الرسالة الحادية عشرة١
يا أخي:
نصحْتَني قبل وفاتك أن أزاول الكتابة، ولكنك شرطت عليَّ أن أصور نفسي تصويرًا صحيحًا؛ لأنك تريد أن أكتب حقيقة شعوري وصحة اعتقادي، بلا مصانَعةٍ ولا موارَبةٍ.
وطالما انتقدت أمامي الشعراء والمنشئين، الذين لم يُصَوِّروا حقيقة وجدانهم في منشورهم ومنظومهم، فجاءت مؤلفاتهم سقيمةً لا يأبه لها الناس، ولا يعيرونها التفاتًا.
يا أخي:
أعاهدك وأقسم لك أني لا أمسك اليراع إلا لِأَخُطَّ ما أشعر به، وما أعتقده صوابًا.
لقد أَعْلَنْتُ استقلالي عن الناس، كي لا أتأثر من مذاهبهم وبيئاتهم، وجَرَّدْتُ نفسي عن محيطهم؛ لِأَكْتُب مجرَّدًا عن مجامعهم وأهوائهم.
وها قد حَطَّمْتُ قيود الأجيال التي كانت تُقَيِّد عنقي، ونزعت غِلَّ الأجداد الذي كان يشدد النكير عليَّ، وأخذت أمشي في عالم الفكر حرًّا طليقًا، أدوِّن ما أختبره بنفسي صحيحًا، وأكتب ما أرْتئيهِ بذهني صريحًا.
أقول الحق ولا أخشى لومة لائم.
ليس من مبدئي الوقوف عند معرفة الأسلاف، ولا من مذهبي التقيد في نواميسهم وقوانينهم.
إن مبدئي ينحصر في إطلاق الفكر من عقاله، ومواصلة البحث والتنقيب في درس الحياة، واكتشاف أسرار الكائنات؛ لأننا لم نزل — حتى الآن — في معرفة الكون أطفالًا، لا ندرك غير اليسير من أخباره وأسراره.
لا مشاحة أن الأجداد اشتغلوا في درس حقائق الكون، وتركوا لنا من علومهم ومعارفهم تراثًا جديرًا بالاعتبار، ولكنهم كانوا في مناحي شعورهم أقْرَبَ إلى عالم الخيال منهم إلى عالم الحقيقة.
ولهذا السبب بَنَتْ لنا مُخَيِّلَتُهم في عالم الخيال بِناءً فسيحًا، وأما بِناء عقولهم في عالم الحقيقة فكان ضيقًا ضئيلًا.
وجاء العلم في هذا العصر يَنْقُض أبنية الخيال؛ ليضع مكانها حَجَرَ الزاوية لبناء هيكل الحقيقة.
سأشتغل طيلة عمري عاملًا من عمال هذا الهيكل؛ رجاء أن أشيد صفًّا من صفوفه، أو على الأقل حجرًا من حجارته. وإذا لم أستطع بِناءً، فأقوم جهدي في خدمة بنائه.
يا أخي:
لا يُهِمُّني في التشيع للحق رِضَا السلطات وعدم رضاها، ولا اضطهاد الجهال، وازدراء المتعيِّشِين والمتزلِّفِين.
وفضلًا عن ذلك؛ لا أدعي العصمة في كتابتي، فإذا أخطأت في بعضها، فصراحتي تشفع بي أمام الناس الذين خَبَرُوني، وتجاه المبدع الذي يعلم نيتي.