الرسالة الخامسة والثلاثون١
يا أخي:
زارني منذ مدةٍ كاهنٌ، ظَهَرَ لي من حديثه أنه يتاجر بدينه ليَكْسِب دنياه، وما أكْثَرَ الكهنة الذين هم في هذا العصر على شاكلته!
ابتدأ يكلمني، متبجحًا بغزارة علومه ومعارفه، ثم سألني عما إذا كُنْتُ سَمِعْتُ بعض مواعظه، فأجبته سلبًا، فعندئذ قال لي: أتعجَّب كيف لم تسمع مواعظي، وشُهْرَتي تغمر البلاد من أقصاها إلى أقصاها! ومنذ مدةٍ دُعِيتُ في إحدى الرياضات الروحية؛ لألقي على المؤمنين عظةً من مواعظي البليغة، فخَلَبْتُ ألبابهم في تفنني وطلاقة لساني، ومَلَكْتُ قلوبهم بفصاحتي وبياني.
فأجبته: إن مواعظك مهما كانت بليغةً لا تفيد المؤمنين، ولا تؤثر في نفسياتهم ما زلت تَطْلُب من ورائها الشهرة الدنيوية لا إصلاح الناس، وقد قيل: حسب نياتكم ترزقون.
فتأثر الكاهن من كلامي، ثم أخذ يجادلني مُفْصِحًا لي عن فائدة مَوَاعِظِه مُجَادَلةً عقيمةً، دَلَّتْ على صلفه وغروره، فأجبته بالتي هي أحسن، فلم يَرْعَوِ، فعندئذ قلت له: يا حضرة المحترم، اسمح لي أن ألقي على مسامعك شيئًا من رياضتي الروحية، إنها — لعمري — رياضةٌ عمليةٌ أكثر منها قولية؛ لأنها لا تقوم بتكرار الصلوات كرياضتك، ولا بالتبجح في معارفي وتقواي كتبجحك.
في كل صباح أدخل إلى مكتبي، وأجيل طرفي في رسم أخي الذي فارَق الحياة في روعة شبابه، فأتأمل به والكآبة تغمر نفسي، ثم أتأمل في الموت الذي انتزَعَهُ مني، وهو مُفعَم بأمل الحياة وأحلام الشباب.
هذا الموت الذي يَلِجُ بيت الصعلوك، كما يلج أمنع الحصون دون أن يَطْرُق لهما بابًا، فيفتك بالملوك على عروشهم، كما يُرْدِي البائسين في أكواخهم.
هذا الموت الذي لا يُغلَب، ينذرني بأن حياتي — مهما طال أمَدُها — واقعةٌ — ولا محالة — في يده.
هذا الموت هو الذي نزع مني الطمع والغرور والكبرياء والحسد والنميمة والبغضاء.
هذا الموت الذي أتمثله أمامي في رسم أخي، هو الذي يعلمني دائمًا أن أكون صالحًا، وصبورًا على المكاره، وغافرًا للناس مساوئهم وزلاتهم.
لعمر الحق، إن أخي أفادني إفادةً جُلَّى في حياته وموته.
فكما كان لي في حياته سندًا وعَوْنًا، هكذا أصبح لي بعد موته عظةً وعبرةً.
•••
يا أخي:
هذه حادثةٌ جَرَتْ معي منذ بضعة أيام سردْتُها لك، وسأُعْلِمُكَ بغيرها في رسائلي الآتية؛ لتحيط ببعض حوادث الحياة — وما أكثرها.