الرسالة التاسعة١
يا أخي:
أخالك حين قُلْتَ لي قبل وداعك الحياة: «اكتب يا توفيق، لقد خُلقتَ للكتابة.» قد أرَدْتَ أن تنشلني من عالم المادة إلى عالم الروح، وأحببت أن تُحَرِّرَني من رقِّ التجارة وعبودية المال؛ لأنك منذ قرأت كتابي «الحياة في لبنان» تَوَسَّمْتَ فيَّ التبريز في حلبة العلم وصناعة الأدب. وقد أظْهَرْتَ لي مرارًا إعجابك في بنات أفكاري، ووُلُوعَكَ في طريقتي الكتابية.
والآن أُعْلِمُك أني قيَّام بوصيتك، تركت التجارة منذ وفاتك، ولم أعد أحفل في كَسْب المال، بل في اكتساب صناعة الأدب، تلك الصناعة التي ابتغيتَها لي.
ابتدأت باسمك أَجُرُّ يراعي، وأخطُّ هذه الرسائل أناجيك بها لأستمد منك علمًا وعرفانًا، ولأُظهِر لك كيف أصبحْتُ بعدك مهيض الجناح، بلا أخٍ يأخذ بيدي في المُلِمَّات، ولا رفيقٍ أستعين به على الطوارئ.
اعذرني؛ لأني أبعث إليك برسائلي مفتوحةً، لجهلي عنوانك ومحلَّ إقامتك، وسأزاول مواصلتك حتى أيأس من جوابك، فعندئذ. أعتقد أنك لم تستلم رسائلي، ولم تسمع نجواي لوجودك في قارةٍ بعيدةٍ، لا هاتف فيها، ولا أَثَرَ للمواصلات بيننا وبينها.
يا أخي:
يخال إليَّ أن الوصول إلى عالم الزهرة والمريخ، واكتشاف ما فيها من عجائب المخلوقات وأنواع الحياة، أهون علينا من اكتشاف عالمك.
ولكن ما العمل، وأنت العزيز الغالي عليَّ؟! أعلل النفس بالوصول إليك تعليلًا، ولو كان هذا الأمر مستحيلًا.
يا أخي:
كنت أعهدك تكره التعقيد والخفايا، وتحب الحقيقة واضحةً كالشمس، فما لي أراك أمْسَيْتَ في ضمير التراب سرًّا مطويًّا؟! لا تُعْلِمني كيف حالك، ولا تُثْبِت لي وجودك.
لقد أمْسَيْتُ بعدك ولا عزاء لي سوى في صرير اليراع وصفحات الكتب؛ ولهذا السبب كَرَّسْتُ حياتي الباقية للدرس والتنقيب؛ لعلي أحل عقدةً من عقد الكائنات، أو أكتشف سرًّا من أسرار الحياة، وسأتخصص في علم النفس، وفي دَرْس طبائع البشر، ربما أصل إلى نتيجة حاسمة أستعين بها للقضاء على مساوئ الإنسانية وخزعبلاتها.
سأعمل في حقل العلم بلا مللٍ ولا كللٍ، وجُلُّ ما أبتغيه أن أكون كالشمعة تحرق نفسها لتعطي النور لغيرها.
أريد أن أكون عضوًا مفيدًا لأبناء الحياة قبل أن أغادر الحياة.