مع الأجانب
وقد اتسعت حرية الحكومة الإسلامية للأجانب عنها فأمنوا في كنفها على أرواحهم وعقائدهم وأموالهم، وأبيح لهم من حقوق الضيافة أو الإقامة ما لا يباح اليوم لأجنبي في عرف الحضارة الحديثة.
ويتضح سبق الحضارة الإسلامية إلى هذه السماحة من معاملة الدول العصرية للنازلين في بلادها من الأجانب المسلمين أو الأجانب المتهمين، ولا سيما في أيام الحروب أو أيام الخطر والشك بين الدولة ومن تخشى عدوانهم أو يخشون عدوانها.
فقد تحظر الدولة على الأجنبي أن يدخل بلادها، وقد تأذن له بدخولها إلى أمد محدود، ثم تخرجه منها قهرًا إذا لم يخرج باختياره، ولا يحق لدولته أن تحتج على إخراجه، وتستبيح الدولة لمجرد الخوف والاشتباه أن تنفي الأجانب النازلين في كنفها أو تحجر على حركاتهم وتخضعهم للرقابة والتفتيش من آونة إلى أخرى، وهم على كل حال مفردون بمعاملة خاصة بين أصحاب الحقوق الوطنية فليس لهم نصيب كبير أو صغير منها.
وينبغي أن نذكر أن الإسلام كان خليقًا أن ينظر إلى الأجانب المحيطين به والنازلين بين أهله نظرته إلى الأعداء المتربصين به في كل ساعة؛ لأنه لم يزل مهددًا بالغارة والانتقاض منذ دعوته الأولى إلى قيام دولته بين أعدائها، فعذره في الحيطة والحذر غير مجهول لو أنه وضع لنزول الأجانب في أرضه أو مقامهم في ظل حكومته قيودًا من قبيل هذه القيود المصطلح عليها في الزمن الأخير.
لكنه استغنى عن جميع هذه القيود حيث أمكن الاستغناء عنها، وبالغ في احترام الحوزة ولو كان أصحابها غير مأمونين بين ديار المسلمين وديار أعدائهم، فمن ذاك أن مدينة يقال لها «عربسوس» كانت على تخوم الدولة بينها وبين بلاد الروم، وكان أهلها كما قال عمير بن سعد في شكواه منها إلى الفاروق «يخبرون عدونا بعوراتنا ولا يظهروننا على عورات عدونا، ولهم علينا عهد …» فلم يجسر عمير على إيذائهم قبل أن يرجع في أمرهم إلى الخليفة، ولم يعجل الخليفة بالنقمة منهم حتى يبسط لهم المعذرة وسبيل الرحلة، فقال لعمير: «إذا قدمت فخيرهم أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين، ومكان كل بقرة بقرتين، ومكان كل شيء شيئين، فإن رضوا فأعطهم إياه وأجلهم … فإن أبوا فانبذ إليهم وأجلهم سنة ثم اخربها.»
والمشهور عن نظام الحكومة الإسلامية أن الذميين والمعاهدين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وأن الدولة تقاتل عنهم كما تقاتل عن جميع رعاياها، وأنها لا تستبيح عقوبتهم بالحدود الإسلامية فيما لا يحرمونه ولا يعاقبون أنفسهم عليه، وأنهم لا يدعون إلى القضاء في أيام أعيادهم، لقوله عليه السلام: «أنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت.»
ولكن الأمر لا ينتهي عند نصوص الشرع والقانون، ولا يزال الحاكم المسلم مطالبًا بالمجاملة وحسن المعاملة في غير ما بينته النصوص وفصلته العهود، فيقول النبي عليه السلام: «من قذف ذميًّا حد له يوم القيامة بسياط من نار»، ويقول أيضًا: «من آذى ذميًّا فقد آذاني»، ويقول في موضع آخر: «من ظلم معاهدًا وكلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة»، ولا ينسى الخليفة هذه الأحاديث وهو يكتب وصاياه إلى ولاته، فيذكر الفاروق بها عمرو بن العاص، ويقول له في كتاب منه إليه: «إن معك أهل الذمة والعهد … فاحذر يا عمرو أن يكون رسول الله خصمك.»
قال البلاذري: إن عمر لما ذهب إلى الشام «عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصارى فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجرى عليهم القوت.»
ورأى شيخًا يهوديًّا يتكفف فأمر له برزق يجريه عليه من بيت المال، وقال له: «ما أنصفناك يا هذا، أخذنا منك الجزية فتى وأضعناك شيخًا.»
وقد أبيح لأهل الذمة بناء الكنائس والبيع وإقامة الشعائر في ديارهم، فلا يمنعون منها إلا ما يعطل شعائر الإسلام ويجور عليها، ولا يكلفون العزلة إلا دفعًا للشبهة التي تبيح الحكومات الحديثة ما هو أشد من العزل والتمييز في الحل والسفر.
ومن المعلوم أن المسلم مأمور بتصديق جميع الأنبياء من قبل نبي الإسلام عليه السلام: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
فليس المسلم منكرًا لأديان الذميين معرضًا عن أنبيائهم؛ بل هو معهم في كل عقيدة لم تخالف التوحيد، ومعهم في إجلال أنبيائهم أو يزيد: إِنَّ الذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا.
وعقيدة المسلم أن السابقين على التوحيد من أهل الأديان جميعًا لهم أجرهم عند ربهم كمن آمن بالله ورسوله محمد صلوات الله عليه: إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
فليس أقدر من الإسلام على تقريب شقة الخلاف بينه وبين أهل الأديان، وليس أصدق منه في موالاتهم إذا عاهدوه وإن خالفوه في الاعتقاد أو أنكروه، فإن كانت حرب بينه وبين أعداء فليس أكرم منه في معاملة الأعداء المقاتلين بين حالة الحرب والحذر أو حالة الأمن والسلام، كما تقدم في غير هذا المقام.
وخير ما يختم به كلام في حظ الأجانب من الديمقراطية الإسلامية عهد إيلياء الذي كتبه الفاروق في إبان الظفر والفتح فقال فيه: إنه «أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ولا من خيرها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار على أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وأن يخرجوا منها الروم واللصوت (اللصوص) فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية … ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.»
ولا موضع للمقابلة بين هذا الأمان وما جرى مجراه في حضارة من الحضارات الإنسانية، فليس في الحضارات الإنسانية قط ما جرى مجراه.