الرسالة السادسة والثلاثون١
يا أخي:
جلسْتُ البارحة إلى منضدتي، وأخذت أطالع كتابًا يبحث في التاريخ القديم، فلم تَقَعْ عيني عندما كُنْتُ أقلب صفحاته إلا على حوادث المجازر البشرية، والحروب الهائلة التي كانت تثيرها الأمم بعضها على بعضٍ.
فعندئذٍ أخذت أتأمل في حياة الإنسان على الأرض منذ فجر التاريخ حتى الآن، فظهر لي أن حياته كانت منذ البدء — ولم تزل — قائمةً على النزاع والتطاحن والمجازر الدامية.
فكما قَتَلَ قابين أخاه، هكذا لم نَزَلْ في هذا العصر الذي يُدعى عَصْر العلم والتمدن، نقتل بعضنا بعضًا، ونتنازع حتى على أبسط الأمور وأتفه الأشياء.
منذ مدةٍ رَوَت الجرائد خَبَرَ جناية قتلٍ وقعت في بيروت من أجل كلمةٍ بذيئةٍ. وروت خبر جناية قتلٍ أخرى ارْتَكَبَها شقيٌّ؛ لأجل سلب بعض دريهمات. وذكرت جنايةً سالت فيها الدماء؛ لأجل انتخاب مختارٍ في إحدى القرى اللبنانية.
وكم يجري في لبنان، وفي جميع أنحاء العالم من أمثال هذه الحوادث التافهة، التي تؤدي غالبًا إلى المجازر الدامية!
إن الخلق الإنساني المُؤَسَّس على الغريزة، هو — لعمري — مصدر الخصام والتنازع؛ لأنه دائمًا يَسْبِق العقل في أحكامه.
فلو كان كل امرئٍ قبل أن يستسلم إلى الغضب — تجاه الأمر الذي يعتقد بضرره أو أذاه — ينتظر عقله ليُصْدِر الحكم على خَصْمه، لكانت وطأة المنازَعات — التي تَسْتَعِر نارها بين الأفراد والجماعات — تَخْمُد جذوتها، وقد تتلاشى مع الزمن، وتصبح أثرًا بعد عين.
ولكن لسوء حظ الإنسان أن العقل لم يسيطر بعدُ على مقدَّرات الطبيعة البشرية.
ولهذا السبب ما برح الناس — كما تعهدهم يا أخي — يتنازعون ويتخاصمون ويتقاتلون، إنهم يُناصرون الموت على إفناء بعضهم بعضًا، وهم لو فطنوا لأشغلوا أذهانهم في محاربته، لا في مناصرته؛ لأن الموت قويٌّ لا يحتاج إلى نصير.