الرسالة السادسة١
يا أخي:
لم يَزَلْ صوتك يَرِنُّ في أذني، حينما خاطبْتَنِي بإيمانٍ راسخ قائلًا لي إن قوةً من العلا هَبَطَتْ عليك وأوْلَتْك معرفة مصيرك.
والآن جئت أسألك: ما هي تلك القوة الخفية التي احْتَلَّتْ وجدانك، وقَصَفَتْ زهرة شبابك؟!
ما سَبَبُ مجيئها في تلك الساعة الأليمة؟!
هل أَرْسَلَهَا المبدع خصوصًا لتفتح أمامك طريق الموت، وترشدك إلى باب الخُلْد؟!
أو أن تلك القوة التي شعرْتَ بها هي حياةٌ جديدةٌ دبَّت فيك، وقَضَتْ على حياتك الماضية، واحتلت أماكنها كما يحتل الجيش المُنْتَصِر أماكن الجيش المنكسر.
يا أخي:
إن الذرات الحية التي تتركب منها الأجساد على اختلاف أنواعها، نراها دائمًا تَعْبَثُ في مُرَكَّباتها، تحييها مُدَّةً ثم تميتها، ثم تعود إلى إحياء غيرها، ثم تبيدها … وهكذا دواليك.
وبما أن الجسم البشري مفعول من مفاعيل تلك الذرات البسيطة، فلا قِبَل له سوى الخضوع لها، والجري على نواميسها.
إني لَمؤمن أيضًا أن حياة الكهارب لا تنتهي بانتهاء الأجساد، بل تتحول من شكلٍ إلى شكلٍ، ولا تفنى ولو فَنِي الكون، وتفَكَّكَتْ حلقات الطبيعة، وأصبحت هباءً منثورًا.
فعندئذ يَلُوح لي أن هذه الكهارب الصغيرة تصْطَنِع لنفسها كونًا جديدًا، أو تحتل شهابًا آخر، وتأخذ مَجْرَاها في عالم الحياة إلى ما شاء الله.
يا أخي:
يُخَيَّل إليَّ أن الحياة دائمةٌ لا بدءَ لها ولا منتهًى؛ لأني أرى الأكوان جميعها تتركب من ذرات صغيرة، تنبعث منها الحياة أشكالًا وألوانًا.
إن النور المنبعث من الشمس والأرض وما عليها، ليس هما بالحقيقة سوى حياةٍ ولَّدها اتحاد الكهارب، أو الذرات والتصاق بعضها ببعض.
فكما أن الفنان يرسم ألوان الحياة ومظاهر الطبيعة أشكالًا، والموسيقي الماهر يعزف على قيثارته من الأنغام أنواعًا، والمخترع يصبُّ في معمله من الآلات أجناسًا، هكذا الذرات الحية فهي خليقةٌ أن تَعْمَل في اتحادها من الشموس والكواكب أنواعًا لا تُعَدُّ، وأن تُوجِد من ضروب الحياة أشكالًا لا تُحصى.
إنها — لعمري — تفعل في آنٍ واحدٍ فِعْل العازف والفنان والمخترع، وتعمل عمل الكل؛ لأنها الكل بالكل.