الرسالة الخامسة والعشرون١
يا أخي:
ليس الموت في نظري سوى مظهرٍ من مظاهر التجدد لا من مظاهر الفناء؛ لأني أعتقد بخلود المادة، كما أعتقد بخلود النفس.
إني أتمثَّلُ الجسم كالجيش، فكما أن الجيش هو مجموع جنودٍ عديدةٍ، هكذا الجسم هو مجموع ذراتٍ كثيرةٍ، ولكل مجموعٍ رأسٌ يقوده وقيادةٌ عليا، تأمر في تعبئته وتجهيزه، كما تأمر في تسريحه.
لا مراء أن الجيش يتلاشى حين يذهب كل جندي في سبيله، وأما أفراد الجند فلا يلحقهم التلاشي، ثم يعود الجيش مجددًا في مجموعه، حينما تأمر القيادة في إعادة تعبئته وتجهيزه.
هكذا الجسم يتلاشى في الموت، وأما ذراته فلا تتلاشى، بل ينفصل بعضها عن بعضٍ انفصالًا، فتذهب كل ذرةٍ في سبيلها، ثم تتصل بغيرها، فتتجدد المادة باتصالها، كما تندثر بانفصالها.
كل شيءٍ في هذا الكون يدل دلالةً واضحةً على تجدد الحياة في الموت، لا على فنائها.
فمن يتأمل في أيام الخريف يرى الحقول مقفرةً، والأشجار منتثرةً أوراقها، والأرض عاريةً من نباتها، كأن الموت أباد معظم أحيائها، ولكنها لا تلبث أن تتجدد نضارتها؛ حيث تعود الطبيعة في الربيع إلى انتعاشها، وتمتلئ الحقول زهرًا ونباتًا، والأشجار ثمرًا وحياةً.
يا أخي:
إن الفكر الإنساني يتجدد أيضًا، كما تتجدد الطبيعة.
ها إن أفكار صبوتي وتخيلات حداثتي، قد زالت كلها من الوجود، ولكن فكري لم يزُل أبدًا، بل تجدد فيَّ، كما تجددَتْ عناصر جسمي.
والآن ابتدأت أشعر، وأنا أقطع المرحلة الأخيرة من مراحل الشباب بأن مجرى فكري أَخَذَ يتحول رويدًا رويدًا، سالكًا طريق التجدد.
ها إن فكرة الغرور والهوس والتخيلات الوهمية تقلصت كلها مع تقلص شبابي، وحلَّت محلها فكرة الحكمة، ومحبة البحث عن الحقيقة.
أليس هذا كله يدل دلالةً واضحةً على أن تفكير الشُّبَّان يختلف عن تفكير الأحداث، كما أن تفكير المعاصرين يختلف أيضًا عن تفكير الأقدمين.
وما سبب تعديل الشرائع والقوانين في كل جيل سوى نتيجة تجدد الأفكار الإنسانية.
يا أخي:
كل من يراقب الحياة، ويلاحظ مقدماتها ونتائجها، يرى كل ما في الكون يرتفع في التجدد عن مستواه.
هذه ثمرة العصر الحالي، تفضل ثمار القرون الغابرة بلذاتها ونضوجها، وحيوان اليوم يعلو الحيوان القديم بقوة غريزته ومحافظته على كيانه، والإنسان الحالي يبدو أكثر رُقِيًّا وعلمًا، وأجمل خَلقًا وخُلقًا من إنسان العصر الحجري.
قصارى القول: إن الطبيعة مع كل أحيائها تتجدد في الموت، وتكتسب في تجددها قوة وحكمة، وتقدُّمًا إلى الأمام.
وهكذا أعتقد — يا أخي — بأنك اكتسبت في الموت حياةً جديدةً وقوةً وحكمةً وتقدُّمًا.