الرسالة الثانية والأربعون١
يا أخي:
منذ انتقلتَ إلى الحياة الأخرى وأنا أتساءل: ما هي هذه الحياة الدنيا؟ ما هو الموت؟ ما هذا الوجود؟ وما وراء هذه الأفلاك السابحة في الفضاء؟ ما هي القوة الأزلية الخالدة التي أوْجَدَت الكائنات؟ أو بالأحرى: ما هو الله القادر على كلِّ شيءٍ، والخالق كلَّ شيءٍ؟
كيف يجب أن أعتقد بوجوده؟ كيف أومن به؟ كيف أتصوَّره في ذهني، وأتخيله في ضميري؟
هل أومن به إلهًا جبارًا قاسيًا، يشبه جبابرة الملوك الأرضيِّين القساة؟ لا.
هل أعتقد به أنه يستهويه المدح والثناء، ويرتاح إلى التسبيح والتمجيد، ويرغب في الزخارف الباطلة، كما يرغب جميع البشر؟ لا.
هل أتصوَّره إلهًا مخيفًا هائلًا، يجلس يوم البعث على عرشه الإلهي، ومن حوله الأولياء والملائكة يُقَدِّمون إليه الناس أفواجًا أفواجًا لِيُدِينَهم، فيقفون أمامه — تعالى — مذلولين خاشعين، كما يقف العبد أمام سيده؟ لا.
هل أتخيَّله — تعالى — بصورة إنسانٍ، كما يقول الكتاب «لقد خلقه الله على صورته ومثاله»؟
أو أتمثَّله كالبرق، يَسْطَع في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ؟ لا أدري حقًّا كيف يجب أن أتخيَّله، ولا كيف أحلم به، ولكن كما أن النور يدل دلالةً واضحةً على وجود الكهرباء، مع أننا لا ندري سرَّ الكهرباء، هكذا أعتقد بأن هذه الكائنات بشموسها وكواكبها ونظامها العجيب، ومخلوقاتها التي لا تُحصَى، كلها تدل دلالةً صريحةً على وجود الله، ولو كنا لا ندري سرَّ الله.
يا أخي، إني أعترف أمام نفسك الآن بأن إلهي الذي أعبده، لا أعتقد به أنه إله دينٍ من الأديان، ولا إله شعبٍ خاصٍّ من الشعوب.
إن إلهي هو إله حقٍّ لجميع الأمم والكائنات والمخلوقات، وفضلًا عن ذلك: إن إلهي غفورٌ رحوم، لا يملأ قلبي خوفًا ولا رعبًا؛ لأني لا أتخيله ربًّا قاسيًا يحكم عليَّ بعنفٍ وشدةٍ، بل أتمثله أبًا حنونًا يعطف عليَّ، ويعاملني بعدل ورحمة.
ولهذا السبب، كلما شئت أن أتوسل إليه، وأطلب منه أمرًا، أخاطبه كما يخاطب الابن أباه، لا كما يخاطب العبد مولاه.
إن إلهي هو منتهى الحلم؛ لأنه منتهى القوة. ومنتهى العفو؛ لأنه منتهى الكمال.
إن إلهي هو منبع الخيرات، ومصدر الحياة، ومبعث البركات، إنه مورد المحبة الدائمة والرحمة الكاملة.
هكذا يا أخي، أتمثَّل الله خالدًا بحبه كما هو خالدٌ بربوبيته، وكاملًا بصفاته وعفوه كما هو كاملٌ بقدرته.