الرسالة السابعة والثلاثون١
يا أخي:
لقد أبدع المسيح بقوله: «لا تعبدوا ربَّيْن: الله، والمال»، لأن المال هو الضالة الوحيدة التي تَنْشُدها جميع الأمم من أقصى المعمور إلى أقصاه، وهو الذي يَشْغَل عقول الناس منذ حداثتهم إلى يوم وفاتهم.
منذ بضعة أيام ذهبت إلى مكتب أحد الأغنياء؛ لقضاء بعض الحاجات، وكان الجو ممطرًا، والبرد قارسًا، فشاهدت هناك شيخًا طاعنًا في السن، جالسًا إلى منضدته، وسعاله متواصل وهو لا يبالي، فبعد أن قضيت حاجتي أخَذْتُ أتجاذب وإياه أطراف الأحاديث، وكان ذلك طبعًا عن التجارة والصناعة، وكل ما يؤدي إلى كسب المال، فسألته عن مَبْلَغ ثروته، فأجاب أنها تزيد على الثلاثمائة ألف ليرة ذهبًا، جمعها كلها بجدِّه، وعرق جبينه.
فعندئذ قلْتُ له: أنت بغنًى عن المجيء إلى مكتبك في مثل هذا اليوم البارد؛ لأنك شيخ، والشيوخ يتأثرون من البرد والمطر تأثرًا عظيمًا. وفضلًا عن ذلك أنت ذو مالٍ وافرٍ، وعندك رهطٌ من الكتاب والمستخدمين الذين يقومون مقامك. فأجاب: إن الحق بجانبك من حيث اشتداد البرد وتأثيره عليَّ، ولكن الشغل — مع وفرة هؤلاء الكُتَّاب والمستخدَمين — لا يَسْتَغْنِي عني.
فأجبته: نعم، يستغني الشغل عنك، ولا شيء في هذا الكون لا يُستغنى عنه، كما استغنى سابقًا عن كبار رجال الأعمال والمتمولين، الذين قَضَوْا نحبهم، وقام غيرهم مَقَامهم.
فأجاب: قد يكون الأمر كذلك، ولكني أحب المال، وأضحِّي بكل شيءٍ في سبيله؛ لأن المال هو كل شيءٍ.
وبينما نحن في الحديث، دخَلَت امرأةٌ تطلب منه مالًا لقاء رَهْن بيتها، فأجابها إلى سؤالها، ولكن بفائدة باهظة. فتضرعت إليه قائلة له: إنها أرملة أم سبعة أطفال، ولم يترك زوجها غير هذا البيت، قالت: وأنت غنيٌّ جدًّا، وعندك مَتَاجِر كثيرة تُدِرُّ عليك أرباحًا طائلة، فإذا رَحِمْتَني بالفائدة تكون قد عملت خيرًا مع صغارٍ أيتامٍ يستحقون الرحمة والمساعدة. فأجابها: إن الشغل يقضي عليَّ بطلب هذه الفائدة، وأما الرحمة فلا دخل لها بالشغل.
فعندئذ قَبِلَت المرأة بشروطه مُرْغَمَةً؛ لأنها بحاجةٍ إلى تَغْذِية صغارها، وأَمْضَت له صَكَّ الرهن، وأَخَذَتْ بعض المال الذي يلحقها، وتركت البعض الآخر عنده دون أن تسأله عن فائدة ما، وذهبت في سبيلها.
فسأَلْتُه كم تقيدون للمرأة فائدة على المال الذي أَبْقَتْه عندكم، فأجاب: لا شيء؛ لأنها أَوْدَعَتْه عندنا بصفة أمانة، وعلى الأمانات نأخذ ولا ندفع، وأما هي فمعفاةٌ من الدفع رحمةً بصغارها.
فأجبته: ليس المال هو كل شيءٍ كما تعْهَده، وأما الرحمة التي عملتها، فهي ليست رحمةً للمرأة بل لنفسك؛ لأنها تعود عليك بالفائدة لا عليها.
يا أخي:
هذا هو الحديث الذي جرى لي البارحة مع شيخٍ بَلَغَ من العمر عتيًّا، ولم يزل متمسكًا بدنياه تمسكًا شديدًا.
نَظَرْتُه ما بَرِحَ — رغم الثمانين — يجدُّ ويكدُّ وراء جمع المال، ولا يعرف للرحمة سبيلًا.
لقد اعتقد كما يعتقد معظم البشر بأن المال هو كل شيء في هذا العالم، مع أن في العالم فضائل جمةً، ومعارف عديدةً، يجب على الإنسان أن يسعى لاكتسابها كما يسعى لاكتساب المال.
إن الحلم والكرم والإحسان والرحمة والتواضع، والشجاعة وحسن الصفات وحسن الأخلاق، والعلوم والفنون والصناعات المختلفة، كل تلك أمور مهمة في هذا الكون، يجب على المرء أن يجدَّ وراءها، كما يَجِدُّ وراء المال.
ولكن من أغرب حوادث الحياة ما لاحظته في معظم الشيوخ الذين كلما ازدادوا هرمًا يزدادون تعلقًا في حطام الدنيا كأنهم خالدون فيها، أو كأن المال يُبطرهم، ويعمي بصائرهم، فيُمْسُون لا يؤمنون بالموت الذي سينزل بهم، ويَنْزِع عنهم كل ما ملكوا من عقار ونضار.
يا أخي:
إن معظم الناس يمشون بخطوات واسعة نحو القبر، ولكنهم لا يدرون أنهم على باب القبر.
وأما أنا فكلما نَظَرْتُ إلى رسمك، وتأمَّلْت بك وبالموت، الذي انتزعك مني، أسمع همسًا يناجيني من داخل رسمك، قائلا لي: إن المال جميل يا أخي، ولكن العلم والفضيلة هما أكثر منه جمالًا.