الرسالة الثانية والعشرون١
يا أخي:
حينما كنت في قيد الحياة كنا نتكلم كثيرًا عما وراء القبر، ولم أزل أَذْكُر ليلةً من الليالي سهرنا بها معًا إلى مطلع الفجر، وكان محور حديثنا عن الحياة الروحية.
جئنا مرارًا على ذِكْر أساطير الأجداد الأولين، وأديانهم الوثنية المتنوعة، واعتقاداتهم المختلفة في حياة الأرواح بعد فناء أجسادهم.
فلم تكن تروي تلك الأساطير ولا تلك الأديان غليلنا، مع أن واضعيها هم الذين وضعوا أيضًا، وعلى لغة العلم اكتشفوا أساس الإيمان بالحياة الروحية.
ثم انتقلنا إلى أدياننا الحديثة، تلك الأديان التي نعتقد بكمالها، وبأنها مُنَزَّلةٌ من لَدُن الله — جلَّ جلاله — أو موحاة منه — تعالى — إلى رسله وأنبيائه.
فتصفحنا تلك الكتب المنزَّلة صفحةً صفحةً، وأشبعناها درسًا وتمحيصًا، فلم نتبين في آياتها ومعجزاتها عن حياة الأرواح أكثر مما كان يتخيله الآباء والأجداد الأولون؛ لأن كل ما تقوله الكتب المقدسة في هذا الموضوع ينحصر بهذه العبارة: «إن الأرواح الصالحة تعيش في النعيم، وهي تسبِّح الله، وتمجِّده في ملكوته إلى الأبد، وأما الأرواح الطالحة فإنها تُقيم على الدوام معذبةً في نارٍ أبدية القرار.»
يا أخي:
يظهر لي أن الحياة الروحية لم تَزَلْ سرًّا مكنونًا عن مدارك العقل البشري، وفضلًا عن ذلك، لقد آمن الناس بوجودها في عصر همَجِيَّتِهم، كما في عصر مدنيتهم، وفي عهد أديانهم المشركة، كما في عهد أديانهم الموحِّدة؛ لأنهم استدلوا على صحة وجود الأرواح بوجدانهم قبل أن يستدلوا بعقولهم.
وشعور الوجدان يسبق شعور العقل.
والآن جئت أسألك: ما هي الحياة الروحية؟ ماذا تعمل النفس بعد مفارفتها الجسد، سواء كانت صالحةً أم طالحةً؟ وهل تبقى الطالحة — كما يقول الكتاب — معذبةً بنار الجحيم إلى الأبد، والصالحة تسبِّح الله وتمجده على الدوام.
فإذا كانت الأنفس في النعيم لا عمل لها غير التسبيح والتمجيد فقط، فأنت إِذَنْ غير مغتبطٍ في نعيمك؛ لأنك كنت في حياتك رجل عملٍ وبرٍ، وكنت بهما تُمَجِّدُه تعالى، لا في تكرار الصلوات، وكثرة التسابيح والأدعية.
والأنفس الطالحة، ألا يصفح الله عنها بعد أن تكفِّر عن آثامها! أليست الكلمة «إلى الأبد» رجاء ردع الأشرار عن غيهم، كي لا يعمهون في ضلالهم، متكلين على عفوه تعالى.
يا أخي، يخيَّل إليَّ أن الأنفس سواء كانت محررةً من المادة أو مقيدةً بها، تعمل على الدوام مجدَّةً وراء رُقِيِّها وكمالها.
تَعْثُر تارةً، وتنهض أحيانًا، ولا تنفكُّ متجهةً نحو غايتها، وما غايتها سوى رجوعها إلى أصلها؛ لأنها فرعٌ، وكل فرعٍ يعود إلى أصله.
فكما يحمل السحاب مياه البحر، ويقذفها فوق الجبال والسهول والأودية، ثم تعود المياه بحكم الطبيعة إلى البحر، هكذا إلى مصدر الروح تَرْجع الروح، وإلى منبع الحياة ترجع الحياة.
إني أتمثل النفس كالكهرباء، تشتغل مقيدةً وبلا قيدٍ، وكالرائحة العطرية تعمل في الفضاء، وفي قلب الزهرة على السواء.
فكما أن الأرض لا تهدأ دورتها، والكهارب لا تقف حركتها، هكذا الأنفس لا يبطل عملها.
وجمال الحياة العمل.