الرسالة السادسة عشرة١
يا أخي:
مثلما كُنْتَ تصعِّد أنفاسك نفَسًا إثْر نفَس، هكذا قُمْتَ تودعنا فردًا إثر فرد، ولم تَنْسَ أحدًا من أنسبائك، ولا من أصدقائك ومعارفك، كأننا جميعًا كنا حاضرِين في ذهنك حين حضرَتْكَ الوفاة.
ابتدأت بوداع والدنا الشيخ، ثم بوداع عقيلتي وولديَّ: رفيق وسلوى، ثم بوداع الشقيقتين، وسائر الأنسباء والأصدقاء.
والآن، ماذا أقول لك عن الوالد الحنون؟ لقد أمسي يؤْثِر الموت على الحياة، وكم كان يَعُدُّ نفسه سعيدًا لو قضي نحبه قبل أن يتجرع كأس حزنه عليك، وهكذا الشقيقتان لا تنشف لهما دمعةٌ، ولا ينضب لهما جفنٌ.
وقد أصبحا اليوم كلما عنَّ لهما مرآك يذهبان وحدهما إلى حيث رسمك، ويَلْفِظان اسمك بأجلى بيان.
وأما ابن أخيك رفيق الذي كان عمره عقب وفاتك دون العامين، فبقي مدة طويلة يسأل عنك بإلحاح كلي، ويقرع باب غرفتك صائحًا: «مامو مامو».
وفي ذات يوم لشدة صياحه فَتَحْتُ له باب حجرتك فولجها، ثم ذهب توًّا إلى فراشك، وأخذ يناديك على عادته، ثم التفت يمنة ويسرة فرأى معطفك لم يزل مُعَلَّقًا قرب سريرك، فهرول إليه وقبَّله كما كان يقبلك، ثم نظر إليَّ وأشار إلى المعطف، وصاح بملء فيه: «مامو مامو».
وهكذا كان على المائدة يذهب إلى مكانك، ويضع يده على كرسيك طالبًا حضورك بإلحاحٍ تامٍّ.
وفي اليوم الذي غادرت به عاصمة المكسيك ذهبْتُ وعقيلتي لزيارة قبرك، واصطحبنا رفيقًا معنا، وكانت زيارتنا تلك زيارة الوداع.
هناك خاطبْتُ الطفل رفيقًا الذي كان متكئًا على حائطِ لَحْدِك قائلًا له: يا ولدي، هنا يرقد — بسلام — عَمُّكَ الحنون طانيوس «هنا مامو، هنا مامو».
فعندئذ انحنى الطفل على قبرك يناديك، ثم قبَّل الرخامة المحفورة اسمك عليها، ثم رفعته بيدي إلى الصليب القائم فوق حجرتك فقبَّله مرارًا، ثم بكى معنا بكاءً مرًّا، ولفظ مثلنا كلمة الوداع وانصرفنا.
فإذا كانت هكذا حالة ولدنا رفيق من بعدك — يا أخي — رغم طفولته، وعدم تقديره عِظَم مصابك، وجليل خسارتك، فكيف تكون حالتنا نحن الذين خبرناك وعرفناك؟ إنها — لعمري — حالة يأسٍ وحزنٍ شديدٍ.