القضاء
والقضاء في الإسلام عام يسوي بين الناس، ويتولاه من اجتمعت له شروطه أو أكثرها، وهي: العقل والعلم والحرية وحسن السمعة والبصر والنطق، ويستحب أن يكون مجتهدًا، ولا يمتنع أن يكون مقلدًا، ويجوز للإمام أن يقسره على تولي القضاء إذا لم يجد غيره في كفايته وصلاحه؛ لأن القضاء فريضة على المجتمع كله، وهي ما يسمى أحيانًا بفرض الكفاية.
إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف جورك.
البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا.
ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطل، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن العظيم والسنة.
ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها وأقربها إلى الله — تبارك وتعالى — وأشبهها بالحق.
اجعل للمدعي أمدًا ينتهي إليه، فإذا أحضر بينة أخذ بحقه، وإن عجز عنها استحللت عليه القضاء، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودًا في قذف أو ظنينًا في ولاء أو قرابة أو مجربًا عليه شهادة زور، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات.
إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس.
وقد سن عمر مبدأ استقلال القضاء عن كل سلطان حتى سلطان الإمام الأكبر، وسأل رجلًا له قضية: ما صنعت؟ فقال الرجل: قضى عليَّ بكذا، قال عمر: لو كنت أنا لقضيت بغير ذلك، قال صاحب القضية: فما يمنعك والأمر إليك؟ فقال عمر: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه ﷺ لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي، والرأي مشترك.
وأخذ النظام الإسلامي بمبدأ فصل السلطات، فجعل للقاضي وظيفة غير وظيفة التنفيذ ما لم ينص على ولاية خاصة في أمر ولايته. قال أحمد بن إدريس القرافي في الذخيرة: «ولاية القضاء متناولة للحكم لا يندرج فيها غيره، وليس للقاضي السياسة العامة لا سيما الحاكم الذي لا قدرة له على التنفيذ … وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكمًا، فقد يفوض إليه التنفيذ وقد لا يندرج في ولايته، وليس للقاضي قسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح وإقامة الحدود وترتيب الجيوش وقتال البغاة.»
وكانت القضايا المشكلة تعرض على أكثر من قاض واحد، وقد يكون في المحكمة أربعة قضاة كما روى العمري صاحب كتاب مسالك الأبصار.
وشرع في القضاء الإسلامي ما يشبه قضاء النقض في عصرنا هذا، فيرد حكم العالم العدل كما جاء في شرح الرصاع التونسي فيما خالف نص آية أو سنة أو إجماع أو ما يثبت من عمل أهل المدينة أو قياسًا لا يحتمل إلا معنى واحدًا أو قامت بينة على أن له فيه رأيًا فحكم بغيره سهوًا … وقد يأخذ المرجع الذي ينقض الحكم أمامه بغير هذه الأسباب أو ببعضها دون سائرها، ولكن حق النقض مسلم مشروط بالدليل القاطع الذي لا يحتمل اختلاف الآراء.
وكان الخلفاء يقترون على أنفسهم ويوسعون في أرزاق القضاة، فكان رزق سليمان بن ربيعة الباهلي في عهد عمر خمسمائة درهم مشاهرة، وكذلك كان رزق شريح في عهد علي، وجرت سنة الخلفاء بعدهم على التوسعة في أرزاق القضاة وترجيحهم على الولاة.
ومن الآداب المطلوبة للقاضي: «ألا يشتري بنفسه ولا بوكيل معلوم حتى لا يسامح في البيع»، وكان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يقول: «تجارة الولاة مفسدة وللرعية مهلكة»، فكان يغني القضاة بسعة الرزق عن التكسب والاتجار.
ومن الوظائف التي عرفها القضاء الإسلامي: وظائف العدول، وكانت في مبدأ أمرها توكل إلى أناس من الثقات الذين يؤخذ بقولهم في تزكية الشهود؛ ليسألهم القاضي عمن تقبل شهادته أو لا تقبل في الدعاوى المعروضة عليه، ثم نيطت بهم أعمال التسجيل وكتابة العقود الشرعية، وكان أفضلهم أولاهم بالتقديم ولو تقدم الشاب على الشيخ والعالم على من هو أعلى منه، وكانوا يفرقون بين كفاية الشاهد وكفاية العدل، فقد يحسن الرجل تزكية الشاهد، ولا يحسن أداء ما سمع ورأى.
وكان بعض القضاة يشتدون في تتبع أحوال العدول، فلا يقبلون منهم في مجلس القضاء إلا من برئت سمعته من كل شبهة، قال غسان بن محمد المروزي: «قدمت الكوفة قاضيًا فوجدت فيها مائة وعشرين عدلًا فطلبت أسرارهم فرددتهم إلى ستة، ثم أسقطت أربعة، فلما رأيت ذلك استعفيت.»
ومن النظم الخاصة بالقضاء الإسلامي: قضاء الحسبة، وهو القضاء الذي يفصل في بعض الأمور وإن لم تقم بها دعوى، ويشبهه في النظم الحديثة قيام النيابة برفع الدعوى العمومية، ولكن قاضي الحسبة يحكم وموظفو النيابة يرفعون الأمر إلى القضاء، ولم يكن للدول القديمة نظام يشبه الحسبة إلا في الدولة الرومانية، حيث كانوا يقيمون من حين إلى حين رقيبًا يتتبع نقائص المجتمع، ولكنه عمل عارض، وليس بالأصل في التشريع.
أما أدب القضاء الأكبر في الإسلام فهو تطامن القاضي واعتقاده على الدوام جواز الخطأ على أحكامه وتقديراته، ولو جاز لأحد أن يؤمن الناس بعصمة قضائه من كل خطأ لجاز ذلك للنبي عليه السلام، ولكنه — صلوات الله عليه — كان يقول للخصوم قبل أن يقضي بينهم: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها.»
وحسب القضاء أن يكون إنسانيًّا ليكون غاية الرضى من الأنظمة التي يرتضيها طلاب المساواة ومنهم الديمقراطيون، وما ادعى القاضي الأول في الإسلام أكثر من أنه إنسان يقضي بين أناسي، وما جرى على سنته أحد إلا حكم بأن الناس سواء أمام القضاء.