اشتراكية العالم الثالث: نظرة نقدية١
في كثير من المواقف الحاسمة في حياة الفرد يتساءل المرء إن كانت التجرِبة المباشرة — التي قد تقترن بالعذاب والمعاناة — تستحق كلَّ ما يُبْذَل فيها من عناء، ويتمنَّى لو أُتِيحَت له فرصةٌ يتجنب فيها معاناة التجرِبة بنفسه، ويفيد من تجارِب الآخرين على نحوٍ يؤدي به إلى بلوغ الهدف المنشود مباشرةً، دون حاجة إلى ممارسة كل تجرِبة بنفسه، ومع ذلك فإنه حين يُمعِن الفكر سوف يتبين له — على الأرجح — الوجه الآخر من المشكلة، وهو أن المعاناة والممارسة يمكن أن تكون هدفًا في ذاته، وأن تحقيق المرء لهدفه بعد أن يمر بتجربةٍ زاخرةٍ غنية، يختلف اختلافًا كليًّا عن بلوغه هذا الهدف بأقصر الطرق، وعن طريق الإفادة من تجارِب الآخرين، صحيح أن طريقه في الحالة الأولى سيكون أبطأ وأشق، ولكن ثراء التجرِبة وسلوكها مجراها الطبيعي وعمق الدروس التي يتعلمها المرء منها، لا بُدَّ أن يعوضه خيرَ تعويض عن كلِّ ما عاناه في سبيل اكتساب تجربته الخاصة من مشقة.
وفي اعتقادي أن انتقال مجتمعات العالم الثالث إلى الاشتراكية يثير هذه المشكلة ذاتها، ولكن على الصعيد الاجتماعي لا الفردي؛ ففي اللحظة التي تقرِّر فيها هذه المجتمعات أن تأخذ بالنظام الاشتراكي، يتعيَّن عليها أن توجه إلى أنفسها هذا السؤال الحاسم: أيهما أجدى بالنسبة إلى مستقبل المجتمع على المدى البعيد؛ أن يمر المجتمع بجميع المراحل التي تجعل الانتقال إلى الاشتراكية أمرًا طبيعيًّا؟ أم أن يختصر هذه المراحل وينتقل مباشرةً إلى الاشتراكية، مستعينًا على هذا الانتقال بالإفادة من تجارِب المجتمعات الأخرى التي سبقته في هذا المضمار؟
والأمر الذي لا شك فيه أن تصميم مجتمع متخلِّف على أن يأخذ بالنظام الاشتراكي، يعني أنه قد أخذ بالحل الثاني، وقرَّر أن يسلك إلى الاشتراكية طريقًا مختصرًا، والواقع أن المسألة — بالنسبة إلى المجتمعات المتخلفة — ليست مسألةَ اختيار بين طريق الممارسة والتجرِبة المباشرة وطريق الإفادة من تجرِبة الغير؛ إذ إن التخلُّف لا يترك لهذه المجتمعات مجالًا للاختيار، ومع ذلك فإن من واجب أي مجتمع يتخذ هذا القرار أن يدرك عن وعي طبيعة التحوُّل الذي سيطرأ عليه حين يأخذ بالنظام الاشتراكي، والفرْق بين هذا النظام حين يُطبَّق في مجتمع متخلف، وبينه حين يُطبَّق في مجتمع صناعي متقدم، والالتزامات التي تترتب على وجود هذا الفرْق بالنسبة إلى طبيعة التطبيق الاشتراكي في البلد المتخلف.
إن النظرة الكلاسيكية إلى الاشتراكية كما كانت سائدة في القرن التاسع عشر، أعني في عصر التفكير النظري، متميزًا عن عصر التطبيق والتجارِب العملية المتعدِّدة في القرن العشرين، تجدُ غرابةً — وربما استحالة — في الانتقال من التخلُّف إلى الاشتراكية قفزة واحدة؛ ذلك لأن الاشتراكية — في وجهها الكلاسيكي — هي ردُّ فعل على الرأسمالية، صحيح أن الرأسمالية تُعَدُّ مرحلة ممهدة لظهور الاشتراكية، ولكنها مع كونها ممهدة لها، هي مرحلة لا غَناء عنها من أجل قيام الاشتراكية، بل من أجل مجرد تصوُّرها.
إن النموذج التقليدي للثورة الاجتماعية هو ذلك الذي تنبثق فيه الاشتراكية من قلب النظام الرأسمالي؛ فالاشتراكية — تبعًا لهذا النموذج التقليدي — ليست بديلًا عن الرأسمالية فحسب، بل هي مرحلة أعلى في تطوُّر اجتماعي متصل، تضم في داخلها الصفات الإيجابية للنظام الرأسمالي، وتتجاوز هذا النظام مع كونها منطوية على أفضل ما فيه، أما اشتراكية العالم الثالث فلا تتجاوز الرأسمالية؛ لأن كثيرًا من بلاد العالم الثالث تختار الطريق الاشتراكي دون أن تكون قد مرت بمرحلةٍ توافرت فيها أهم عناصر النظام الرأسمالي، ولا سيما وجود تصنيع متقدم وطبقة عاملة واعية بذاتها وبوضعها الاجتماعي، ومعنى ذلك أن اشتراكية العالم الثالث ليست تجاوزًا للرأسمالية، بل هي بديل عنها، أو بعبارة أخرى فإن مجتمعات العالم الثالث تقف في مفترق طريقين: أحدهما طريق الرأسمالية والآخر طريق الاشتراكية، وهي لا تلجأ إلى الطريق الثاني بعد أن تكون قد جرَّبت الطريق الأول وسارت فيه حتى المرحلة التي لا يعود من الممكن فيها التوفيقُ بين متناقضاته، بل هي تلجأ إليه منذ بداية وعيها بأهمية التصنيع، وتحاول أن تضفي على تطوُّرها — حتى في أول مراحله — طابعًا اشتراكيًّا.
ومن المؤكد أن الاشتراكيين لم يكونوا على خطأ — من الوجهة النظرية — عندما تصوروا الاشتراكية على أنها رد الفعل على الرأسمالية بعد أن تصل هذه الأخيرة إلى قمة التناقض والتمزُّق الداخلي، أي عندما أكدوا أنه لا قيامَ للاشتراكية بدون مرحلة رأسمالية مكتملة العناصر تسبقها وتمهِّد لها الطريق؛ ذلك لأن الاشتراكية تستطيع أن تتعلم من الرأسمالية الكثير؛ ففي الرأسمالية يتحول الإنتاج إلى مرحلة الترشيد الدقيق، وتكتسب عادات الدقة والنظام والانضباط والإفادة الكاملة من كل الطاقات، وإذا تركنا جانبًا نواحي الاستغلال في المجتمع الرأسمالي، فمن المؤكد أن هذا المجتمع يحرز تقدُّمًا لا تستطيع الاشتراكية أن تتجاهله، بل إن عليها أن تستوعبه في داخلها استيعابًا كاملًا، وتعمل بعد ذلك على تجاوزه بتصفية العلاقات الإنتاجية من كل آثار الاستغلال. وبعبارة أخرى فإن الصورة النموذجية للثورة الاشتراكية — في علاقتها بالنظام الرأسمالي — هي في صميمها صورة جدلية، لا يعمل الجديد فيها على استبعاد القديم والحلول محله، بل يمتص في داخله ذلك القديم ويستخلص منه كل عناصره الإيجابية، ثم يعمل على دفعه إلى الأمام في صورة جديدة كلَّ الجدة، وفي ظل علاقات مغايرة تمامًا للعلاقات القديمة.
ولقد كان أقطاب التفكير الاشتراكي في القرن التاسع عشر على وعي تام بهذه الحقيقة، وتجلَّى ذلك الوعي واضحًا في موقفهم المزدوج من الرأسمالية؛ فالرأسمالية كانت في نظرهم — من جهة — مرحلة تقدُّمية إذا قيست بالمراحل السابقة لها، ومرحلة رجعية إذا قيست بالتطوُّر المنتظر للمجتمع في ظل الاشتراكية، وكانت القوى الرأسمالية والبورجوازية تمثِّل في نظرهم قوى الثورة والتقدُّم في مرحلة الصراع بينها وبين النظام الإقطاعي، كما كانت العقلية الرأسمالية هي التي تدفع المجتمع إلى الأمام في الفترة التي كان فيها النبلاء والإقطاعيون يحرصون على التمسُّك بعاداتهم وتقاليدهم وامتيازاتهم العتيقة البالية، ولا تتحول الرأسمالية في نظرهم إلى عاملٍ من عوامل التخلُّف إلا حين يستتب لها الأمر، وحين تصبح مقاليدُ الحكم في أيدي البورجوازيين يسيطرون على نُظُم المجتمع وقوانينه، ويتحكمون في الرأي العام ويوجِّهون أفكاره لصالحهم، فيبذلون طاقتهم من أجل المحافظة على الأوضاع الراهنة، والإبقاء على استغلالهم للطبقات العاملة، ومعنى ذلك أن الرأسمالية مرحلةٌ ضرورية في الطريق الذي يوصل آخر الأمر إلى الاشتراكية، وأن الاشتراكية لا يمكنها أن تتحقق إلا في مجتمعٍ مر بالتجرِبة الرأسمالية، وسار فيها حتى أبعد مراحلها، أعني حتى المرحلة التي استنفدت فيها الرأسمالية — من حيث هي نظام متقدم — أغراضها، وأحالتها متناقضاتها الصارخة إلى نظامٍ رجعي لا بُدَّ من تجاوزه.
على أن تجرِبة العالم الثالث قد أثبتت أن هذا النمط الكلاسيكي للتحوُّل إلى الاشتراكية ليس هو النمط الوحيد، وأن الاشتراكية يمكن أن تظهر، لا بوصفها ردَّ فعل على الرأسمالية، بل بوصفها بديلًا عنها في مجتمعاتٍ لم تعرف النُّظم الرأسمالية بمعناها الدقيق، أعني في بلادٍ متخلِّفة لم تمر إلا بالمراحل الأولى للتصنيع، ولم تتحدَّد فيها العلاقات بين أصحاب العمل والطبقة العاملة وفقًا للنماذج الرأسمالية المألوفة، بل إننا لو أخذنا في اعتبارنا ذلك التخلُّف الذي كانت تتسم به المجتمعات التي ظهرت فيها الثورات الاشتراكية الكبرى في القرن العشرين — وعلى رأسها روسيا القيصرية والصين — لأمكننا القول إن جميع التجارِب الفعلية للتحوُّل إلى الاشتراكية لم تكن منتمية إلى النمط الكلاسيكي انتماءً كاملًا، والاستثناء الوحيد من هذا الحكم هو حالة تشيكوسلوفاكيا، ومع ذلك فإن هذا الاستثناء يؤيد ويثبت القاعدة التي تقول إن التحقُّق الفعلي للتحوُّل إلى الاشتراكية لم يحدث بنجاح إلا في بلادٍ لم تمر بالمرحلة الرأسمالية في صورتها المتقدمة؛ إذ إن الكثيرين يعزون المتاعب التي واجهتها التجرِبة الاشتراكية في تشيكوسلوفاكيا إلى هذه الحقيقة بالذات، أعني إلى أن تشيكوسلوفاكيا هي البلد الوحيد الذي بدأت فيه الاشتراكية على قاعدة رأسمالية قوية في مجتمع صناعي متقدم، ولكن حتى لو كان من الصحيح أن التجارِب الناجحة في التحوُّل إلى الاشتراكية قد حدثت في بلادٍ تتسم كلها بالتخلُّف، ولا يمكن أن تُوصف بأنها بلاد صناعية بالمعنى المتقدم لهذه الكلمة، فإن هذا التخلُّف متفاوتٌ في الدرجة إلى حدٍّ يسمح لنا بتمييز بلاد العالم الثالث على أساس أنها فئةٌ قائمة بذاتها؛ لأنها أولًا تتسم بقدْر كبير من التخلُّف؛ ولأنها ثانيًا كانت إلى حدٍّ قريب خاضعة لنفوذ استعماري، أي إنها لم تَنَل استقلالها إلا حديثًا، وكما هو واضح فإن هاتين الصفتين — أعني التخلُّف الشديد والخضوع طويلًا للاستعمار — مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا.
والسؤال الذي يتعيَّن على هذه البلاد أن تطرحه بأمانةٍ وتبحث عن إجابة صادقة عنه هو: ما السمات المميزة لهذا التحوُّل من التخلُّف إلى الاشتراكية مباشرةً؟ وكيف يمكن تجنُّب المشكلات التي يثيرها هذا التحوُّل المباشر؟
إن النمط الكلاسيكي للتحوُّل إلى الاشتراكية يكتسب — كما قلنا من قبل — مزايا كثيرة؛ إذ إنه يستفيد من جميع الخبرات التي تكتسبها الرأسمالية في مرحلةِ تقدُّمها الظافر، بحيث يبدأ المجتمع الاشتراكي مسيرته مسلَّحًا بتصنيعٍ متقدم، وبأساليبَ إنتاجيةٍ راقية وبقدرات إدارية وتنظيمية فعالة، فضلًا عن إفادته من التقدُّم العلمي والتكنولوجي الكبير الذي كان ملازمًا للعصر الرأسمالي منذ بدايته، ولا يزال سمةً من سماته حتى اليوم. وهكذا فإن الاشتراكية حين تصبح هي النظام السائد في مجتمعٍ كهذا، تستطيع أن تبني نفسها على قاعدة صلبة من التقدُّم الاجتماعي، تضيف إليها علاقات إنسانية خالية من أي استغلال، وبذلك يمكنها أن تطلق أعظم الطاقات الخلاقة للإنسان من أجل بلوغ حياة أفضل ماديًّا وروحيًّا.
أما المجتمع الذي ينتقل من التخلُّف إلى الاشتراكية مباشرةً فإن من المتوقَّع — نظريًّا — أن تكون مشكلاته أكثرَ تعقيدًا؛ ذلك لأن المهام التي يتعيَّن على الاشتراكية تحقيقها في مجتمعٍ كهذا لا تنحصر في نطاق العلاقات الإنتاجية أو الإنسانية، بل إن أُولى هذه المهام هي إيجاد قاعدة إنتاجية متينة عن طريق التصنيع بوجه خاص، وعن طريق التقدُّم الاقتصادي بوجه عام، وبعبارة أخرى فإن العالم الثالث حين يجرِّب الاشتراكية فإنه يجربها بوصفها وسيلةً لبلوغ التقدُّم الاقتصادي، وللتغلُّب على التخلُّف وتجاوزه، لا بوصفها وسيلةً للقضاء على الاستغلال الطبقي في مجتمعٍ متقدم أصلًا، وبعبارة موجزة فإن الاشتراكية يتعيَّن عليها — في العالم الثالث — أن تحقق هدفَي التقدُّم والعدالة الاجتماعية، على حين أن مهمتها — في العالم الذي مر بالمرحلة الرأسمالية — تقتصر أساسًا على تحقيق هدف العدالة الاجتماعية.
- أولًا: حين ينتقل مجتمعٌ من حالة التخلُّف — التي قد تكوِّن نظامًا إقطاعيًّا أو قبليًّا أو استعماريًّا — إلى الاشتراكية مباشرةً، فإن المكاسب التي يحققها هذا التحوُّل للجماهير الشعبية تكون أوضحَ بكثير منها في المجتمعات التي تنتقل من الرأسمالية المتقدمة إلى الاشتراكية، ففي هذه الحالة الأخيرة قد يؤدي تطبيق المبادئ الاشتراكية إلى حرمان الطبقات العليا وفئات من الطبقة المتوسطة من امتيازاتها القديمة، فيؤدي ذلك إلى تكوين قاعدة من السخط ربما انتقلت عدواها إلى بعض عناصر الطبقة العمالية ذاتها، أعني إلى العناصر المتطلعة إلى ترف الحياة، والتي تتخذ من الطبقات الأعلى منها أنموذجًا تهفو إلى تحقيقه، أما في الحالة الأولى — أعني حالة المجتمعات المتخلفة — فإن القاعدة التي تنتفع من مكاسب الاشتراكية تكون أوسعَ بكثير، ومن السهل أن تنضم الجماهير الغفيرة إلى النظام الجديد قلبًا وقالبًا، بمجرد أن تقارن بين حياتها الجديدة وحياتها السابقة، ولا ينطبق ذلك على العمال وحدَهم، بل إنه ينطبق أيضًا على الفلاحين الذين يجدون في الاشتراكية منقذًا لهم من الاستغلال البشع الذي كانوا يتعرضون له في ظل النُّظم الإقطاعية.
- ثانيًا: يمكن أن يكون التخلُّف ذاته رصيدًا يزيد من ثراء التجرِبة الاشتراكية في بلاد العالم الثالث؛ ذلك لأن هذه البلاد — التي تفتقر إلى التجارِب السابقة في ميدان تنظيم الإنتاج الاقتصادي — يمكن أن تكون أكثرَ تفتُّحًا لأية تجرِبة جديدة من البلاد التي استقرت فيها تقاليدُ معيَّنةٌ نتيجةً لطول عهدها بأساليب الإنتاج الرأسمالية، وهنا نجد أن نفس العامل الذي ساعَدَ بلادًا معيَّنة على المضي بخطًى أسرع في طريق التصنيع الرأسمالي في أول عهد الثورة الصناعية، هو الذي يمكنه أن يجعل طريق العالم الثالث إلى التجديد في أساليب الإنتاج أيسر؛ فمن المعروف أن من الأسباب الهامة لظهور الثورة الصناعية في إنجلترا عدم وجود تقاليد راسخة تفرضها الطوائف الحِرَفية على أساليب الإنتاج، في الوقت الذي كانت فيه بلادٌ كثيرة من القارة الأوروبية تتمسك بالأساليب التقليدية التي ظلت تلك الطوائف تفرضها طَوال أجيال عديدة متلاحقة، كذلك فإن وجود مصالح رأسمالية معيَّنة، مرتبطة بأساليبَ خاصةٍ في الإنتاج، يمكن أن يكون حائلًا دون اتباع أساليبَ أخرى أو تقبُّل أفكار جديدة، ولكن هذه العوائق تزول كلها حين يبدأ المجتمع تجربته الاشتراكية دون أن تكبله أغلال تاريخ رأسمالي طويل.
- ثالثًا: لما كانت معظم بلاد العالم الثالث قد خرجت حديثًا من قبضة الاستعمار، فإن سعيها إلى التخلُّص من كل ارتباط بالاستعمار يجعلها أكثرَ حرصًا على تطبيق الاشتراكية؛ لأن هذا التطبيق سيزيد من وثوق ارتباطها بالمعسكر المعادي للاستعمار، ولأن النظام الرأسمالي هو العامل الذي يرتد إليه — في نهاية الأمر — كلُّ نزوع استعماري، وهنا تقوم الاشتراكية بدور ثالث إلى جانب الدورين اللذين أشرنا إليهما من قبل، وهما تحقيق التقدُّم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية؛ فالاشتراكية هي — بالإضافة إلى ما سبق — وسيلةُ البلاد المتخلفة للتحرُّر الوطني الحقيقي، ولتحقيقِ استقلالٍ لا تشوبه روابطُ ظاهرةٌ أو خفيةٌ بالمصالح الاستعمارية القديمة.
على أن العناصر السلبية في تجرِبة التحوُّل المباشر من التخلُّف إلى الاشتراكية ربما كانت هي الأحق باهتمامنا وعنايتنا؛ إذ إن عدم مواجهتها بصراحة وأمانة يمكن أن يلقي ظلالًا من الشك، لا على التطبيق الاشتراكي في هذه المجتمعات فحسب، بل على الفكرة الاشتراكية ذاتها من حيث المبدأ، فإذا كانت هناك مزايا تكتسبها المجتمعات المتخلفة من انتقالها إلى الاشتراكية مباشرةً، فهناك أخطارٌ ينبغي أن تتنبه إليها هذه المجتمعات إذا شاءت ألا تُولَد تجرِبتها الاشتراكية شوهاء، وألا تُصاب بنكسةٍ تقضي على إيمان الجماهير صاحبة المصلحة الأولى في الاشتراكية بمبدأ التحوُّل الاشتراكي ذاته.
أول هذه الأخطار ناجمٌ عن إطار التخلُّف ذاته، الذي تُطبَّق في ظله الاشتراكية؛ ذلك أن المرحلة الرأسمالية تساعد — على الرغم من كل سلبياتها — على دفع عجلة المجتمع إلى الأمام، أما المجتمع الذي لم يمر بهذه المرحلة، فلا مفرَّ له من أن يعاني آثارَ التخلُّف فترةً طويلة، ويكون كفاحه من أجل الاشتراكية مزدوجًا، أعني أنه كفاح يستهدف إرساء قاعدة متينة من التقدُّم الاقتصادي — والصناعي في المحل الأول — كما يستهدف في الوقت ذاته تحقيقَ مبادئ العدالة الاجتماعية، وحسبنا أن ننظر إلى المشكلة من زاوية واحدة، هي زاوية العلم؛ لكي ندرك الصعوبات التي يثيرها بناء الاشتراكية في مجتمع متخلف؛ ذلك لأن الاشتراكية في أساسها نظرةٌ علمية إلى الأمور، وهي تقتضي انتشارًا على أوسع نطاق ممكن للتعليم، وارتفاعًا دائمًا في مستواه، ومهما كانت النوايا طيبة، فإن التراث الطويل من التخلُّف العلمي كفيلٌ بأن يقف عقبة كأداء في وجه التحوُّل السليم إلى الاشتراكية، وهكذا تعاني مجتمعات العالم الثالث في هذا الصدد توترًا خطيرًا بين عالمين يؤثِّر كلٌّ منهما في اتجاه مضاد للآخر؛ فالتخلُّف الطويل الأمد يؤدي إلى إبطاء معدل النمو الاقتصادي والاجتماعي بالقياس إلى المجتمعات التي تبدأ مسيرتها من نقطة متقدمة نسبيًّا، ومع ذلك فهي في حاجة مُلِحَّة إلى الإسراع بمعدل تقدُّمها؛ لأن هذا التقدُّم مسألةُ حياة أو موت بالنسبة إليها، وهو وحدَه الذي يضمن لها ملاحقة ركْب العالم السريع التطوُّر، وبين الحاجة إلى التطوُّر، والعوائق الأساسية التي تبطئ من معدل هذا التطوُّر تقف الدول المتخلفة حائرةً، وتقف التجرِبة الاشتراكية ذاتها مهدَّدة بالمخاطر في بلاد العالم الثالث.
ولعل أخطارَ التخلُّف العقلي والمعنوي أفدحُ — بالنسبة إلى العالم الثالث — من أخطار التخلُّف المادي والإنتاجي؛ وذلك لأن بلاد العالم الثالث لم تُتَحْ لها فرصةُ اكتساب ذلك الحد الأدنى من العادات العقلية المرتبطة بالتقدُّم الصناعي كالنظرة الموضوعية والعقلانية إلى الأمور؛ فهذه البلاد — حين تبدأ في خوض تجرِبة التحوُّل الاشتراكي — تنتقل من حالة عقلية معنوية تسيطر عليها الخرافة إلى نظام اجتماعي يستحيل أن يُطبَّق بنجاح إلا في مجتمعٍ يؤمن إيمانًا كاملًا بقيمة العقل، وبأهمية التفكير الموضوعي، في تسيير دفة الأمور.
إن العقلية الريفية — وخاصة في مجتمعٍ ظلَّ خاضعًا لسيطرة الإقطاع رَدَحًا طويلًا من الزمن — لا تستطيع أن تتخلص بسهولة من صفاتٍ وقيمٍ تتعارض بشدة مع أي اتجاه إلى التنظيم الرشيد للمجتمع في ظل إنتاجٍ ذي طابع صناعي؛ فالعلاقات الشخصية تظل تقوم بدور أساسي حتى في صميم المسائل المتعلقة بالعمل والإنتاج، بحيث تختلط النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية إلى الأمور حتى على المستويات العليا للتنظيم الاجتماعي، ويتحول بطء الإيقاع — الذي تتسم به الحياة الزراعية — إلى تكاسُل في المجتمع الصناعي، وإلى عدم احترامٍ لقيمة الوقت وأهميته القصوى في الإنتاج، ويؤدي عدم وجود تراث يقدِّس العمل إلى إشاعة عدم الاهتمام بفضائل النشاط والمثابرة، حتى ليتساوى المنتِج والخامل في نظر المجتمع، بل ربما ارتفعت قيمة الخامل إذا استطاع أن يوطد علاقاته الشخصية بأولي الأمر.
وعلى حين أن التقدُّم العلمي والعقلي الذي عرفته المجتمعات الغربية في المرحلة الرأسمالية قد أعان هذه المجتمعات على التخلُّص إلى حدٍّ بعيد من تأثير الأسطورة والخرافة، بحيث تستطيع أن تضمن تطورًا لا تعوقه الجهالة ولا تكبِّله الغيبيات، سواء واصلت السير في طريقها الرأسمالي أم تحولت منه إلى الاشتراكية، فإن النُّظم الاشتراكية التي تُطبَّق في مجتمعات العالم الثالث كثيرًا ما تجد نفسها مضطرة إلى مواجهة العقلية الأسطورية قبل أن تمضي في طريقها خطوة واحدة، وتتخذ هذه المواجهة صورًا متعدِّدة، فهي أحيانًا تتخذ شكل تعايش سلمي بين الاشتراكية والتفكير الخرافي، بحيث تترك الاشتراكية هذا التفكير على ما هو عليه، ولا تحاول التصدي له وكشف أخطاره، آملة أن تتمكن بذلك من كسب أكبر عدد ممكن من الجماهير إلى صفها، ولكن خطورة هذا المسلك تتضح في أن تحقيق التعايش بين نمطين — أحدهما عقلي والآخر لا عقلي — من أنماط التفكير لا يمكن إلا أن يكون انتهازيةً أو نفاقًا رخيصًا من جانب السلطة الحاكمة، فضلًا عن أنه يساعد على إبقاء الجماهير في حالة تخلُّف معنوي لا يُرْجَى معها أي نهوض حقيقي للمجتمع، وفي مثل هذا الجو العقلي المتناقض يستحيل أن تحقق الاشتراكية إمكاناتها وتقدِّم إلى المجتمع أفضلَ ما لديها، بل إن مثل هذه الاشتراكية لا بُدَّ أن تكون جوفاء مبتورة، أما إذا اتخذت مواجهة الاشتراكية للخرافة شكلَ التحدي والنزاع السافر فإن مثل هذه المواجهة الحاسمة يمكن أن تؤدي — في حالة التخلُّف الاجتماعي الشديد — إلى استفزازٍ مفرطٍ للجماهير، يبعد بها عن طريق التعاطف مع الأيديولوجية الاشتراكية التي هي أحوج ما تكون إليها، وهكذا تجد الاشتراكية نفسها في مأزق إزاء العقلية الخرافية المنتشرة في المجتمعات المتخلفة، سواء اكتفت بالتعايش معها سلميًّا أم شنَّت حربًا صريحةً عليها، ومثل هذا المأزق يقتضي من التنظيم الاشتراكي جهدًا هائلًا من أجل الارتفاع بالجماهير فوق مستوى النظرة الخرافية إلى الأمور دون استفزاز لمشاعرها أو استعداء لها بلا مبرر.
والواقع أن من الخطأ المبالغةَ في تصوير خطورة التعارض بين النظرة الخرافية وبين الدفاع المتحمس عن الاشتراكية، صحيح أن طرق التفكير البالية والانسياق الأعمى وراء الجهالات يمكن أن يكون عقبةً لا يُستهان بها في وجه كل محاولة لتنظيم المجتمع على أسس عقلية رشيدة، ولجعل عالم الإنسان جنةً أرضية، ومع ذلك فإن الحد الفاصل بين انحياز الجماهير إلى نظامٍ اجتماعي معيَّن أو نفورها منه هو — في نهاية الأمر — ما يقدمه إليها هذا النظام من مكاسب، وليس في هذا المعيار ما يستوجب الخجل؛ إذ إن النظام الاجتماعي الذي يعطي جماهيره مكاسبَ أكبرَ لا يقدم إليها رشوة، وإنما يحقق لها هدف الحياة على نحوٍ أفضل، ولنذكر أن الرشوة على نطاق الجماهير العريضة مستحيلة، فضلًا عن أنها تفقد معناها حين تصبح شاملة ومستمرة، أي إنه — مع تحوير بسيط للكلمة المأثورة المعروفة — فأنت تستطيع أن ترشو بعض الناس كلَّ الوقت، أو كلَّ الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن ترشو كلَّ الناس كلَّ الوقت، فإذا استطاع نظام اجتماعي أن يثبت للناس أنه يقدِّم إليهم مكاسبَ حقيقية لها طابع الدوام، وأن يرفع مستوى حياتهم ماديًّا ومعنويًّا بصورة لا يملك أحد إنكارها، فأغلب الظن أن التفكير اللاعقلي مهما بلغ من تأصُّله في نفوسهم — أو القيم العتيقة مهما بلغ رسوخها — لن يستطيع أن يقف عقبةً في وجه المسيرة الاشتراكية الظافرة، أما إذا كانت الاشتراكية مترددة خائرة، وإذا كانت مكاسبها أمرًا مشكوكًا فيه على الدوام، فعندئذٍ تستطيع الخرافة أن تُطِلَّ برأسها في شماتة، وتستطيع الجهالة أن تجد لنفسها — في المجتمع المتخلف أصلًا — أنصارًا يتزايدون باطراد.
على أن التخلُّف العقلي والمعنوي ليس هو العقبة الوحيدة التي تحول بين جماهير المجتمعات المتخلفة وبين السعي المتحمس إلى تحقيق الاشتراكية، بل إن هذه الجماهير كثيرًا ما تكون مفتقرة إلى الوعي الاجتماعي الذي يسمح لها بإدراك ضرورة الثورة على التخلُّف، على الرغم من أن هذه الثورة هي التي يكمن فيها أملها الوحيد في المستقبل؛ ذلك لأن الطبقة العاملة — التي تعتمد عليها الاشتراكية التقليدية — لا تكون فئةً عريضة في مثل هذه المجتمعات، فضلًا عن أن هذه الطبقة لم تُتَح لها فرصة اكتساب الروح الثورية العميقة التي تغلغلت في نفوس عمال المجتمعات الرأسمالية بفضل تجارِبهم الطويلة وتراثهم البعيد الأمد؛ فمن الصعب أن نتوقع من طبقةٍ عاملة قليلة العدد محدودة التجارِب — خرج معظم أفرادها حديثًا من بيئات ريفية غير ثورية — أن تحقِّق كلَّ الآمال التي تعقدها الاشتراكية الكلاسيكية على «البروليتاريا» في العالم الرأسمالي، ومن هنا فإن التجارِب الاشتراكية الناجحة في بلاد العالم الثالث تجد لزامًا عليها أن تعتمد على طبقات أخرى؛ فطبقة الفلاحين قد تمكنت من أن تكون العمود الفقري لثوراتٍ اشتراكيةٍ متعدِّدةٍ في شرق آسيا وجنوبها الشرقي، ولكن نجاح هذه الثورات كان يقتضي تنظيمًا عبقريًّا يزيل من الفلاح رواسب التواكل والاستسلام التي خلَّفها في نفسه نظام إقطاعي ظل يتحكم في مقدراته المعنوية والمادية ألوف السنين، كذلك فإن الطبقة الوسطى — ولا سيما القطاعات المثقفة منها — يجب أن يُعطى لها دور أهم بكثير من الدور الذي يُعزى إليها في المذاهب الاشتراكية الكلاسيكية، بل إن الطلبة بالذات يمكنهم أن يقوموا — في بلاد العالم الثالث — بدورٍ لا يقل أهمية عن دور البروليتاريا في البلاد الرأسمالية العريقة، بل إن من الممكن الاهتداء إلى أوجه تشابه غير قليلة بين هاتين الفئتين، من حيث إن كلًّا منهما تُمثِّل الضمير الواعي لمجتمعها، ولا ترتبط بأجهزة الحكم القائمة أو تكون جزءًا منها، وليس لديها — حسب التعبير المشهور — ما تخسره إلا الأغلال، وإذا كانت بوادر الجهود الإيجابية للطلاب قد بدأت تظهر في بعض بلاد أمريكا اللاتينية، فمن المؤكد أن دورهم سيزداد ظهورًا وأهمية في مناطقَ أخرى من العالم الثالث في المستقبل القريب.
وأخيرًا فربما كان أبرز النواحي السلبية في اشتراكية العالم الثالث هو أنها — في أحيان قليلة — اشتراكية مفروضة من أعلى، وليست اشتراكية نابعة عن ثورة شعبية بالمعنى الصحيح، وربما بدا أن الفارق بين النوعين ليست له أهمية كبيرة ما دامت النتيجة واحدة، ولكن الواقع أن تجرِبة الثورة الشعبية تتمتَّع بميزة كبرى هي أنها تؤدي إلى صهر القيادات — فضلًا عن القواعد بطبيعة الحال — في تجرِبة الممارسة الاشتراكية الحقيقية، والمشكلة الكبرى في الاشتراكية التي تنبع من القمة — لا من القاعدة — هي أنها تعتمد على صلابة الحاكمين لا المحكومين، ولكن الانحراف في الطبقات الحاكمة أمرٌ مألوف، حيث يبدو إغراء السلطة، والافتقار إلى التقاليد الثورية الأصيلة، عاملًا مشجعًا على تكوين «طبقة جديدة» ربما استخدمت الاشتراكية ذاتها أداة لدعم مركزها وصرف أنظار الجماهير عن انحرافاتها، ومن هنا كانت بلاد العالم الثالث أحوجَ ما تكون إلى إعادة بناء نُظُمها الاشتراكية بحيث ترتكز على القاعدة لا على القمة، وكلما سارعت بذلك ضمنت لاشتراكيتها البقاء والازدهار.
إن بلاد العالم الثالث أحوجُ ما تكون إلى مواجهة نفسها مواجهة صريحة، وخاصة إذا كانت تنادي بالاشتراكية مبدأً لحياتها، وفي هذه المواجهة ينبغي عليها أن تعترف دون مواربة أنها مختلفة، لأنها بالفعل كذلك، ولن يفيدها أن تتلاعب بالألفاظ فتسمي نفسها «نامية» في الوقت الذي يكون فيه نموُّها متوقفًا بالمعنى الصحيح، وحين تعترف بهذا التخلُّف ستدرك أنه يمكن أن يكون كذلك رصيدًا لها وحافزًا في تجربتها الاشتراكية، ولكنه في الوقت ذاته يمكن أن يكون عائقًا مخيفًا في وجه هذه التجرِبة، وحين تتضح لها المشكلات التي يثيرها تخلفها هذا، والصعوبات التي تعرقل مسيرتها نحو الاشتراكية، فعندئذٍ ستدرك أن التغلُّب على هذه المشكلات والصعوبات لن يكون بالالتجاء إلى أنصاف الحلول، بل بمزيد من الإصرار على السير في الطريق الاشتراكي والتمسُّك به، وإذا كان من الشائع أن يُقال إن الاشتراكية الوحيدة التي تصلح لبلاد العالم الثالث هي الاشتراكية «المعتدلة»، فإن حالة التخلُّف التي تعانيها هذه البلاد تدعونا إلى التفكير مليًّا قبل إصدار حكم كهذا؛ إذ إن «الاعتدال» إذا كان صفةً مستحبةً في أمورٍ كثيرة، فإنه ليس بالشيء المرغوب فيه عندما يكون الأمر متعلقًا بمسيرة المجتمع نحو التقدُّم ونحو اللحاق بركْب الحضارة العالمية.
إن على بلاد العالم الثالث أن تحدِّد المجالات التي يكون فيها الاعتدال مستحبًّا، وتلك التي لا يكون فيها مفرٌّ من الصلابة، والإصرار والسعي الدائم إلى الهدف المرسوم، وفي اعتقادي أن كل ما تُوصَف من أجله هذه البلاد بأنها «متخلفة» ينبغي أن يدخل في هذه الفئة الأخيرة.