الرسالة التاسعة عشرة١
يا أخي:
كما ينشر الموتُ صُحُفَه، معلنًا في كل لحظةٍ ضحاياه، هكذا تنشر الحياة في كل آونةٍ أخبارها، معلنة مواليدها الجديدة.
ومن مواليدها الآن مولود يُهِمُّكَ معرفَتُه؛ لأنه يَمُتُّ بنسبه إلى أقرب الناس إليك وأَحَبِّهِم إلى قلبك، كيف لا وهو ابن أخيك، وسليل أبيك وجدك؟!
جاء العالَمَ في هذا اليوم، يوم الجمعة الواقع في العشرين من حزيران سنة ١٩٣٠ الساعة الحادية عشرة ونصف ساعةٍ مساءً.
جاء من العالم المجهول إلى هذا العالم، ودَعَوْنَاه باسمك منذ مجيئه؛ لأنه يشبهك جد الشبه، عيناه تُشِعَّان نورًا وجمالًا كعينيك، ووجهه مستديرٌ وجذابٌ كوجهك، ولوْنه حنطيٌّ كلونك.
بكى منذ أَبْصَرَ النور، ولا أدري لماذا استقبل الحياة باكيًا؟
هل هو يؤثر الظلام على النور، أو الموت على الحياة؟
أو بالأحرى بكى لانفراط عقده عن أمه؛ حيث كان في أحشائها متصلًا بها، فأصبح منذ أبصر النور منفصلًا عنها.
هو من مواليد اليوم، ولكنه ليس ابنَ يومه؛ لأن ولادته الآن ليست بدء حياته الحاضرة، بل هو بحقٍّ يُدعَى ابنَ اليوم الذي به انفرط عقده عن أبيه، وتَصَوَّرَ في أحشاء أمه.
هل بكى ساعة انبثقت حياته في جوف الرحم، كما بكى الآن إثر ولادته؟
لا أدري، فربما بكى ولم أشعر ببكائه، وتألَّمَ ولم أُحِسَّ بألمه.
يا أخي:
يُخيَّل إليَّ أن بكاء الطفل ساعة ولادته ينم عن شعورٍ فطريٍّ يُوحِي إليه أنه ودَّع حياةً سابقةً لحياته، ووجودًا سابقًا لوجوده.
فكما يَشْعُر النازح جديدًا عن وطنه بألم الغربة ومَضَضِ الفراق، هكذا يشعر المولود عندما يُبْصِر النور، فيبكي لاغترابه عن محيطٍ أَلِفَه، ويتألم لوداعه حياةً سبر غورها، واتخاذه حياةً جديدةً لا يُدْرِك كُنْهَها.
وبعد قليلٍ ينسى الطفل حياته الماضية، كما ينسى ساعة ولادته، ومتى شبَّ ينسى طفولته بتمامها، ويشعر بوجوده كأنه لم يكن طفلًا قط.
ولكن نسيانه لا ينفي مطلقًا مرورَه على ساعة ولادته، وعلى أيام طفولته.
هكذا حياته الماضية، لا ينفي نسيانُه لها وجودَها.
إن الأجيال المقبلة التي سترث الأرض بعدنا، هي بالواقع موجودة حقًّا في هذا الكون، ولكننا لا ندري الآن أين تمرح؟ ولا ماذا تعمل تلك الذرات والكهارب التي ستتركب منها أجساد أمم الغد؟
كما أننا أيضًا لا نعلم، أين هي تلك الذرات التي منها كانت تتألف أجساد الأمم الغابرة وبقايا القرون الدارسة.
إنَّ عدم معرفة الشيء لا ينفي وجوده.
ألم نكن — بَشَرَ اليوم — منذ جيلٍ في عالم الغيب، فصِرْنَا في عالم الحياة. ولا شك غدًا نكون في عالم الموت.
هكذا الأجيال كلها ستقفوا أثرنا، وتتعاقب جيلًا بعد جيل.
إن العالِم الألماني أينستين قام في هذا العصر يبشر بالنظرية النسبية، التي تقول بحدود الكون وبرجوع الأشياء إلى محلها، كما أن الأرض تدور دورتها حول الشمس، ثم تعود إلى مكانها، ثم تستأنف دورانها.
هكذا أيضًا يلوح لي أن الوقت يدور دورته، ثم يعود إلى مكانه كجميع العوامل الكونية. فكما يصبح الحاضر ماضيًا، والمستقبل يمسي حاضرًا، هكذا يعود الماضي مستقبلًا، ثم حاضرًا، ثم ماضيًا … وهكذا دواليك.
إن الكائنات والحياة والأوقات كلها تدور دورتها، ثم تعود إلى مكانها، ثم تستأنف دورانها إلى ما شاء الله.
يا أخي:
يتراءى لي أن الكون حركةٌ دائمةٌ، وما الحياة والموت سوى نتيجة تلك الحركة.