في التجربة والتطبيق
تبدو هذه المبادئ التي مرت بنا في الفصول المتقدمة كأنها مطالب مثالية يعز اللحاق بها في الحياة العملية، ولكنها وجدت أناسًا آمنوا بها وأخلصوا لها فجعلوها واقعًا لا يستغربه من يبصره ويسمعه، وقد كان غريبًا على من يسمعون به وهو مجرد أفكار وآمال.
ومنذ قرت دعوة الإسلام تعامل الناس بهذه المبادئ واصطلحوا عليها، ولكن عهدًا من العهود المتقدمة في صدر الإسلام كان على التخصيص مرجع الأمثلة المتلاحقة التي ارتفع فيها الواقع حتى التقى بخواطر الأفكار وسوانح الأحلام.
وذلك هو عهد الفاروق عمر بن الخطاب.
فلم يكن أكثر في وقائع عصره من القضايا المثالية التي تحسب إلى اليوم من نوادر الدنيا بأسرها لا من نوادر الجزيرة العربية وحدها.
عدل بين أبي سفيان سيد مكة وبين صعلوك من جيرانه، وعدل في محاسبة خالد بن الوليد وهو سيف الإسلام، وعدل بين الملوك والسوقة وبين الولاة والرعايا وبين جلة الصحابة والذميين الذين لم يدخلوا بعد في الدين.
تسطع صفحات التاريخ بالنور وهي تروي لنا حادثة جبلة بن الأيهم ملك غسان والبدوي الفزاري الذي وطئ على إزاره.
كانت دولة القياصرة تحرض أمراء الغساسنة — وهم في حمايتها — على غزو الجزيرة العربية، وكانت الجزيرة في قلق دائم من توقع هذه الغزوة بين ساعة وأخرى، ثم بدا للأمير الغساني جبلة بن الأيهم أن ينضوي إلى أبناء قومه العرب، ويتخلى عن ملكه المهدد في ظل الدولة البيزنطية الذي أوشك أن ينحسر من حوله، فسر عمر وكتب إليه أن أقدم ولك ما لنا وعليك ما علينا، فقدم جبلة إلى الحجاز في خمسمائة فارس عليهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس تاجه وفيه قرط جدته مارية، فلم يبق بالمدينة رجل ولا امرأة ولا صبي إلا خرج ينظر إلى الموكب الفخم الذي لا عهد لهم بمثله، وكان فتحًا عظيمًا بغير عناء، وراحة من قلق ظل يساور الدولة الناشئة عدة سنين.
وحضر جبلة موسم الحج، وخرج يطوف بالكعبة فوطئ على إزاره رجل من بني فزارة فحله، وكبر الأمر على جبلة فلطم الفزاري فهشم أنفه، وذهب الفزاري إلى الخليفة يستعديه على الأمير.
بعث عمر إلى المعتدي فسأله: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا فهشمت أنفه؟
فاستمع الأمير إلى السؤال وهو يعجب، وخطر له أنه قد ترفق بالبدوي؛ لأنه لولا حرمة البيت — كما قال — لأخذت الذي فيه عيناه.
قال عمر: إنك قد أقررت، فإما أن ترضيه وإلا أقدته منك.
قال جبلة دهشًا: تقيده مني؟ تقيده مني، وأنا ملك وهو سوقة؟!
قال عمر: الإسلام قد سوى بينكما.
قال الأمير: إني رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فما زاد عمر على أن قال: هو كذلك.
وقال جبلة: إذن أتنصر! وقال عمر: إذن أضرب عنقك.
وتصاول قوم جبلة وبنو فزارة فكادت تكون فتنة، فأرجئ الأمر إلى غد، وخرج جبلة من المدينة تحت سواد الليل.
•••
ذلك عدل بين سوقة وملك كان لإسلامه شأن في السياسة العليا كما يقولون، فلم يعصمه شأنه ولا شأن السياسة العليا من حق الجزاء.
•••
وشكا رجل من الجند أبا موسى الأشعري؛ لأنه أعطاه بعض سهمه، وأصر الرجل على أن يأخذ سهمه كله، فضربه أبو موسى وحلق شعره.
فمض الجندي إلى عمر يشكو قائده وأميره، وكتب عمر إلى القائد الأمير يقول: «… إن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك.»
فلما عاد الرجل بكتاب عمر رجاه قوم أن يعفو عن الأمير فأقسم لا يدعنه لأحد، ثم قعد أبو موسى ليقتص الرجل منه، فلما رآه غريمه قاعدًا بين يديه في مجلس القصاص رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: اللهم قد عفوت!
بل كان الخليفة يقتص للمذنب المقام عليه الحد إذا تبين له غلو الوالي في العقوبة، فلما جلد أبو موسى شاربًا وحلق شعره وسود وجهه ونادى في الناس ألا يجالسوه ولا يؤاكلوه علم المذنب أن له حقًّا وذهب إلى الخليفة يطلب حقه ويشكو أميره، فأعطاه الخليفة مائتي درهم وكتب إلى الوالي يقول: لئن عدت لأسودن وجهك ولأطوفن بك في الناس، وأمره أن يعود فينادي من ناداهم من قبل أن يجالسوه ويؤاكلوه.
•••
وكان عمرو بن العاص والي مصر الذي فتحها بالسيف، فنازع ابنه شابًا من المصريين في ميدان السباق، فضربه بالسوط واستطال عليه قائلًا: أنا ابن الأكرمين!
ورحل الفتى من مصر إلى الحجاز، ورفع شكواه إلى الخليفة فأرسل إلى مصر يستدعي الوالي وابنه، وجلس للمظالم علانية فأمر الفتى المصري أن يضرب ابن عمرو، ثم أمره أن يضرب الوالي نفسه؛ لأن ابنه لم يجترئ على رعيته إلا بسلطان أبيه، وصاح به صيحته التي لا ينساها التاريخ ما دامت له ذاكرة تعي ما يذكر ولا ينسى: بم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! ولم يقبل في عمرو شفاعة إلا أن صفح عنه الفتى المضروب وقال مكتفيًا: لقد ضربت من ضربني … فنجا فاتح مصر من سوط واحد من أبنائها وما كاد …
حلم من الأحلام يبدو واضحًا مشرقًا بين كابوس من المظالم والظلمات ران على الدنيا ولا يزال يرين.
كلا، بل واقع أعجب من الحلم، وشيء ماثل للعيان أرفع من الأمل الذي نطمح إليه بعين الخيال.
قال لي متحذلق من صغار النفوس الذين يولعهم الصغر بتصغير كل عظيم، وعلى ودهم أن ينقرض من الدنيا كل دليل على الكمال أو على طلب الكمال؛ ليرتعوا في دنيا من النقص لا منفذ فيها لعظيمة من العظائم ولا لعظيم من العظماء.
قال لي: إنها بضعة حوادث لا يقاس عليها من عدل رجل واحد لا يقاس عليه.
ومثل هذا الاعتراض نموذج لوثبات العقل القاصر الذي يلتمس النقائص ويتعلل على الفضائل حتى لينسى أقرب الأمور إليه وأولاها بالالتفات والتدبر.
فقبل هذا العدل من الفاروق مقدمات سبقت، وعلمت الناس أن الشكوى من الظلم عمل مجد، وأن إنصاف المظلوم من الظالم حقيقة واقعة، بالغًا ما بلغ من جاه الظالم وبالغًا ما بلغ من هوان المظلوم.
قبل عدل الفاروق ثقة الناس بالعدل الذي لا شك فيه ولا خطر على الشاكين الضعاف من المشكوين الأقوياء.
قبل أن تسأل: كيف عدل عمر؟ ينبغي أن نسأل: كيف علم الناس من الحجاز إلى مصر، ومن العراق إلى الحجاز، ومن المسلمين والذميين، ومن العلية والسوقة، أن العدل كائن وأن طريقه مأمون على طالبه، وأنه أقرب منالًا من الصبر على الظلم وإن هان؟
ولو لم يكن عهد عمر مسبوقًا بعهد جرى فيه الإنصاف مجرى الوقائع الملموسة وشاعت أنباؤه ومآثره في كل فج وحدب لما طلبه الناس من أقصى مكان، ولا خفوا إلى طلبه في أكبر الأمور وفي أصغرها على السواء.
أمن المألوف في عصرنا هذا أو في عصر مضى أن يساق فاتح القطر بسيفه مئات الفراسخ والأميال؛ لأن ابنه رفع سوطه على فتى من الفتيان في حلبة سباق؟
أمن المألوف أن يخف الشاكي هذه المئات من الفراسخ والأميال وهو على يقين من عاقبة هذه الرحلة، وعلى أمان من نقمة الفاتح الظافر الذي يشكوه؟
أمن المألوف أن يتساوى الملوك والسوقة من أجل لطمة؟ وأن يتساوى الأمير والجندي ضربة بضربة وإذلالًا بإذلال على مشهد من أتباعه ورعاياه؟
موضع الدهشة هو هذا قبل أن يدهشنا العدل من الفاروق.
موضع الدهشة، قبل العدل، ثقة بالعدل لا يخامرها الشك والتردد، ولا يقر صاحبها على الظلم ولو جشمه طلب الإنصاف مسيرة أيام ومجازفة بخطر الانتقام!
ثقة وطمأنينة لا تتعلق الآمال بمطلب أعلى منهما، ولا أغلى في حياة بني آدم وحواء.
فمن أين جاءت هذه الثقة وهذه الطمأنينة؟
من عند الله!
هكذا يقول المؤمن بدينه، وجوابه واضح لا غرابة فيه، فماذا يقول المنكر الذي ينطلق عدوًا وراء الإنكار ويفرح به وهو لا يستطيع القرار عليه؟
إنه آخر من يرد شيئًا إلى قوة خارجة عن الطبيعة، ولكنه يبلغ من السخف غايته إذا قال إنها قوة طبيعية، ثم لم توافقه ولم تستحق منه الإعجاب بها والحرص عليها، فلا طمأنينة الضمائر مقبولة لأنها من عند الله، ولا طمأنينة الضمائر مقبولة لأنها «ظاهرة طبيعية» … فما المقبول إذن في رأي هؤلاء المنكرين؟ ولماذا يسلبون الإنسان طمأنينته إذا علموا أنها «طبيعية» في المصدر والمآل؟
•••
إن هذه التجربة العملية لها القيمة العليا عند دارسي الأديان خاصة ودارسي الأطوار الإنسانية عامة، وأغفل الناس عن ينابيع الحقيقة ومصادر القوة النفسية أناس يدعون أنفسهم بالطبيعيين وينظرون إلى الثقة التي تنبعث من الإيمان كأنها حيلة مصطنعة أو عرض خارج من الطبيعة، فربما جاز للمؤمن بالله أن يقول عن شيء إنه طبيعي وعن شيء آخر إنه خارج عن الطبيعة؛ لأنه يرجع إلى العلل الإلهية في تفسير جميع الأشياء، أما «الطبيعيون» فليس لهم أن يقولوا عن قوة من القوى الأدبية أو المادية إنها حيلة مصطنعة أو حيلة غير طبيعية، وكل ما يجوز لهم أن يبحثوه هو «الصورة» التي تتحقق بها الحوادث الطبيعية، وليس لهم أن يرفضوا شيئًا؛ لأن صورته في تخمينهم وتفكيرهم غير صورته في الواقع والعيان.
فإذا كانت العقائد الدينية عندهم هي الصورة التي تتحقق بها تلك القوة العالية وتلك الثقة المكينة فليس ذلك سببًا لرفض العقائد والخروج بها من حيز التفكير والتعليل، فهكذا يقال عن صورة المشاهد الحسية التي يعتبرونها أساسًا للعلوم والصناعات، ولكنهم لا يبطلون العلوم والصناعات؛ لأنها تقوم على ذلك الأساس.
كل شيء ننظره بأعيننا يصطبغ بلون من الألوان، وليست هذه الألوان إلا الصورة التي تتمثل بها حركات الشعاع أو ذبذبة الضوء، ويعلم «الطبيعيون» ذلك فلا يبطلون الرؤية بالعين، ولا يبطلون العلوم والصناعات التي تقوم على أساس هذه الرؤية، ولكنهم يقولون بأنها غاية ما تدركه العقول بوسائل الحس الإنساني والبديهة الإنسانية.
وكل عاطفة من عواطفنا لها باعث ولها وجهة توافق ذلك الباعث أو تخالفه على حسب الأحوال، فالفتاة الرحيمة التي تجلس عند سرير المريض الغريب عنها لتواسيه وتصبر على السهر والألم في مواساته إنما تصدر عن باعث من رحمة الأمومة المركبة في طبيعتها، ولا يقدح ذلك في عاطفة الرحمة ولا في واجب التطبيب والتمريض، ولا يقال إن الرحمة «الطبية» هي الصورة التي تمثلت بها طبيعة الأمومة فهي حيلة «مصطنعة» وشعور غير صحيح أو غير أصيل!
ومن قديم الزمن عرف الحكماء ذوو الفكر والبديهة لباب هذه الحقيقة فوقفوا أمام السنن الكونية موقف الخشوع والأناة، وقال سقراط من وحي فطرته الصادقة: «أحسب أننا قضاة أنصاف عميان حين نحكم على المستحيلات والممكنات؛ لأننا نعالج الأمر بمقاييسنا الإنسانية التي لا تجدي كل الجدوى سواء في المعرفة الصحيحة أو في صحة الإيمان والرؤيا والنظر، ومن ثم تبدو لنا أمور كثيرة كأنها مستحيلة وهي يسيرة، أو تبدو لنا غير مدركة وهي بين أيدينا على مقربة منا، إما لنقص تجاربنا أو لطفولة عقولنا؛ إذ ما من إنسان مهما علا في السن إلا وهو كالطفل الصغير لقصر الحياة وقصور التجارب بالقياس إلى الحياة الأبدية. فكيف، ونحن لا نحيط بأسرار الآلهة وأسرار القوى العلوية، يتاح لنا أن نجزم بما يمكن وبما لا يمكن؟ … إننا أبناء الفناء ليس لنا في حكم الكون الكبير خطر، ولا يتأتى لنا أن نعرف حق المعرفة أمرًا من الأمور حتى ما يعرض لنا في أنفسا، فأخلق بنا ألا ندعي العلم اليقين بما تنطوي عليه المقادير الأبدية.»
على أن التجارب التاريخية شيء ماثل لمن يقيس الأمور بمقاييس الطبيعية ومن يقيسها بما يعلو عليها، وأغفل الناس عن الواقع من ينكر ما فوق الطبيعة وينكر الطبيعة في وقت واحد، وأولئك هم «الطبيعيون» الذين يستخفون بقوة الإيمان وهي على الأقل «طبيعية» متمكنة من النواميس الكونية كما يعقلونها، وإتيان قوة الإيمان في صورتها المعهودة لا يبطلها بحال من الأحوال؛ لأن ألوان الطيف الشمسي كما قدمنا هي الصورة التي نتلقى بها حركة الضياء، ونحن لا نبطل المرئيات؛ لأنها تتراءى بتلك الألوان.
وليقل المعللون للأمور بالعلل العلمية ما يشاءون، فإذا ثبت لهم أن طمأنينة الضمير إلى العدل الإلهي في هذه الدنيا تجربة واقعة يستمدها الضمير من الإيمان فكفى بذلك حقًّا وصدقًا، وكفى بذلك إنصافًا للمثل الأعلى ولطبائع الأمور.