شخصيتنا القومية: محاولة في النقد الذاتي١
إن الحديث عن شخصية الأمة — أيًّا كانت — يواجِه من حيث المبدأ اعتراضاتٍ علمية منهجية لا يستطيع المرء أن يستخفَّ بها إلا إذا كان ممن يستخفُّون بالقيم العلمية ذاتها، وأقل ما يُقال في هذا الصدد هو أن من الخطورة بمكانٍ — من وجهة نظر العلم — أن نشبِّه الأمة بالفرد من حيث وجود سمات ثابتة للشخصية؛ إذ إن مثل هذا التشبيه ينطوي على تعميمٍ لا يقبله العلم إلا إذا أُحيط بضماناتٍ وتحوُّطات تؤدي — آخِرَ الأمر — إلى تضييق نطاقه وتقييده بشروطٍ لا يعود معها ذلك التعميم مجديًا، بل إن الملاحظة الدقيقة — حتى لو لم تكن علمية بالمعنى الصحيح — تثبت في كثير من الأحيان بطلانَ تلك الأحكام العامة التي يشيع إصدارها على شخصيات الشعوب؛ فكلُّ مَن زار بلدًا غيرَ وطنه الأصلي يذهب إليه وفي ذهنه مجموعةٌ من الأحكام المسبقة السريعة التعميم، فإذا أقام في هذا البلد رَدَحًا كافيًا من الزمان، وكانت لديه فرصةٌ معقولةٌ لكي يكوِّن لنفسه فكرةً صائبة عن أحوال الناس فيه، فإنه يعود من إقامته هذه — في معظم الأحيان — بحكمٍ مختلف عن ذلك الذي بدأ به زيارته، وحتى لو تمسك بحكمه الأصلي فإنه يقرنه بتحفظات شديدة تزيل عنه طابع التعميم الشامل الذي كان يتسم به في البداية، ومجمل القول أن موضوعًا كهذا الذي نحن بصدده يثير منذ البداية — ومن حيث المبدأ — اعتراضاتٍ منهجيةً أساسية، لا يجد المرء معها مفرًّا من أن يعمل لها حسابًا قبل أن يخوض في الموضوع ويتعمق في تفاصيله.
على أننا لسنا نتحدث عن شخصية أية أمة، بل إن حديثنا ينصبُّ على أمتنا بالذات، وهو لا ينصبُّ عليها في وقتٍ يُستحب فيه التأمُّل ويتسع فيه المجال للتفكير الهادئ، بل إن هذا الحديث يأتي في فترةٍ ربما كانت من أحرج الفترات التي مرت بها هذه الأمة في تاريخها الطويل، وهنا يحق لأي معترض أن يشير إلى صعوبتين أخريين.
فإن كنا نتوخَّى في حديثنا هذا أن نكون موضوعيين، فإن الموضوعية عسيرةٌ إلى أبعد الحدود في أوقات المحن والأزمات؛ إذ إن التوتُّر الانفعالي الذي يصاحب هذه الأزمات، واللهفة الشديدة على التخلُّص من المحنة والخروج من الأزمة، لا يَدَع للمرء فرصةً لكي يتحدث عن شخصية أمته حديثًا موضوعيًّا يتسم بنزاهة العلم وحياده.
أما إذا كانت الغاية من بحثِ موضوعٍ كهذا غايةً عملية، لا تكتفي بالدراسة النظرية للظواهر، بل تنتقل إلى إيضاح السبل اللازمة لمعالجة النقائص ومداواة العيوب، فلن يكون من العسير أن يعترض المرء بأنَّ وقتَ المحنة ليس أنسبَ الأوقات للكشف عن المثالب، ولا هو بأفضل الفرص للبحث عن وسائل الخلاص منها.
وخلاصة القول أن حديثنا هذا عن الشخصية المصرية يواجه اعتراضاتٍ متعدِّدةً تتلخص — آخر الأمر — في اعتراضين أساسيين: أحدهما ذو طبيعة علمية منهجية، يشكك في إمكان الوصول إلى نتيجةٍ لها قيمتها في موضوعٍ كهذا، ولا يؤمن بإمكان تحقيق الموضوعية في هذا الميدان، والآخر يستمد انتقاده من طبيعة اللحظة التاريخية التي نمر بها، فيؤكد أن مثل هذا الحديث — حتى لو سمح به العلم وأجازه — إنما يأتي في غير أوانه.
ولست أرمي من مقالي هذا إلى الرد على هذين الاعتراضين؛ إذ إنهما يثيران مشكلاتٍ لا بُدَّ لمن يتصدَّى لها أن يكون ذا قدرات خارقة، تجمع بين التعمُّق في دراسة مناهج العلوم الإنسانية ومعرفة شروط الموضوعية العلمية فيها، وبين الاستبصار الاجتماعي والسياسي بما يجوز وما لا يجوز أن نثيره من المشكلات في هذه الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا، وأنا لا أدَّعي لنفسي أيًّا من هاتين الصفتين، ولا أزعم — بالأحرى — أنني قادر على الجمع بينهما، وكلُّ ما أود أن أقدِّمه في هذا المقال مجموعةٌ من الخواطر التي أثارها موضوع الشخصية المصرية في نفسي، وهي خواطر لا تزعم أنها ردٌّ حاسم على هذين الاعتراضين، وأقصى ما تدعيه هو أنها تُلْقِي بعض الأضواء على وجهة نظر الباحثين في موضوعٍ كهذا حينما تواجههم انتقاداتٌ حاسمة كتلك التي أشرت إليها الآن.
مناقشات في المنهج
ثمة تفرقةٌ أرى لزامًا عليَّ أن أنبه القارئ إليها قبل الدخول في أية مناقشة للمنهج الواجب اتباعُه عند بحثِ موضوعٍ كالشخصية المصرية؛ لأنها كفيلة بأن تلقي الضوء على طبيعة الخلاف المنهجي بين المشتغلين في أمثال هذه الموضوعات، تلك هي التفرقة بين جانبين من جوانب البحث في الشخصية القومية؛ فمن الممكن أن تبحث الشخصية القومية من حيث هي تتمثل في الأفراد الذين يعيشون في وطنٍ معيَّن، بحيث يُعَدُّ كل فرد منهم نموذجًا لهذه الشخصية، وبحيث تنعكس على شخصيته الفردية تلك السمات العامة التي يُقال إنها سماتُ الشخصية القومية للأمة التي ينتمي إليها، ومن الممكن أن تُبْحَثَ الشخصية القومية من حيث هي «شخصية معنوية» تسمو — بمعنًى ما — على الأفراد، أي من حيث هي واحدة من تلك الكِيانات الجماعية التي لا تُرَدُّ إلى مجموع عناصرها، بل يكون لها شبهُ استقلال ذاتي بالقياس إلى الأفراد الذين يؤلفونها.
في الحالة الأولى يُفترض أن الأفراد المنتمين إلى أمةٍ معيَّنة يمثلون — بدرجات متفاوتة — نمطًا عامًّا هو نمط «الشخصية القومية»، ويكون علينا لكي نصدر حكمًا على مدى وجود هذه الشخصية القومية وتأثيرها أن نقوم بدراسات منهجية منظمة على عددٍ كافٍ من الأفراد؛ لكي نتأكد من وجود تلك السمات العامة فيهم، وتبعًا لنتيجة تلك الدراسات يتحدَّد ما إذا كان الكلام عن هذه «الشخصية القومية» مشروعًا أو غير مشروع.
أما في الحالة الثانية فإن الاهتمام لا ينصبُّ على الأفراد بقدْرِ ما ينصبُّ على ظواهرَ لها طابع العمومية، تظل متمثلة في المجتمع بقدْرٍ من الدوام يسمح لنا بتأكيد وجود ذلك الكيان المعنوي المسمَّى بالشخصية القومية.
مجمل القول إذن أنني أريد أن أفرِّق بين دراسةٍ للطابع القومي للشخصية الفردية، ودراسةٍ للطابع «الفردي» للشخصية القومية، وأعني بلفظ الطابع «الفردي» في الحالة الأخيرة، ذلك الطابع الذي تصبح الشخصية القومية الجماعية بفضله أشبهَ ما تكون بالفرد المتميز، بالقياس إلى «أفرادٍ» آخرين هم «الشخصيات القومية» للأمم الأخرى.
وفي اعتقادي أن عددًا غيرَ قليل من مناهج البحث التي طُبِّقَت في مجال دراسة الشخصية القومية، كان ينصبُّ على النوع الأول من الدراسة وحدَه، أعني على اختبار صدق الأحكام القائلة إن الأفراد في أمةٍ معيَّنةٍ تجمع بينهم سماتٌ مشتركة معيَّنة يمكن أن يُطْلَقَ عليها في مجموعها اسم «الشخصية القومية»، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يتشكك الباحث المتشبِّع بالروح العلمية، والواعي بالشروط الضرورية للحكم العلمي السليم، في مفهوم الشخصية القومية أصلًا إذا اتضح له أنه لم يجد بين الأفراد الذين دَرَسَهم والذين اختارهم بعناية قدْرًا كافيًا من هذه السمات المشتركة، أو لم يقتنع بالنسبة الإحصائية لتردُّد تلك السمات في هؤلاء الأفراد، ولهذا الباحث كل الحق في أن يرفض دراسة الشخصية القومية — من هذه الزاوية — بأي منهج فيما عدا منهجه العلمي السليم.
ولكني أعتقد أن الزاوية الأخرى لدراسة الشخصية القومية تحتاج إلى مناهجَ علميةٍ من نوعٍ مخالفٍ إلى حدٍّ بعيد، أو هي على الأصح تقتضي من الباحث نظرةً أرحبَ إلى المنهج العلمي، وتخفيفًا شديدًا للشروط المنهجية التي يمكن أن يعترف بها في هذا المجال.
فلنتأمل أمثلةً قليلة لتلك الظواهر الجماعية التي تدخل ضمن نطاق دراسة «الشخصية القومية» بالمعنى الثاني. إن استخلاص طابع معيَّن مميز لهذه الشخصية من الأعمال الأدبية، ولا سيما الأدب الشعبي، أو من الأعمال الفنية وخاصة الفن الشعبي أيضًا، أو من المأثورات والحِكَم المتداولة بين الناس، هو أمرٌ لا يمكن إخضاعه لنفس النوع من المناهج التي تفيد في حالة دراسة الأفراد من أجل استخلاص السمات المشتركة بينهم؛ فعلى أي نحوٍ — مثلًا — يمكنك أن تُخضِع الحكم القائل إن «الموسيقى الشعبية في الريف المصري حزينة» للمنهج العلمي الدقيق؟ إن كلَّ مَن استمع إلى ألحان الناي التي تنبعث تلقائيًّا من الفنان الريفي المصري لا يحتاج إلى جهد كبير لكي يجزم بأنها ألحان حزينة، بحيث يكون من القصور الشديد إخراج الحكم السابق من زُمرة الحقائق العلمية لمجرد عدم وجود وسيلة لتطبيق المناهج العلمية الدقيقة المعروفة عليه، ومثل هذا يَصدُق على الموال الشعبي والشعر الشعبي … إلخ.
فإذا ما تبيَّن للباحث وجودُ سمة الحزن هذه — مثلًا — في الموسيقى والغناء والشعر المعبِّر عن الروح الشعبية، وإذا ما اتضح له أنها سمة غالبة على الأمثال والمأثورات الشعبية بدورها، كان من حقه عندئذٍ أن يُصدِر حكمًا أعمَّ، يقول فيه إن سمة الحزن من السمات المميزة للشخصية الشعبية، ومن المؤكد أن هذا الحكم العام بعيدٌ كلَّ البعد عن استيفاء شروط المنهجية العلمية بمعناها الدقيق؛ لأنه حصيلة ملاحظات فردية أو انطباعات كوَّنتها مجموعة من الأشخاص، ولكن هل يكون من حقنا أن ننكر عليه صفة العلمية لهذا السبب؟ أليست الظواهر التي ينصبُّ عليها حكمٌ كهذا مستعصية بطبيعتها على تلك المناهج التي يمكن أن تحرز نجاحًا كبيرًا في حالة الدراسة الاستقصائية لمجموعاتٍ من الأفراد أو من السمات الفردية؟
مجمل القول أن هناك أحكامًا تنتقل من الخاص إلى العام، وأخرى تبدأ من العام وقد تنتهي إلى الخاص، وإذا كانت الأحكام الأولى وحدَها هي التي تستوفي الشروط الدقيقة لمنهج الاستقصاء العلمي، فليس معنى ذلك أن الأحكام الثانية ينبغي أن تكون خارجة عن نطاق العلم لمجرد كونها غير خاضعة بطبيعتها لأمثال هذه الشروط.
ولعل ما أرمي إليه يزداد وضوحًا إذا ما تأملناه في ضوء الإطارين الرئيسيين اللذين يتم من خلالهما إصدار الأحكام العامة على «الشخصية المصرية» على وجه التحديد.
أول هذين الإطارين هو الإطار الجغرافي، ولعلنا نعرف جميعًا تلك المحاولات المتعدِّدة التي بُذِلَت للربط بين سماتٍ معيَّنة في الشخصية المصرية وبين الطبيعة الجغرافية لبلادنا، وهي محاولاتٌ كان من آخرها ومن أكثرها امتيازًا محاولةُ الدكتور جمال حمدان في كتابه عن شخصية مصر.
والآن فبأي منهج من المناهج الاستقصائية يمكن التحقُّق من صدق الحكم القائل — مثلًا — إن الاشتغال بالزراعة، والاعتماد فيها على الري النهري، كان له تأثيره في تحديد سمات شخصيتنا المصرية؟ وهل إذا لم نجد منهجًا كهذا، يكون ذلك سببًا كافيًا للاعتراض على القيمة العلمية لمثل هذا الحكم؟ في اعتقادي أن المنهج الوحيد الممكن في مثل هذه الحالة هو اختبار مدى الاتساق بين المقدمات والنتائج، ومقدار أحكام وتماسك القضايا القائلة بأن هذا العامل الجغرافي أو ذلك يمكن بالفعل أن يؤدي إلى هذه السمة أو تلك، وهذا منهج فلسفي ومنطقي قبل كل شيء.
ولكن الإطار الثاني لهذا النوع من الأحكام العامة على «الشخصية المصرية» أهم في رأيي بكثير، ذلك هو الإطار التاريخي، الذي هو الدعامة الأساسية لكل حكم عام يشير إلى سمةٍ معيَّنة من سمات ذلك الكِيان الجماعي المسمَّى بالشخصية المصرية، بل إنني لأعتقد أن كل الظواهر السابقة تَكتسب داخل هذا الإطار التاريخي مزيدًا من التأكيد والتأييد؛ فحين نقول مثلًا إن الحزن سمةٌ مميزة للأعمال الأدبية والفنية الشعبية، نزداد اقتناعًا بحكمنا هذا إلى حدٍّ بعيد إذا تبيَّن أن هذه السمة ظلت تميِّز هذه الأعمال طَوال فترات التاريخ السابقة المعروفة لدينا، وحين نستخلص صفة «الاتكالية» من أمثالنا ومأثوراتنا الشعبية الشائعة حاليًّا، ثم نجد أنها كانت صفةً مميزة لنظائرها في كثير من العهود السابقة، يكون ذلك دعمًا لصحة استنتاجنا السابق، بل إن الإطار الجغرافي بدوره يمكن أن تزداد أحكامُنا المتعلقة به تأكيدًا إذا وضعناها في إطارٍ تاريخي؛ فحين يكون للسمة التي نحكم — لأسباب جغرافية — بوجودها في الشعب المصري استمرارٌ خلال التاريخ، يكون في ذلك تأكيدٌ واضحٌ لصحة التعليل الجغرافي الذي نقول به، على حين أن هذه السمة لو كانت تظهر خلال التاريخ ظهورًا غيرَ منتظم، لكان من حقنا أن نشك في قيمة هذا التعليل الجغرافي أصلًا.
وإذن فالبُعد التاريخي حاسم في دراسات الشخصية المصرية، وذلك أمرٌ تقضي به طبيعة الأشياء ذاتها؛ إذ إن بلدًا عريقَ التاريخ كمصر يشكل مجالًا خصبًا للتفسير التاريخي للظواهر، ولكن بأي نوع من المناهج العلمية الدقيقة نستطيع أن نتحقق من صحة الحكم الذي نصدره على سمةٍ معيَّنة حين نجدها تتردد في كتابات المؤرخين تردُّدًا واضحًا، أو حين تشهد بها وثائقُ تاريخيةٌ تنتمي إلى عصورٍ طويلة متباينة؟ أو بعبارة أخرى: هل تستطيع المناهجُ المستخدَمة في علوم الأنثروبولوجيا الاجتماعية أو الحضارية، أو في علم النفس بفروعه واتجاهاته المختلفة، أن تزودني بالأداة التي أستطيع بها التأكُّد من صحة أو عدم صحة الحكم الذي يعتمد أساسًا على شهادة السوابق التاريخية؟ وإذا لم تكن تستطيع أن تزودني بالأداة التي أستطيع بها التأكُّد من ذلك، فهل يعني ذلك أن مثل هذا الحكم ينبغي أن يُسْتَبعدَ بوصفه حُكمًا لا يستوفي شروط المنهج العلمي، أم يعني أن من الواجب التوسُّع في شروط هذا المنهج بحيث تتسع للحكم المبني على قدْرٍ معقول من استقراء الشواهد التاريخية؟
تلك بعض الأسئلة التي استهدفتُ من طرحها في مناقشتي المنهجية هذه أن أوجِّه الأنظار إلى احتمالِ وجودِ جوانبَ أخرى للمنهج العلمي — مفهومًا بمعناه الواسع — تجعل لمثل هذا البحث في الشخصية المصرية ما يبرره من وجهة نظر العلم.
شخصيتنا المصرية واللحظة الحاضرة
ولكن هَبْ أننا استطعنا تبريرَ هذا البحث في الشخصية المصرية من وجهةِ نظرِ المنهج العلمي النظري، فهل يكون في وُسعنا أن نبرِّره من وجهة النظر العملية؟ هل تُعَدُّ اللحظة الحاضرة — التي تعاني فيها بلادنا كثيرًا من مشاعر المرارة والإحباط — أنسبَ اللحظات للبحث في موضوعٍ كهذا؟ ألسنا نتعرض — نتيجةً لهذه الظروف — للوقوع في خطأ الانسياق وراء المشاعر المؤقتة وإصدار أحكام عامة متسرعة قد لا نكون على استعداد لقبولها على الإطلاق لو لم نكن نعيش هذه اللحظات الحرجة من تاريخنا؟ ألن يؤدي هذا البحث — حين يتم في ظروفٍ كهذه — إلى شيء من تثبيط الهمم في وقتٍ نحن فيه أحوجُ ما نكون إلى كلِّ ما يرتفع بمعنوياتنا ويبث فينا روح الكفاح والنضال؟
لقد أشرت من قبلُ إلى أن الإطار التاريخي أهم الأطر التي تُعالَج من خلالها فكرةُ الشخصية المصرية، وتلك حقيقة لا جدالَ فيها؛ فكلُّ مَن كتبوا عن مصر يؤكدون الاتصال التاريخي الفريد الذي يتسم به شعبنا، وعراقة أصل هذه الأمة، وأصالة الحضارة التي بناها المصري على أكتافه والعالَم ما زال يحبو في مهده. إن تاريخ مصر العريق مصدر أعظم أمجادها، ولكن هذا التاريخ ذاته مصدر كثير من العيوب التي تهدِّد شخصيتنا القومية بأخطارٍ لا مفرَّ من أن نتنبه إليها ونعمل على تلافيها.
إن الأمر المؤكد أن لكل أمة الحقَّ — كل الحق — في أن تتغنَّى بماضيها وتمجده، ولكن التشبث المريض بهذا الماضي ليس له إلا معنًى واحد، هو العجز عن السيطرة على الحاضر أو عدم الرضا عنه، وفي اعتقادي أن الأمة التي تتحكم في حاضرها وتُمسِك بزمامه وتسيطر عليه وتدير دَفته في الاتجاه الذي يحقق لها أمانيها، لا تحتاج إلى كل هذا القدْر من التغني بالماضي واجترار أمجاد الأسلاف، ولو تأملنا مقدار الجهد الذهني الذي بُذِلَ، والطاقات النفسية والعصبية التي أُنْفِقَت في المعركة التقليدية بين أنصار الأصل الفرعوني وأنصار الأصل العربي الإسلامي؛ لبدا لنا المعنى الذي نرمي إلى إثباته واضحًا وضحَ النهار؛ إذ إن هذه المعركة كان يمكن أن تُحْسَمَ لو أن كلًّا من الفريقين المتنازعين خاطب الآخر بتلك العبارة البسيطة المعقولة الحكيمة، كفانا تناحرًا على الماضي يا سادة، ولنتذكر قليلًا حاضرنا الذي نعيش فيه!
والحق أن نفس عامل الثبات في الشخصية — الذي يُعَدُّ مصدرًا للفخر والاعتزاز بالماضي العريق — يمكن أن يُعَدَّ سببًا من أسباب التعاسة في الحاضر؛ ذلك لأن الظروف التي أدَّت — منذ آلاف السنين — إلى بناءِ حضارةٍ عظيمةٍ يمكن — إذا ظلت سائدة دون تغيير أساسي — أن تؤدي إلى تدهور شديد في الحاضر، وإذا كنا نعترف بأن شخصية الفلاح المصري وطبيعة حياته وطريقة معيشته ظلت على ما كانت عليه منذ أيام المصريين القدماء، فمن الواجب ألا نرى في ذلك ما يدعو إلى الإفراط في الفخر، بل ينبغي أن نجد فيه حافزًا قويًّا إلى التغيير.
إن التفاخُر بالأصل والحسب صفةٌ مميزة لشعوب هذه المنطقة من العالم، وحسبنا دليلًا على ذلك أن نرجع إلى باب «الفخر» في دواوين الشعر العربي التقليدي، وهو موضوعٌ لا يكاد يكون له نظير بين أغراض الشعر في الآداب العالمية كلها، وفي حياتنا الشخصية كان الفخر بالحسب والنسب — ولا يزال إلى حدٍّ بعيد — مصدرَ كثير من الأحكام الباطلة على الناس، ومن التصرفات الخاطئة في المجتمع، ومع ذلك فإن مثل هذا التفاخر ما زال يُمارَس على مستوَى الشخصية القومية بصورةٍ يمكن أن تُوصف بأنها مريضة، ومرة أخرى فإني حريص على أن أؤكد أن من حق كل شعب — بل من واجبه — أن يحافظ على تراثه ويتغنى بأمجاده الماضية، ولكن هذا الرجوع إلى الماضي يتخذ في الحالات السوية شكلَّ القوة الدافعة إلى مزيدٍ من النهوض بالحاضر، بينما يتخذ في الحالات المريضة صورةَ البديل الخيالي عن الحاضر، أو العزاء الوهمي عما هو فيه من تخلُّف.
إن كلَّ مَنْ بحثوا في الشخصية المصرية يؤكدون أن أهم سماتها هو ذلك الاستمرار الفريد بين الماضي السحيق والحاضر، ولكن النتائج التي تُسْتَخْلَص من هذا الاستمرار والاتصال في شخصيتنا تختلف كلَّ الاختلاف بين أجيال الباحثين، ويمكن القول بصورة عامة إن الجيل الأقدم من الباحثين يستمد من هذا الاستمرار قوةً روحية هائلة تعطيه أملًا كبيرًا في الحاضر — أو على الأصح عزاءً مريحًا عنه — على حين أن جيل الشباب يرى في هذا الاستمرار عاملًا مثبطًا للهمم، ومظهرًا من مظاهر التخلُّف.
وفي اعتقادي أن كلًّا من هاتين النتيجتين لا تلزم بالضرورة عن مقدماتها، وأن حقيقة الاستمرار التاريخي لا ينبغي أن تكون مصدرًا للأمل المبالغ فيه أو لليأس المفرط.
ذلك لأن المغرقين في الأمل يؤمنون — في واقع الأمر — بنوعٍ من القوة السحرية الغامضة في هذا الشعب الذي استطاع أن يصمد طوال هذا التاريخ ويحتفظ بجوهره نقيًّا برغم كل المؤثرات الأجنبية والغزوات الدخيلة، وأن يَقهر المعتدين بالصبر، ويرغمهم على الرحيل آخرَ الأمر خاسرين، وفي رأيي أن الإيمان بوجود علاقة سببية بين ماضي الشعب وحاضره هو إيمان صوفي لا يَمُتُّ إلى التفكير العلمي بِصِلَة، وأن الماضي مهما كانت عراقته لا يستطيع أن يؤثر في الحاضر إلا بقدْرِ ما نبذل نحن في سبيل إنهاض هذا الحاضر من جهود، وكم من الأمم لم يشفع لها ماضيها العريق حين تراخت جهودها ووهنت عزائمها، فأصبح حاضرها تعيسًا يدعو إلى الرثاء، بل إني لأومن بأن كلَّ جيل في حياة الأمة يحمل على أكتافه وحدَه أمانة الكفاح كاملة، أما الاعتقاد بأن الأصل البعيد يرتبط بالحاضر على نحوٍ ما، ويمكن أن يكون قوةً مؤثرة فيه، فهو اعتقاد يفتقر إلى تأييد الشواهد التاريخية والمنطق السليم معًا، ولا يعدو أن يكون شعورًا انفعاليًّا في بعض النفوس، لا يطابقه في الواقع الموضوعي شيء.
ولست أود أن أعلِّق على الوجه الآخر من هذه الطريقة في التفكير، وهو الوجه القائل إننا حاربنا الغزاةَ وانتصرنا عليهم بالصبر، وحسبي أن أقول إن هناك مواقفَ في حياة الأمم لا تحتمل مثل هذا الصبر، وإن الحد الفاصل بين الصبر والمذلة إنما هو خيطٌ رفيع، وإن الذليل — على أية حال — يستطيع أن يضمن لنفسه عمرًا طويلًا!
من أجل ذلك لم تكن هذه الفلسفة مقبولة لدى جيل الشباب، وكان استقرار الشخصية القومية وثباتها على المدى الطويل — في نظر هذا الجيل — مدعاة إلى اليأس لا إلى الأمل؛ ذلك لأن هذا الاستقرار إنما يعني استمرار كثير من عوامل التخلُّف، وقيم الطاعة والخنوع، والإيمان بالقدرية والغيبيات، وأحاسيس المرارة واليأس، والتفنُّن في الهروب من الواقع والعجز عن التصدي له.
ومع ذلك فإني لست من المؤمنين إيمانًا تامًّا بطريقة تفكير هؤلاء اليائسين؛ ذلك لأن وحدة الشخصية القومية عبْر التاريخ، واستمرار السمات السلبية فيها، إنما هو في واقع الأمر استمرار للظروف التي أدَّت إلى نشوء هذه السمات وتلك الظروف في نهاية التحليل، ذات طابع اجتماعي في الأغلب، أي إنها مما يدخل في نطاق تحكم الإنسان، وليست قدَرًا فرضته عليه قوةٌ قاهرة، ومن المؤكد أن تغيير هذه الظروف كفيل بأن يؤدي في نهاية الأمر إلى تغيير النتائج المترتبة عليها، وبالتالي إلى القضاء على السمات السلبية في شخصيتنا القومية. وبعبارة أخرى فإن هذه الشخصية القومية — مهما كانت درجة ثباتها — ليست شيئًا فطريًّا مقدَّرًا لنا ويستحيل علينا تغييره، بل نتاجٌ لعواملَ معيَّنةٍ في حياتنا هي التي أدَّت إلى تشكيلها في هذه القوالب، وما ثبات هذه الشخصية على مدى تاريخنا الطويل إلا انعكاسٌ لاستمرار هذه العوامل وعجزنا عن تغييرها طَوال هذه القرون، ولكن هذه العوامل قابلة للتغيير من حيث المبدأ (ولا سيما في هذا العصر الذي لا يصمد أمام قوى التغيير فيه شيء)، ومن ثم فإن سمات شخصيتنا القومية يمكن أن تطرأ عليها تحولاتٌ جذرية لو استطعنا أن نبذل الجهد اللازم في سبيل تغيير العوامل المؤثرة فيها.
وأول شروط بذل هذا الجهد، وبالتالي أُولى مراحل عملية التغيير، هو الشعور الواعي بمظاهر السلبية في شخصيتنا.
إن «النظرة إلى الوراء بسخط» (ومعذرة لكاتب المسرحية المعروفة) جزءٌ لا يتجزأ من صفات جيل الشباب المتطلع إلى التغيير، وهي نظرة بنَّاءة، تحاول إعادة التوازن بين الحاضر والماضي بعد أن ظل طويلًا في اختلالٍ تَرجُح فيه كِفة الماضي على الحاضر، وأحسب أن أول ما تقتضيه مرحلة محاسبة النفس التي نَمرُّ بها هو المواجهة الصريحة لعيوبنا، ولا سيما المتأصلة منها في نفوسنا خلال فترات تاريخية طويلة بدلًا من إسدال ستار من الصمت عليها بحجة التغني بأمجاد الأجداد.
فإن كان الغضب على الماضي الراكد، والسخط على أسلوبٍ في الحياة جامد لا يتطور، بشيرًا ببداية الوعي الذي يقودنا إلى مستقبلٍ أفضلَ، فأهلًا بالغضب ومرحبًا بالسخط!