الرسالة الرابعة١
يا أخي:
لا أنسى — ما حَيِيتُ — ساعةَ شاهَدْتُك في مسائك الأخير، متكئًا على فراشك، وبين يديك رسم الأبوين، متذكرًا طفولتك وأيام صبوتك، حين كُنْتَ ترتع هنيئًا في البيت الأبوي بين أحضان والدَيْك.
في تلك الساعة كان تَنَهُّدُك عميقًا، وكُنْتَ تارةً تَضَع الرسم على فمك وتقبِّله بشوقٍ وحنانٍ زائدَيْن، وطورًا تحدق به متأملًا ومستنزفًا كل ما في جَنانك من وجدٍ وانعطافٍ نحو من كانا سبب وجودك.
في تلك الليلة كان الطبيب بِقُرْبِك يواسيك، والممرضة تنفحك بعنايتها، وعقيلة أختك إزاءك ترمقك بحنوها وانعطافها، وأخوك بجانبك يشدِّد عَزْمَك، ويملأ قلبك ثقةً بالحياة.
في تلك الساعة حوَّلْتَ فجأةً نَظَرَكَ إليَّ، وخاطبتني والرسم بين يديك، قائلًا: اذهب يا أخي إلى أبيك، وأما أنا فغدًا أذهب إلى أحضان أمِّي، التي جَاوَرَتْ رَبَّهَا منذ سبع سنوات.
إن قوةً إلهيةً وَهَبَتْني معرفة مصيري.
لا أخاف الموت، إن الموت حياةٌ.
يا أخي:
قُلْتَ لي مرارًا: إنك لم تنظر أحدًا عن كثبٍ يتخبط في دَوْر نزاعه، قُم الآن وشاهِدْ نِزَاعَ أخيك.
مثِّل للناس كيف تَزْهَق الروح، ويتلاشى النَّفَس.
اكتب يا توفيق، لقد خُلِقْتَ للكتابة.
صوِّر نفسك تصويرًا صحيحًا.
دوِّن أفكارك وسجِّل خواطرك وكل ما يُكِنُّه فؤادك من علمٍ وأدبٍ وفنٍّ.
ارسم أخلاقك ومبادئك، ولا تَتْرُك في صدرك شيئًا مكتومًا.
فإذا جاءك هادم اللذات، فلا يَهْدِم إلا جثمانك، وأما وجدانك فيبقى مُخلَّدًا في صفحات الكتب، يقرؤه الناس إلى ما شاء الله.
وأما أنا فقد انتصر الموت على عواطفي وأفكاري، كما انتصر على جثماني؛ لأني تَرَكْتُ معارفي مكتومةً في طيات دماغي، وشواعري مخبوءةً في حنايا صدري.
يا أخي:
لم أعش طويلًا، ولكني عِشْتُ شريفًا.
لم أَعْمَل في حياتي عملًا مُعِيبًا تستحيي منه.
قد حرمَتْنِي الطبيعة لذة الحياة الدنيا، ولكنها لم تَقْدِر على حرماني تلك اللذة الروحية التي رافقتني طيلة عمري، ولم تزل ترافقني حتى الآن، رغمًا من شدة آلامي، ووقوفي على باب القبر.
وصيتي إليك بأنْ تأخذ رُفاتي إلى الوطن، وتَضَعها في لَحْد أمي.
والآن أودعك الوداعَ الأخير، وأطْلُب منك ألا تحزنْ على فقدي.
الوداع يا شقيقتيَّ العزيزتين.
الوداع يا وطني، يا مثوى الآباء والجدود.
الوداع يا أخي.
هذا كان حديثَك الأخير دوَّنْتُه لك حرفيًّا ليقرأه الناس ويترحمون عليك، وليعلم أولادي ولو شيئًا يسيرًا عن مقدار شخصيتك البارزة، وأخلاقك النبيلة.