الرسالة الثامنة عشرة١
يا أخي:
دخلْتُ في هذا الصباح إلى مكتبي، وبعد أن حَيَّيْتُ رَسْمَك كعادتي أَجَّلْتُ نظري في الروزنامة المعلقة أمامي، فقرأت على صفحاتها تاريخ اليوم.
هذا اليوم الواقع في السادس من حزيران والموافق منذ عامٍ ليوم وفاتك.
إنه — لعمري — أشد الأيام هَوْلًا عليَّ؛ ولهذا السبب دعوته بحق: يوْمَ الموت.
أنا الآن جالس إلى مكتبي في مدينة بيروت، ولكن مُخَيِّلتي لم تَجْلِس معي، بل طارَتْ بذهني إلى عاصمة المكسيك، إلى المحل التجاري الذي كنا نشتغل فيه معًا، إلى البيت الذي كنا نسكنه، إلى مخدعك، إلى تشخيص مرضك الأخير، إلى ساعة نزاعك، إلى يوم مأتمك.
إن سِنِي حياتك في المكسيك مَرَّت كلها أمامي، كما تمر الصور المشبَّحة على لوحة «السينما»، وكانت مخيلتي هي الآلة السينمائية التي مَثَّلَتْ جميع أدوار حياتك.
والآن ماذا أقول لك عن يوم مأتمك، وهو اليوم الذي مَثَّلْتَ فيه رواية الموت؟ إنه — وايم الحق — لا يَغْرُب عن بالي، ولا يجلو عن ذهني.
إن خبر وفاتك وَقَعَ على أصحابك ومعارفك وُقُوعَ الصاعقة، وجاءوا من كل فجٍّ وصوبٍ، يشاطرونني العزاء أفواجًا أفواجًا، وهم يبكون بحرقةٍ شبابَكَ الغضَّ، وأدبك الجمَّ.
لقد غُصَّ البيت على رحبه بقوافل الباكين والمعزِّين، وامتزج الخادم والمخدوم في مأتمك؛ لأنك كنت صديقًا للأوفياء والمخلصين من أي طبقة كانوا، لا لذوي النفوذ المستبدين، ولا للأغنياء المتعجرفين.
يا أخي:
لم تزل نصب عيني تلك الساعة الرهيبة التي وُضِعْتَ بها في تابوتك، وتلك الآونة التي بها انحنَيْتُ ألثمك بكل قواي، ويداي تطوقان التابوت الذي أُعد لك فراشًا وغطاءً، ليس فقط منذ صنعه الإنسان، بل منذ تمخضت الطبيعة بخلق مواده الأولية.
كان مأتمك فخمًا للغاية، مشى فيه الكبير والصغير، والغني والفقير، وكان المشيعون يزيدون على الألف، وهم يُمَثِّلون أممًا عديدةً، من أميركان وإنكليز وإفرنسيس وإسبنيول وخلافهم.
وكانت الجالية اللبنانية السورية بأَسْرِها.
وكان من المكسيكان جمعٌ لا يُستهان به.
وأما تابُوتُك فكان جميلًا جدًّا، ولكنه لا يوازي جزءًا من جمال شبابك، ولا من جمال نفسك، كان مصنوعًا من البرونز الخالص، ومبطنًا بأجمل الحرائر وأفخر النفائس.
كنْتَ مسجًّى في جوفه كأنك ملك نائم وسط عرشه، والشموع مضاءة فوق رأسك، وتحت أخمص قدميك، والناس حولك خاشعون كأنهم من بطانتك ورجالِ مُلْكِك.
إن عرشك كان عرش الموت، وعرش الموت هو عرش الحياة.
فكما أن الشجرة لا تُنْبِت إلا بعد اضمحلال نواتها، والقمح لا ينضج إلا بعد انفلاق بذاره، هكذا أنت لم تنتقل من حياة إلى حياة إلا بعد موتك.
ولا فَرْق عندي الآن، إذا حَصَلَ انتقالك على لغة الدين أو على لغة الطبيعة.
أقول هكذا؛ لأن الانتقال بلغة الدين محصورٌ بالإنسان وحده، وأما الانتقال بلغة الطبيعة فيشمل المخلوقات جميعها والكائنات بأَسْرها.
إذا ذَبُلَتْ أوراق الزهرة، وتلاشت براعمها، فأريجها الذي يُعَطِّر الفضاء — ويدعوه الكيماويون كهارب الحياة — لا يدركه الزوال، بل يعود إلى الحياة، ويكوِّن لنفسه براعم جديدة، يحوكها من شعاع الشمس وخيوط الهواء وسماد الأرض.
وهكذا أُمُّنا الطبيعة، فمتى حان حينها تتفكك حلقاتها، وتصبح سديمًا كما تصبح ترابًا، ثم تتحد بأمها اللانهائية كما نتحد بها.
ثم تكوِّن لنفسها بعد اندثارها حياةً جديدةً، كما تكوِّن النواة جذوع شجرتها العتيدة.
إن التعاون يبدو جليًّا في الحياة والموت، فكما تتعاون الذرات، وتتحد كيماويًّا لتؤلف جسدًا حيًّا، هكذا تتعاون أيضًا لإتلاف هذا الجسد وإعدامه.
إن الكهارب الصغيرة التي يتألف منها الكون بأسره، هي بحد ذاتها معامل هدمٍ ومعامل بناءٍ.
فكما تنتج هذه المعامل أصغر المخلوقات حجمًا، هكذا تَصْنَع أعظم الشموس نورًا وأضخم الكواكب جِرْمًا، ثم تتلف أدنى مخلوقاتها، كما تهصر أسطع شموسها.
كل جسد مهما كان صغيرًا هو معمل حقٍّ، ولكنه جزءٌ مصغرٌ من معامل الكون التي لا نفاد لها.
تشتغل معامل الكون بلا انقطاعٍ ولا إبطاءٍ، تبني أجسادًا ثم تهدمها، وهكذا هي تبني وتهدم إلى ما شاء الله.
يا أخي:
بمثل هذه الفلسفات وَجَدْتُ عزاءً لنفسي بعد وفاتك؛ لأني لم أكْتَفِ بفلسفة الدين الذي يؤمِّن خلودك، فذهبت إلى أبعد من ذلك، وأخذت أدرس الكون مادةً مادة؛ لأثبت خلودك بالمادة كخلودك بالروح، ثم تناولت فلسفة الحياة والموت، وأشبعتُهُمَا بحثًا وتنقيبًا، فبان لي أن الفناء لا أَثَرَ له البتة، وأن الموت هو مبعث الحياة كما أن الحياة هي مبعث الموت.
وظهر لي أيضًا أن الأجساد المتنوعة والأكوان المنفصلة بعضها عن بعضٍ، ما هي بالحقيقة سوى مجموع كونٍ واحدٍ فقط، كما أن القوات الكهربائية التي تحرك معامل الكون وتدير نظامه العجيب ليست هي بالحقيقة سوى مجموع قوةٍ واحدةٍ، هي قوة الله.