الديمقراطية في الأديان الكتابية
من تمام البحث في تطور الديمقراطية قبل الإسلام أن نلم بسوابقها في الأديان الكتابية التي ظهرت قبل الدعوة الإسلامية، وهي الموسوية والمسيحية، وإحداهما فقط — أي الموسوية — هي التي شرعت نظامًا للحكم كما جاء في العهد القديم، أما المسيحية فلم تعرض للحكم والتشريع؛ لأنها قامت في بلاد تدين بالحكم السياسي للدولة الرومانية وتدين بالحكم الديني لهيكل إسرائيل.
تلقى موسى — عليه السلام — أحكام الشريعة وأبلغها إلى جميع إسرائيل في سيناء، وقال لهم: إنه تلقى الأحكام وحده؛ لأنهم خافوا من النار التي رأوها على الجبل، فتقدم إليها واقفًا بين الرب وبينهم، وتكلم إليه الرب وجهًا لوجه، وكتب الأحكام على لوحين من حجر وأعطاها إياه.
وقد أمرهم موسى أن يتخذوا لهم كهانًا من قبيلته وهي قبيلة اللاويين، وقال لهم: إن الرب «أفرز سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب، ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه ويباركوا باسمه» كما جاء في الإصحاح العاشر من سفر التثنية.
وعلم — عليه السلام — أن قومه سيتشبهون بمن حولهم، ويطلبون لهم ملكًا في يوم من الأيام، فأوصاهم موجهًا خطابه إلى إسرائيل: «متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك وملكتها وسكنت فيها، فإن قلت اجعل عليّ ملكًا كجميع الأمم الذين حولي فإنك تجعل عليك ملكًا يختاره الرب إلهك من وسط إخوتك … ولا يحل لك أن تجعل عليك رجلًا أجنبيًّا ليس هو أخاك.»
وعلى هذا فارق موسى قومه وهم يدينون لملك غير منظور هو «يهوا» ملك إسرائيل، ويرجعون في استماع أوامره ونواهيه إلى الحبر أو القاضي الذي يتلقى الوحي من عرش الإله، وظلوا كذلك إلى أيام قاضيهم صمويل يرضون بقضائه، ولا يطلبون ملكًا من بينهم لولاية أمرهم، ثم شاخ صمويل وأناب عنه ولديه فلم يسلكا مسلك أبيهما؛ بل مالا إلى الكسب كما جاء في الإصحاح الثامن من سفر صمويل الأول «وأخذا رشوة وعوجا القضاء، فاجتمع كل شيوخ إسرائيل … وقالوا لصمويل: إنك قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك فالآن فاجعل لنا ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب.»
وساء الأمر في عيني صمويل فتوجه إلى ربه بالدعاء، فقال له الرب: «اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك؛ لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا … فالآن اسمع لصوتهم واشهد عليهم وأخبرهم بقضاء الملك فيهم.»
فمضى صمويل ينبئهم بما ينبغي أن يحذروه من حكم ملوكهم، وقال لهم: «هكذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم: يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه ولمراكبه وفرسانه، ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه، ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويأخذ من حقولكم وكرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيده، ويعشر زروعكم وكرومكم ويعطي لخصيانه وعبيده، ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله، ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيدًا …»
فلم يسمع الشعب لنصيحة القاضي الحكيم، وقالوا: «لا بل يكون علينا ملك … مثل سائر الشعوب … يقضي لنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا … فسمع صمويل كلام الشعب وتكلم به في أذني الرب، فقال له الرب: اسمع لصوتهم وملك عليهم ملكًا.»
ويبدو من صفة شاؤل الذي اختاره صمويل ملكًا أن القيادة العسكرية كانت هي المطلب الأول الذي يراد الملك المختار من أجله، فقد اختاره فتى طويل القامة عريض المنكبين، ولم يجعله من الشيوخ المحنكين؛ لأن قيادة الرأي والشئون الروحية بقيت بعد اختيار الملك من عمل القاضي الحكيم.
جاء في الإصحاح العاشر من سفر صمويل الأول أنه «أخذ قنينة الدهن وصب على رأسه وقبله … واستدعى الشعب … ووقف شاؤل فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق، فقال صمويل: أرأيتم الذي اختاره الرب؟ إنه ليس مثله في جميعكم؛ فهتف الشعب كله: ليحي الملك …»
وقد احتفظ صمويل لنفسه بالسلطان الروحي، ولم يأذن للملك بالنيابة عنه في أداء مراسمه، فلما غاب عن موعده مرة نادى الملك من حوله: «وقال: قدموا إليَّ المحرقة وذبائح السلامة …» فغضب صمويل حين حضر، وسأله منتهرًا: ماذا فعلت؟ وآذنه بالعزل وأن ملكه لا يدوم، وقال: «كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد، أما الآن فمملكتك لا تقوم، وقد انتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه.»
•••
على هذا الأساس قامت قواعد الحكومة فيما أثبته كتاب العهد القديم، وبقيت عليه الحكومة التي قامت فعلًا من بيت شاؤل وبيت داود من بعده، ولم يعترف أحبار اليهود بحكومة شرعية بعد الحكومة التي قامت من بيت داود، فلما قامت حكومة المكابيين كره ولاتها أن يلقبوا أنفسهم بلقب الملك، ولم تظهر صورة واحد منهم على مسكوكات العملة قبل الوالي الرابع، ولما قامت حكومة هيرود تبرَّم بها الأحبار والشعب معًا؛ لأنهم أدوميون من غير إسرائيل وإن كانوا يدينون بالديانة اليهودية، وسيق كبيرهم إلى محكمة الأحبار؛ لأنه أباح لنفسه أن يقضي بالموت على قطاع الطرق بغير إذن من المراجع الدينية، وما زال العداء مستحكمًا بين إسرائيل وهذه الأسر، حتى استجابت الدولة الرومانية لشكاياتهم المتكررة فعزلت آخرهم «أرشلاوس» ولم يخلفه أحد على أسرة حاكمة.
وجملة ما يقال في وصف هذا النظام الحكومي بالصفة العصرية أنه نظام يجمع بين التيوقراطية والعنصرية والديمقراطية، فهو ثيوقراطي لأن اختيار الحكام والقضاة موكول فيه إلى الأحبار والكهان، وهو عنصري لأنه خاص ببني إسرائيل ووظيفة الكهانة فيه مقصورة على سلالة معينة من السلالات الإسرائيلية، وهو ديمقراطي لأنه يسمح للشعب بطلب النظام الذي يؤثره ومبايعة الحاكم الذي يرشحه الأحبار، وسنرى فيما يلي أن النظام الديمقراطي كما بسطه القرآن الكريم والسنة المحمدية لم يتطور من هذا النظام.