الاشتراكية، والقيم الروحية١
في أذهان كثير من المثقفين تصوُّرٌ للعلاقة بين الاشتراكية والقيم الروحية أود أن أعلن — منذ بداية هذا المقال — أنني أرفضه من أساسه، بل إنني ما كتبتُ هذا المقال إلا لكي أفنِّده وأثبت أن الاعتقاد النظري به ينطوي على استحالات ومتناقضات عقلية، على حين أن التطبيق العملي له يجر وراءه من التشتت في السلوك، والتردُّد والتعثر في العزم والقصد، ما لا تملك أمةٌ تسعى إلى الأخذ بأسباب النهوض أن تترك نفسها فريسةً له.
هذا التصوُّر الذي أعترض عليه يمكن التعبيرُ عنه — في صيغة موجزة — بقولنا إن الاشتراكية والقيم الروحية تسيران جنبًا إلى جنب حتى مرحلةٍ معيَّنة، ثم تفترقان بعد ذلك، وبعبارة أخرى فالاشتراكية تظل غيرَ متعارضة مع القيم الروحية ما دامت معتدلة، أما إذا تطرفت، فإنها ترفض هذه القيم الروحية، ويفترق طريقاهما إلى الأبد.
وتجد هذه الدعوى تأييدًا قويًّا من ذلك الميل الطبيعي في نفوسنا إلى قبول شكلٍ من أشكال «نظرية الوسط» التي وضعها أرسطو في الأخلاق، والتي تعبِّر عن نفسها في أمثالٍ شعبية مثل «خير الأمور الوسط»، هذه النظرية تذهب إلى أن الفضيلة وسطٌ بين رذيلتين، كالشجاعة التي هي وسطٌ بين الجبن والتهور، أي إن هناك خطًّا ممتدًّا يتميز بالاشتداد والتكثيف التدريجي لصفةٍ ما، وهذا الخط يبدأ من رذيلة وينتهي إلى رذيلة، بينما تقع الفضيلة في موقعٍ ما عند الوسط أو بالقرب منه، وعلى ذلك فإن الإفراط في الفضيلة شأنه شأن التفريط فيها ينقلب إلى رذيلة، وبهذا المعنى يكون الإفراط في الاشتراكية — تبعًا لهذا الرأي الشائع — رذيلةً تؤدي إلى ضياع القيم الروحية والتنكر لها.
ولعل أول ما ينبغي أن نشير إليه — ونحن في معرض مناقشة هذه الدعوى — أن مبدأ «خير الأمور الوسط» ليس مبدأً مطلقَ الصحة في كل الأحوال؛ ففي حالة فضائلَ معيَّنةٍ لا تكون الحالة المثلى على الإطلاق هي أن يكون لدينا من هذه الفضيلة قدْرٌ معقول فحسب، فهل الأفضل — مثلًا — أن يكون المرء معتدلًا في نزاهته أم مفرطًا فيها؟ وهل المجتمع الأمثل هو ذلك الذي يسوده قدْر معقول من العدالة، أم عدالة كاملة بلغت أقصى حدود «التطرف»؟ وهل يُعَدُّ الغش صفةً يستحسن أن يكون لدى الإنسان «قدْر» منها مهما كان بسيطًا، أم إن التفريط الكامل في هذه الصفة أمرٌ مستحَب؟ من الواضح أن «نظرية الوسط» لا تسري آليًّا على كل الفضائل، وأن هناك صفاتٍ معيَّنةً يكون المرء أكملَ من غيره لو أنه تحلَّى بأكبر قدْر أو بأقل قدْر منها.
وعلى الرغم من أن هذه المناقشة لا تتصل اتصالًا كاملًا بالموضوع الذي نعرض له في هذا المقال، فإن بلوغها بنا إلى هذه النتيجة يمكن أن يكون مقدمة مفيدة غاية الفائدة، تساعد على تحقيق الهدف الذي نرمي إليه؛ ذلك لأن الكثيرين منا يعتقدون أن مبدأ «خير الأمور الوسط» هو مبدأ يَصدُق بصفة آلية على كل شيء، ولا يتصورون أن هناك «أمورًا» معيَّنة ينبغي على الإنسان ألا يكتفي فيها بالوسط، أو هم — بتعبيرٍ آخر — لا يدركون أن اتخاذ الموقف الوسط، أو التزام جانب الاعتدال في أمورٍ معيَّنة، يعني مهادنة الشر والرذيلة، والتخلي عن قدْر كبير من الفضيلة، هو ذلك القدْر الذي نتركه جانبًا بحجة أنه يمثل حد «التطرف».
ولو نظرنا إلى الاشتراكية بمعنى أنها «العدالة الاجتماعية»؛ لظهر بوضوحٍ أنها واحدة من تلك الأمور التي لا يكفي فيها اتخاذ الموقف الوسط؛ إذ إننا جميعًا — دون شك — نود أن يتحقق من العدالة الاجتماعية أعظمُ قدْر يمكن تحقيقه، ونحس بقصور سلوكنا لو أننا اكتفينا منها بحد «الاعتدال» وتعمدنا ألا نحققها كاملة حتى لا نصل إلى حد «التطرف»، فكيف إذن يُقال إن هذا التحقيق الكامل لمطلب أساسي عزيز على الإنسان، يتعارض مع القيم الروحية؟ وكيف شاع — بين كثير من مفكرينا العرب على وجه الخصوص — ذلك الاعتقادُ الذي تصبح فيه الاشتراكية أشبهَ ما تكون بالخمر، قليلٌ منها يُصلِح «مَعِدة» المجتمع، وكثيرٌ منها يُفسِد المجتمع ويصيبه بعلل، أولها فقدان الإحساس بأهمية القيم الروحية التي هي أسمى غاية يتطلع إليها البشر؟
إن المرء لا يحتاج إلى تفكير طويل لكي يدرك أن هناك فئةً من القائلين بالتعارض بين الاشتراكية — إذا تطرفت — وبين القيم الروحية، لا تؤكد هذه الفكرة إلا لأنها كارهة — أصلًا — للاشتراكية، هذه الفئة لا تستطيع أن تجهر بالعداء لمبدأ الاشتراكية حين يصبح هذا المبدأ سياسةً رسمية للدولة، فيكون الحل الذكي الذي تلجأ إليه هو أن تحدَّ من نطاق الاشتراكية ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وأبسط وسائل هذا الحد هو أن تؤكد أضرار «التطرف»، وتقيم تعارضًا مزيفًا بينه وبين القيم التي يعتز بها المجتمع، وبذلك تضمن أن المبدأ الذي هي في صميمها كارهة له كراهيةً شديدة — وإن كانت غير معلنة — قد ظل حبيس إطار محدود لا يخرج عنه، وتضمن في الوقت ذاته أنها بدعوتها هذه إلى تقييد المبدأ الذي تبغضه، قد اتخذت مظهر المدافع المخلص الغيور عن أسمى ما يملكه الإنسان من قيم.
ولكني لا أود أن أتريث طويلًا لمناقشة موقف أمثال هؤلاء المفكرين؛ ذلك لأن المعارضة الصريحة للاشتراكية أشرف — في رأيي — من ذلك الالتفاف من حولها بغيةَ طعنها من الخلف، والمعارض الصريح — وإن كان يرتكب خطأً عقليًّا أفدح — يتسم على الأقل بمستوًى أخلاقي أرفعَ من مستوى هؤلاء الأعداء المتنكرين في ثياب الأصدقاء، فضلًا عن أنه قابل للاقتناع إذا كان أمينًا، وإذا لم تكن لعدائه أسبابٌ خفية مرتبطة بالمصالح الشخصية، ومن هنا فإني أود أن أتوجَّه بحديثي إلى المعارضين الأمناء — لا المنافقين — وأن أناقش معهم ذلك المبدأ الذي يأخذونه قضية مسلَّمًا بصحتها، مبدأ التعارض بين القيم الروحية وبين الاشتراكية، إذا سارت حتى آخرِ مدًى يمكن تصوُّره لها.
ما هي «الروحانية»؟
إن قدْرًا كبيرًا من سوء الفهم، يرجع إلى الافتقار إلى الدقة في تحديد معنى «الروحانية»؛ فالكثيرون يتصورون أن الروحانية هي الاعتراف النظري بعقيدة معيَّنة، وأداء شعائرها وطقوسها، ومثل هذا المعنى شكلي بحت، وهو لا يمثل إلا السطح الظاهري مما تدل عليه الروحانية الصحيحة، وقد يظن مَن يعترف نظريًّا بمثل هذه العقيدة ويؤدي شعائرها، أنه قد حقَّق بذلك القيم الروحية في نفسه. ولكن هل من الصحيح أن مثل هذا المسلك يوفي القيم الروحية حقَّها؟
إن أبسط تفكير يقنعنا بأن الروحانية هي — قبل كل شيء — جهادٌ وكفاح ومغالبة، وذلك الذي يقتصر على الاعتناق الشكلي للعقائد لم يكافح ولم يغالب شيئًا، ولو وُضِعَت مصالحه الحقيقية في كِفة وجوهر عقيدته في كِفة أخرى، لسعى بكل قواه إلى ترجيح الأولى. على أن جانب الخطورة لا يتمثل في الوجه الفردي لهذه الظاهرة، بل يكمُن في وجهها الاجتماعي؛ ذلك لأن المجتمع بدوره يقر مثل هذا السلوك ويَعُدُّه أمرًا طبيعيًّا لا غبار عليه، خذ مثلًا ذلك التاجر الذي يؤدي فروض الدِّين كلها كأحسن ما يكون الأداء، ثم يعلم أن بضاعةً مختزنة لديه قد شَحَّت في الأسواق، فلا يتردد لحظة واحدة في رفع سعرها، مثل ذلك السلوك الفردي ينطوي على تجاهل تام للروحانية الحقيقية، ولكن الأهم من ذلك أن المجتمع لا يجد في هذا المسلك مأخذًا؛ فسلوك هذا التاجر في نظر المجتمع مشروعٌ ما لم يكن الأمر متعلقًا بسلعة محددة السعر، وهو في نظر معارفه دليلٌ على الفطنة وبُعد النظر، ولا تعارض بينه على الإطلاق وبين المظهر «الروحي» الخارجي الذي عُرِف به صاحبه بين الناس.
على أن هذا الفهم الباطل للروحانية قد اتخذ في عالمنا المعاصر مظهرًا أخطرَ بكثير، هو المظهر الأيديولوجي، الذي أصبحت فيه الروحانية وسيلةً لمقاومة الاشتراكية في صورتها المكتملة، وهذا المظهر الأيديولوجي هو الذي ينبغي التنبُّه إليه وتحليل أسبابه وتحديد مدى البطلان فيه.
ذلك لأن من أعجب المفارقات في عالمنا المعاصر أن الدفاع عن القيم الروحية أصبح هو الشعار الذي تنادي به أشدُّ النظم الاجتماعية إغراقًا في الماديات، وأبعدها عن كلِّ ما تسمو به الروح وتزهو به الفضيلة والأخلاق؛ ففي عالمنا هذا تتكرَّر مرة أخرى، قصة التاجر الذي يسرق عملاءه، ويظهر أمامهم برغم ذلك بمظهر الغيور على التقوى والإيمان، فكيف وصل فكرنا إلى الوقوع راضيًا في هذا التناقض؟
إننا نعلم جميعًا أن أشد الدول الرأسمالية إغراقًا في استغلال الإنسان — داخل بلادها وخارجها — وفي العدوان على كل القيم التي تعتز بها البشرية، تتباكى من الوجهة الأيديولوجية على القيم الروحية التي تقضي عليها الاشتراكية المتطرفة، وتعلن على البسطاء والسذج أن هذه القيم لا حياة لها إلا في ظل نظامنا الاجتماعي والاقتصادي الخاص، وفي كل يوم يتفاخر الدعاة الأيديولوجيون للنظام الرأسمالي بتميزهم عن «الماديين» من الاشتراكيين، ويتباهون بأن «الروحانية» لا حياة لها إلا بين ظهرانيهم، وربما عقدوا محالفاتٍ صريحة أو ضمنية مع هيئات دينية — كالكنيسة الكاثوليكية مثلًا — يُضْفون بها على هذه المزاعم بركةً «سماوية»، وإنك لتجد الجندي الأمريكي يقتل النساء والأطفال في فيتنام، ويلقي القنبلة الذرية في هيروشيما، وينقضُّ على ثورات التحرُّر في أمريكا اللاتينية، ثم يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد راضيًا، دون أن يشعر بوجودِ أي تناقض بين هذا المسلك وذاك، وقد يكون هذا نفاقًا تمليه المصالح الخاصة لشعبٍ أو لنظامٍ اجتماعي معيَّن، ولكن العجيب حقًّا هو أن تبادر هيئاتٌ دينية واسعة النفوذ إلى الاعتراف بأن القيم الروحية لا تجد من يحميها إلا بين أنصار النظام الاجتماعي الذي يرتكب كلَّ هذه الشرور، والأعجب من هذا وذاك أن يُصدِّق هذه المزاعم قطاعٌ لا بأس به من الرأي العام في العالم، بل وفي عالمنا العربي بدوره، فيسلِّم بالتعارض بين القيم الروحية وبين الاشتراكية المكتملة التحقق.
ولكي تكتمل لدينا صورةُ الزيف الفكري الذي يسيطر على أذهان كثير من الناس في عالمنا المعاصر، ينبغي أن نتأمل نماذجَ من سلوك أولئك الاشتراكيين «المتطرفين»، الذين يشيع وصفُهم بأنهم أعداء للقيم الروحية، وبأنهم لا يبنون سلوكهم إلا على أساس من المادية اللاإنسانية.
خذ مثلًا سلوك شعب فيتنام، أيشك أحدٌ في أن البطولات الأسطورية التي يسجلها هذا الشعب الصغير ضد أعتى جهاز عسكري وحربي عرفه الإنسانُ طَوال تاريخه، هي انتصار قاطع وحاسم للروح على المادة؟ إن السلاح الحديث الوفير الذي تدعمه أعظم البحوث العلمية، والأموال التي تصل إلى أرقامٍ فلكية، والثراء وكثرة العدد وضخامة الأجسام وحسن التغذية والعقول الإلكترونية، كلُّ هذه تقف عاجزةً حائرة أمام شعب فقير ضئيل العدد قليل العُدَّة، يحيا حياةً ريفية بسيطة، ولا يعتمد في تدبير أموره إلا على مواردَ شحيحةٍ لا تكفي سكان بلدة متواضعة في أشد ولايات أمريكا تأخُّرًا.
فما هي القوة التي تحرِّك الجسد النحيل الهزيل لتجعله يَصْرَع أضخم جبابرة الأرض؟ أيستطيع أحد أن يزعم لحظةً واحدة أن قوة المادة هي التي تمنح الفيتنامي القدرة على الصمود والانتصار على أشد أجهزة القتل والدمار كمالًا، وتعطي عقلَه البسيط المباشر مقدرةَ التفوق على أدهى ما تتفتَّق عنه أذهانُ محترفي العسكرية، مقترنة بأعقد خطط العقول الإلكترونية؟ إن الفيتنامي الفرد — في هزاله وضآلة جسمه وفقره وبساطة حياته — ما هو إلا كتلةٌ متحركة من القيم الروحية — بأرفع ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معانٍ — تقف بإصرار وإباء أمام جبروت المادة وتقهرها دون عناء؛ لأن الروح المتفانية أقوى — في نهاية الأمر — من كل مادة فجة غاشمة.
وقُل مثل هذا عن أفرادٍ كثيرين عاشوا في عالمنا هذا مثالًا للتفاني في سبيلِ أسمى ما تعتزُّ به البشريةُ من القيم: هوشي منه، الذي يأبى إلا أن يكون عظيمًا حتى بعد لحظة مماته، فيطلب في وصيته ألا تُقام له إلا جنازة بسيطة قصيرة، «حتى لا يكون في ذلك مضيعة للجهد والمال»! وجيفارا الذي يأخذ على عاتقه تحقيق رسالة الثورة ضد الظلم في كل مكان، ويترك جاه الحكم ونفوذه ونِعَمه جانبًا ليعود مرة أخرى مناضلًا بسيطًا يحارب في أقسى الظروف التي يمكن أن يتصورها إنسان.
ومع ذلك فإن هؤلاء المناضلين جميعًا — الأفراد منهم والجماعات — يمكن أن يُحْسَبوا — في نظر البعض — ضمن «خصوم» القيم الروحية؛ لأنهم يؤمنون بنوعٍ من الاشتراكية «المتطرفة» التي يَعُدُّها الكثيرون متعارضةً مع تلك القيم، فهل هناك دليل أبلغ من ذلك على ضيق نظرة هؤلاء إلى القيم الروحية وقصور فهمهم لمعناها؟ إن من هؤلاء مَنْ هم مخلصون — بلا شك — لمعنى الروحانية، حريصون على توطيد أركانه، ولكن ما أجدرَ هذا الفريق بأن يراجع تفكيره في هذا الأمر مراجعةً شاملة، وأنا على ثقةٍ من أنه لو فعل فسوف يتبين له أنه ضيَّق من نظرته إلى الرُّوح وإلى قيمها أكثر مما ينبغي، وأنه أخرج من مجالها أنواعًا من السلوك لا يستطيع أحدٌ أن يشك في صدورها عن دوافعَ روحيةٍ خالصة.
بين الخبز والروح
إن شعار «ليس بالخبز وحدَه يحيا الإنسان» هو الكلمة السحرية التي يردِّدها أنصار «القيم الروحية» بمعناها الضيِّق، ويزعمون أنهم يُفحِمون بها خصومهم، ويثبتون حرصهم على إنسانية الإنسان، وردًّا على هذا الشعار، أكَّد الكثيرون أنك لا تستطيع أن تُقنِع به الفقير الجائع الذي تدور مَعِدتُه في خواء، فهل يعني ردُّهم هذا أنهم ينكرون أن في الحياة الإنسانية ما هو أسمى من الخبز؟
الحق أن مشكلة العلاقة بين الاشتراكية والقيم الروحية إنما يمكن حلُّها في الرد على هذا السؤال البسيط؛ ذلك لأن الإنسان لا يحيا حقًّا بالخبز وحدَه، ولكنه لا يستطيع أن يطبِّق هذا المبدأ إلا حين يتوافر لديه الخبز، وهذا هو لب الموضوع، فحين يَعِزُّ الخبزُ على الإنسان يصبح هو الغاية القصوى — بل الوحيدة — لكل سلوكٍ يقوم به، وتلك بلا ريب حالة من الضَّعة أشبه ما تكون بحالة الحيوان الأعجم، ومن عجيب أمور الفكر البشري أن ذلك الذي يدعو إلى توفير الخبز للجميع إنما يهدف إلى أن يرتفع بالإنسان فوق مستوى التفكير الدائم في الخبز والانشغال الذي لا ينقطع به، حتى يستطيع أن يتفرغ لما هو أرفع منه، على حين أن ذلك الذي يؤكد — في ترفُّع وتسامٍ — أن الإنسان يحيا بما هو أسمى من الخبز، قد تؤدي دعوته هذه إلى أن يتجاهل الناسُ مشكلة الخبز، فتكون النتيجة أن يظلوا أسرَى لها إلى الأبد، ويعجزون بالتالي عن بلوغ مستوى الخبز ومستوى ما فوق الخبز معًا.
ولو شئنا أن نترجم هذا الكلام إلى اللغة الفلسفية، لقلنا إن الدفاع عن المادة كثيرًا ما يكون — في حقيقته — دفاعًا عن الرُّوح بمعناها الحق، على حين أن الدفاع عن المُثُل الروحية كثيرًا ما يحمل — بين طياته — أشدَّ النزعات المادية عنفًا وقسوة، ومن المؤكد أن لفظَي «المادية» و«المثالية» مسئولان عن قدْر كبير من المغالطات التي يعش الإنسان المعاصر ضحيةً لها.
ذلك لأن لكلٍّ من هذين اللفظين معنًى عقليًّا خالصًا أو نظريًّا فلسفيًّا، ومعنًى آخرَ عمليًّا أو أخلاقيًّا، وفي تفكير معظم الناس خلطٌ دائم بين هذا المعنى وذاك؛ فحين يتحدَّث أحدٌ عن المادية — بالمعنى النظري الفلسفي وحدَه — ينصرف الذهن تلقائيًّا إلى المادية بمعناها الأخلاقي، وهي شيء قبيح ينفر منه كل إنسان لديه ذرة من حب الخير والجمال، وحين يتحدث آخرُ عن المثالية — بمعناها العقلي البحت — ينصرف الذهن أيضًا إلى المثالية بمعناها الأخلاقي، وهي شيء رائع يسعى إليه كلُّ من يقدِّر القيم الرفيعة.
ومع ذلك فإن تاريخ الفكر البشري حافلٌ بأمثلة الفلسفات التي جمعت — دون أي تناقض — بين المادية النظرية والمثالية العملية أو الأخلاقية، والفلسفات التي ارتبطت فيها مثالية الفكر النظري بأقبح مظاهر المادية في السلوك العملي، وتكاد هذه أن تكون قاعدة مطردة، أو قانونًا يحكم العقل البشري، ومع ذلك فما أسهل المغالطة حين يكون الأمر متعلقًا بالجمع بين معانٍ بلغت كلَّ هذا الحد من التضاد!
على أنه إذا كان هذا هو الأصل الفلسفي للفهْم الباطل لمعنى الروحانية (التي هي وثيقة الارتباط بالمثالية)، فإننا لا نجد أنفسنا بحاجة إلى الخوض في أعماق بحر الفلسفة كما ندرك أن «الدفاع عن الروح» قد أُسيء فهْمه وأُسيء استخدامه في عالمنا هذا إلى حدٍّ يؤدي إلى إلحاق أفدح الأضرار بقضية الروح ذاتها، ولا أشك لحظة في أن الأمثلة الملموسة التي قدمتُها في موضعٍ سابق من هذا المقال، كفيلةٌ — إذا ما تعمقنا فهْم دلالتها — بتنبيه هذه الأذهان إلى خطورة الالتباس الذي وقعت فيه.
إن فهمنا لطبيعة القيم الروحية ومجالها يحتاج إلى مراجعة جذرية، تؤدي بنا إلى ألا نقتصر على المعنى الشكلي لهذه القيم، بل نضيف إليه أهم المعاني جميعًا، وهو المعنى الجوهري للروح، والحق أننا لو شئنا أنموذجًا صارخًا في هذا العالم الذي نعيش فيه للفهم الشكلي للروحانيات، لكان هذا الأنموذج هو الأيديولوجية الصهيونية؛ فهذه الأيديولوجية ترتكز على الاستمساك المريض بحرفيةِ عقيدةٍ تعتقد أنها هي وحدَها العقيدة الروحية المقدسة، وكل ما تقدمه هذه الأيديولوجية لتصرفاتها من تبريرات يرتكز على دعائمَ من هذه العقيدة الروحية، ومع ذلك فما أعظمَ التباين بين ادعاء الدفاع عن عقيدة روحانية، وبين المسلك الإجرامي الذي تحبِّذه هذه الأيديولوجية وتدفع أنصارها إلى القيام به دون وازع من مبدأ أو ضمير، ومنذ أن كانت لليهود حياة متميزة محدَّدة المعالم، كان هذا الازدواج العجيب بين التمسُّك بالعقيدة وبين الجري اللاهث وراء الماديات، هو السمة المميزة لحياتهم، وما هذه — في رأيي — سوى النتيجة القصوى للتمسك الشكلي البحث بالروحانية، دون اكتراث بجوهرها ومعناها العميق.
إن القيم الروحية — إذن — ليست شكلًا فارغًا أو إطارًا من الشعائر والأقوال التي تتردَّد آليًّا على الألسن، بل هي قبل كل شيء سلوك عملي في الحياة، والحريص حقًّا على القيم الروحية ليس ذلك الذي يردِّد ألفاظًا أو يؤدي طقوسًا، بل هو ذلك الذي يثبت بسلوكه في الحياة أنه يتخذ لنفسه هدفًا رفيعًا، ويضحي من أجل تحقيقه بكلِّ ما يملِك.
أما ثاني الأخطاء التي ينبغي أن يؤدي بنا التفكيرُ الجاد في هذه المشكلة إلى التخلُّص منها، فهو الاعتقادُ بأن القيم الروحية لا تعدو أن تكون تراثًا قديمًا يتعيَّن علينا أن نحتفظ به سليمًا؛ ذلك لأن القيم الروحية — وإن تضمنت هذا العنصر من غير شك — تتجاوز هذا النطاق بكثير؛ فهي في أساسها خلْقٌ متجدد في ميدان العمل، وهي مرشد يهدينا في محاولتنا بناءَ مستقبل أفضل، وليست مجرد أثر من آثار الماضي يتعيَّن علينا أن نكرِّس حياتنا لحمايته من عوادي الزمان. إن القيم الروحية تختنق لو أصبحت مجموعة من المبادئ الموروثة، وتحيا وتزدهر إذا استحالت إلى قوة دافعه توجِّه المرء في حاضره ومستقبله، ولن يخدم القيم الروحية في شيء ذلك الذي يقتصر على اختزان مبادئ التراث في صندوقٍ مقفَلٍ خشيةَ أن تمتد إليها يدٌ لتختطف منها شيئًا، بل إن خادمها الحقيقي هو ذلك الذي يجدِّدها، ويخلق منها المزيد في كفاحه من أجلِ حياةٍ أفضلَ للناس جميعًا.
ولو قمنا بهذه المراجعة — بصدق وإخلاص — لما عاد هناك تعارضٌ بين الاشتراكية أيًّا كان المدى الذي تبلغه وبين القيم الروحية، ولاختفى نهائيًّا ذلك الوهمُ الذي صوَّر لبعض الناس أن هذه القيم تمسك بيد الاشتراكية حتى منتصف الطريق — وربما ربع الطريق أو عُشره — ثم تفترق عنها إلى غير رجعة.