِلاهما بعمًى شِقِّي بعد سكتةٍ دماغية، ولم يستطيعا الرؤية على الجانب الأيسر. عندما طُلب منهما أن يتخيَّلا نفسَيهما يسيران في شارعٍ مألوف وأن يصفا ما يرَيانه، ذكرا فقط المتاجرَ على الجانب الأيمن من الشارع، ولكن عندما طُلب منهما بعد ذلك تخيُّل الاستدارة والسير عائدَين، وصفا المتاجر التي لم «يرَياها» من قبل، وهي المتاجر التي كانت الآن على الجانب الأيمن. أظهرت هاتان الحالتان اللتان فُحصتا جيدًا أن العمى الشقِّي قد لا يُسبب شطرًا للمجال البصري فحسب، بل شطرًا للتصور البصري كذلك.
ترجع مِثل هذه الملاحظات السريرية إلى أوجُه الشَّبه بين الإدراك البصري والتصوُّر البصري إلى قرنٍ فائت على الأقل. ففي عام ١٩١١، فحص عالمَا الأعصاب الإنجليزيان هنري هيد وجوردون هولمز عددًا من المرضى أُصيبوا بتلفٍ طفيف في الفصوص القذالية، وكان تلفًا لم يؤدِّ فقط إلى فقدانٍ كلِّي للبصر، ولكن أدَّى أيضًا إلى تكوُّن بُقَع عمياء داخل المجال البصري. ووجدا، من خلال استجواب مَرْضاهما بعناية، أن تلك البُقع العمياء قد تكوَّنَت في المواقع نفسِها تمامًا التي ظهرت فيها لدى مرضى التصوُّر الذهني كذلك. وفي عام ١٩٩٢، ذكرت مارثا فراح وآخَرون أن الزاوية البصَرية لعين العقل لدى مريض، كان قد فقدَ الرؤية الجزئية في أحد الجانبَين نتيجةَ استئصال الفصِّ القذالي، انخفضَت أيضًا بطريقةٍ مُتوائمة تمامًا مع فقدانه الإدراكي.
***
***
قد يكمُن هذا النوع من التنشيط عبر الحواس وراء حقيقة أن بعض المكفوفين، مثل دينيس شولمان، «يرون» بطريقة برايل بينما يقرَءونها بأصابعهم. قد يكون هذا أكثرَ من مجرد وهم أو استعارةٍ خيالية؛ فقد يكون انعكاسًا لما يحدُث بالفعل في دماغه؛ إذ يوجد دليلٌ قوي على أن القراءة بطريقة برايل يمكن أن تؤدِّيَ إلى تنشيطٍ قوي للأجزاء البصرية من القشرة، كما بيَّن ساداتو، وباسكوال ليون، وآخرون. ومثل هذا التنشيط، حتى في غياب أيِّ مدخلات من شبكية العين، قد يُشكل جزءًا جوهريًّا من الأساس العصبي لعين العقل.
تحدَّث دينيس كذلك عن كيف أدَّى تعاظُم قوة حواسِّه الأخرى إلى زيادة حساسيته لأدقِّ الفروق في كلام الآخرين وتقديمهم لأنفسهم. فقال إنه كان يُمكنه التعرفُ على العديد من مَرْضاه عن طريق الرائحة، ويمكنه في كثيرٍ من الأحيان اكتشافُ حالات التوتر أو القلق التي قد لا يكونون حتى على دراية بها. شعر أنه أصبح أكثرَ حساسية بكثير للحالات العاطفية للآخرين منذ أن فقدَ بصره؛ لأنه لم يعد ينخدع بالمظاهر البصرية، التي يعرف معظمُ الناس كيفيةَ إخفائها. على النقيض من ذلك، كان يشعر أن الأصوات والروائح من شأنها أن تكشف عن أعماق الناس.
يُتيح اشتداد قوة الحواسِّ الأخرى في حالات العمى عددًا من التكيفات الرائعة للغاية، بما في ذلك «الرؤية الوجهية»، وهي القدرة على استخدام منبِّهات الصوت أو اللمس للشعور بشكل أو حجم حيزٍ ما، والأشخاص أو الأشياء فيه.
كتب مارتن ميليجان، الفيلسوف الذي أُزيلت كِلتا عينَيه في سنِّ الثانية (بسبب ورم خبيث) عن تجرِبته الخاصة يقول:
إن الأشخاص الذين يُولَدون مكفوفين ويتمتَّعون بسمعٍ طبيعي لا يسمعون الأصوات فحسب، بل يُمكنهم سماعُ الأشياء (أي إن لديهم وعيًا بها، في الأساس من خلال آذانهم) عندما تكون في متناول اليد إلى حدٍّ ما، شريطةَ ألا تكونَ هذه الأشياء في وضعٍ منخفض للغاية، ويمكنهم أيضًا بالطريقة نفسِها «سماعُ» بعض من شكل محيطهم المباشر … أما الأشياء الصامتة، كأعمدة الإنارة والسيارات المُتوقفة التي لا تعمل مُحركاتها، فيمكنني سماعها عندما أقترب منها وأمرُّ بها بوصفها شواغل للفراغ تجعل الغلاف الجويَّ سميكًا؛ ويرجع ذلك بشكلٍ شبهِ مؤكَّد إلى الطريقة التي تمتصُّ و/أو تردد بها أصوات وَقْع أقدامي والأصوات الصغيرة الأخرى … ليس من الضروري عادةً أن يُصدر الشيء صوتًا في حدِّ ذاته للوعي به، وإن كان ذلك يُفيد. فقد تؤثر الأشياء في مستوى الرأس قليلًا على التيارات الهوائية التي تصل إلى وجهي، ما يُساعدني في الوعي بها، وهذا هو السبب وراء أن بعض المكفوفين يُشيرون إلى هذا النوع من الوعي بالإحساس بوصفه حاستَهم «الوجهية».
تميل الرؤيةُ الوجهية إلى التطور إلى أقصى حد لدى أولئك الذين يولَدون مكفوفين أو يفقدون بصرَهم في سنٍّ مُبكرة؛ فقد تطوَّرت إلى حدٍّ جيد للغاية لدى الكاتب فيد ميهتا، الذي أصبح أعمى منذ سنِّ الرابعة، لدرجة أنه يمشي بثقة وبسرعة بدون عصًا، ويصعب أحيانًا على الآخرين إدراكُ أنه كفيف.
غالبًا ما يقول المكفوفون إن استخدام العصا يُمكِّنهم من «رؤية» محيطهم؛ إذ يتحول اللمس والحركة والصوت على الفور إلى صورةٍ «بصرية». فالعصا تعمل كبديل أو امتدادٍ حسِّي. ولكن هل من الممكن منحُ شخص كفيف صورةً أكثر تفصيلًا للعالم باستخدام تقنياتٍ أحدث؟ كان بول باخ واي ريتا رائدًا في هذا المجال، وأمضى عُقودًا في اختبار جميع أنواع البدائل الحسِّية، ولو أن اهتمامه الخاصَّ يكمُن في تطوير الأجهزة التي يمكنها مساعدة الكفيف باستخدام الصور اللمسية. (في عام ١٩٧٢، نُشر كتابٌ بعيد النظر يستعرض جميع آليات الدماغ الممكنة التي قد يتمُّ من خلالها تحقيق الاستبدال الحسِّي. وأكَّد على أن مثل هذا الاستبدال يعتمد على مُرونة الدماغ، وكانت فكرة أن للدماغ مرونةً من الأساس مفهومًا ثوريًّا في ذلك الوقت.)
تساءل باخ واي ريتا عمَّا إذا كان بإمكان المرء توصيلُ مخرج كاميرا فيديو، نقطةً إلى نقطة، بالجلد للسَّماح للكفيف بتشكيل «صورة لمسية» لبيئته. كان يعتقد أن هذا قد يُجدي؛ لأن المعلومات اللمسية منظَّمة طبوغرافيًّا في الدماغ، والدقة الطبوغرافية ضروريةٌ لتشكيل صورة شِبه بصرية. في النهاية، بدأ في استخدام شبكات صغيرة من مائة أو نحو ذلك من الأقطاب الكهربائية على ذلك الجزء الأكثرِ حساسيةً من الجسم، وهو اللسان. (اللسان هو الأعلى كثافةً من بين المستقبلات الحسِّية في الجسم، ويحتلُّ كذلك أكبرَ قدر من المساحة، نسبيًّا، في القشرة الحسِّية. وهذا يجعله مناسبًا على نحوٍ فريد للاستبدال الحسي). باستخدام هذا الجهاز، الذي يُعادل حجمه حجمَ طابَع بريد، استطاع مَرضاه تكوينَ «صورة» بسيطة، ولكنها مفيدة على اللسان نفسه.
على مرِّ السنين، زاد تعقيد مثل هذه الأجهزة إلى حدٍّ كبير، وأصبحت النماذج الأولية الآن تفوق في دقتها نسخةَ باخ واي ريتا المُبكرة بأربع إلى ستِّ مرَّات. فقد حل محلَّ كابلات الكاميرات الضخمة نظَّاراتٌ تحتوي على كاميرات مصغَّرة؛ ما يُتيح للمستخدمين توجيهَ الكاميرات بحركة رأس أكثرَ طبيعيةً. وهكذا، يمكن للأشخاص المكفوفين المشيُ عبر غُرفة ليست شديدةَ الفوضى، أو التقاط كرة تتدحرج نحوَهم.
هل يعني هذا أنهم الآن «يرون»؟ لا شكَّ أنهم يُظهرون ما يُسميه السلوكيُّون «السلوك البصري». فقد تحدَّث باخ واي ريتا عن كيف أن أفراد بحثه «يتعلمون [أو تعلَّموا] إصدارَ تقديراتٍ إدراكية باستخدام وسائل التفسير البصرية، مثل المنظور، والإزاحة، والتلويح، واستخدام عدسة التكبير، وتقديرات العمق.» شعرَ العديدُ من هؤلاء الأشخاص كما لو أنهم يرَون مرةً أخرى، وأظهر التصويرُ بالرنين المغناطيسي الوظيفي تنشيطاتٍ قويةً للمناطق البصرية في أدمغتهم عندما كانوا «يرون» بالكاميرا. (حدَثَت «الرؤية» تحديدًا عندما استطاع أفرادُ البحث تحريكَ الكاميرا إراديًّا، موجِّهين إياها هنا أو هناك، و«ناظرين» من خلالها. كان النظر عاملًا جوهريًّا؛ إذ لا يوجد إدراكٌ من دون فعل، فلا رؤية من دون نظر.)
•••
يعتبر كتاب «عن العمى» مجموعةً متبادلةً من الخطابات بين الفيلسوف الكفيف مارتن ميليجان وفيلسوفٍ مبصِر، وهو بريان ماجي. بينما يبدو عالَمه غيرُ البصري متماسكًا ومتكاملًا بالنسبة إليه، يُدرك ميليجان أن المُبصرين يمكنهم الوصول إلى حاسةٍ ما، طريقةٍ للمعرفة، حُرِم منها. ولكنه يُصرُّ على أن المكفوفين خِلقيًّا يمكنهم (وهو ما يحدُث عادةً) أن يكون لهم تجارب إدراكية ثريَّة ومتنوعة، يكون الوسيط فيها هو اللغةَ ونوعًا غيرَ بصَري من التصور. ومن ثَم قد يكون لديهم «أذُنُ عقل» أو «أنفُ عقل». ولكن هل لديهم عينُ عقل؟
هنا لا يستطيع ميليجان وماجي التوصلَ إلى اتفاق. فيُصرُّ ماجي على أن ميليجان، كونه رجلًا كفيفًا، لا يمكن أن يكون لديه أيُّ معرفةٍ حقيقية بالعالم البصري. بينما يُعارضه ميليجان ويؤكِّد أنه على الرغم من أن اللغة تصف فقط الأشخاصَ والأحداث، فإنَّ مِن شأنها في بعض الأحيان أن تحلَّ محل الخبرة أو المعرفة المباشرتين.
وقد لوحظ في كثيرٍ من الأحيان أن الأطفال المكفوفين خِلقيًّا يميلون إلى امتلاكِ ذكرياتٍ أرقى، ويميلون كذلك إلى النطق المبكِّر. وقد يُطورون مثل هذه الطلاقة في الوصف اللفظي للوجوه والأماكن لدرجةٍ تجعل الآخرين (وربما تجعلهم هم أنفسهم) غيرَ متأكِّدين مما إذا كانوا مكفوفين بالفعل. فكتابة هيلين كيلر، كمثالٍ شهير، تُدهش المرء بجودتها البصرية الرائعة.
أحببتُ قراءة كتابي «غزو المكسيك» و«غزو بيرو» لبريسكوت عندما كنتُ صبيًّا، وشعرت أنني «رأيت» هذه الأراضيَ من خلال أوصافه البصرية العميقة التي تكاد تقترب من الهلاوس. وقد اندهشتُ حين اكتشفت، بعد سنوات، أن بريسكوت لم يسبق له زيارةُ المكسيك أو بيرو فحسب، بل إنه أيضًا كان في الواقع كفيفًا منذ سنِّ الثامنةَ عشرة. فهل عوَّض فقدانَه للبصر، على غِرار توري، بتطويرِ قدراتٍ هائلة على التصور البصري، أم إن أوصافه البصرية الرائعةَ كانت مُحاكاةً، بطريقةٍ ما، حقَّقَتها القدرات التصويرية والتعبيرية للغة؟ إلى أي مدًى يمكن للوصف، أي التصوير بالكلمات، أن يوفِّر بديلًا للرؤية الفعلية أو للخيال البصري التصويري؟
بعد أن أصبحَت أرلين جوردون كفيفةً في الأربعينيات من عمرها، وجدَت أن أهمية اللغة والوصف في تزايُد؛ إذ حفَّزا قدراتها على التصور البصري كما لم يحدث من قبل، وساعداها بشكلٍ ما على الرؤية. فقد قالت لي: «أحبُّ السفر. لقد «رأيت» مدينة البندقية عندما كنتُ هناك.» وشرحتْ كيف يصفُ رفاقها في السفر الأماكن؛ ومن ثَم تبنِّي صورة بصرية من هذه التفاصيل، ومن قراءاتها، وذكرياتها البصرية. وفي ذلك قالت: «يستمتع المبصِرون بالسفر معي. إذ أطرح عليهم الأسئلة، ثم ينظرون ويرَون أشياء لم يكونوا ليَرَوها. ففي كثير من الأحيان لا يرى المبصرون أيَّ شيء! إنها عمليةٌ تبادلية، فكلٌّ منا يُثري عوالم الآخر.»
ثَمة مفارقةٌ هنا — وهي مفارقةٌ لذيذة — لا يُمكنني فَهمها: إذا كان هناك بالفعل فرقٌ جوهري بين التجرِبة والوصف، بين المعرفة المباشرة والوسيطة للعالم، فكيف يمكن للُّغة أن تكون بذلك التأثير القوي؟ يمكن للُّغة، ذلك الابتكارِ ذي الطابَع البشري إلى أبعد حد، أن تجعل المستحيل، نظريًّا، مُمكنًا. فمن شأنها أن تُمكِّننا جميعًا، حتى المكفوفين خِلقيًّا، من الرؤية بعينَي شخصٍ آخر.
هوامش
بقدرِ ما أتذكَّر، كانت الأعداد والكلمات تحفز لديَّ الألوان على الفور … العدد ٤، على سبيل المثال، [هو] اللون الذهبي. والعدد خمسة هو الأخضر الفاتح. والعدد تسعة هو القِرمزي … كما كان لأيام الأسبوع وكذلك الأشهُر ألوانُها الخاصة. وقد رتَّبتها في تكويناتٍ هندسية، قطاعات دائرية، تُشبه الفطيرة بعضَ الشيء. وعندما أحتاج إلى تذكرِ يوم وقوع حدثٍ معيَّن، فإن أول شيء ينبثق على شاشتي الداخلية هو لون اليوم، ثم موضعه في الفطيرة.
يتحدث عالم النفس جيروم برونر عن مثل هذا التصور باعتباره «تفاعليًّا» — سِمة أساسية لا تتجزَّأ من الأداء (سواءٌ كان حقيقيًّا أو خياليًّا) — على النقيض من التصور «الأيقوني»؛ أي تصور شيء خارج الذات. فآليات الدماغ الكامنة وراء هذين النوعَين من التصور مختلفة تمامًا.
في ستينيَّات القرن العشرين، خلال مدة تجرِبة جرعات كبيرة من الأمفيتامينات، تعرَّضتُ لنوع مختلِف من التصور الذهني الواضح. يمكن أن ينتجَ عن الأمفيتامينات تغيراتٌ إدراكية مُذهلة وتعزيزات مُثيرة للتصور البصري والذاكرة (كما وصفت في «الكلب تحت الجلد»، وهو فصلٌ في كتاب «الرجل الذي حسب زوجتَه قبعة»). على مدى أسبوعين أو نحو ذلك، وجدتُ أن كل ما عليَّ هو النظر إلى صورة أو عينةٍ تشريحية، وستظل صورتها حيةً وثابتة في ذهني لساعات. يمكنني أن أعرِض الصورة ذهنيًّا على قطعة من الورق — كانت واضحة ومميزة كما لو كانت معروضةً بواسطة حجرة مضيئة — وأن أتتبع حدودها بقلم. لم تكن رسوماتي رائعة، ولكنها، حسبما اتفق الجميع، كانت مفصلةً ودقيقة تمامًا. ولكن عندما تلاشت الحالة التي أنتجَها الأمفيتامين، لم أعُد أستطيع التصور، لم أعُد أعرض الصور، لم أعد أرسم، ولم أتمكن من ذلك في العقود التالية. لم يكن هذا كالتصور الإرادي؛ فلم أستدعِ الصور إلى ذهني أو أبنِها شيئًا فشيئًا. كان شيئًا لا إراديًّا وتلقائيًّا، أقربَ إلى ذاكرة استحضارية أو «فوتوغرافية»، أو إلى التكرُّر المرئي، وهو استدامة مبالغة للرؤية.
تُعزى متلازمةُ أنطون أحيانًا إلى الاحتفاظ ببعض التصور البصري على الرغم من وجود تلف قذالي، ولخلط المرضى بين هذا التصور وبين الإدراك. ولكن قد تكون هناك آلياتٌ أخرى أغربُ فاعلة. يُعَد إنكار العمى — أو على نحوٍ أكثر دقةً، عدم قدرة المرء على إدراك أنه فقدَ بصره — «متلازمة انفصال» أخرى محتملة للغاية، وتُعرَف باسم عمَه العاهة. في عمَه العاهة، الذي يحدُث بعد وقوع تلف في الفص الجداري الأيمن، يفقد المرضى وعيَهم بجانبهم الأيسر وبالنصف الأيسر من الفراغ، إلى جانب الوعي بوجود خلل في أي شيء. فإذا لفَت أحدٌ انتباههم إلى ذراعهم اليُسرى، فسيقولون إنها ذراعُ شخص آخر؛ «ذراع الطبيب»، أو «ذراع أخي»، أو حتى «ذراع شخص قد غادَر المكان». تبدو مثلُ هذه التخاريف مشابهة بطريقةٍ ما لتلك المصاحبة لمتلازمة أنطون، وهي محاولات لشرح وضع غريب لا يمكن تفسيرُه من وجهة نظر المريض.
إن الكِيانات النفسية التي يبدو أنها تعمل بوصفها عناصرَ في الفكر هي علاماتٌ معيَّنة وصورٌ واضحة نوعًا ما يمكن إعادة إنتاجها ودمجها «إراديًّا» … [بعضها]، في حالتي، من النوع البصري وبعضها من النوع العضلي. ويستلزم الأمر البحثَ بجهد ومشقة عن الكلمات أو الإشارات الأخرى فقط في المرحلة الثانية.
وصف هال شيئًا مُشابهًا لهذا حدَث مدةً من الوقت بعد أن فقدَ آخر جزء من بصره:
بعد نحو عام من إعلاني كفيفًا رسميًّا، بدأتُ أرى مثل هذه الصور القوية التي بدَت فيها وجوهُ الأشخاص كما لو كانت هلاوس … كنتُ أجلس في غرفة مع شخصٍ ما، ووجهي متَّجِه نحو رفيقي، وأستمع له. فجأةً، تُومض مثلُ هذه الصورة الحية أمام عقلي كما لو كنت أنظر إلى جهاز تلفزيون. كنت أقول لنفسي آه ها هو، بنظارته، ولحيته الصغيرة، وشعره المموَّج، وبذلته المقلَّمة الزرقاء، وياقته البيضاء، وربطة عنقه الزرقاء … ثم تتلاشى هذه الصورةُ ويُعرَض مكانها صورةٌ أخرى. أصبح رفيقي الآن سمينًا، ويتصبَّب عَرقًا، وذا شعرٍ مُنحسر للوراء. كان يرتدي ربطةَ عُنق حمراء، وصدرية، وقد فقد بعض أسنانه.
على سبيل المثال، عندما أفكر في سيارة، على الرغم من أن صوري الكائنة في صدارة عقلي هي للمسةٍ حديثة لغطاءِ محرِّك سيارة دافئ، أو لشكل السيارة بينما أتحسَّس طريقي إلى مقبض الباب، فإنَّ هناك أيضًا آثارًا لمظهر السيارة بأكملها من صور السيارات في الكتب، أو من ذكريات لسياراتٍ قادمة وذاهبة. في بعض الأحيان، عندما يتصادف أن ألمسَ سيارةً حديثة، أندهشُ من اكتشافي أن تتبُّع الذاكرة هذا لا يتوافق مع الواقع، وأن السيارات ليست بالشكل نفسِه التي كانت عليه قبل خمسة وعشرين عامًا.
ثَمة نقطةٌ ثانية. إن حقيقة وجود عنصر معرفة مدفون بعمق في الحاسة أو الحواس التي تتلقَّاه أولًا يعني بالنسبة إليَّ أنني لا أكون مُتأكدًا دائمًا مما إذا كانت صورتي بصريةً أو لا. المشكلة هي أن تلك الصور اللمسية لشكل الأشياء وملمسها يبدو في كثير من الأحيان أيضًا أنها تكتسب محتوًى بصريًّا، أو لا يستطيع المرء معرفةَ ما إذا كان شكل الذاكرة الثلاثي الأبعاد يتمثَّل ذهنيًّا من خلال صورة بصرية أم لمسية. لذلك حتى بعد كل هذه السنوات، لا يستطيع الدماغ فهمَ من أين تأتي مدخلاته.