حكومات الدول في عهد الدَّعوة المحمدية
ونتحول من الحكومات العربية إلى حكومات الأمم التي يصح أن تسمى دولًا في عهد الدعوة المحمدية، وهي دولة الفرس ودولة الروم ودولة الحبشة التي كانت تسلم لدولة الروم بشيء من الإشراف في بعض الأحوال.
ولم تكن دولة من تلك الدول تساس بنظام ديمقراطي أو تؤمن بالمبادئ الديمقراطية في ذلك الحين.
فالدولة الفارسية كان يحكمها ملك الملوك أو «شاهنشاه» يساعده القضاة وولاة الأحكام من الموابذة أو كبار الكهنة المجوس، وكان «الشاهنشاه» يتحرى النسب والحسب في اختيار الرؤساء لمناصب بلاده، ويتحراهما كذلك في اختيارهم للبلاد الأجنبية التي يحكمها ويتولاها ببعض الحماية كما نعرفها في مصطلحات السياسة العصرية.
جاء في الكلام على عويف بن معاوية الفزاري من كتاب الأغاني: أن كسرى سأل النعمان: هل في العرب قبيلة تتشرف على قبيلة؟ قال: نعم. فسأله: بأي شيء؟ قال: من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع فالبيت قبيلته، وطلب كسرى هذا الشرط فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم من بني تميم وآل ذي الجدين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من كندة، فجمع هذا الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد الحكام العدول، ثم قال بعد أن استمع لهم: كلهم سيد يصلح لموضعه …
وكانت الفواصل بين الطبقات على أشدها، فكان لذوي الأنساب مناصب محفوظة بغير عمل، وكان الشعب بين طبقة الكهان وطبقة القادة خليطًا من التجار والصناع والفلاحين والفعلة محرومين من كل حق في وظائف الحكومة، ولم تكن للدولة شريعة مرعية غير شريعة العرف وما يأمر به الملوك والأمراء، ويستشيرون فيه الموابذة غير مقيدين بالمشورة ولا بالاستشارة.
أما دولة الروم الشرقية فقد بلغت القرن السادس للميلاد وهي مضرب المثل بالحكم المطلق، وقد أراد أناس من خصوم معاوية بن أبي سفيان أن يعيبوا توريثه الخلافة، فقالوا: إنه يريد أن يجعلها «هرقلية» … كأنهم لا يعرفون مثلًا أدل عليه من المثل القائم في دولة الروم.
وجاء جستنيان فجمع القوانين وأبطل سلطان مجلس الشيوخ، واستقرت أوضاع الطبقات في عهده كما كانت من قبل على طبقة الملاك أصحاب الأرض وطبقة القادة والجند وطبقة العامة من الزراع والصناع، وأصبح من مزايا الطبقة العليا أنها تستمتع بالحقوق ولا تلتزم بالتكاليف، وقد أعفيت فعلًا من الضرائب والمكوس، وضوعفت من أجل ذلك ضرائب الطوائف العامة، فبيع الأحرار أحيانًا للوفاء بما تراكم عليهم من بقايا المطالب الحكومية في السنوات الخالية، وكان الإعفاء فعلًا من الضرائب لا يعفي الطبقة العليا من طلبها «شرعًا» على حسب الهوى، أو من المصادرة بذريعة من ذرائع السياسة التي لا تدخل في حساب.
وكانت الحبشة — كما هي اليوم — عشائر يحكمها أمراؤها وعلى رأسهم النجاشي أمير الأمراء أو ملك الملوك تشبهًا بالشاهنشاه، وقد دان النجاسي ومن حوله باليهودية، واتخذوا الشريعة الموسوية قانونًا للجزاء والمعاملة كما جاءت في العهد القديم، ثم دان الحاكمون بالمسيحية في أوائل القرن الرابع للميلاد، فبقي القضاء موسويًّا، وجرت مراسم العبادة في الهياكل مسيحية مع بعض التحريف الذي تسرب إليها من بقايا الوثنية، وتعددت مراجع الرعية في شئون الحكم والحكمة فاشتدت حيرتهم بين الحاكم والحكيم والكاهن والرئيس؛ إذ كان الحكيم «الوثني» يحكم ويطبب ويدفع أذى الأرواح والشياطين بالسحر والعزائم، فلما طرأت عليهم الكهانة أخذت شيئًا من رئاسة الدين، وشيئًا من رئاسة الحكمة والطب؛ بل شيئًا من رئاسة الحكم والتحقيق، ولا تزال عندهم إلى اليوم طائفة اللباشين أو العرافين يستعان بها بين الشعب على تحقيق الجرائم والسرقات، ويغلب على اللباشي أن يعتمد على صبي لم يبلغ الحلم؛ لأنهم يعتقدون أن الصبي في هذه السن بريءٌ من وضر الشهوات وأهواء الخصومات، فإذا استدعي اللباشي لكشف جريمة أو سرقة سقى صبيه قدحًا من اللبن مشوبًا ببعض العقاقير، وتلا عليه عزائمه ورقاه حتى يغيب عن وعيه وينطلق إلى المكان الذي اختبأ فيه السارق أو المسروق أو اختبأ فيه طلبة القضاء كائنًا ما كان.
وقد روى المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة على عهد النبي — عليه السلام — كثيرًا من أعمال هؤلاء السحرة والعرافين، وظل الحكم معتمدًا عليهم في مراجع الحكومة إلى زمن قريب حتى عصرنا الحاضر، وكان ملوكهم العقلاء يتولون القضاء بأنفسهم، ويحاولون جهدهم أن ينزهوه من بقايا العرافة واللباشة كما كان يفعل منليك الثاني أشهر النجاشيين في القرن العشرين. فكان قاضيًّا وأميرًا وقائدًا في وقت واحد، وكذلك كان النجاشيون في القرن السادس للميلاد حين ظهور الدعوة المحمدية، فلم تكن ديمقراطية الحكم معروفة عملًا ولا نظرًا في الدولة الحبشية القديمة، وكان صلاح الحكم فيها صلاح أفراد الحاكمين، فمن طغى فالحكومة في عهده مستبدة، ومن عدل فالحكومة في عهده تنصف المحكومين إنصاف العرف الغالب والعادة المرعية.
وقد كانت مصر من أشهر البلاد في أيام الدعوة المحمدية، ولكن حكومتها لم تكن لأهلها في تلك الفترة، فيقال عن حكومتها ما يقال عن الروم أو يقال عن الفرس؛ لأنها كانت تتبع هؤلاء تارة وهؤلاء تارة أخرى، وقد غبرت تلك الفترة كلها بين مصر وبلاد العرب وفارس والروم والحبشة، وليس للديمقراطية معنى مفهوم ولا لفظ مذكور.