الرسالة التاسعة والعشرون١
يا أخي:
إن الاعتقاد بوحدة الله يوحي إليَّ الاعتقاد بوحدة الحياة والكائنات.
فكما أن الشجرة تتعدد فروعها، وتكثر أغصانها مع كوْنِها واحدة فقط بأصلها، هكذا يبدو لي أن شجرة الحياة واحدةٌ بجوهرها، مهما تَنَوَّعَتْ أحياء الأرض، وتعددت أجناسها.
ولكن كيف أومن بأن أصل الحياة واحدٌ في الإنسان والحيوان والنبات مع ما في هؤلاء الأحياء من الاختلاف البائن في الجنس والعنصر والنزعة والغرائز؟!
كيف إذن تَشَعَّبَت الحياة إلى أنواع لا تُحصَى، وأجناسٍ لا تُعَدُّ؟! أو بالأحرى: كيف أُوَفِّقُ أيضًا بين حياة البعوض والحشرات المتنوعة، وحياة الإنسان، أو بين حياة الطير وحياة النبات، أو بين حياة البهائم وحياة الأسماك، لِأَصِلَ إلى الضالة المنشودة، ألا وهي وحدة شجرة الحياة.
يقول علماء البيولوجيا: إن أصل الحياة هي الخلية أو البروتوبلاسما، أو ما هو أصغر منها، وهذا قولٌ لا أشك في صحته؛ لأنه يلوح لي أن مَظْهَر الحياة كان واحدًا في الأصل؛ لأن الخلايا عاشت دهرًا طويلًا منفصلة عن بعضها إلى أن قُيِّض لها أن تَتَّحِد بعد جهاد طويل، فنَجَمَ من اتحادها تشعُّب مظاهر الحياة ووجود الأجناس؛ لأن الخلايا لم تتحد على شكلٍ واحد، بل على أشكالٍ متنوعة، وهذا هو السبب في تنوع أحياء الأرض.
وفضلًا عن ذلك يخيل إليَّ أن الأنواع الحيَّة لم تظهر دَفعةً واحدةً على الأرض، بل تدريجيًّا؛ لأنه يستحيل على الخلايا بأن تصنع الحشرة البسيطة وذوات الثدي في آنٍ واحدٍ.
إن الإنسان الذي يُعَدُّ من أكمل مركبات الخلايا، ومن أفضل الأنواع الحيَّة، يدلنا في تاريخه وتطورات حياته على أنه لم ينتقل دفعةً واحدةً من سُكْنى الكهوف والمغاور إلى مناطحات السحاب والقصور الشاهقة الحديثة، بل جاهَدَ طيلة آلافٍ من السنين، حتى وَصَلَ إلى ما وصل إليه من العلم والفن والهندسة.
لقد أخذ يتدرج في صناعة البناء، كما في غيرها من الصناعات والمعارف تدرجًا بطيئًا، ولم يصل إلى أبنيته الحديثة إلا بعد أن جاهد خلال قرون عديدة، واختبر من نماذج البيوت أنواعًا لا تُحصَى، وأشكالًا لا تُعَدُّ.
وبما أنه مفطور منذ وجوده على الجهاد في تحسين حياته، فهو لا ينفكُّ، ساعيًا في طَلَبِ الأحسن، وسيتقدم — ولا شك — مع الزمن تقدمًا مُطَّرِدًا في علومه وصناعاته وسائر فنونه.
هكذا أعتقد أن الخلايا لم تُحدِث في بدء اتحادها إلا بَعْضَ الأنواع الصغيرة المركبة من خليتين أو أكثر قليلًا؛ فنجم من هذا الاتحاد المصغر وجود بعض النبات، ثم الهوام والحشرات على اختلاف أنواعها، ثم زاد مع الزمن اتحاد الخلايا، فوُجِدت الأسماك والحيوانات الزاحفة وغيرها.
ثم جاهَدَتْ خلال أجيال في تحسين أنواعها، فأحدَثَتْ — بَعْدَ عناءٍ جزيلٍ ودهرٍ طويلٍ لا يعلم مقدارَه غيْرُ الله — ذوات الثدي ثم الإنسان.
وبما أن الخلايا مفطورةٌ منذ الوجود على حب الأحسن، فهي لم تزل تجاهد في تحسين أنواعها، وستجاهد إلى النهاية.
لهذا السبب يَلوح لي أن الأجناس الحيَّة الحالية لا تدوم أبد الدهر على شكلها، بل بعضها ينقرض كما انقرضت الزحافات الكبرى، والبعض الأخر يتحول من شكلٍ إلى شكلٍ، كما أنه من الممكن — لا، بل من الأمر الراهن — أن تُحْدِثَ الخلايا في المستقبل من أنواع الأحياء أجناسًا جديدة لا عَهْدَ لنا بها؛ لأنها دائمًا تفتش في جهادها وطُرُقِ تَجَمُّعها على اختلاق جديد، كما يفتش الإنسان في جهاده المتواصل على خَلْق صناعةٍ جديدة، واختراع جديد.
وما الإنسان في هيكله سوى وليد الخلية وصنيعها، كما أن الخلية — بحد ذاتها — تمثل لنا وحدة الحياة، ومظهرها الأول في الوجود.
فإذا كان الغصن هو فرع من الشجرة، والشجرة هي فرع من الغاب، والغاب هي قطعة من الأرض، والأرض هي جزء من الكون، والكون هو من الله، أفلا يكون أصل الغصن والشجرة والغاب والأرض والكون واحدًا فقط!
وهكذا أصل الحياة والكائنات واحد أيضًا، مهما تنوعت الأحياء وتعددت الشموس والكواكب.
يا أخي:
إني أعترف الآن أمام الله، وأمام نفسك الخالدة بأن هذه المباحث العميقة التي خُضْتُها، ليست هي من خصائص الأديب، بل من خصائص العلماء.
لقد تَطَفَّلْتُ — وايم الحق — على موائدها، ولكني أُحب أن أتحرى الحقيقة، وأن أبحث عنها، ولا بأس إذا عَثُرْتُ بعض العثرات في طريقي؛ لأن العثرة في طلب المعرفة لهي عندي أفضل من الجمود.
والآن إن كنت قد عجزت عن إدراك كيفية وجود الأنواع، وعَجَزَ علماء العصر العشرين أيضًا، فهذا لا يعني أن الجنس البشري لا يكشف القناع في المستقبل عن أسرار تشعُّب الحياة، ولا يمنعني أيضًا من أن أعتقد بأن مصدر الحياة والكائنات واحدٌ، وهو الله.