أخلاقنا العلمية … إلى أين؟١
خلال ذلك الوقت العصيب الذي انقضى منذ هزيمة يونيو، والذي كنا نتلمَّس فيه أسبابَ الهزيمة داخل نفوسنا وفي عقولنا وطرائقِ تفكيرنا، دار قدْرٌ كبير من النقاش الذي أثارته هذه الصدمة الأليمة حول موضوع العلم، وكان هناك ما يشبه الإجماع بين كلِّ مَنْ أدلوا بآرائهم في هذا الموضوع على أن موقفنا من العلم كان من أول أسباب الهزيمة، وعلى أن تعديل هذا الموقف أو تغييره جذريًّا هو أول خطوة في الطريق الشاق الذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى النصر.
ولقد سارت المناقشاتُ التي استهدفت تحليل موقفنا من العلم في اتجاهين: أحدهما يدعو إلى توسيع نطاق «مضمون» العلم ورفع مستواه، وذلك بإبداء مزيدٍ من الاهتمام بالبحث العلمي وتدريس العلوم وتقديم كافة التيسيرات التي تتيح للعلماء جوًّا مستقرًّا يمارسون فيه أبحاثهم على النحو الذي يَكفُل — آخِرَ الأمر — أقصى انتفاع من العلم لصالح المجتمع ذاته. أما الاتجاه الآخر فيدعو — بالإضافة إلى ما سبق — إلى الأخذ «بالمنهج العلمي» أو «بالأسلوب العلمي في التفكير»، في مقابل الأسلوب الخرافي أو العشوائي الذي كان ولا يزال سائدًا في جوانبَ متعدِّدةٍ من تفكيرنا، ويتميز هذا الاتجاه الثاني بأن تطبيقه لا يقتصر على المجال العلمي البحت فحسب، بل إنه يمتد إلى كافة جوانب حياتنا العملية أيضًا؛ فالأسلوب العلمي في التفكير يمكن أن يُسْتَخْدَم بنجاح في ميادينَ كالحرب والدعاية والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي وفي السياسة الداخلية والخارجية، وغير ذلك من المجالات التي يؤدي تطبيق المنهج العلمي فيها إلى تغيير طريقة تناولنا لها من التخطيط والارتجال إلى التنظيم والترتيب والتعمُّق.
على أن للمشكلة جانبًا ثالثًا لم يُعِرْهُ أحدٌ اهتمامًا، وكأنه جانب مهمَل لا قيمة له في تحديد موقفنا من العلم، مع أنه ربما لم يكن يقل أهمية عن الجانبين السابقين، بل قد يكون هو الذي يحدِّد مقدار انتفاعنا أو عدم انتفاعنا من هذين الجانبين، هذا الجانب هو «الأخلاق العلمية»، أعني تلك المجموعة من القيم والقواعد والمعايير التي ترتبط بممارسة العمل العلمي، وإن لم تكن هي ذاتها من صميم العلم، والأخلاق العلمية كما أود أن أتحدث عنها في هذا المقال، ليست هي السلوك الشخصي للعالم من حيث هو إنسان، بل هي سلوكه من حيث هو عالم فحسب، أعني أسلوبه وطريقة تعامله مع الآخرين في المجال العلمي ذاته؛ فليس هدفي هنا هو الحديث عن الأخلاق في صلتها العامة بالعلم، بل هو ينصب على وجهٍ بعينه من أوجه الأخلاق، هو ذلك الذي يمارسه المرء بوصفه عالمًا فحسب.
وعلى الرغم من أن الأخلاق العلمية شيءٌ متميز عن العلم ذاته، فإن بين الاثنين علاقة متبادلة وثيقة، صحيح أن العلم ينتمي إلى مجال تقرير الواقع وفهمه، وأن الأخلاق تتعلق بتقدير القيم والسلوك على أساسها، ومع ذلك فإن كلًّا من العلم والأخلاق العلمية يدعم الآخر ويزيده من الارتقاء في الأخلاق العلمية ومن الحرص على مراعاتها، والتمسُّك بالأخلاق العلمية يؤدي — من جهةٍ أخرى — إلى مزيد من التقدُّم العلمي، ويزيل كثيرًا من العقبات التي تعترض طريق العلم، ولكن هذا الحكم العام لا يمنع — بطبيعة الحال — من وجود حالات فردية لا يجتمع فيها العلم مع الأخلاق العلمية، ولا يعمل فيها كلٌّ منهما على دعم الآخر.
والأمر الذي لا شك فيه أننا — في تلهُّفنا الشديد على بلوغ مستوًى علمي رفيع نعتقد عن حق أنه هو الكفيل بحل مشاكلنا القريبة المدى والطويلة الأجل — لم نحاول إبداء أي قدْر مماثل من الاهتمام بالأخلاق العلمية، ومعنى ذلك أننا نتصور إمكان حدوث نهضة علمية دون أن يواكبها ارتفاعٌ مناظر في مستوى القيم التي يسلك بمقتضاها المشتغلون بالعلم، وهو في رأيي تصوُّر باطل من أساسه؛ ذلك لأن كل نهضة علمية تحتاج إلى مناخ أخلاقي معيَّن لا تزدهر إلا فيه، وكل تقدُّم في العلم يرتبط بمراعاةِ تقاليدَ سلوكيةٍ راسخةٍ توطدت دعائمُها في المجتمعات التي سبقتنا في هذا المضمار، وازدادت فيها تأصُّلًا كلما ازداد العلم ذاته نهوضًا.
ومن المؤسف أن الجرائد اليومية هي التي ذكَّرتنا بهذه الحقيقة الأليمة — أعني افتقارنا إلى التقاليد العلمية الراسخة — بطريقةٍ قد لا تخلو من الابتذال، ولكنها لا تغير من الواقع المؤلم ذاته شيئًا، وعلى الرغم من أني لست في وضعٍ يسمح لي بأن أصدر حكمًا على اتهامات السرقة العلمية التي وجَّهتها الصحف، في الآونة الأخيرة إلى أكثرَ من واحد من أساتذتنا الجامعيين، ولا أود أن أشارك في تعبئة مشاعر الرأي العام المثقف ضدهم، فإني أعتقد مع ذلك أن الطريقة الدرامية الصارخة التي اتبعتها الصحف اليومية في إثارة هذا الموضوع الشائك لا تخلو من فائدة؛ فهي أشبه بالصدمة الكهربائية التي تنبِّه الحواس الخاملة، وهي بالفعل قد أثارت فينا سلسلةً من ردود الأفعال العنيفة المفاجئة، ولكن التفكير الذي أثارته كان مقتصرًا على الوقائع التي كُشِفَ عنها النقاب فحسب، ولم يمتد إلى الجذور العميقة للظاهرة نفسها.
إن ظاهرة الاستيلاء على ثمرة جهود الآخرين — في الميدان العلمي — ظاهرةٌ لا تقل خطورة عن السرقة الفعلية، بل إننا نجد لدى سارق الممتلكات المادية — في معظم الأحيان — دوافعَ ترغمه على ارتكاب جريمته، فضلًا عن أن مستواه العقلي — في الغالب — هابطٌ إلى حدٍّ لا يسمح له بتقدير مدى الخطأ الذي يرتكبه، أما العدوان على الجهد العلمي للآخرين فيقوم به شخص ليس مضطرًّا إلى ارتكاب هذه الجريمة لكي يعيش أو يعول أسرة، فضلًا عن أن قدراته العقلية تسمح له بأن يكون على وعي كامل بمدى مخالفة فعلته هذه لكلِّ ما تعارفت عليه الأوساط العلمية من قيم.
ولكن إذا كان موقف مَنْ ينتحل لنفسه جهد الآخرين أمرًا مؤسفًا، فإن الأكثر منه مدعاةً للأسف هو موقفُ المسئولين من أمثال هؤلاء الأشخاص؛ ففي معظم الأحيان يكون أول ما يتبادر إلى أذهان المسئولين هو «ستر الفضيحة» وتجنُّب إثارة الضجة بأي ثمن، ويتحقق ذلك بإيجاد أي مبرِّر مفتعَل يخفِّف من وطأة الخطأ الذي ارتُكِب، ثم تبرئة مرتكبه أو توجيه لوم شكلي إليه، وبذلك يتحقق الهدف الأكبر، وهو التكتم على الفضائح العلمية، أما علاج الظاهرة ذاتها فلا يفكر فيه أحد.
وأبسط علاج في نظري هو الردع الصارم؛ فالتدليل المفرط لمن يرتكب «فعلًا فاضحًا» في مجال العلم لن يؤدي إلا إلى استفحال هذه الظاهرة والتشجيع على تكرارها، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن ضمير مَن يصدرون الحكم على هذه الحالات لا يزيد في يقظته كثيرًا عن ضمير مَن يحكم هؤلاء عليهم، ولا أظن أنني أقرِّر شيئًا غريبًا أو غير مألوف إذا قلت إن أبسط رد فعل على هذه الفضائح ينبغي أن يكون استبعاد مَن يثبت عليه ارتكابها من أية هيئة علمية استبعادًا لا رجعةَ فيه، ولو كان هذا مسلكنا منذ البداية لأصبح نطاق هذه الظاهرة في وقتنا الحالي أضيقَ بكثير مما هي عليه الآن.
ومن الطريف أن دفاع مرتكبي هذه الفضائح العلمية عن أنفسهم يتخذ في معظم الأحيان صبغة المغالطة المعروفة التي تشير إلى دوافعِ مَن يهاجمونهم، بدلًا من أن ينصبَّ على موضوع الهجوم ذاته؛ ففي كل حالة تُثار فيها فضيحة كهذه، يؤكد مرتكبها — في معرض الدفاع عن نفسه — أن مَن أثارها شخص مغرض حقود حسود … إلخ، وهذه الصفات قد تكون كلها صحيحة، وقد لا تكون دوافعُ الهجوم علمية على الإطلاق، ولكن هذا كله لا يؤثر في قليل أو كثير على طبيعة الجُرم الذي ارتُكِب في حق العلم؛ فالعبرة إنما هي بمضمون الواقعة ذاتها، لا بدوافعها أو الظروف المحيطة بها.
هذه الملاحظة تؤدي بنا إلى مظهرٍ آخرَ من مظاهر افتقارنا إلى التقاليد العلمية، وهو الخلط بين الحقائق والأشخاص؛ ففي أكثر مناقشاتنا جدية ننسى — أو نتعمد أن ننسى — الحقائقَ الرئيسية في الموضوع، ونخلط بين الوقائع الموضوعية وبين الصفات الذاتية للأشخاص، وبدلًا من أن نناقش الرأي في ذاته، نتهرب من المناقشة — عمدًا أو عن غير عمد — بالطعن في شخصية صاحب الرأي، أو بالتشكيك في دوافعه، وما أكثرَ ما نستخدم في جدلنا العلمي عبارة «إذا كان بيتك من زجاج فلا تقذف الناس بالحجارة» أو ما يشابهها، لكي نتخلص بواسطتها من المناقشة الموضوعية للآراء، ونستعيض عنها بالمهاترات الشخصية، أو — على أحسن الفروض — بمحاولة إثبات أن الخصم ذاته ليس أفضل منَّا، وكأن خطأ الآخرين يعفينا من أي خطأ ثَبت أننا ارتكبناه.
ولكن لعل أوضح مظاهر افتقارنا إلى الأخلاق العلمية موقفُنا من النقد العلمي؛ ففي الأوساط العلمية بجميع بلاد العالم المتمدين، استقر مفهوم النقد العلمي منذ عهدٍ بعيد، وأصبح جزءًا من الحياة العقلية لهذه البلاد يستحيل الاستغناء عنه، ولا يمكن لأحدٍ أن يجد فيه مسبةً أو عارًا، بل إن العلماء والمفكرين أنفسهم يرحبون بالنقد ويطلبون إلى الآخرين بإلحاح أن ينقدوهم؛ إذ إن مثل هذا النقد هو الوسيلة الوحيدة لاختبار الأثر الذي يُحدِثه العمل العلمي في عقول الآخرين، وهو معيار نجاح العمل أو إخفاقه، والنقد الموضوعي — سواء أكان مدحًا أم ذمًّا — له في الحالتين فائدته؛ فهو يحفز الناقد على التفكير بإمعانٍ فيما يقرأ، ويخلِّصه من داء القراءة السطحية المتعجلة، أما ذلك الذي يوجَّه إليه النقد فسوف يعلم — إذا تلقَّى المديح — أنه سار في طريق الصواب، وإذا عيب عليه عمله — كله أو بعضه — أدرك أن عليه مراجعة خطواته، وبذلك يتدارك خطأه قبل فوات الأوان، ويغيِّر خط سيره قبل أن يتمادى في اتجاه البطلان.
النقد الموضوعي إذن جزءٌ لا يتجزأ من الحياة العقلية في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، أما في بلادنا فهو — على مستوى الأشخاص — لا يقل خطورةً عن إعلان الحرب بين الدول، إنه يُؤخَذ على أنه مظهرُ خصومة ودليل على العداء، لا على أنه سعي متبادَل إلى بلوغ حقيقةٍ تعلو على الأشخاص، ولا يستطيع الفرد الواحد — أيًّا كان — أن يبلغها بجهوده الخاصة.
ولكي نحلل موقفنا من النقد ينبغي أن نتأمله في ضوء أطرافه الثلاثة: الناقد والمنتَقَد والجمهور الذي يحكم بينهما، وسوف يظهر لنا بجلاء أن هؤلاء الأطراف الثلاثة يسيئون — في معظم الأحيان — فهْمَ مهمة النقد، ويفتقرون بذلك إلى عنصر أساسي من عناصر الأخلاق العلمية.
فالناقد كثيرًا ما يكتب لإرضاء أغراض شخصية لا توخيًا لأغراض موضوعية، ودليل ذلك أن أبحاثنا ومقالاتنا النقدية تحتشد عادةً بالألفاظ والتعبيرات التي تبعد كلَّ البُعد عن الروح العلمية السليمة، فلا يكاد الناقد يلتقط خطأً حتى يسارع إلى الصياح والتهليل، ويتعجب من «جهل الكاتب» و«غروره» وربما «غبائه» و«افتقاره إلى الفهم السليم»، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تبعُد بالنقد عن وظيفته الأصلية، وتُحوِّله إلى مباراة في السباب، ويستطيع المرء أن يقول مطمئنًّا إن النقد الحاد اللهجة المشحون بالانفعالات الصبيانية أكثرُ شيوعًا من كتاباتنا من النقد الهادئ الذي لا يستهدف إلا إظهار الحقيقة وحدَها، وكثيرًا ما يُتَّخذ النقدُ ذريعةً لشفاء الغليل من عدو، أو إساءة سمعة منافس، أو الانتقام من خَصم، وفي كل هذه الحالات تنطق سطور النقد ذاته — بما تحفل به من انفعال وتشنُّج — بأن هدفه إنما هو تصيُّد الخطأ بطريقة مصطنعة متكلفة، وليس تنبيه المنتقد إلى الصواب.
أما موقف المنتقد فيختلف من النقيض إلى النقيض تبعًا لنوع النقد، فإن كان النقد مدحًا، تملَّكه الغرور حتى لو كان هذا المدح من قبيل التملُّق والنفاق الرخيص، أما إذا كان النقد ذمًّا، فإن أبعدَ الأمور عن ذهنه هو التفكيرُ الموضوعي في مضمونه النقد. إن جهوده كلَّها تنصرف عندئذٍ إلى البحث عن دوافعَ ذاتيةٍ وشخصيةٍ لدى الناقد، يتصوَّر أنها هي التي دفعته إلى «تجريحه»، وحتى لو كان النقد موضوعيًّا خالصًا، لا يشوبه أي انفعال، ولا ينطوي على أي لفظ ينمُّ عن السعي إلى التشنيع أو التهويل، فإن المنتَقَد ينظر إلى الناقد — إذا كان قد كشف له عن أخطاءٍ جسيمةٍ في عمله العلمي — كما لو كان قد ارتكب في حقه جريمةَ «السب العلني»، وينسى تمامًا مضمون النقد، ويغفل تمامًا ما قد يكون فيه من حقائق موضوعية، وينظر إلى الأمر كله من وجهة النظر الشخصية الضيقة.
وحين يتخذ ردُّ الفعل مثل هذا الطابع، تضيع الحقيقة التي استهدف النقدُ بلوغَها في غمار الانفعالات الحامية، ويغمض المنتَقَد عينيه عن الأخطاء التي وقع فيها، ولا يعود له من هدفٍ سوى ردِّ كرامته التي يتصوَّر أنها أُهِينت، وتتجسم أمام عينيه انتقاداتُ الآخرين كما لو كانت جرائمَ لا تُغْتَفَر، بينما ينسى أخطاءه الخاصة أو يتناساها وسط ضباب الغضب العارم، بل إن هذا الغضب يتخذ في بعض الحالات المتطرفة طابعَ السلوك الدفاعي اللاشعوري؛ إذ يصرف ذهن المنتَقَد عن مظاهر النقص التي كشف عنها النقد، ويحوِّله إلى اتجاهاتٍ لا يضطر المرء فيها إلى توجيه اللوم إلى ذاته، وربما كان الغضب الذي ينصبُّ على «الآخر» في هذه الحالة شكلًا لا شعوريًّا من أشكال الغضب على الذات، والاستياء مما وقعت فيه من أخطاء، أما السعي إلى الارتقاء الذاتي، وإلى اتخاذ الأخطاء الماضية عِبْرةً للمستقبل، وإلى الإفادة إيجابيًّا من السلبيات التي نبَّه إليها النقد، فهو آخِرُ ما يخطر ببال مَن يواجه الانتقادات بهذه الروح العدائية.
وأخيرًا فإن الطرف الثالث في الموقف النقدي — وهو الجمهور المثقَّف — كثيرًا ما يستسلم بدوره للانفعالات، حين يجد نفسه حكمًا في قضية نقدية، ويسلك على نحوٍ ينمُّ عن الافتقار التام إلى فهم دلالة النقد ودور القارئ الواعي إزاءه؛ فالحجج الانفعالية والأسلوب الخطابي لهما فيه تأثير يفوق بكثير تأثير الحجج الهادئة المتزنة المرتكزة على المنطق السليم، وكثيرًا ما تتردَّد على لسان الجمهور تعبيراتٌ تدل على أن أهم المعايير التي يرتكز عليها — في حكمه على القضية موضوع البحث — هي الشفقة، أو «مراعاة السن»، أو عوامل الإخلاص والوفاء، وكلها مشاعرُ شخصيةٌ لا ينبغي أن يكون لها اعتبار في أحكامنا العلمية. ومجمل القول أن استجابة الجمهور المثقف للمعارك النقدية كثيرًا ما تكون مشابهة لاستجابة جمهور الكرة للمباريات؛ فهو يصفِّق ويهلل ويستهويه كلُّ ما هو مثير، أما الحقيقة المجردة فلا يهتم بها أحد.
نحن إذن ما زلنا بعيدين كلَّ البعد عن أصول الأخلاق العلمية كما توطدت دعائمها وتأكدت في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، فما زالت كثرةٌ غالبةٌ من المشتغلين بالعلم بيننا تخلط — على نحوٍ مؤسف — بين الأمور الذاتية والأمور الموضوعية، وما زالت هذه الكثرة الغالبة عاجزةً عن إدراك الفارق الواضح الحاسم — الذي سبقتنا إلى إدراكه كلُّ أمة ناهضة — بين العلاقات والمشاعر والانفعالات الشخصية وبين الحقائق اللاشخصية التي تؤلِّف بناء العلم.
ومن المؤكد أن الوعظ وحدَه لن يستطيع أن يُصْلِحَ من هذا الوضع شيئًا، فإذا كنا نعيب على الجو العلمي السائد بيننا افتقاره إلى الأخلاق العلمية، فليس معنى ذلك أننا ندعو إلى إصلاح أخلاق المشتغلين بالعلم عن طريق «الدعوة» أو «التوعية» أو غير ذلك من الوسائل التي لا تُجْدِي في هذا الميدان، بل إننا نعتقد اعتقادًا راسخًا بأن ارتفاع مستوى الأخلاق العلمية أو هبوطه يرجع إلى أسبابٍ موضوعية لا تقوم فيها النزاهة الفردية للعالم ذاته إلا بدور ضئيل.
فالتقاليد العلمية السليمة قد أُرْسِيَت في البلاد التي توطدت فيها دعائمها على قاعدتين متينتين: قاعدة رأسية، وأخرى أفقية.
أما القاعدة الرأسية فهي قِدَم العهد بممارسة العلم ورسوخ مبادئه وقيمه في أذهان أجيال متعاقبة من المشتغلين به، والنتيجة الحتمية لذلك هي أن حداثة عهدنا بممارسة العمل العلمي تحتِّم ظهورَ نوع من التراخي في الأخذ بالقيم الأخلاقية، صحيح أن لنا تاريخًا قديمًا في الاشتغال بالعلم، قد يُرجِعه البعض إلى أيام ازدهار الحضارة العربية، وقد يرتد به البعض الآخر إلى ما قبل ذلك بكثير، ولكن هذا التاريخ لا يتصل بالحاضر اتصالًا مباشرًا، وإنما حدثت فترة انقطاع طويلة بدأت بعدها حركة إحياء العلم تشق طريقها — منذ عهد قريب — وكأنها تبدأ من جديد، وهكذا أصبحنا نفتقر إلى ذلك التراث المتصل من القيم والمبادئ الذي يتوارثه جيلٌ عن جيل، والذي يزداد رسوخًا في النفوس كلما قَدُم به العهد، ومن المؤكد أن أية دولة ذات تقاليد علمية وطيدة الأركان قد شهدت في بداية عهد نهضتها العلمية تهاونًا في الأخذ بأصول الأخلاق العلمية لا يختلف كثيرًا عما نعاني منه في أيامنا هذه؛ فالأمر — في هذه الحالة — لا يرجع إلى عيوبٍ كامنة في شعوب معيَّنة بقدْر ما يرجع إلى واقعٍ موضوعي يتجاوز الخصائص المميزة لشعب عن شعب آخر.
وأما القاعدة الأفقية فهي اتساع نطاق المشتغلين بالعلم في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، هذه الكثرة العددية البحتة عاملٌ عظيمُ الأهمية من عوامل إقرار القيم الأخلاقية العلمية في البلاد المتقدمة؛ إذ إنها تَسُدُّ الطريق أمام أية محاولة لاغتصاب جهود الغير في الميدان العلمي، فحتى لو وُجِدَ الشخص الذي تسمح له أخلاقه بأن ينتحل لنفسه ثمار جهد غيره، فلا بُدَّ لمثل هذا الشخص من أن ينكشف؛ إذ سيظهر في مكانٍ ما — من بين الأعداد الهائلة التي تعمل في مختلف فروع التخصص — مَن يكتشف هذه السرقة العلمية.
وبطبيعة الحال فإن العامل السابق لا يمكن أن يكون عاملًا فعالًا لو لم يتوافر شرطان أساسيان يدعمان تأثيره: أولهما أن هذه القاعدة العريضة من المشتغلين بكل فرع من فروع العلم تضم عددًا كبيرًا من الباحثين الذين توافر لهم من الفراغ ومن مصادر المعرفة ما يسمح لهم بالاطلاع المستمر على الإنتاج القديم والحديث في ميادينِ تخصُّصهم، وهو أمرٌ لا يمكن القول إنه قد تحقَّق في حياتنا العلمية بعدُ، وثانيهما أن عقوبة الخروج عن التقاليد العلمية في هذه المجتمعات صارمة حازمة؛ فمخالفةُ الأخلاق العلمية — حتى لو حدثت على نطاقٍ أضيقَ بكثير مما يشيع حدوثُه بيننا — كفيلةٌ بأن تقضي على المستقبل العلمي للمرء قضاءً مبرمًا.
فالأخلاق العلمية إذن وليدةُ ظروف موضوعية تهيأت للمشتغلين بالعلم في بلاد معيَّنة، ولم يتهيأ ما يناظرها في بلادنا بعدُ، ومع ذلك فمن الواجب أن نتذكر أن الأخلاق في هذا الميدان — كما في غيرها من الميادين — تتحوَّل بمضي الزمن إلى مبادئَ ذاتيةٍ يَدِين بها المرء دون أن يفرضها عليه أي قهر خارجي؛ ففي البداية تؤدي العوامل الموضوعية بالمرء إلى أن يسلك بمقتضى القواعد الأخلاقية سواء شاء أم لم يشأ. ثم يحدث بالتدريج تحوُّل لهذه القواعد إلى باطن الذات، حتى تكون جزءًا من «الضمير الأخلاقي» للمرء، بحيث تمارس تأثيرها دون أي ضغط أو إكراه خارجي، ومن المؤكد أن نسبة كبيرة من المشتغلين بالعلم في البلاد المتقدمة أصبحوا يطبقون القواعدَ الأخلاقية العلمية بوازع من ضمائرهم وحدَها، دون خوف من أن يُفتَضح أمرهم، أو رهبة من عقوبة تُوقع عليهم.
ومن الطبيعي أن الشروط المهيئة لتكوين مثل هذا «الضمير العلمي» لم تتوافر كلها في بلادنا بعُد؛ فالمشتغلون بالعلم ما زالوا قلة، وما زالت فرصُ ارتكاب الأخطاء الخُلُقية في هذا المجال، دون خوف من الانكشاف، كثيرةً، وبالتالي فنحن ما زلنا بعيدين عن تلك المرحلة التي تتحول فيها القاعدة الأخلاقية الموضوعية إلى قاعدة ذاتية يطبقها المرء على نفسه بوحي من ضميره فحسب.
وإلى أن نبلغ هذه المرحلة، لا بُدَّ لنا من أن نأخذ الأمور مأخذ الحزم والحسم، ولا بُدَّ لنا من أن نقلع عن هذا التهاون والتراخي الذي يجعل أشد الفضائح العلمية هولًا يمر دون أن يثير استنكار الناس أو اشمئزازهم، ودون أن تَحُلَّ على مرتكبه جزاءات معنوية أو مادية.
إن التهاون في ميدان الأخلاق العلمية يؤدي إلى مزيد من التراخي والتساهل بين الأجيال المقبلة، حين لا تجد حولها سوى أسوأ أمثلة السلوك حتى في ميدان العلم ذاته، وعلينا — قبل أن يفوت الأوان — أن نتدارك الأمر حتى لا يأتي يومٌ نجد بيننا وبين بلاد العالم المتقدمة فارقًا في الأخلاق العلمية يزيد عن ذلك الذي يفصل بيننا وبينها في ميدان العلم ذاته، فنقف عندئذٍ يائسين من اللحاق بركْب التطوُّر حتى في ميدان الأخلاق والمعنويات، ذلك الميدان الذي كنا نتباهى على الدوام بأن لنا فيه تاريخًا طويلًا وتقاليدَ راسخة، والذي كنا نعزِّي أنفسنا دومًا بأنه خيرُ ما يعوضنا عن تخلُّفنا في مجال «الماديات».