الرسالة السابعة والعشرون١
يا أخي:
منذ بضعة أيام ذهبت إلى البرية، مصطحبًا معي ولدي رفيق، الذي يبلغ عمره ثلاثة أعوام، فجلست وإياه نستظل شجرةً من أشجار البلوط الباسقة.
وإذا بثمرة بلوط وقعت أمامي فتناولْتُها، ثم أخذت أُقلِّبها، مفكرًا في هذه الشجرة العاتية القوية، وفي هذه البلوطة الضعيفة الصغيرة.
فنجم من إشغال ذهني وشدة تفكيري، وُصُولي إلى هذه النتيجة:
إذا كانت هذه الشجرة العاتية اللاحقة قلب الأرض في جذوعها، وكبد الفضاء في أغصانها وفروعها، تُمَثِّل الآن أمام عيني القوة والجبروت؛ فماذا تَخْتَزن في قلبها لتمثله في الغد؟!
إنها — ولا شك — تَصْرِف قواها، ولا تختزن في داخلها إلا الضعف والتلاشي.
وأما هذه البلوطة الصغيرة التي تمثل الضعف اليوم، فهي تخزن في قلبها القوة للغد؛ لأنها ستصبح شجرةً عظيمة، في حين أن الشجرة القوية اليوم ستندثر، وتمسي أثرًا بعد عينٍ.
هكذا أنا وولدي الآن نسير في طريق الحياة، كما تسير البلوطة وشجرة البلوط.
هو كالبلوطة، يُمَثِّل اليوم الضعف ويخزن القوة، وأنا كالشجرة، أُمَثِّل القوة وأخزن الضعف.
أَصْرف قواي في مرور أيامي، وولدي يزداد بمرور الأيام قوة ونشاطًا، وسيبقى هكذا إلى أن يبلغ مكاني، فعندئذ تنقلب القوة التي اخْتَزَنَها، فتصبح بمرور السنين ضعفًا، كما أصبح الضعف قوةً.
إني أرى الأمم أيضًا، تسير في حياةٍ، مجموعها سير الأفراد في قوتهم وضعفهم، فالشعب الذي مثَّل القوة في غابره، أصبح يمثِّل الضعف في حاضره، ولهذا السبب فلتَفْقَه الأمم القوية اليوم أنها تصرف قواها، في حين أن الأمم الحالية الضعيفة فهي تختزن القوة للغد.
يا أخي:
كل من يلاحظ الطبيعة، ويتعمق في درس نظامها العجيب، تبدو له جليًّا هذه النتيجة الراهنة.
إن الضعف يُوَّلِد القوة، كما أن القوة تولد الضعف، والموت يولد الحياة، كما أن الحياة تولِّد الموت.
إن السيد المسيح الذي احتمل الآلام والصلب وازدراء الناس به واحتقارهم له، لم ينتصر على العالم إلا بضعفه.
وغاندي الهند يحمل اليوم صليبه، ويحارب بضعفه الأمة الإنكليزية، التي هي أقوى أمم الأرض، وأشدها صولةً وبأسًا، وسينتصر — عاجلًا أو آجلًا — على أعداء أُمته، كما انتصر المسيح المصلوب على أعداء الحق.
إن المستقبل يبسم دائمًا للقوة العادلة المستترة وراء الضعف، لا للضعف الكائن وراء القوة الظالمة.
هذه هي فلسفة الحياة، التي تُلقيها الطبيعة على طلابها المتعمقين في درسها، والباحثين في أسرارها وخفاياها.