حياة المرحوم أخي
مولده وحداثته
أبصر المرحوم أخي طانيوس النور في مدينة ليوبولدينا، من أعمال ولاية ميناس، التابعة لجمهورية البرازيل في الساعة السابعة من صباح الثلاثاء، الواقع في اليوم السابع من شهر آب سنة ١٩٠٠.
وقد أخبرني أبي بأن الوالدة مَرِضَتْ مَرَضًا عضالًا حينما كانت حاملًا به، ولم تحصل على الشفاء التام إلا بعد ولادته، وربما كان هذا المرض قد أَثَّرَ على مستقبل صحته.
وفي السنة الثالثة من عمره، جيء به من البرازيل إلى لبنان برفقة والديه، وعاش في البيت الأبوي في مسقط رأسنا شرتون، البلدة الواقعة في الجرد الجنوبي من قضاء الشوف.
كان — رحمه الله — العزيزَ الغاليَ على والديه وشقيقه وشقيقتيه؛ لأنه صغير العيلة، وكنارها المغرِّد، وحَسُّونها الجميل.
في المدرسة
دخل مدرسة القرية في السنة السابعة من عمره، ولم أزل أذكر أن الوالدة كانت تأخذه إليها بنفسها كل يوم، وكثيرًا ما حَمَلَتْه، لفرط حبها له.
وقد تعلَّم أصول القراءة والكتابة بسرعة فائقة، وأحبَّ المدرسة حبًّا جمًّا؛ حتى إنه لم يبرحها بلا سببٍ يومًا واحدًا.
حينما بلغ الحادية عشرة من عمره مرض بالحمى «التيفوس»، فاشتدت وطأتُها عليه، وأوشكت أن تودي بحياته، ولكنه عوفي منها بعد عناء طويل، وعادت إليه صحته.
في عامه الثاني عشر دخل مدرسة الحكمة المارونية، وأظهر رغبةً عظيمةً في تحصيل العلم، واجتهادًا خارقًا في مثابرته على دروسه، وذكاءً وقَّادًا، وقوةً كبرى في حافظته.
ولكنه لسوء الحظ لم يقم في مدرسة الحكمة إلا سنتين وبعض أشهر؛ لاستعار الحرب الكونية، وإقفال أبواب المدرسة في وَجْه طُلَّابها.
ترك المدرسة مُرْغَمًا في أواخر سنة ١٩١٤، وعاد إلى شرتون، ولشدة رغبته في العلم، كان أحيانًا يَؤُمُّ الصرح البطريركي الكاثوليكي في عين تراز؛ ليدرس على بعض الرهبان الأفاضل، ويتعلم منهم، ويمارس معهم التكلم باللغة الإفرنسية.
أقام مدة الحرب الكونية في البيت الأبوي، وبئس الذكرى ذكرى تلك الحرب المشئومة، التي كانت وبالًا على لبنان وعلى الإنسانية جمعاء.
ولقد أخبرني أحد الثقات بأن أخي كان في ذلك الحين — رغمًا من صغره — يحنو على الفقراء ويؤاتيهم، وكان يذهب بنفسه ويحمل قطعةً من الخبز وصحفةً من الحساء لجارةٍ أنهكها المرض والجوع، وأقعداها عن العمل.
وحدثتني إحدى النسيبات أيضًا — وهي لم تزل في قيد الحياة وقد عضَّها الجوع بنابه في أيام الحرب — بأن أخي كان دائمًا يُزوِّدها ببعض الأغذية لأولادها، ويعطيها كل ما تطلب منه.
نزوحه إلى المكسيك
عند انتهاء الحرب العالمية، كتب إليَّ إلى المكسيك بأنه يود السفر إلى حيث أنا نازل، أو الرجوع إلى المدرسة، فأجبته مشيرًا عليه بأن يعود لإتمام دروسه، ثم خيَّرته بين طلب العلم أو السفر.
يا أخي:
لا أرى بعد هذا السن من مسوِّغ للعودة إلى المدرسة؛ لأن موعد النزول إلى ساحة العالم قد حان، والعالم هو المدرسة الكبرى لمن بلغوا سني، وفضلًا عن ذلك، كن على ثقةٍ بأني سأساعدك في أشغالك مساعدةً فعالةً، وأتعلم منك ومن الناس الذين أعاشرهم ما يَنْقُصني من العلم، هذه هي مقاصدي، سأقوم بها إن شاء المولى الكريم.
وقد قام بها فعلًا خير قيامٍ — رحمه الله.
في منتصف شهر آب من سنة ١٩١٩ غادَرَ أخي لبنان قاصدًا المكسيك، مرافقًا لابن العم داود سليم الشرتوني.
وَصَلَ إلى العاصمة مكسيكو في أواخر شهر أيلول من تلك السنة، وكان عمره وقتئذٍ تسع عشرة سنةً، وأما يوم الْتقائي به، فكان أبهج يوم عَرَفْتُه في حياتي، كما أن يوم وفاته كان أشأم أيام عمري.
حياته التِّجارية
شرع منذ وصوله يشتغل معي في محلنا التجاري، ولم يَمْضِ عليه شهر واحد حتى أصبح يجيد التكلم باللغة الأسبانية، ويعرف البضائع الكثيرة المختلفة الأنواع والأشكال بأسمائها وأسعارها، فجعلته شريك النصف معي فورًا دون أن أُدَقِّق في اختباره؛ لأني لم أَرَ حاجةً إلى ذلك، بحيث وَجَدْته من أفضل الرجال سيرةً وسريرةً، ومن أنقاهم يدًا، وأعَفِّهم لسانًا، ومن أكثرهم ثباتًا في العمل، وأرجحهم في العقل وحسن التدبير.
وفاة الوالدة في الوطن وشدة التياعه عليها
في أوائل آذار من سنة ١٩٢٣ تَلَقَّيْنا عن الوطن كتابًا من الوالد الجليل، ينعي إلينا والدتنا الحنون، التي اخترمتها المنية في ٨ شباط من تلك السنة المشئومة، فوقع خبر وفاتها علينا وَقْع الصاعقة، خصوصًا على أخي، الذي كان يحب أمه حبًّا يَقْرُب من العبادة، ولا أزال أَذْكُر أنه مَرِضَ مرضًا شديدًا من جرَّاء فَقْدها، وشدة حُزْنِه عليها، زِدْ على ذلك، بَقِيَ كُلَّ حياته بعدها يُرَدِّد هذه العبارة: «لقد وَدَّعْت صَفْو العيش بَعْدَك يا أماه.»
عودتي إلى الوطن، وإظهار مقدرته ونبوغه
في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول سنة ١٩٢٣ غادرت المكسيك، قاصدًا لبنان، إجابة لِطَلَب الوالد الحنون، فودعت أخي بعد أن أَلْقَيْت على عاتقه مقاليد الأشغال كلها، فأخذ يدير بنفسه محلنا التجاري، ومَعَامِلَنا الواسعة، التي كانت تحوي ما يزيد على مائة وخمسين عاملًا بدقة ونظام عجيب، مع كونه في ذلك الحين كان لم يتجاوز بَعْدُ الثالثةَ والعشرين ربيعًا.
فشهد له المواطنون والأجانب بطول الباع في الإدارة، وحِدَّة الذكاء، والثبات النادر في تسيير الأشغال التِّجارية على أحسن ما يرام، حتى أصبح ممدوحًا بكل شفة ولسان، ومعدودًا من أَقْدَر رجال الأعمال، وأَحْسَنهم تدبيرًا بالنسبة إلى صِغَر سِنِّه واقتداره.
رجوعي إلى المكسيك مصحوبًا بعيلتي
في أوائل نيسان من سنة ١٩٢٨ تَلَقَّيْت كتابًا من النسيب خليل أسعد نادر الذي كان مُستخدَمًا في محلنا التجاري، يُلِحُّ عليَّ بالعودة إلى المكسيك؛ لأن أخي معتل الصحة، لا يستطيع القيام بأعباء أشغالنا. ثم اسْتَلَمْتُ تحريرًا من أخي ينبئني بأن الأطباء الذين فحصوه مُدَقَّقًا اتفقت كلمتهم على شفائه قريبًا.
وأما أنا فَلَمْ يَعُدْ يهنأ لي عيش في بيروت، فودَّعْتُ الوالد الحنون، وأبحرت إلى المكسيك في ١٦ نيسان سنة ١٩٢٨ مصحوبًا بعقيلتي وولدنا رفيق، الذي كان عمره حين ذاك سبعة أشهر لا غير.
وصَلْنا إلى مكسيكو في سبعة حزيران من السنة المذكورة، وكان استقبال أخي لنا استقبالًا حافلًا، وسرورُه بالتقائه بنا عظيمًا للغاية، وأما فرحه بولدنا رفيق كان لا يُحَدُّ ولا يوصف، وهكذا كانت مَحَبَّته له ولشقيقته سلوى، التي وُلِدَت في مكسيكو.
كان — رحمه الله — يعطف عليهما كثيرًا، ويُرَمِّقهما دائمًا بحنانه، وقد جاء على ذِكْرِهما مرارًا في ساعته الأخيرة.
بعد بضعة أيام من وصولنا ذَهَبْتُ وإياه نستشير بعض نطس الأطباء عن صحته، وبعد أن فحصوه فحصًا مدقَّقًا، ارْتَأَوْا أن يذهب إلى بلدة تواكان من أعمال ولاية بدابلا لأجل تغيير الهواء، والتماس الراحة التامة من عناء الأشغال، فذهب حالًا مصحوبًا بصديقه الحبيب ابن خالته عزيز، وبقي هناك شهرًا كاملًا، ثم عاد إلى العاصمة متمَتِّعًا بالصحة التامة.
مرضه الأخير – وفاته
في غرة شهر حزيران سنة ١٩٢٩ شعر أخي برشح بسيط، فأعطاه طبيب العيلة مسهلًا، وفي اليوم الثاني نزل إلى المحل التجاري، وقضى طيلة نهاره يشتغل فَرِحًا مسرورًا، لا يعلم ماذا تخبِّئ له الأقدار؛ لأنه أصبح في اليوم الثالث من شهر حزيران محمومًا، فجاء حالًا طبيب العيلة، وبعد أن فَحَصَهُ أشار علينا بوضع مُمَرِّضة له، ثم قال بأن مرضه بسيط جدًّا، وسيُشفَى قَبْلَ انتهاء الأسبوع.
وفي منتصف ليلة خامس حزيران طَلَبَني إلى سريره، فذهبت إليه، ثم تبعني الطبيب، وبعض الأقارب الذين جاءوا للسؤال عنه؛ ولتمضية السهرة عندنا، فجلس في فراشه، وأخذ يودعني، ويودع الحاضرين قائلًا لي: إن قوة إلهية أوحت إليه بأنه غدًا يموت، مع كونه كان يتقدم إلى الصحة، فأَخَذْنا نمازحه، ولم نعبأ بكلامه.
وفي اليوم الثاني — أعني في ٦ حزيران — دَهَتْه نوبةٌ قلبية أَوْدَتْ بحياته، فقضى مَبْكِيًّا على شبابه وحميدِ خِلَالِه، ليس فقط من أهله وذويه، بل من كل مَنْ عَرَفَه، وسمع به.
وفي اليوم السابع من شهر حزيران سِيرَ بنعشه إلى المدفن الإفرنسي باحتفالٍ مهيبٍ، مَشَتْ وراءه الجاليةُ اللبنانية السورية بأسرها، وشَيَّعَه جمهور غفير من المكسيكيين، وكبار رجال الأعمال الأجانب.
صفاته ورجاحة عقله وحبه للعلم
كان — رحمه الله رحمةً واسعةً — صادقًا، أبيَّ النفس، حُرًّا، عفيفًا، طاهر الذيل، لم يُسِئْ إلى أحدٍ في حياته.
وكان ذا عقل راجح، وأفكار سامية، ومبادئَ قويمة.
وكان يحب العلم مَحَبَّةً عظيمةً، ولو أمدَّ الله بعمره لترك التجارة وانصرف بكُلِّيَّته لاقتباسه؛ لأنه صرَّح لي بهذا مرارًا، وكان يقول دائمًا بأن أفضل الناس العلماء؛ لأنهم يضحون بنفوسهم لفائدة سواهم، وأما رجال المال فلا يضحون من أجل الناس بشيءٍ مذكور بالنسبة إلى أولئك.
أسكنه الله فسيح جناته، وألهمنا من بعده الصبر الجميل.