الرسالة الأربعون١
يا أخي:
إني أفهم الدين وأعتقد به أنه الصلة الوحيدة التي تربط الناس بخالقهم، والفكرة السامية التي تزجرهم عن الإثم والمخازي، وتفتح أمامهم طريق الحق والفضيلة.
ليس هو باعتقادي من مستنبَطات الحضارة ولا من نتاج التجارب العلمية، بل هو فكرةٌ، نشأت مع الإنسان حين كان همجيًّا يعيش في الكهوف والمغاور، ولم تزل هذه الفكرة متأصلةً في أدمغة الناس في عصر العلم والتمدن، كما كانت في العصور الهمجية السالفة.
وستبقى فكرة الدين مُرْتَكِزة في أذهان الناس إلى الأبد، ولا عبرة في تحوير الأديان وتعديلها كلما اقتضى العصر أو البيئة.
ذلك لأنه مهما سينشأ في الكون من الأديان والمذاهب، ومهما تتبدل الشرائع والقوانين، فإن جَوْهَر الدين واحدٌ لا يُمَسُّ، وما جَوْهَر الدين سوى الصراط المؤدي إلى معرفة الحق.
كانت أديان الأقدمين تُحَرِّم القتل والكذب والاختلاس وشهادة الزور، وكل ما ينافي الحق، فاندثرت تلك الأديان، وقام مَقَامَها أديان جديدة أكثر منها سموًّا بتعاليمها الرائعة، وشرائعها المرتكزة على الوحدة الربانية، ولكنها طُبِعَتْ على غرار الأديان القديمة من حيث مناصَرة الحق ومعاقَبة البُطْل.
يا أخي:
إن الحق في كل العصور واحدٌ لا يتجزأ، هكذا جوهر الدين واحدٌ أيضًا؛ لأنه الحقُّ بعينه.
ولهذا السبب أصبحْتُ مؤمنًا بأن كل من اعتصم بحبل الحق هو من ديني، وأنا من دينه.
وكل من كان حليمًا صادقًا كريمًا نبيلًا، محسنًا يعفو عند المقدرة، ويغضُّ الطرف عن الإساءة، غير متعصبٍ ولا متحزبٍ لدينٍ ولا لأخٍ أو نسيبٍ، أو لفئةٍ من الفئات إلا للحق وحده، فهو من ديني وأنا من دينه.
وكل من يصوم ويصلي ويذكر الله كثيرًا، ويسجد في الكنائس والجوامع والخلوات، ولا يُقْرِن الصوم بحسن النية وطهارة الضمير، والصلاة بالعمل الطيب والمحبة الخالصة لجميع الناس على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم، فهو ليس من ديني ولا أنا من دينه.
لأن ديني يقوم بالأعمال لا بالأقوال، وبالتساهل لا بالتعصب، وبالمحبة والتضحية لا بالبغضاء والعداوة.
وأما معظم الناس — وخصوصًا في الشرق — فيفهمون الدين بأنه لا يقوم إلا بالتعصب الذميم، وبالعداء المستحكم لكل من لا يؤمن به، وبكثرة الصوم والصلوات والعبادات، ولا يفتكرون بالحق الراهن إلا قليلًا.