الديمقراطية الإنسانية
نستطيع بعد الفصول المتقدمة أن نقرر أن شريعة الإسلام كانت أسبق الشرائع إلى تقرير الديمقراطية الإنسانية، وهي الديمقراطية التي يكسبها الإنسان؛ لأنها حق له يخوله أن يختار حكومته، وليست حيلة من حيل الحكم لاتقاء شر أو حسم فتنة، ولا هي إجراء من إجراءات التدبير تعمد إليها الحكومات؛ لتيسير الطاعة والانتفاع بخدمات العاملين وأصحاب الأجور.
وتقوم الديمقراطية الإسلامية — بهذه الصفة — على أربعة أسس لا تقوم ديمقراطية كائنة ما كانت على غيرها، وهي: (١) المسئولية الفردية و(٢) عموم الحقوق وتساويها بين الناس و(٣) وجوب الشورى على ولاة الأمور و(٤) التضامن بين الرعية على اختلاف الطوائف والطبقات.
هذه الأسس كلها أظهر ما تكون في القرآن الحكيم، وفي الأحاديث النبوية، وفي التقاليد المأثورة عن عظماء الخلفاء.
فالمسئولية الفردية مقررة في الإسلام على نحو صريح، وبآيات متكررة تحيط بأنواع المسئولية من جميع الوجوه.
فلا يحاسب إنسان بذنب إنسان وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.
ولا يحاسب إنسان بذنب آبائه وأجداده أو بذنب وقع قبل ميلاده: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
ولا يحاسب إنسان بغير عمله: وَأَن ليْسَ لِلْإِنسَانِ إِلا مَا سَعَىٰ … وكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ … وكُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ … ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
ومن تفصيل المسئولية في كل شيء قوله عليه السلام: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته …»
أما عموم الحقوق: فالقرآن صريح في مساواة النسب ومساواة العمل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.
وكلمة التقوى كما جاء في غير هذا الفصل تشمل المسئوليات جميعًا؛ لأنها تشمل كل ما يطالب الإنسان بأن يتقيه، ويسأل عنه إذا وقع فيه.
وسواء في الدنيا أو الأخرى لا تغني الأنساب شيئًا عن الإنسان: فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ.
وفي الأحاديث النبوية تفصيل لكل معنى من المعاني، فمنها قوله — عليه السلام — وقد أخذ يذكر الأقربين الأقرب فالأقرب إلى الأعمام والبنين: «يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا.»
وفي حديث بهذا المعنى: «يا عباس ويا صفية عمي النبي، ويا فاطمة بنت محمد! إني لست أغني عنكم من الله شيئًا، لي عملي ولكم عملكم.»
والنبي — صلوات الله عليه — هو القائل إنه: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
وقد سمع — عليه السلام — أبا ذر الغفاري يقول: يابن السوداء، فغضب وقال: «طف الصاع، طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح …»
وقد وضحت التسوية بين الناس في الدعوة من قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ … فليس الإسلام دعوة مقصورة على جنس من الأجناس ولا على عصبة من عصب السلالة؛ بل هذه العصبة كانت أبغض شيء إلى صاحب الدعوة كما قال في كثير من الأحاديث.
أما الحكم بالشورى: فالقرآن الكريم صريح في وجوبه، وليس بعد إيجابه على النبي إعفاء منه لوالٍ من الولاة: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ … وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وقد رويت مسائل شتى من مسائل السلم والحرب استعان فيها النبي بآراء أصحابه وعمل بها على خلاف ما ارتآه.
ومن تمام المسئولية الفردية تكافل الأمة في المسئولية العامة، فإن الأمة قد تصاب جميعًا بضرر جناه عليها بعض أبنائها، فمن حق كل فرد أن يدفع الشر عن نفسه وعن غيره: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً، وعلى كل فرد أن يبذل في دفع الشر جهد ما يستطيع: ولَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ولكنه قد يصاب بضلال غيره عملًا ولا يحاسب عليه شرعًا: لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَل إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.
هذه هي الأسس التي لا تقوم الديمقراطية على غيرها في بيئة من البيئات، وإذا علمنا من شأن أمة أنها تؤمن بالمسئولية الفردية والمساواة، وترفض الاستبداد بالرأي في الحكومة، وتتواصى بدفع الشر متكافلة في دفعه فلا يعنينا ما تسمى به في مصطلحات السياسة الحاضرة أو الغابرة؛ لأنها أفضل الحكومات سواء عرفت باسم الديمقراطية أو بغيرها من الأسماء.
على أن التعاون بالآراء خاصة من خواص الديمقراطية الإسلامية جديرة بالتفصيل في غير هذا الموضع؛ لأنها أصل من الأصول الاجتماعية التي لا تأتي عرضًا، ولا تنحصر في شئون السياسة دون غيرها، ولهذا سنفردها بالكلام في باب الديمقراطية الاجتماعية، ونذكرها هنا لأننا نذكر الديمقراطية الإنسانية، ومتى كانت المسئولية الفردية حقًّا للإنسان لا يأخذه من حاكم ولا يقصد به تيسير الحكم وكفى فالتعاون بالنصيحة على الخدمة العامة هو حق الإنسان على الإنسان، وواجبه لإخوانه في كل مجتمع يعطيه حريته ومسئوليته، ولا ينفرد فيه بالمنافع أو الأضرار.
وفضل الديمقراطية الإنسانية على الديمقراطية عامة أنها لم تشرع إجابة لطلب أو خوفًا من غضب؛ بل شرعت وهي تغضب الأقوياء ولم يطلبها الضعفاء، وقد كان ضعفاء الأمم يثورون على الظلم كما يثور الحيوان الحبيس أو الحيوان الجائع أو الحيوان المضروب، ولكن الضعيف لا يثور؛ لأنه يطلب حقًّا توجبه له كرامته الإنسانية، ولعله لو تمكن في مكان الأقوياء لم يحسب أنه يغضب حقًّا أو يغض من كرامة حين يقسو على الضعيف المخذول، وكان أقوياء المشركين خاصة لا يحسبون للضمير الإنساني كرامة وهم ينتزعون ديون الربا من أرزاق الفقراء والأجراء، وكانت «المساعاة» وسيلة مشروعة عندهم في استقضاء ديونهم، وهي تجيز لهم أن يدفعوا بزوجة المدين أو بنته إلى البغاء؛ لتؤدي لهم القرض بثمن العرض، وتجيز لهم أن يسخروا المدينين فيما يشاءون كما كان ذلك جائزًا في شريعة الرومان الأقدمين، فإذا جاءتهم الديمقراطية الإسلامية بالكرامة الإنسانية إيمانًا بالحق وكفرًا بسلطان المال والقوة فجدير بها أن تسمى «الديمقراطية الإنسانية» لأنها تقيم الحرية على حق الإنسان الذي لم يكن له حق ولا قوة، ولا تشرع الحرية والمسئولية ضرورة لا محيص عنها كما شرعتها من قبلها حكومات الأقدمين.