حول فكرة الاتصال في تاريخ الفلسفة١
يسود رأيٌ واسع الانتشار، يذهب إلى أن صفة الانفصال هي المميِّزة لحركة الفكر الفلسفي، وأن المذهب الفلسفي انبثاقٌ فجائي ظهر في ذهن عبقري بفضل قدراته العقلية الخاصة، وكان من الممكن أن يظهر — دون أي تغيير كبير — لو أن هذا الذهن قد قُدِّر له أن يحيا قبل الفترة التي عاشها فعلًا أو بعدها بزمان طويل.
تلك النظرة الفردية إلى الفلسفة جزء من منظور فردي أوسع وأعم بكثير؛ فهي في واقع الأمر مظهر من مظاهر نظرة إلى الحياة تجعل الظاهرة الفردية — في تميُّزها واختلافها وطابعها الفريد — أساسًا لتفسير كل شيء، وفي مثل هذه النظرة إلى الحياة يكون التاريخ بأسره — لا تاريخ الفلسفة وحدَها — مجموعةً من الحوادث المتلاحقة التي يقوم بها «أفراد» ممتازون، ويسود الانفصال المطلق كل ظواهر الحياة الإنسانية، ويكون الزمان الذي تجري خلاله وقائع التاريخ زمانًا آليًّا بحتًا، أي سلسلة متعاقبة من اللحظات، وليس على الإطلاق خطًّا متصلًا يمهِّد أوله لآخره، ولا يُفْهَم اللاحق فيه إلا على أساس السابق.
وجدير بنا أن نشير إلى صفةٍ مميزةٍ للتاريخ الفلسفي، تجعل إدراك عناصر الانتظام والاتصال فيه مهمةً شاقة إلى أبعد حد؛ فمن المعترف به أن العلوم الإنسانية بأسرها تعاني من هذه الصعوبة، نظرًا إلى تعقُّد موضوعها وخفائه وصعوبة التزام الموضوعية الكاملة فيه، ولكن هذه المشكلة تزداد تعقيدًا في حالة الفلسفة؛ لأن العرض التاريخي لها هو — إلى حدٍّ بعيد — «إعادة خلق»؛ فالمشكلات القديمة لا تزال حية لم تندثر، ولا توجد في الفلسفة منذ ظهورها أيام اليونان حتى اليوم مشكلةٌ يمكن أن تُوصف بأنها ذات أهمية «تاريخية» فحسب، بل إن أبعد المشكلات عن طريقة تفكيرنا الراهنة لا تخلو من عناصرَ تثير تفكيرنا وتدفعه إلى أخذها مأخذَ الجِد، ومن هنا لم يكن مؤرخ الفلسفة مجرد راوية يسرد أحداثًا لم تَعُد لها صلة به، بل هو — بمعنًى معيَّن — أقربُ إلى الشاعر الذي يتمثل مشاهداته ومعلوماته ويعيد خلقها من جديد، وحين تكون إعادة الخلق هذه ضرورةً لازمة، لا يعود هناك مفر من أن تتعدَّد نظراتنا إلى تاريخ الفلسفة وتصوراتنا له، وبعبارة أخرى: فحتى لو لم يكن تاريخ الفلسفة سلسلةً من الانبثاقات الفكرية والمنفصلة في أذهان صانعيه، فإنه يغدو على هذا النحو في أذهان رواته وكُتَّابه وشارحيه، وحتى لو كانت طريقة صنْع تاريخ الفلسفة متميزةً بالاتصال والانتظام، فإن طريقة عرض هذا التاريخ لا يمكن أن تخلو من عنصر الانفصال والعشوائية.
ولنضفْ إلى العوامل السابقة عاملًا آخرَ ربما كان أهم أسباب انتشار النظرة الفردية العشوائية إلى تاريخ الفلسفة؛ ذلك لأن الكثيرين يتصورون أنهم يحطُّون من قدْر الفلسفة والفلاسفة إذا تصوَّروا تاريخها على أنه خطٌّ متصل يتسم بأي نوع من النظام. إن الفلاسفة هم عباقرةُ العقل الإنساني، والعبقري لا بُدَّ أن يكون متفردًا، لا يخضع لقانون حتمي يتحكم في الأحداث ولا يدعها تتحكم فيه، وأي نوع من «المنطق» المنتظم في مسار التاريخ الفلسفي معناه أننا أخضعنا هذه الظاهرة العبقرية لقاعدةٍ خارجةٍ عنها، وأننا بالتالي قد انتقصنا من قدْرها، وربما كان أصحاب هذا الرأي على استعدادٍ لأن ينكروا أهمية دور العبقري الفرد في التاريخ العام، أما تاريخ الفلسفة فإنهم لا يتصورونه إلا تاريخَ عقول فذة جبارة يصنع كلٌّ منها لتفكيره منطقَه الخاص، ولكنه يتحدَّى كلَّ منطق خارجي يفرض على تفكيره مسارًا معيَّنًا ويحصره في إطارٍ لا يُفْهَم إلا من خلاله.
على أن مثل هذا الفهْم ينطوي على قدْرٍ غيرِ قليل من السذاجة؛ إذ يفترض أن عبقرية الفيلسوف لا تتجلَّى على حقيقتها إلا حين يكون تفكيره ظاهرةً فريدةً منعزلة عما يسبقها وما يليها، وحسبنا أن نجري مقارنةً بسيطةً مع ميدانٍ آخرَ غير الفلسفة لندرك مدى خطأ هذا التصور؛ فمن المسلَّم به أن بيتهوفن كان أعظم عباقرة الفن الموسيقي، وأنه في هذا المجال يُعَدُّ أصدقَ ممثِّل للظاهرة الفردية التي يستحيل أن تتكرر، ومع ذلك فمن المسلَّم به — بنفس المقدار — أن بيتهوفن يمثل في تاريخ الموسيقى مرحلةً محددة لا تُفْهَم إلا في ضوء ما سبقها وما تلاها، ولا يمكن أن ينقص من عبقريته على الإطلاق إدراكنا لموقعه التاريخي، وفهْمنا لفنه على أنه مرحلة في تاريخ متصل يتسم مجراه بنوع من الانتظام.
ولا بُدَّ أن تؤدي النظرة الموضوعية — التي تعلو على الرومانتيكية الساذجة عند أصحاب نظرية «العبقرية الفردية» — إلى الاعتراف بنوعٍ مماثل من الانتظام والاتصال في تاريخ الفلسفة، وإن كان من المستحيل أن نتصور مثل هذا الانتظام على أنه يسير في خطٍّ واحد مستقيم متصاعد تدريجيًّا كما هو الحال في تطوُّر العلم.
فما هو إذن مصدر هذا الانتظام الذي نعترف بأنه شديد التعقيد إلى حدٍّ قد يختفي معه في كثير من الأحيان عن الأعين تمامًا؟ إن مصدره هو الانتظام في تدرُّج حياة الإنسان نفسها، واستحالة فصل التاريخ الفلسفي عن التاريخ الإنساني العام، وهكذا يتعيَّن علينا في هذه المرحلة أن نصحح ما يُقال عن وجود تقابل شديد قاطع بين طريقة تطوُّر الفلسفة وطريقة تطوُّر العلوم الدقيقة؛ فهناك بالفعل اختلافٌ كبير بين الطريقتين، ولكن هذا الاختلاف لا يصل إلى حد الانفصال أو التضاد التام، ولو اعترفنا بهذا الانفصال لكان في ذلك تفتيتٌ لوحدة العقل البشري، الذي يستحيل أن يسير تبعًا لمنهجٍ دقيقٍ في بعض ميادينه، ويسير دون أي منهج على الإطلاق في بعضها الآخر، فلا بُدَّ من الاعتراف بوحدةٍ في الظواهر البشرية، ولا بُدَّ من تأكيد التأثير المتبادَل بين هذه الظواهر، ولو كان العلم هو وحدَه الذي يسير بانتظام، والفلسفة لا تتبع أي نظام؛ لكان معنى ذلك أننا لا نعترف بوجود أي تأثير للعلم في الفلسفة أو للفلسفة في العلم، وهذا خطأ يمكن اكتشافُه بسهولة إذا تتبع المرء تاريخ العلاقة بين هذين الميدانين، وعلى ذلك فأصل الإشكال هو الاعتقاد بإمكان قيام نوع من الفلسفة يظهر تلقائيًّا من العقل البشري دون أي تأثُّر بظروف عصره، وبإمكان انفصال الفلسفة عن سائر ميادين نشاط هذا العقل، وهو اعتقاد باطل كل البطلان؛ لأن الذهن البشري وحدة لا تنفصم، وعلى أية حال فإن كشف التطوُّر الفلسفي — إذا كان أمرًا شاقًّا داخل نطاق الفلسفة ذاتها — يغدو أيسرَ كثيرًا إذا تأملناه من خلال التطوُّر العام للتاريخ البشري في مختلف مظاهره الحضارية والثقافية، وعندئذٍ يختفي التضاد الشديد بين طريقة تطوُّر الفلسفة وطريقة تطوُّر العلوم، ويكون من الواجب اتباع منهج مشابه في الحالتين، مع اعترافنا بأن كشف مسار هذا التطوُّر في حالة الفلسفة أصعبُ كثيرًا منه في الحالات الأخرى.
الآراء المختلفة في طبيعة التطوُّر الفلسفي
نستطيع — في ضوء التحليل السابق — أن نستخلص رأيين أساسيين في طبيعة التطوُّر الفلسفي، يمكن تلخيصهما بوجه عام بأنهما رأي يقول بأن هذا التطوُّر يفتقر إلى كل نظام، ورأي آخر يقول إنه تطوُّر منتظم، وسوف نعرض أمثلةً لكلٍّ من هذين الرأيين، وتُعَدُّ هذه الأمثلة بالفعل تطبيقًا عمليًّا للمناقشة العامة السابقة.
نظريات الانفصال
الرأي القائل بعدم انتظام التاريخ الفلسفي يمكن أن يكون راجعًا إلى أسبابٍ مختلفة، من أهمها وأوضحها بطبيعة الحال عدمُ وجود معلومات كافية عن التطوُّرات الفلسفية السابقة، وهكذا كانت الحال عند بداية الفترة الحديثة في كتابة التاريخ الفلسفي في عصر النهضة الأوروبية؛ فلم تكن هناك من المواد أو من الدراسات النقدية ما يسمح بتكوين نظرةٍ جامعة إلى التاريخ السابق، أو بإدراك الخطوط الكبيرة التي يسير فيها التطوُّر الفلسفي؛ ولذلك كانت دراسة الفلسفة في ذلك الحين هي دراسة لشيَعٍ أو طوائفَ منفصلةٍ، وكانت طريقة عرض الفلسفات السابقة هي طريقة السرد أو الرواية، ومن الواضح أن هناك تشابهًا بين هذه الطريقة وبين الطريقة القديمة في كتابة التاريخ بمعناه العام؛ إذ كان المؤرخون القدماء — كما هو معروف — يسردون الوقائع في تتابعها الزمني دون أية محاولة لاستخلاص تيارات عامة فيها، ودون كشفٍ للعلل المتحكمة في مسار هذه التيارات، أما الطريقة الحديثة في بحث التاريخ، فتحتاج إلى مقدارٍ من التعمُّق، وكذلك إلى قدْرٍ من المعلومات والوقائع، لا يتوافران لدى المؤرخين القدماء.
ومن الواضح أن هذه النظرة التجزيئية إلى تاريخ الفلسفة تؤدي إلى الحط من مكانة الفلسفات السابقة؛ إذ إنه كلما تعدَّدت المذاهب وتناقضت ردودها وإجاباتها، كان ذلك مؤديًا إلى المزيد من الشك في قيمتها، ما دامت كلٌّ منها تُعَدُّ منفصلة تمامًا عن الأخريات، وهكذا كان الكثير من مؤرخي الفلسفة في هذه الفترة — بل من الفلاسفة أنفسهم — ينتهون إلى اتخاذ موقف الشك في قيمة الفلسفة بوجه عام (مونتني، بيكن).
على أن هذا القول بعدم انتظام مسار التاريخ الفلسفي لم يكن راجعًا فقط إلى العجز عن تكوين نظرة عامة بسبب قلة المواد المعطاة أو نقص المعلومات المتوافرة، وإنما يمكن أن يكون له سببٌ مضاد، فإذا توافرت الموادُّ أكثرَ مما ينبغي، وإذا ازداد التخصص بحيث يركِّز الباحث جهوده كلها على فتراتٍ محدودة قصيرة الأمد، أو على مشكلات خاصة ضيقة النطاق، فعندئذٍ ينصرف بطبيعة الحال عن إصدار الأحكام العامة الشاملة على فترات تاريخية كبيرة، ويرى في هذه الأحكام خروجًا عن روح البحث العلمي الدقيق بالمعنى الذي يفهمه لهذه الكلمة، ولهذا الاتجاه أهمية كبيرة في الفترة الحالية من تاريخ الأبحاث الفلسفية؛ حيث يزداد التخصص بين الباحثين ويُعَدُّ في كثير من الأحيان شرطًا أساسيًّا للبحث السليم، وكلما أراد المرء التعمُّق في أبحاثه؛ وجد نفسه مضطرًّا إلى تضييق نطاق هذه الأبحاث، بينما ينظر إلى الأبحاث الواسعة النطاق على أنها سطحية، وحتى لو أُتيح له التعمُّق في عدة مذاهبَ تنتمي إلى فتراتٍ مختلفة، فإن هذا التعمُّق ذاته كفيل بأن يكشف له عن اختلافات أساسية بينها يستحيل ردُّها إلى عنصر مشترك، ويجعله يخشى إصدار الأحكام العامة التي قد يكون فيها تزييف للتاريخ وضياع للدقة التي اعتادها في بحثه.
وهناك أخيرًا سببٌ ثالث لامتناع الباحثين عن القول بوجود انتظام في التاريخ الفلسفي، ذلك السبب هو النزعة الثورية؛ ففي الفترات التي تشتد فيها الثورة على القديم، يقلِّل المفكرون من شأن الماضي ويؤكدون أن من الواجب تركه جانبًا، وتكون أبغض الأفكار إلى أذهانهم هي الفكرة القائلة بوجود ارتباط سببي بين الماضي والحاضر؛ لأنهم يريدون أن تظهر أفكارهم في صورةِ خلقٍ جديدٍ تمامًا يثور على الماضي ولا يكمله، وهذه هي الصفة التي كانت تتميز بها نظرة الفلاسفة في أوائل العصر الحديث — مثل ديكارت وبيكن — إلى التاريخ الماضي للفلسفة.
ومثل هذا يُقال أيضًا من كل اتجاه فردي حديث، يدعو إلى الثورة على القوالب الجامدة في الفلسفة، والتخلي عن الروح التعميمية المفرطة؛ ففي مثل هذه الاتجاهات، تكون الفلسفة الحقيقية وثيقةَ الصلة بالشخصية الفردية، وتُعَدُّ مظهرًا من مظاهر النشاط الباطني للنفس، بحيث إن أية محاولة لكشفِ اتصالٍ واستمرارٍ في تاريخها تكون محاولة متعلقة بالسطح الظاهري للفلسفة، لا بكيانها الباطني الأصيل، ومن أوضح الأمثلة لهذه النظرة إلى طبيعة التطوُّر الفلسفي، رأيُ فيلسوف وجودي مثل ياسبرز؛ فعنده أن كل فلسفة لها أصالتها المطلقة، ولها طابعها الفردي التام، وهي لا تتكرر ولا يطرأ عليها زيادة أو نقصان، ولا يمكن أن تُعَدَّل أو تُقَوَّم بمضي الزمان، وإنما تظل لها على الدوام قدرتها على الإيحاء؛ فكل فلسفة كاملة في نطاقها الخاص؛ لأنها نتاجٌ أصيلٌ لوجود حر تلقائي، وفي هذه الحالة لا يكون للفلسفة من قيمة إلا من حيث هي تعبير ذاتي، له في حدوده الخاصة قيمته المطلقة التي لا تُسْتَمَد من أية علاقة له بغيره من التعبيرات، أي إن كل فلسفة تبعًا لهذا الرأي مقفلَةٌ على نفسها، ولا تقبل أن تكوِّن أي مركَّب مع غيرها من الفلسفات.
نظريات الاتصال
هناك مجموعة أخرى من النظريات تذهب إلى عكس النظريات السابقة تمامًا، فتؤكد أن في تاريخ الفلسفة نوعًا من الانتظام الذي قد يكون من الصعب إدراكُه لأول وهلة، ولكنه موجود على أية حال، وكل ما علينا هو أن نبذل الجهد الكافي لكي نهتدي إليه.
وكان من الطبيعي أن يتحمس لفكرة التطوُّر الفلسفي المنتظم والمتصل دعاةُ التقدُّم من الفلاسفة عند نهاية القرن الثامن عشر؛ فهم يرون أن الفلسفة — شأنها شأن كل نشاط عقلي أو مادي آخرَ للإنسان — قد سارت في طريق التقدُّم التدريجي، ابتداءً من الفلسفة اليونانية التي بلغت قمَّتها عند سقراط وأفلاطون وأرسطو، حتى العصر الحديث الذي بلغ أعلى نقطة في تطوُّره عند ديكارت، مارَّة بالعصور الوسطى التي كانت تمثل نكسة للفلسفة.
وظهرت في القرن التاسع عشر عواملُ متعدِّدة تؤدي إلى تقوية هذا الاتجاه، أهمها دون شك النزعةُ التاريخية التي كانت تميل إلى تفسير كل الظواهر من خلال تاريخها، لا على أن لها طابعًا مطلقًا يُفْهَم بذاته، وهكذا ظهرت في ذلك القرن محاولاتٌ متعدِّدة لإظهار الانتظام في مجرى التاريخ الفلسفي، من أهمها محاولتا كونْت وهيجل.
ففي فلسفة أوجست كونْت اتجاه إلى ربط الفلسفة بالمجرى العام للتاريخ الإنساني، وهو يؤكد استحالة فصل المراحل العقلية الحالية عن المراحل الماضية، بل إنها كلها ترتبط سويًّا في خط واحد، تكون كلها فيه خطوات نحو تحقيق التقدُّم البشري العام، وهكذا تنكر هذه الفلسفة حدوثَ تحولات أساسية في الفكر البشري من اتجاه إلى اتجاه مضاد، وإنما تسير المذاهب الفكرية كلها في طريق متصل، تؤدي فيه كلُّ مرحلة إلى المرحلة التالية بالضرورة، ولا يمكن أن يرجع إلى الوراء، وبلغ الأمر بكونْت حدَّ تأكيد أن فلسفة العصور الوسطى أعمقُ وأكملُ من الفلسفة اليونانية القديمة، وهو رأي يخالف دون شك ما اتفق عليه معظم مؤرخي الفلسفة.
على أن أَشْهَر هذه المحاولات لإثبات وجود انتظام في مجرى التاريخ الفلسفي هي دون شك محاولة هيجل؛ فهيجل لا يرى في كثرة المذاهب الفلسفية مظهرًا من مظاهر ضَعف الفلسفة، أو دليلًا على تهافت هذه المذاهب، وإنما لا يوجد في نظره تعارض بين هذه الكثرة في المذاهب وبين وحدة الروح البشرية؛ فتاريخ الفلسفة يكشف في رأيه عن فلسفة واحدة، تمثل المذاهب المختلفة مراحلَ متباينة لنموها، وهكذا تكون كل فلسفة متأخرة — في رأيه — نتيجةً لجميع الفلسفات التي سبقتها، وتتضمن في ذاتها كلَّ ما تنطوي عليه تلك الفلسفات من مبادئ، وعلى حين أن القول بفلسفاتٍ كثيرة منفصلة يؤدي حتمًا إلى إنكار قيمة هذه الفلسفات أو الشك فيها، فإن القول بفلسفةٍ واحدة لها مراحلُ متباينة في نموها، يؤدي إلى الاعتقاد بضرورة كل مرحلة من هذه المراحل، وبحتمية هذا التاريخ السابق الذي يستحيل فهْم إحدى حلقاته دون الأخريات، وبذلك تصبح للمذاهب كلها ضرورتُها وقيمتُها في التطوُّر الفلسفي العام، ويعبِّر هيجل عن رأيه هذا من خلال مصطلحاته الخاصة، فيقول إن تاريخ الفلسفة إنما هو نمو روح حية واحدة، تدرك ذاتها بالتدريج، وهو يكشف خلال الزمان عما تكشفه الفلسفة ذاتها بطريقةٍ أزلية خالصة، أي إن من وراء التطوُّر الزمني للتاريخ الفلسفي توجد روحٌ تكشف عن نفسها بالتدريج، وتوجِّه مراحلَ هذا التاريخ بانتظام، وهكذا يتعيَّن على المرء أن يكون فيلسوفًا لكي يستطيع البحث في التاريخ الفلسفي؛ إذ إن كشْف الروح الكامنة من وراء هذا التاريخ لا يتسنَّى إلا للفيلسوف، وكما أن هناك عقلًا واحدًا لا عقولَ كثيرة، فكذلك لا توجد إلا فلسفة واحدة لا فلسفات كثيرة، وهذه الفلسفة الواحدة لا تتكشف إلا للفيلسوف نفسه في مراحلها المتعاقبة وفي غايتها الواحدة.
ونستطيع أن نعلِّق على فكرة هيجل هذه بقولنا إنه إذا كان يقصد بذلك أن من واجب الباحث في التاريخ الفلسفي أن يكون لديه حس فلسفي سليم، فإن رأيه هذا يكون معترفًا به من الجميع، أما إذا كان يقصد بذلك أنه لا بُدَّ للمرء من أن يكوِّن لنفسه فلسفةً كاملةً قبل أن يستطيع البحث في تاريخ الفلسفة، فإن هذا بالطبع أمرٌ لا تؤيده التجرِبة ذاتها؛ لأن المرء يستطيع فهْم تاريخ الفلسفة بالحس الفلسفي وحدَه، وليس تكوين فلسفة كاملة بالشرط الضروري لهذا الفهم.
ومن الواضح أن هيجل قد أكَّد الاستقلال الذاتي للفلسفة، وانفصالها عن سائر مظاهر النشاط الروحي أو العقلي، بحيث إن تطورها يكتسب معنًى ودلالة مستمَدَّة من منطقها الداخلي ذاته، ولكن محاولته تخفق لهذا السبب ذاته؛ إذ إنها تفترض مقدمًا إيمان المرء بفلسفة هيجل نفسها، وتفسيره للتاريخ الفلسفي كله على أساس أنه يتجه إلى تحقيقها، أما بالنسبة إلى أي مفكرٍ آخرَ لا يؤمن بالفلسفة الهيجلية فلا بُدَّ أن يكون انتظام التطوُّر الفلسفي راجعًا إلى سببٍ آخر.
لذلك كان من الواجب — كما أشرنا من قبلُ — أن يحرص المرء دائمًا على الربط بين الفلسفة وبين مجموع المظاهر الأخرى للنشاط العقلي، وعندئذٍ لن يعود من الصعب كشفُ الانتظام في تطوُّرها؛ فالفلسفة كانت دائمًا تستهدف إيجاد نظرة عامة إلى مجموع المعارف العلمية للإنسان، بل كانت أحيانًا تزعم أنها علمٌ شامل للكون بأسره، وهناك ارتباطٌ وثيق بين الفلسفة وبين مظاهر الحياة الروحية، من علم وفن وسياسة واجتماع، وفي الفلسفة تتلخص القيم الروحية لأي عصر من العصور، صحيح أن الفلسفة ترتبط أحيانًا بوجهٍ معيَّن من الحياة الروحية أكثرَ مما ترتبط بوجهٍ آخر، فتهتم أحيانًا بالعلم أو بالسياسة أو بالأخلاق، وتتأثَّر بجانب من الحياة الروحية أكثرَ مما تتأثر بجانبٍ آخر، ولكنها على الدوام متصلةٌ بالمجموع العام للحياة الروحية في عصرٍ معيَّن.
وأخيرًا فإن للماركسية رأيًا معروفًا في الربط بين الفلسفة وبين المرحلة التي يمر بها المجتمع في علاقاته الإنتاجية، ومن الطبيعي أن تؤكد الماركسية اتصال التاريخ الفلسفي الذي يُعَدُّ في رأيها انعكاسًا لعلاقات الإنتاج على صفحة الوعي الإنساني، والذي يعود بدوره فيؤثر في هذه العلاقات تأثيرًا تبادليًّا؛ فالمسار الجدلي الذي يمر به تطوُّر العلاقات العينية بين طبقات المجتمع، هو نفسه المسار الذي تعبِّر به الفلسفة — نظريًّا — عن هذه العلاقات، ومع ذلك فإن الرأي الماركسي وإن كان يؤكد من الناحية النظرية أن لكل فلسفة موقعًا معيَّنًا داخل التطوُّر العام للعلاقات البشرية، فإنه يقتضي معرفةً كاملة بكل جوانب هذه العلاقات من أجل إصدار الحكم الصحيح على كل فلسفة بعينها، وتحديد موقعها بدقة داخل المسار الديالكتيكي للتاريخ البشري، ومثل هذه المعرفة الكاملة تكاد تكون مستحيلة في معظم الأحيان، ومن هنا كان التضارب في تفسير المذهب الفلسفي الواحد ظاهرةً لا يمكن أن تُوصف بأنها غير مألوفة بين الشُّراح الماركسيين؛ فكثيرًا ما يحدث أن يؤدي استخدام نفس المنهج — بالنسبة إلى نفس المذهب الفلسفي — إلى تفسيرَين متناقضَين عند اثنين يَصِف أحدهما هذا المذهب بأنه تقدُّمي، والآخر يصفه بأنه رجعي، أو خليط من هذا وذاك، وربما لم يكن ذلك راجعًا إلى قصورٍ في منهج التفسير نفسه، بقدْرِ ما يرجع إلى أن هذا المنهج يفترض — قبل الشروع في تطبيقه — معرفةً وافيةً بكل جوانب الإطار الاقتصادي والاجتماعي الذي يظهر المذهب في داخله، وهي معرفة كثيرًا ما يكون الوصول إليها أمرًا عسيرًا، فيكتفي الشارح بجزءٍ غيرِ وافٍ منها، ويقدِّم بذلك للمذهب الفلسفي تفسيرًا لا يدعمه أساسٌ كافٍ من المعلومات.
وعلى أية حال، فإن الرأي الماركسي القائل بوجود نوع من الاتصال في التاريخ الفلسفي، يقدِّم إلينا الجانب الآخر من العملة الذي كان يفتقر إليه الرأي الهيجلي، وأعني به الربط بين الفلسفة وبين سائر أوجه الحياة العينية للإنسانية، فكما أن هيجل أكَّد ضرورة الربط بين الفلسفة وبين جوانب الحياة الروحية في كل العصور، فإن الماركسيين ينبِّهون — من زاويتهم الخاصة — إلى أن الفلسفة لا تُفْهَم إلا داخل الإطار الشامل لحياة الإنسان المادية العينية.
وسواء أكان القارئ ممن يفضلون هذا الرأي أو ذاك، فالأمر المؤكَّد هو أن الاتجاه الحديث يميل على وجه العموم إلى رفض النظرة القائلة إن الفلسفة تتطور بقواها الذاتية الخاصة؛ فهي لا يمكن أن تكون ظاهرة منعزلة، وإنما هي تعكس وتلخِّص المجرى العام لحياة الناس وتفكيرهم في أي عصر من العصور، وبذلك ينبغي أن تسري عليها القوانين العامة التي تتحكم في تطوُّر هذه الحياة، وإن تكن علاقتها بالمظاهر الأخرى للحضارة تبلغ من التعقيد حدًّا لا يكون من السهل معه — في كثيرٍ من الأحيان — إدراكُ ارتباطِها بهذه المظاهر على نحوٍ مباشر، برغم علمنا بأن هذا الارتباط موجود على الدوام.