العلاقات الخارجية
نظام الحكم في الأمة له صلة وثيقة بعلاقات الأمم الخارجية، فحيثما وجد الحكم المطلق تعذر السلام بين الدول، وكانت العلاقات بينها على الدوام علاقات حرب قائمة أو انتظار حرب قريبة، وليس من الضروري انتظار سبب للحرب وجيه أو غير وجيه، فإن السلطان المطلق وحده كافٍ لإثارة المطامع، والحذر من العدوان، وتربص كل دولة بالأخرى طمعًا وعدوانًا أو خوفًا من الطمع والعدوان.
ويظهر من التجارب الحديثة على الخصوص أن الدول الديمقراطية أقل الدول رغبة في القتال؛ لأن المرجع فيها إلى الشعب لا إلى سادته الذين يسخرونه في طلب الشهرة والبذخ والفخر بالحول والطول في غير مصلحة معلومة، وقد تبين من حروب قرن كامل أنها بدأت على الدوام من جانب الدول التي تدين بالسلطان المطلق، وشوهد في جملة الحروب أن الاستعداد للعدوان يأتي من جانب تلك الدول التي تنفق أموالها بغير حسيب أو رقيب من الرعية ووكلائها، فتستعد للعدوان ثم تعتدي قسرًا وتنساق إلى الحرب طوعًا أو كرهًا؛ لأن السلاح بضاعة لا تدور في الأسواق، ولا تقابل فيها الخسائر بأرباح غير ما يأتي من الحرب، فإن لم تكن غنائم حرب فثمة خسارة محققة يشعر بها الرعاة والرعايا فلا يأمنون من الفتنة والانتقاض، ولا يزالون في ارتقاب الحرب كأنها المخرج الوحيد من مأزق كله إغلاق، وندرت فيه المخارج والأبواب.
ويخيل إلى الكثيرين أن الديمقراطية في الإسلام غير الديمقراطية كلها في هذه الخصلة، وهي خصلة العلاقات السلمية بينها وبين الأمم؛ لأن الإسلام قد شرع الجهاد، والجهاد معناه القتال.
وحقيقة الواقع أن الديمقراطية الإسلامية أوفق النظم الحكومية؛ لتمكين العلاقات السلمية بين بني الإنسان، ويتبين ذلك من أقسام العالم في نظر الإسلام، ومن حكم الإسلام في العلاقة بينه وبين كل قسم من هذه الأقسام.
فالعالم الإنساني ثلاثة أقسام بالنسبة إلى الدولة الإسلامية: قسم المسلمين، وقسم المعاهدين، وقسم الأعداء، ولا يحتمل العقل ولا نجد في الواقع تقسيمًا للعالم بالنسبة إلى دولة من الدول غير هذا التقسيم.
أما الأمم الإسلامية، أو دار الإسلام كما يسميها الفقهاء، فالقتال بين أهلها حرام، ومن أقدم عليه فالمسلمون مطالبون برده عن عدوانه صلحًا وتوفيقًا أو حربًا إذا تعذر الصلح والتوفيق.
وفي الكتاب الكريم: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين.
وفي الحديث الشريف: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه.»
والخطاب في القرآن موجه دائمًا إلى المكلفين، والمكلفون هم المسئولون المستطيعون، أما المعاهدون: فإن قبلوا عهد الذمة — كما جاء في الحديث الشريف: «فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.»
والتعاهد أنواع فصلها الفقهاء، ولم يأت القانون الدولي الحديث بتفصيل أوفى من تفصيلهم في هذا الباب، وحكم الإسلام الوفاء بجميع العهود ما لم تنتقض من جانب الطرف الآخر: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.
ولا استثناء لعهود المشركين الذين ثبتوا على عهدهم: إِلا الذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ …
ومن لم يكن من المسلمين ولا من المعاهدين فيدعى إلى الإسلام أو إلى المعاهدة، وسبيل الدعوة منصوص عليه في القرآن الكريم أن ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَل عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وحجة الدين هي حجة الإقناع لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وإنما يجب الجهاد حين تقف القوة في سبيل الدعوة بالحسنى فلا محل معها للإقناع ولا لحرية الاستماع، وإنما هي القوة تدفع القوة حين تنقطع أسباب الحجة وأسباب الأمان، ولا أمان حيث يرفض التعاهد والولاء، بل يعلم المسلم أنه غير منهي عن البر بمن لا يقاتلون في الدين لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
قلنا في هذا المعنى من كتاب عبقرية محمد: «إن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع، ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف سلطة تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماء المستعدين للإصغاء إليه؛ لأن السلطة تزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة، ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء وفي الأعقاب بعد الأسلاف … وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه، وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها؛ لأنهم أصحاب السلطة التي تأبى العقائد الجديدة، وقد تبين بالتجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية، وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب علماء؛ لأن امتناع المقاومة من هؤلاء الملوك والعظماء كان يمنع العوائق التي تصد الدعوة الإسلامية، فيمتنع القتال، ومن التجارب التي دل عليها التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب … ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة من أمثاله في سائر البلاد، فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة، ولا بد من التمييز بين العملين لأنهما جد مختلفين.»
وينبغي للمؤرخ المنصف أن يذكر أن المسلمين كانوا ضحية السيف قبل أن يغلبوا به أعداءهم، فكان الإقناع سابقًا للدفاع، ولم يأت الدفاع إلا حين بطل الإقناع.
فإذا جاء القتال بعد رفض الدعوة ورفض المعاهدة فالاعتراض عليه إنما هو اعتراض على كل دعوة من أساسها، وإنما هو رأي ينهى كل مصلح أن يخرج لدعوة إصلاح، ولا نكران أن الإسلام يأبى هذا الاعتراض ويأبى هذا النهي؛ لأن الدعوة إلى الخير واجبة فيه على كل بيئة وبين كل طائفة، لا استثناء في ذلك للطوائف الإسلامية ولا لغيرها؛ بل هو شرع جهاد الفقه والعلم إلى جانب جهاد السيف والقوة، وجاء في الكتاب العزيز: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ … وليس أكثر من الآيات والأحاديث التي توجب على المجتمع الإسلامي أن تكون منه أمة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، ويذكرون أبدًا أن من قبلهم هلكوا؛ لأنهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
وقبل أن نلخص أحوال الجهاد في الإسلام نلقي بنظرة عاجلة على الأسباب التي تتخذها الدول في عصرنا هذا مسوغات لإعلان العداء واستباحة القتال، ونذكر منها ما اتفقت عليه وجعلته عرفًا معدودًا في السوابق المرعية، ولا نذكر الفلتات التي تأتي عرضًا ولا يجري عليها قياس.
فقد رأينا دولًا تفرض على بعض البلاد أن تفتح لها أسواقًا للتجارة وإلا فتحتها عنوة بمفردها أو بالاتفاق مع غيرها، ورأينا دولًا تقتحم البلاد وهي تدعي أنها تفتحها للحضارة، وتؤدي فيها أمانة الرجل الأبيض ورسالة التقدم، ورأينا دولًا تعلن على الملأ أنها اعتبرت إقليمًا من الأقاليم داخلًا في حوزتها وحظرت معاملته بغير وساطتها، وأنها تنذر الدول الأخرى أنها تنظر إلى من يخالفها في ذلك نظرة العداء أو تحسبه مقدمًا على عمل من أعمال الأعداء، وكل ذلك يستباح باسم التجارة أو العمارة، ولا يبلغ حقه — إن جاز أن يسمى حقًّا — مبلغ الحق الذي يفرضه الإنسان لهداية الإنسان، ويعلق عليه صلاح النفس وصلاح ضمير العمران.
والإسلام على كل حال يوجب الدعوة إلى الخير، وينظر إلى السلطة التي تقف في سبيلها نظرة عداء، ويعاملها معاملة من لا أمان له، إلا أن تعاهده على الأمان فلها مثل ما له وعليها مثل ما عليه.
وقد أمر المسلمون بأنواع من الجهاد منها مقاتلة المعتدين عليهم وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، ومنها الجهاد بحجة الكتاب والإعراض عن منكريه: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا، ومنها: الجهاد لمن لا يقبلون الدعوة، ولا يعاهدون على الأمان.
فإذا وجب هذا الجهاد فالمسلم مأمور فيه بقتال المقاتلين دون غيرهم فلا يحل له قتل امرأة ولا صبي ولا شيخ ولا مقعد ولا يابس الشق ولا أعمى ولا مقطوع اليد ولا معتوه ولا راهب في صومعة ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس، وقد جمع الخليفة الأول وصايا النبي — عليه السلام — للمقاتلين فقال: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا تعقروا نخلًا ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، سوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له …»
وقد أقر الإسلام الأمان والموادعة والمهادنة في القتال، وجعل لكل منها شرطًا، وأمر برعاية عهودها جميعًا، إلا أن يتبين القائد المسئول غدرًا مبيتًا من جانب عدوه فلا جناح عليه أن يأخذ بالحيطة في الهجوم قبل الغارة عليه.
فالأمان في تعريف الفقهاء هو: «رفع استباحة الحربي ورقه وماله حين قتاله أو العزم عليه» وتكفي فيه الإشارة التي يفهمها من يطلب الأمان.
والاستئمان: «تأمين حربي ينزل لأمر ينصرف بانقضائه».
والمهادنة: «عقد المسلم مع الحربي على المسالمة مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام».
•••
على أننا إذا اعتبرنا الواقع من أمر الجهاد في صدر الإسلام فالواقع أن أسباب الجهاد يومئذ كانت كلها ردًّا للعدوان أو تأمينًا للحدود.
ففي غزوة تبوك — كما قلنا في عبقرية محمد — عاد الجيش الإسلامي أدراجه بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد نمي إلى النبي أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية، فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزو على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وتسفيره.
وكانت دولة الروم ترسل البعوث إلى تخوم الجزيرة وتهيج القبائل لحرب المسلمين، وظل المسلمون يعيشون في فزع دائم من خطر هذه الدولة وأتباعها، ويتبين هذا الفزع — كما ذكرنا في عبقرية عمر — من تحدث المسلمين بتأهب غسان لغزو الجزيرة العربية، فلما دق صاحب الفاروق بابه دقًّا شديدًا ذات ليلة ليحدثه عن نبأ عظيم خرج يقول: ما هو؟ أجاءت غسان؟
فلما تولى الصديق الخلافة أنفذ بعثة أسامة التي يصح أن تسمى بلغة هذا العصر بعثة تأديبية لردع القبائل التي كانت تعيث في الطريق بين الحجاز والشام، فلم تلبث أن قفلت إلى المدينة بعد أربعين يومًا أو سبعين يومًا في قول بعض المؤرخين.
أما غزوة فارس فقد كانت — كما ذكرنا في عبقرية الصديق — استطرادًا لحروب الردة في أطراف البحرين، فكانت القبائل التي تدين لسلطان فارس توالي الإغارة على أرض المسلمين فيدفعونها، ويقتصون منها، ويتعقبونها في بلادها، وكان الصديق يجهل اسم القائد المقدام الذي كان يتولى الدفاع والتعقب في تلك الأنحاء، فسأل عنه في شيء من التعجب: «من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟» فعرفه به قيس بن عاصم قائلًا: «هذا رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العمار، هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»
فكان هذا الاستطراد في حرب الردة بداءة الاشتباك بفارس ومن والاها من قبائل البحرين والسواد، ومضت الحوادث شوطًا قبل أن تنقلب إلى تلك الحرب الضروس بين العرب والفرس في أوسع نطاق، فلما أرسل الصديق خالدًا لنجدة المثنى أمره أن «يتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم» …
وتقدم خالد في تأمين الطريق فصالح أهل الحيرة على «أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرًا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدلوهم على عورات المسلمين».
وفي كل أولئك كان أئمة المسلمين السابقين يعملون بما يوافق الحديث الشريف في رواية عبد الله بن عمرو: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وأكثروا ذكر الله، فإن أجلبوا وضجوا فعليكم بالصمت.»
•••
هذه جملة أحكام الإسلام شرعًا وفعلًا في العلاقات الأجنبية، وهي أحكام تجعل الدولة الإسلامية مثالًا للدولة التي تنتظم في أسرة الأمم، وتجري علاقاتها معها على سنن واضح وعهود مرعية وأمان مصون.
ويستطرد بنا الكلام في الحرب إلى الكلام في الرق؛ لأن موضوع الرق على صلة بالأسر وعلى صلة بالحقوق الديموقراطية.
فالأرقاء في الإسلام هم الأسرى الذين لم يعتقوا ولم يفتدوا، وبينهم وبين الأحرار فرق في بعض الحقوق.
وموقف الإسلام في مسألة الرق لا يعرف على حقيقته إلا بالمقابلة بين ما تقدمه وما جاء بعده إلى العصر الحاضر.
فالحكمة العقلية بلغت أوجها في فلسفة اليونان، وكان أفلاطون وأرسطو معًا يعتبران الرق حالة «أصلية» ملازمة للطبيعة البشرية، ووصف أرسطو العبيد بأنهم آلات حية، وشدد أفلاطون في عقوبة العبد الذي يتطاول على حر ولو كان غير سيده، فأوصى بتسليمه إلى من أساء إليه ليتولى عقابه بما يرضاه.
واعترفت الأديان كلها بالرق ونظرت إليه كأنه عقوبة إلهية يستحقها بعض الناس، ويحسن بهم أن يصبروا عليها.
أما بعد الإسلام فحكم القانون الدولي في أحدث العصور تسخير الأسرى للخدمة وحجزهم في يد الآسرين رهائن للمبادلة أو للفكاك بالغرامات المقدرة، وليس لهم بطبيعة الحال حقوق في بلاد الأسر، ولا يلزم أن يجابوا إلى طلبهم إذا أرادوا اكتساب الحقوق الوطنية بالدخول في جنس الأمة الغالبة.
ومعاملة الإسلام للأسرى خير من حكم الفلسفة، ومن حكم الأديان السابقة، ومن حكم الحضارة الحديثة.
فالرق في الإسلام حالة عارضة تزول وليس بالحالة الطبيعية التي لا تتبدل، وسبيل إزالتها تشجيع المالكين على إعتاق أسراهم، وتمكين الأسرى من افتداء أنفسهم، ومن كان لا يملك مالًا ويعرف القراءة ففي وسعه أن يفتدي نفسه بتعليم بعض المسلمين، وقد جعل الإسلام إعتاق الأسرى كفارة عن السيئات، وكانت وصية النبي — عليه السلام — في مرض وفاته: «الصلاة وما ملكت أيمانكم»، وقد قال عليه السلام: «من لطم مملوكه فكفارته عتقه.»
وقد جاءت وصايا النبي متممة لحكم الكتاب فيهم: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا …
وَالذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الذِي آتَاكُمْ.
وقد أمر المسلم بأن يسوي بينه وبين مملوكه في المعيشة: فَمَا الذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ.
وكان كبار الصحابة يطعمون مواليهم مما يأكلونه ويلبسونهم مما يلبسونه، بل اشترى الإمام عليٌّ ثوبين فخص مولاه بأفضلهما وقال له حين رده هذا مستحييًا: بل أنت به أولى؛ لأنني شيخ وأنت شاب.
والإشفاق بالموالي هو الذي حمل الفاروق على رفع حد السرقة في عام المجاعة، فقد جيء بفتيان سرقوا ناقة واعترفوا بسرقتها، فنظر في وجوههم فرأى هزالًا باديًا، وسأل عن سيدهم، فقيل له: إنه عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، فأرسل يستدعيه وأنبه تأنيبًا شديدًا، وقال له: «لقد هممت أن أقطع أيدي هؤلاء لولا ما أعلمه من أنكم تدئبونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له …» ثم أمره أن يؤدي لصاحب الناقة ثمانمائة درهم، وثمنها الذي طلبه صاحبها أربعمائة، تأديبًا للسيد على الذنب الذي ألجأ إليه عبيده الجياع.
ولم يحل الرق بين المولى وبين أرفع مناصب الرئاسة والقيادة، فقد تولى زيد وابنه أسامة قيادة جيوش كان من جنودها كبار الصحابة، ولما احتضر عمر قدم صهيبًا على المهاجرين والأنصار فصلى بالناس، ودامت للموالي هذه الرعاية حتى في عهد بني أمية وهم أصحاب دولة قضت عليهم سياستها بتقريب العرب وإقصاء الموالي، فقد ذكر السخاوي في شرحه لألفية القرافي: «أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري: من يسود أهل مكة؟ قال: عطاء، قال الخليفة: بم سادهم؟ قال: بالديانة والرواية، قال الخليفة: نعم، من كان ذا ديانة حقت له الرئاسة، ثم سأل عن اليمن فقال الزهري: إمامها طاوس، وسأل عن مصر وغيرها فذكر له الزهري أسماء ساداتها من الموالي، حتى إذا أتى على ذكر النخعي قال: إنه عربي، فقال الخليفة: الآن فرجت عني … والله ليسودن الموالي العرب، ويخطب لهم على المنابر.»
وقد اعتمد رواة الحديث روايات بعض الموالي ورجحوها بالثقة على غيرها من الروايات.
ولم يرد في القرآن ولا في السنة نص على التفرقة بين الأحرار والعبيد في مسائل الشهادة والذمة، ووردت نصوص كثيرة على البر بهم وتمكينهم من فك إسارهم، ودلت الأعمال على ترجيحهم بالرئاسة والولاية في بعض الأحوال، ومثل هذه الخطة في علاج الرق خليقة أن تبطله في بضعة أجيال؛ إذ لم يكن من اليسير إبطاله دفعة واحدة، وإلغاء حقوق الأسر التي بقيت إلى هذا الزمان.
قلنا في كتابنا الفلسفة القرآنية: «إن الباحثين الاجتماعيين من الأوربيين أنفسهم قد عللوا حركة التحرير — تحرير الأرقاء — بعلل كثيرة من ضرورات الاقتصاد، فذكروا أن المطالبين بتحرير الرقيق لم يفعلوا ذلك إلا احتيالًا على الكسب ومنعًا للمنافسة التجارية التي تيسر لأصحاب العبيد ومسخريهم في الصناعات أرباحًا لا تتيسر لمن يستأجرون الأحرار ويبذلون لهم ما يرتضونه من الأجور، ولم تزل معاملة السود في أمريكا الشمالية — بعد تحريرهم من الرق — أسوأ معاملة يسامها بنو آدم في هذا الزمان، وذلك بعد أن دان المسلمون أربعة عشر قرنًا بشريعة المساواة بين الأجناس، وعلموا أن فضل العربي القرشي على العبد الحبشي إنما هو فضل التقوى والصلاح دون فضل العصبية واللون.»
ولم يأخذ الإسلام أتباعه بهذا الكرم المحض مجاراة لضرورات الاقتصاد؛ بل أخذهم به على الرغم من تلك الضرورات وعلى الرغم من شح الأنفس بالأموال وما تملك الأيمان، وتلك هي مزية الإسلام الكبرى في السبق إلى هذا الأدب الرفيع.