الديمقراطية العربية
تردد في أقوال المستشرقين وكتاب التاريخ من الأوربيين أن ديمقراطية الإسلام ديمقراطية عربية: يعنون بذلك أن الإسلام قد جاء بمبادئ الحرية الديمقراطية؛ لأنه نشأ في بلاد العرب بين أقوام من البدو الأحرار لا يعرفون طغيان الملوك ولا يخضعون لسطوة الحاكمين بأمرهم من الأكاسرة والقياصرة الذين حكموا بلاد الفرس والروم.
ومن المقرر المتفق عليه أن الجزيرة العربية عرفت حرية البداوة على أتمها قبل الإسلام، ولكنها الحرية التي لا تصدر عن مبدأ، ولا عن فكرة ولا عن تعريفات الحقوق الإنسانية، وهي حرية واقعية غير الحرية الديمقراطية، كما بينا ذلك في الفصل السابق، مصدرها كمصدر الحرية التي تتمتع بها الأوابد في الخلاء أو تتمتع بها الطير في الهواء، وعلتها أنها حرية مصدرها قلة المنازعة عليها لا قوة المبادئ التي تدعمها وتحميها، فليست هي حقًّا من الحقوق ولكنها مال همل مباح؛ لقلة الراغبين فيه، وغيبة المنتفعين بالعدوان عليه.
أما أن الحرية بهذا المعنى أو بغيره كانت حالة مألوفة في الجزيرة العربية على اختلاف حكوماتها فذلك وهم من أوهام التعجل في النظر إلى عوارض التاريخ.
إذ الواقع أن الجزيرة العربية عرفت قبل الإسلام ضروبًا من الطغيان والاستبداد لا تقل عن ضروبه المشهورة التي عرفت في الشعوب الأخرى، وأن قبائل من العرب الحاضرة والبادية قد سادها ملوك يعتزون بالأمر والنهي بين رعاياهم بغير وازع ولا معترض، ويقيسون عزتهم بمبلغ اقتدارهم على إذلال غيرهم واستطالتهم على من يدعي العزة سواهم، وليس أكثر من روايات هذه العزة الحمقاء أو العزة العمياء، في كتب الأخبار والأمثال.
قيل في أسباب المثل القائل: «لا حُرَّ بوادي عوف» إنه يقهر من حل بواديه فكل من فيه كالعبد له لطاعتهم إياه.
وقيل في أسباب المثل القائل: «أعز من كُليب وائل» إنه بلغ من عزه أنه كان يحمي الكلأ فلا يقرب حماه، ويجير الصيد فلا يهاج، ويمر بالروضة تعجبه أو بالغدير يرتضيه فيرمي عنده بكليب، ثم ينادي بين القوم أنه حيث بلغ عواؤه كان حمى لا يرعى … وكان من عزه لا يتكلم أحد في مجلسه ولا يحتبي أحد عنده، ولذلك قال أخوه مهلهل بعد موته:
وفي تاريخ عبيد بن الأبرص من شعراء المعلقات مثلان بارزان على السطوة الغاشمة التي كان الملوك يفرضونها على رعاياهم فيسمى بعضهم بعبيد العصا كما سمي قوم الشاعر بنو أسد، وتستباح الدماء البريئة لنزوة من نزوات التجبر والاستخفاف.
قيل إن حجر بن الحارث كانت له إتاوة على بني أسد فثقلت وطأتها عليهم فامتنعوا عن أدائها، وضربوا جباته ورسله، فأقبل إليهم في كتيبة من جنده فاستباح أحياءهم وأخذ أموالهم واعتقل سرواتهم فجعل يقتلهم بالعصا ويأنف أن يقتلهم بالسيف، وفرق جمعهم وأجلاهم عن أرضهم، فسموا من أجل ذلك بعبيد العصا، ووقف شاعرهم «عبيد بن الأبرص» يستشفع فيهم فقال:
إلى أن يقول:
أما المثل الآخر من حياة عبيد بن الأبرص فهو قصة وفاته بأمر المنذر بن ماء السماء أشهر الملوك اللخميين؛ لأنه قدم عليه في يوم بؤسه فقال له: لا بدَّ من الموت ولو عرض لي أبي في هذا اليوم لم أجد بدًّا من ذبحه.
وقصة يوم البؤس لذاتها مثل آخر من أمثلة الغشم والتجبر على المحكومين، فإن المنذر بن ماء السماء كان قد جعل له يوم بؤس ويوم نعيم؛ لأنه قتل نديميه في سكرة من سكراته ثم ندم، وبنى لهما قبرين وجعل لنفسه يومين في كل سنة: يوم البؤس ويوم النعيم، فمن طلع عليه يوم نعيمه أعطاه مائة من الإبل، ومن طلع عليه يوم بؤسه أعطاه رأس ظربان وأمر به فذبح وطلي بدمه القبران، وكان من قدر عبيد بن الأبرص أنه كان أول طالع عليه في يوم البؤس فشق عليه أن يحين أجله على يديه، ولكنه قتله وأكرمه بتخييره في قتلة من ثلاث قتلات، ولا خير فيها — كما قال عبيد — لمرتاد.
وكان عمرو بن هند يخاطب الناس من وراء ستور، وأمه هي التي رفعت مكان الشاعر الحارث بن حلزة عنده — على رفعة قدره في قومه — لأنها أعجبت بشعره فقالت لابنها: ما رأيت كاليوم قط رجلًا يقول مثل هذا القول ويكلم من وراء سبعة ستور، فما زال الملك يأمر برفع ستر بعد ستر حتى أدنى الشاعر وأطعمه في جفنته وأسلمه سبعين أسيرًا من بني بكر جزت نواصيهم إذلالًا لهم وإعزازًا للشاعر المرضي عنه.
وأم عمرو هذه هي التي استكبر أن يوجد في نساء العرب من تأنف من خدمتها، فقال ذات يوم لندمائه: هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ فقالوا: نعم! عمرو بن كلثوم، فسأل: ولم؟ قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب بن وائل، وبعلها كلثوم بن مالك، وابنها عمرو بن كلثوم، فأرسل الملك إلى الشاعر الرئيس في قومه يستزيره ويسأله أن يزير أمه أمه، وأمر برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا، وأمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطُّرف وتستخدم ليلى أم عمرو بن كلثوم، ثم دعا بمائدة ودعا بالطرف، فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق، فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها وألحت، فصاحت ليلى: واذلاه يا لتغلب! وسمعها ابنها فثارت ثورته ووثب إلى سيف معلق بالرواق فضرب به رأس الملك، ونادى في بني تغلب فانتهبوا ما في الرواق، وساقوا نجائبه، وساروا نحو الجزيرة، ونظم عمرو قصيدته التي يقول فيها:
أي خدمة … والمقتوون هم خدم الملوك خاصة أو عامة الخدم من الرجال والنساء.
•••
وأفحش من هذا كله في باب الاجتراء على الظلم ما روي عن حكم عمليق ملك طسم وجديس، وأنه أمر ألا تُزف فتاة من جديس إلى أهلها قبل أن تزف إليه، وأن فتاة تسمى عفيرة مثل بها الملك فاستثارت قومها قائلة:
إلى قولها في هذه الرواية:
وكانت في جزيرة العرب ممالك أقوى من هذه الممالك الصغيرة قامت في جنوبها وشمالها فجمعت في وقت واحد بين أسوأ أنواع الحكم المطلق وحكم الأقطاع، ولم تعرف شيئًا من الديمقراطية العملية ولا من الديمقراطية النظرية التي تقوم على الاعتراف بحقوق الرعية آحادًا وجماعات.
أما حكم الحجاز حيث ظهرت الدعوة المحمدية: فقد كان على نظام المشيخة الأرستقراطية يتقسمه زعماء القبائل بين حامل لواء، أو محكم في قضاء، أو متكفل بحجابة الكعبة أو بالسقاية والرفادة في موسم الحج، إلى غير ذلك من مهام السيادة والرياسة، فكانت الحكومة في جملتها مزيجًا من الثيوقراطية والأوليجاركية، ولم تكن على شبه بالديمقراطية في معنى من معانيها العملية أو النظرية.
وقد ود بعضهم لو ارتقى عرشًا في حماية قياصرة الروم كما ارتقى غيره العروش في حماية الأكاسرة، فذهب عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي إلى القسطنطينية، ووفد على قيصر فأحسن وفادته، فرغبه عثمان في إلحاق مكة بدولته وأغراه «بأن تكون مكة زيادة في ملكه كما ملك كسرى صنعاء» واستجاب قيصر لدعوته، وكتب له كتابًا إلى عظماء قريش على أن يكون ملكًا عليهم في طاعة دولة الروم، ثم جمع عثمان رؤساء معشره وزين لهم العمل بأمر قيصر قائلًا: «يا قوم، إن قيصر قد علمتم أنكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم وأنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه …» فخاف القوم قيصر، وأشفقوا من إغلاق متاجر الشام في وجوههم، فعاهدوا عثمان على الملك، وأوشكوا أن يعقدوا التاج على رأسه، لولا صائح منهم — هو ابن عمه زمعة الأسود بن المطلب — علم بالأمر فنفس عليه سلطانه، واعترض سادة قريش وهم في الطواف فأثارهم على هذا الملك الذي لا عهد لهم به، فانقلبوا عليه، ويئس عثمان منهم فعاد إلى قيصر يشكوهم، وكبر على قيصر أن يعصيه شرذمة من أهل الصحراء فأرسل صاحبهم إلى ملك الغساسنة وأمره أن يحبس له كل من أشار بحبسه من تجار العرب بالشام، وتعاظم الخطب على سادة قريش، وعلموا أنهم لا قبل لهم بسلطان قيصر في بلاده، ولا صبر لهم على سيادة واحد منهم بينهم، فاحتالوا حتى قتلوا صاحبهم مسمومًا، وشغل قيصر عن الحجاز وأهله بمتاعب دولته، حتى تجدد ذكره بعد قرن كامل من ذلك التاريخ بانتشار الدعوة المحمدية.
فلم يكن سخط القوم على السلطان المطلق غيرة على حق ولا إيمانًا بالحرية الشعبية، ولكنه كان سخط النظراء يتنافسون بينهم على الملك كما يتنافسون على غيره من المغانم والحظوظ.
•••
ولا يفوتنا أن الروايات التي أجملناها فيما تقدم عن عسف الملوك والأمراء لم تخل من إضافات القصة والخيال كجميع روايات التاريخ القديم في الأمم التي حفظت تاريخها بالتلقين والإسناد، ولكننا نثبتها ونعول عليها؛ لأن الفكرة هنا أبلغ من الخبر، وأصدق من وثائق الأوراق، فلو لم تكن فكرتهم الغالبة عن الحكم أنه عزة وخيلاء لا تكملان لصاحبهما بغير إذلال الأعزاء، وتمحل الذرائع للعتو والإيذاء، لما تواترت أنباء الملوك على هذه الوتيرة في كل ما جاءنا من أخبار الجزيرة القديمة من قبيل القصة أو التاريخ.
على أن وصفًا من الأوصاف هنا، واسمًا من الأسماء هناك، قد يكشفان من الحقائق ما يقصر عنه التاريخ كما تقصر عنه القصة، فمن أسمائهم الشائعة اسم «ظالم» وحامله الأشهر ظالم المري أبو الحارث الذي أطلق فتنة القبائل في يوم رحرحان.
ومن معايبهم كما قال النجاشي في هجاء قوم إنهم يعجزون عن الظلم:
ومن مفاخر ملوكهم أنهم مرهوبون مخوفون، فكان النعمان يعجب بقول النابغة في الاعتذار إليه:
ولا نهاية لأمثال هذه الصفات، وأمثال تلك الأسماء.
ومن الجائز أن يخطر على البال في هذا السياق أن معظم من ذكرناهم من الطغاة ساءت عقباهم، وثار عليهم أعداؤهم ونظراؤهم، ولكنها على التحقيق ثورة النزاع على العزة، وليست ثورة الدفاع عن الحرية وحقوق الرعية، فلم يكن بين الغالب والمغلوب خلاف في شرعة الحكم أو حق الحاكم أو معنى العزة التي يستطيل بها المتنافسون، وليس أبعد من الفرق بين ثائر على الحاكم؛ لأنه يدعي مثل عزه وطغيانه، وثائر عليه؛ لأنه ينكر فعاله ولا يؤمن بحقه في السيطرة والجبروت، فغاية الأمر أنه نزاع بين أعزاء لا رأي فيه للأتباع والأولياء، بل لعلهم كانوا يفخرون بغضب الغاضب الذي يخف إليه أتباعه وأولياؤه ولا يسألونه فيم غضب، ومن قبيل ذلك ما يقال عن مالك بن مسمع وعن كثيرين غيره من سادة العرب، فقد سأل عبد الملك بن مروان روح بن زنباع عن مبلغ عزه، فقال: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسأله واحد منهم لم غضبت! فقال عبد الملك: هذا والله السؤدد!
أما إذا تركنا جانب الحكم إلى جانب المقامات الاجتماعية فلا نحسب أن التفاوت بين ترف الأغنياء وشظف الفقراء قد بلغ في مجتمع قط فوق مبلغه في المجتمعات العربية، ولم يكن التفاوت مقصورًا على ترف المعيشة وشظفها؛ بل كان شاملًا لمقام الرجل، وقيمة رأيه بين خاصة قومه وعامتهم، وفي كلام عروة بن الورد مثل من أمثلة لا تحصى من هذا القبيل حيث يقول:
وعروة هذا هو الذي كاد أن يخلق في الجاهلية نوعًا من الاشتراكية أو الشيوعية، فلقبوه بعروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمعهم وينفق عليهم من أسلابه وغنائمه أو يقودهم إلى الغارات التي يمون نفسه ويمونهم من أسلابها وغنائمها.
•••
فمن الوهم أن يقال إن الديمقراطية كانت حالة مألوفة في جزيرة العرب على عهد الجاهلية، فإن العرب الجاهليين قد اختبروا الحكومات المختلفة على أنواعها من حكومة الفرد إلى حكومة الإقطاع إلى حكومة المشيخة إلى الحكومة العسكرية، ويدل على أنها كلها كانت حكومات مفروضة ولم تكن مختارة أن الجمهورية هي النظام الوحيد الذي لم يعرف في عهد الجاهلية، وليس يقدح في هذه الحقيقة أن بعض القبائل كانت تختار لها رئيسًا من غير أبنائها حسمًا للنزاع بين رؤسائها، فإن الرؤساء هم أصحاب الاختيار في هذه الحالة منعًا للتنافس بينهم على الحكم كما قدمنا، وكانوا يسمون الرئيس المختار ملكًا، ويقبلون منه ومن وارثيه كل سلطان الملك المطلق في حكومته كما حدث في بني أسد، فلا مشابهة بين هذا النظام ونظام الحكومة المختارة الذي قررته الدساتير العصرية وما سبقها من قبيلها.
نعم، إن القبائل من البادية عاشت في جوف الصحراء معيشة الحرية والطلاقة بعيدًا من متناول الحكومات الساحلية أو الحكومات الداخلية في بعض الأحايين، ولكنها حرية لم تنعم بها؛ لأن أحدًا أرادها وشرع مبادئها؛ بل نعمت بها لأن أحدًا لم يرد منعها ولم تكن لأحد مصلحة في تقييدها والاعتراض عليها، فهي حرية واقعية غير مقصودة، وليست بالحرية الفكرية المقصودة على مبادئها المقررة، وقد تقدم أن الفرد لم يكن له حساب في أشد هذه القبائل بداوة وأوسعها حرية؛ إذ كانت القبيلة كلها هي مناط الحقوق والواجبات في مسائل الرعاية والقصاص والخصومات على الإجمال، ولا معنى للديمقراطية بغير مبادئ الحرية الفردية أو التبعة الفردية على التعبير الأصح؛ إذ كانت التبعات هي مرجع المحاسبة بين الحاكمين والمحكومين.
ومؤدى ما تقدم أن الديمقراطية الإسلامية جاءت مع الإسلام، ولم تسبقها الديمقراطية العربية كما توهمها أناس من المستشرقين وكتاب التاريخ من الأوربيين، وفضل الإسلام في تقرير ديمقراطيته فضل غير مسبوق.