الرسالة الثالثة١
يا أخي:
إن قلبك الذي كان متغلِّبًا على كل مصاعب الحياة ومساوئها، عَجَزَ عن مغالبة الداء الذي تَغَلْغَلَ في أحشائك، واستولى في مُدَّة وجيزة على أسوار حياتك.
جاءك الموت على غرةٍ، وانتزعك انتزاعًا من أحضان أخيك؛ لأن الداء الذي انتابك لم يُمْهِلْكَ إلا ثلاثة أيام، وقد ظنَّه الأطباء عارضًا بسيطًا فكان قاتلًا.
إنه — لعمري — كان داءً خفيًّا، والأطباء في الأمراض الخفية يَخْبِطون خَبْط عشواء، فكم مرةٍ يُدَاوُون الكَبِدَ، والداءُ في المفاصل! ويعالجون الرئةَ، والداءُ في القلب!
ولهذا السبب لا أدري؛ هل استعجل مَوْتَك الطبيبُ في سوء طبابته، أو الضربة كانت قاضية عليك؟
يا أخي:
في إبان مَرَضِك لم تُظهِرْ ضَعْفًا ولا انتهاكًا؛ ولهذا السبب لم يَدُرْ في خلدي قط أنك على خَطَر، وأما أنت فكُنْتَ عارفًا مصيرك؛ لأنك ودَّعْتَنِي في مسائك الأخير، وفُهْت أمامي بكلمات خالدات سأُدَوِّنها لذكراك في تحاريري الآتية.
اعذرني يا أخي، حيث لم أُعِرْ ودَاعَك انتباهًا؛ لأني حسبْتُه ودَاعَ خائفٍ على نفسه، لا وداع رجلٍ متَثَبِّتٍ من حقيقة أمره.
يا أخي:
أتمثلك دائمًا على فراش الموت، أتَمَثَّل شبابك الذاوي، الذي كان مثالًا للجد والنشاط والحركة الدائمة، كيف أصبح من جراء الموت مُعْدَمًا خامدًا؟!
أنا متعطشٌ لمرآك، ولاستماع صوتك العذب، أُفتِّش عنك في كل مكانٍ، ولكن بلا جدوى، وأسأل هذه الطبيعة الجائرة: أين انْتَثَرَت ذرات جسدك؟!
تلك الذرات الحية التي كان مجموعها أنت.
أين ذَهَبَتْ تلك الجواهر التي لا يقوى الموت على إبادتها؟! هل اتخذ النسيمُ والماء العذب بَعْضَها؟ وتوَزَّعَ البعضُ الآخر بين الأزهار والأثمار والنبات؟
فإذا كان الأمر هكذا، فأنت إذن يا أخي في النسيم والماء، وفي الزهر والثمر، وفي كل مكان.
إن برد النسيم يحضن برد قلبك، وصفاء الماء يحمل صفاء ذهنك، وجمال الأزهار تَنْشُر جمال خَلقك وخُلُقك، وشذا الرياحين تُعْلِن شذا أخلاقك وطيب أدبك، ولذة الأثمار تحوي طلاوة معشرك ولذة حديثك.
لقد غيَّبك الموت عني يا أخي، ولكني دائمًا أتخيلك أمامي في كل شيءٍ حسن، وفي كل مكانٍ جميلٍ.