الرسالة العشرون١
يا أخي:
مات بعدك كثيرون، ونَشَرَتْ صحفُ الموت أخبارَهم.
مات عدد من رجال الحسب والنسب، ورهط من رجال السياسة والحرب.
فقام الناس وقعدوا لهؤلاء وأولئك بالسواء.
نعاهم الراديو إلى العواصم وأمهات المدن، ونَقَلَتْ أسلاك البرق خبَرُ وفاتهم إلى جميع أنحاء المعمورة.
أثبتَتْ رسومَهُم جرائدُ الأمم، وكتبت عنهم الفصول الطويلة، معدِّدةً تاريخ حياتهم، وجليل مآثرهم، ونُصِبَ لمعظمهم التماثيلُ الفخمة والقبور الثمينة.
إن موتهم أشغل العالم قاطبةً، مع كونهم لا يتجاوزون المائة عدًّا.
وأما غيرهم الذين ماتوا في هذا العهد، وكانوا ألوفًا مؤلَّفةً، فلم يشغلوا غير جزءٍ يسير من محيطهم؛ حيث لم يشْعُرْ بموتهم غير أقربائهم الأدنَيْن وأصدقائهم المخلصين.
إن حياتهم كانت كحياة الأشجار، لم يشعر بوجودها غير أصحابها ومن جاورها وعابر الطريق.
ولكن لا بأس، فبين هؤلاء المَنْسِيِّين مِنْ عالَمِهِمْ مَن كانوا قدوةً صالحةً في سُمُوِّ أخلاقهم، وأنموذجًا حسنًا في استقامتهم وتهذيبهم.
وفضلًا عن ذلك، ليس كل من خفق ذِكْرُه في الآفاق هو من خيرة الرجال، ولا كل من عاش ومات منسيًّا هو من الخاملين.
فكم مغرورٍ بعُد صيتُه! وأفَّاكٍ انتشر اسمُه في الخافقين!
وكم شهمٍ فاضلٍ كان من أكمل الرجال أدبًا وخلقًا، عاش ومات بلا ضجةٍ عالميةٍ لِعَدَمِ اكتراثه للأباطيل الدنيوية!
فإذا كان هذا العالم يؤثر أناسًا على أناس، وينسى بعضهم وينتبه إلى البعض الآخر، فالموت لا يعتوره النسيان، ولا يفرق شخصًا على شخص، ولا إنسانًا على حيوانٍ، ولا نباتًا على جمادٍ، فهو يطوي كل من حَانَ حينه في كتابه، وينشره جميعًا بلا تمييزٍ في صحفه.
فمن لَمْ تَذْكُر صحف العالم خَبَر ولادته فقد اعتاض عنها بصحف الحياة، ومن فاته أن تنشر تلك الصحف نعيَه فلا تفوته صحف الموت.
إن للحياة والموت كتبًا وصحفًا لا يعتورها الفناء؛ لأنها منشورةٌ على جبين الأزل، وأما صحف الناس وكتبهم فكلها زائلةٌ؛ لأنها مطبوعةٌ على صفحات الزوال.
فإذن إلى البقاء ما تنشره صحف الحياة والموت، وإلى الفناء ما تنشره صحف الناس.
يا أخي:
مات بعدك من الذين يهمُّك أمرهم، يوسف ابن العم سليمان.
وُلد في بلدة إسترادا نوفا، التابعة ولاية الريو من أعمال جمهورية البرازيل، وقضى نحبه هناك في مستهل شبابه.
لم يسعدك الحظ بأن تتعرَّفَ إليه في هذه الحياة الدنيا؛ لأنك سَكَنْتَ بلادًا وسكن غيرها، وكان بينكما بُعد شاسعٌ، وبين بلاديكما بحارٌ وقفارٌ وممالك عديدة.
وأما الآن وقد انتقلتما إلى عالم الموت، فهل الْتَقَيْتَ به في طريقك، وتعرَّفَتْ روحك إلى روحه، أو بالأحرى يوجد في عالم الموت فواصل تفصل الأرواح عن معرفة بعضها بعضًا كفواصل هذا الكون.
وهل كل فئةٍ من الأرواح تَسْتَعْمِر ناحيةً من العالم الآخر وتستقل بها، كما استعمر الناس هذا العالم، واستقلت كل فئةٍ من البشر في بقعةٍ من بقاعه؟!
لا أدري، قد تعرف الأرواح — متى تحررت من المادة — بعضها بعضًا، وربما لا تعلم سوى محيطها، ومن تخالطه ويخالطها.
ولكن مهما كان الأمر، فإني أتمنى من صميم الفؤاد أن تكون وابن عمك ووالدتك، وكل من تحبُّه، راتعًا وإياهم، هنيئًا في دائرةٍ واحدةٍ من دوائر الخلود.