اليمين واليسار في الفلسفة١
ومنذ ذلك الحين أصبح لليسار معنًى جديد، معنَى معارضة الأوضاع القديمة السائدة، والسعي إلى تغيير ظروف الحياة في سبيل تحقيق مزيد من التقدُّم للمجتمع.
ولقد أردت بهذا التمهيد اللغوي والتاريخي أن أوضح كيف تغيَّر معنى اليسار في ضمير الإنسان من التعبير عن الانحراف المرذول إلى التعبير عن الرغبة الثورية في تغيير الأوضاع، وكيف أن اليمين الذي كان «مستقيمًا وصحيحًا»، وقد أصبح في ذهن الإنسان الحديث يعني الجمود والتخلُّف والاتجاه إلى المحافظة على أوضاعٍ عتيقة، ولهذا التحوُّل — دون شك — دلالة فكرية واضحة؛ فالمحافظة على القديم ظلت تُعَدُّ «صوابًا واستقامة» حتى جاءت فترة حاسمة في تاريخ الإنسان، مارست فيها إرادة التغيير نفسها في شكل ثورة كبرى أطاحت بعروش وطبقات اجتماعية ونُظُم كاملة في القيم، ومنذ ذلك الحين أصبح «اليسار» مبشِّرًا بالتقدُّم ومتطلعًا إليه، أما اليمين فهو دائمًا محافظ على ما هو قائم من الأوضاع.
•••
وفي وسعنا أن نستخلص من التمهيد السابق نتيجة هامة، هي أن المعنى الحديث للتقابل بين اليمين واليسار قد استُمِدَّ أصلًا من مجال السياسة، وارتبط منذ البداية بفكرة الصراع بين الطبقات، ويمكن القول إن هذا الأصل قد طبع هذا التقابل بطابعه الخاص حتى اليوم، وإن هناك نغمة سياسية — مباشرة أو غير مباشرة — من وراء كل مقارنة بين اليمين واليسار في أي مجال من المجالات.
ومعنى ذلك أن موضوع اليمين واليسار في الفلسفة يمس نقطة الاتصال بين الفلسفة والسياسة؛ فالفلسفة اليمينية هي التي تؤدي آخرَ الأمر إلى دعم القوى المحافظة في المجتمع، على حين أن الفلسفة اليسارية تتحدث بلسان القوى الثورية فيه.
وعلى الرغم من أن تعبير «الفلسفة اليمينية أو اليسارية» لم يُسْتَخْدَم على نطاقٍ واسعٍ إلا في الآونة الأخيرة، فإن الفلسفة قد عرفت منذ عهد بعيد مواقفَ يمكن أن ينطبق عليها هذا التعبير، مع شيء من التجاوز بطبيعة الحال؛ ذلك لأن تاريخ الفلسفة كان يشهد من آنٍ لآخرَ تياراتٍ مضادة يمكن أن يُوصف موقفها من الاتجاهات السائدة بأنه موقف يساري؛ فمنذ أقدم العهود كانت فلسفة هرقليطس — في دعوتها إلى التغيُّر الدائم — تتخذ موقفًا يمكن أن يُسمَّى يساريًّا بالقياس إلى فلسفاتٍ تؤكد فكرة الثبات كفلسفة بارمنيدس ومدرسته، كذلك كانت المذاهب المادية القديمة عند ديمقريطس — ومن بعده أبيقور ولوكريتيوس — تقف في تاريخ الفلسفة إلى يسار ذلك التيار الروحي الذي سيطر على جزء كبير من تاريخ الفلسفة اليونانية، ابتداءً من فيثاغورس إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو. وبالمثل نجد في بداية العصر الحديث اتجاهاتٍ فلسفيةً يمكن أن تُوصف بأنها «يسارية» إذا ما قُورنت بالأوضاع الفكرية «اليمينية» السائدة بين المفكرين اللاهوتيين في ذلك الحين، وإلا فكيف نصف المعارضة التي وجَّهها إلى التفكير التقليدي الموروث فلاسفةٌ مثل بيكن في حملته الشديدة على سلطة أرسطو والفلسفة المدرسية بأسرها، أو مثل ديكارت في تأكيده أن «العقل السليم أعدلُ الأشياء قسمةً بين الناس» أو اسبينوزا في تمجيده للعقل على حساب الوحي والإيمان؟ تلك كلها كانت — بالنسبة إلى الجو الفكري السائد في القرن السابع عشر — اتجاهاتٍ «يسارية» دون شك، حتى قبل أن يُعرف التقابل الحديث بين التفكير اليميني والتفكير اليساري.
على أن قضية اليمين واليسار في الفلسفة لم تُطْرَح بكل أبعادها إلا منذ القرن التاسع عشر، وربما أمكن القول إن معالمها لم تتضح كل الوضوح إلا في القرن العشرين، ولم تكن تطورات الفلسفة ذاتها — من حيث هي مبحث فكري قائم بذاته — هي التي أدَّت إلى ظهور هذه القضية، بل إن تطورات الأحداث السياسية والاجتماعية هي التي جرفت معها الفلسفة وفرضت عليها أن تواجه مشكلة اليمين واليسار بكل حدَّتها.
فما هي إذن عناصر هذه القضية؟ وما موقف طرفيها من كل هذه العناصر؟ لا شك أن الإجابة المفصَّلة عن هذا السؤال تقتضي عرضًا شاملًا لتيارات الفكر المعاصر؛ إذ إن هذه التيارات كلها قد تأثرت — بطريق مباشر أو غير مباشر — بالتقابل بين اليمين واليسار، ولكن هذا المقال لن يتسع بطبيعة الحال إلا لعرض موجز لأهم العناصر التي يظهر من خلالها التقابل بين اليمين واليسار في الفكر الفلسفي بأكبر قدْرٍ من الوضوح، ولا بُدَّ لنا أن ننبِّه — منذ البداية — إلى أنه ليس من الضروري أن تتوافر هذه العناصر كلها في فلسفةٍ معيَّنةٍ لكي تُوصف بأنها يمينية مثلًا، بل يكفي أن يتوافر منها البعض لكي ينطبق عليها هذا الوصف.
-
(١)
أول هذه العناصر يمثِّل نتيجةً مباشرة تترتب على ارتباط الفلسفة اليسارية بفكرة الثورة وتغيير الأوضاع.
فلكي يتغيَّر أي وضع — سواء أكان سياسيًّا أم اجتماعيًّا أم اقتصاديًّا — فلا بُدَّ أن تكون جميع عناصر هذا الوضع مفهومةً ومعقولة، ولا بُدَّ أن تكون قابلة للبحث والتحليل، وبعبارة أخرى فإن الثورة والتغيير تغدو مستحيلة لو ظل هناك أي عنصر غامض أو غير قابل بطبيعته للفهم، ومن هنا كانت الفلسفات ذات الاتجاه اليساري تميل إلى تأكيد فكرة المعقولية، وتحرص على تأكيد سيطرة الذهن على الطبيعة، وتنظر إلى العالم بكل مجالاته على أنه يخضع — أو يمكن نظريًّا أن يخضع — لقوانينَ منتظمة يستطيع العقل البشري أن يكشفها.
هذا الحرص على المعقولية هو الذي أدَّى بالفلسفة اليسارية إلى أن تتخذ في كثير من الأحيان موقفًا ماديًّا؛ ذلك لأن الدفاع عن المادية كان طوال تاريخ الفلسفة مرتبطًا بالرغبة في تأكيد قدرة العقل على فهْم العالم، وعدم وجود أي مجالٍ يعلو بطبيعته على سلطة الذهن البشري.
ولسنا نود أن نبحث الآن في مدى صواب هذه الفكرة أو خطئها، ولكن ما يعنينا هنا هو أن تاريخ الفلسفة كان يشهد — من آنٍ لآخر — مذاهبَ يؤكد أصحابها أن العقل لا يكون مطلق السلطة في العالم إلا في ظل فهْم مادي للظواهر، وأن النظرة المثالية إلى الأمور كفيلة بأن تحجب مجالات كثيرة عن سيطرة العقل، وتَحدُّ من قدرته على فهم العالم.
وهنا تظهر لنا صفة هامة من صفات التقابل بين المثالية والمادية، وهو التقابل الذي يعبِّر في كثير من الأحيان عن موقف اليمين واليسار في الفلسفة؛ فهذا التقابل لا يرجع إلى أسباب فلسفية خالصة بقدْرِ ما يرجع إلى أسباب عملية، وإذا كان اليساريون في الفلسفة يحملون على المثالية، فليس ذلك راجعًا إلى أنها لا تقنعهم بوصفها مذهبًا فلسفيًّا، بقدْرِ ما هو راجع إلى أنها في نظرهم طريقة في تفسير العالم تترك جوانبَ كثيرةً منه بمنأى عن قدرة الإنسان في تغيير الأحداث والتحكم في مجراها؛ فحين يكون العالم «فكرة»، وحين يكون الجانب المادي من حياة الإنسان ضئيلَ الأهمية بالقياس إلى جوانبها الروحية، يكون معنَى ذلك — في نظر أنصار الفكر اليساري — أن الفلسفة ستهمل شأن العوامل العينية الملموسة في حياة المجتمع، ولا سيما الاقتصادية منها، وحين يسود الاعتقاد بأن تجرِبة العقل البشري قاصرة محدودة، وبأن هناك قوًى حدسية أو صوفية أقدرَ من العقل على إدراك «ماهية العالم»، يكون معنَى ذلك — من الوجهة العملية — تقييد إرادة التغيير في الإنسان، والحد من قدرته على التحكم في مجرى الحوادث، وبعبارة أخرى فليس اليساريون — في نقدهم للاتجاهات المثالية والصوفية والحدسية — بأقل حرصًا على الجوانب «الروحية» في حياة الإنسان من اليمينيين، وكلُّ ما في الأمر أنهم يحرصون على أن تكون لهم فلسفة تقدِّم للعالم أوضح الصور وأكثرها معقولية، وبالتالي تتيح أكبر مجال لفاعلية الإنسان وقدرته على التغيير.
-
(٢)
ومن أهم الصفات المميِّزة للفلسفات التي يمكن أن يُطْلَقَ عليها اسم «اليمينية»، أنها تبحث في مشكلاتٍ لا تتقيَّد بزمانٍ معيَّن أو مكان معيَّن؛ فموضوعات بحْثها «أزلية»، ومعيار الصدق عندها هو الثبات والعلو على عوامل التغيُّر.
ومن جهةٍ أخرى فإن الفلسفة اليسارية تؤكد فكرة التغيُّر والحركة، وتحرص على ربط كل ظاهرة بسياق زماني أو مكاني محدد، ولا شك أن التضاد بين هذين الاتجاهين الفلسفيين — في هذا الصدد — واضحٌ كل الوضوح؛ إذ إن هناك تيارًا فلسفيًّا كاملًا ما زال متأثرًا — ولو بطريق غير مباشر — بالتراث الأفلاطوني الذي ينظر إلى الحركة على أنها نقص، ويَعُدُّ التغيُّر مظهرًا من مظاهر البطلان، وفي مقابل ذلك نجد أن هناك فلسفات كاملة — في الجانب اليساري — تركز جهودها في بحث قوانين حركة التاريخ وتطوره، أي إن غايتها هي دراسة قوانين نفس الظاهرة التي تَعُدُّها الفلسفة التقليدية تعبيرًا عن النقص أو البطلان.
ومن المؤكد أن لفكرة الأزلية إغراءً خاصًّا للفيلسوف، الذي يعتقد أن من أعظم مظاهر الحكمة أن يبحث العقل مشكلاتٍ لها صفة الدوام والبقاء لا مشكلاتٍ متغيرة، ويظن أن ما يستحق التفكير فيه بحق هو الأمور التي تفرض نفسها على كل عقل بشري أيًّا كان مكانه أو زمانه؛ ففكرة أزلية المشكلات الفلسفية وثباتها هي إذن فكرة ترضي إلى أبعدِ حدٍّ كبرياء الفيلسوف وتقنعه بخطورة رسالته في الحياة، ومع ذلك فإن تلك الفئة الأخرى من المفكرين الذين يُدْرجون ضمن أصحاب الفلسفات اليسارية، ينظرون إلى هذا الأمر من زاوية أخرى؛ ففكرة الأزلية لم تُقْحَم في مجال الفلسفة — في رأيهم — لأغراضٍ نظرية بحتة، وإنما كان الغرض من إقحامها عمليًّا في نهاية الأمر؛ إذ إن تأكيد الأزلية يعني تثبيت القيم الموجودة بالادعاء بأنها جزء من النظام الثابت للكون، وبذلك تكون مهمة الفلسفة اليمينية — دون أن تشعر — هي أن تبرِّر المظالم الموجودة وتقطع على الناس طريق التفكير في تغييرها.
-
(٣)
على أنه إذا كانت المشكلات الفلسفية أزلية ثابتة بطبيعتها، فإن حلولها — في نظر الفلسفات اليمينية — كثيرةٌ متعدِّدة؛ فالمشكلة واحدة على مر العصور، ولكن كل مذهب وكل فيلسوف يأتي لهذه المشكلة الواحدة بحلٍّ مختلف، ومن هنا كان تعدُّد المذاهب وكثرتها أمرًا طبيعيًّا في الفلسفة التقليدية، بل لقد أصبح هذا التعدُّد أمرًا مسلَّمًا به، يُقْبَل دون مناقشة، كما لو كان جزءًا من ماهية الفلسفة ذاتها؛ فالفلسفة — تبعًا لهذه النظرة التقليدية — مبحثٌ يظل يعالج نفس المشكلات — أو مشكلات متقاربة — إلى ما لا نهاية، وهي بطبيعتها مبحثٌ لا يتوقَّف عند حد، ولا يصل إلى حلول، وإنما هو سعي متواصل وراء غايةٍ لا تُبْلَغ، وربما كان في نظر البعض سعيًا بلا غاية، ومن هنا كانت الفلسفة التقليدية — أعني الفلسفة التي تُوصف بأنها «يمينية» — تتبدَّى على صورة زاخرة ثرية إلى أبعد حدود الثراء؛ ففيها مئات المذاهب والتيارات الرئيسية والفرعية، وهي لا تكُفُّ أبدًا عن التنوُّع والتشعُّب، بحيث تبدو دائمةَ التجدُّد، وتظهر لها على الدوام صورة مغايرة لصورها المألوفة.
وفي مقابل ذلك، يرى أنصار الاتجاهات اليسارية في الفكر الفلسفي أن هذه الكثرة في المذاهب والتيارات الفلسفية، وإن كانت ترضي الذهن لأول وهلة، فإنها تبدو للعقل الفاحص علامةَ ضَعف لا قوة؛ ذلك لأن الفلسفات التقليدية لا تتعدَّد إلا لأن قوامها فكر خالص يتعامل مع نفسه فقط، وحين يقتصر الفكر على التعامل مع نفسه، ولا يرتبط بواقعٍ يضبطه، أو بحقيقة عينية تكبح جماحه، فعندئذٍ تصبح كثرة المذاهب وتعدُّد وجهات النظر أمرًا طبيعيًّا، إن الفكر المنطلق بلا قيود لا بُدَّ أن تتشعَّب مسالكه؛ إذ لا يوجد شيء يقف في وجهه، ويمنعه من أن يسلك أي طريق يشاء، ولكن لنفرضْ أننا قيدنا هذا الفكر إلى الأرض، وأرغمناه على مواجهةِ مشكلاتٍ ملموسة، وعلى أن يجد لهذه المشكلات حلًّا قابلًا لأن يُختَبر في الواقع العملي، فهل سيظل هذا الفكر محتفظًا بتعدُّد اتجاهاته؟ من الطبيعي أن التصاق الفكر بالواقع وتقيُّده به لا بُدَّ أن يؤدي إلى القضاء على هذا التعدُّد؛ إذ يختبر الفكر ذاته من خلال الواقع، ويظل يستبعد أخطاءه واحدًا بعد الآخر حتى يستقر على اتجاه واحد لا يحيد عنه إلا في أضيق الحدود.
والواقع أن مسألة كثرة المذاهب وتعدُّدها كانت منذ البداية «لعبة» مسلَّمًا بها في الفلسفة، وكان على المشتغلين في هذا الميدان — منذ أقدم عهوده — أن يسلِّموا مقدمًا بقواعدِ هذه اللعبة ويقبلوها على ما هي عليه، وأن يمارسوها بدورهم عن طريق إضافة الجديد من المذاهب، أو تنويع وتفريع القديم منها، ولكن ماذا لو اعترض المرء على قواعد اللعبة ذاتها، وأكد أن الفلسفة ينبغي ألا تتعدَّد مذاهبها، وأنها يجب أن تستقر آخرَ الأمر على اتجاه واحد، أو على منهج واحد على الأقل؟ تلك وجهة نظر موجودة بصورة ضمنية في الفلسفة اليسارية؛ فتعدُّد المذاهب — في نظر أصحاب هذه الفلسفة — ترفٌ لا معنَى له، وهو إذا دلَّ على شيء فإنما يدُل على أن الفلسفة التقليدية ستظل تبني قصورًا في الهواء إلى ما لا نهاية، وأن الفكر — إذ يبتعد عن الواقع وعن المشكلات الفعلية التي يواجهها الإنسان في العالم المحيط به — لن يجد ما يَحُدُّ من انطلاقه في أي اتجاه يحلو له أن يسير فيه، أما إذا قُيِّدَ الفكر نفسه بمشكلاتٍ حقيقية ملموسة، فسوف يختفي هذا التعدُّد تلقائيًّا، ولن تعود هناك سوى فلسفة واحدة، هي تلك التي تصلح منهجًا لاستطلاع آفاق عالمنا الحقيقي.
-
(٤)
ولكن ما هي النتيجة التي تترتَّب على تعدُّد المذاهب في الفلسفة اليمينية التقليدية؟
لقد استطاعت هذه الفلسفة أن تبني لنفسها تراثًا ضخمًا يرجع إلى أكثرَ من ألفي عام، وظل هذا التراث يتراكم ويزداد تشعُّبًا وتنوُّعًا على الدوام، وكل جديد يظهر في هذه الفلسفة في عالم اليوم، يُضاف إلى ذخيرة هائلة من المشكلات والحلول والآراء، ظل الفكر الفلسفي محتفظًا بها على مر القرون، وخلال هذا التاريخ الطويل كان الفكر الفلسفي التقليدي يزداد دقةً وعمقًا بالتدريج، حتى أصبح له أسلوبه الشديد التعقيد، ومصطلحه العظيم الدقة، وتميَّز بقدرة فائقة على التجريد والتحليل العميق؛ فليس في وُسع أحد أن ينكر أن الفلسفة التقليدية قد أفلحت في تكوين جهاز فريد من نوعه من المصلحات والتعبيرات التي تزداد عمقًا على الدوام، وما زالت حتى اليوم تزيد هذا الجهاز المحكم دقةً وإحكامًا.
على أن الفلسفة اليسارية لا تتمتَّع بميزة كهذه على الإطلاق؛ فهي فلسفة لا تراث لها، «مقطوعة من شجرة» على حد التعبير الشائع، ومن هنا كانت تفتقر إلى القدرة على تقديم المصطلحات الدقيقة وتنويع الحجج العميقة واستخدم أسلوب مرهف حسَّاس لأقل فرْق في وزن معاني الألفاظ.
وعلى حين أن الفلسفة اليمينية التقليدية قادرة على النمو والتشعُّب — في اتجاه العمق — إلى ما لا نهاية، فإن الفلسفة اليسارية محكومٌ عليها بألا تتحرك في هذا الاتجاه إلا في أضيق الحدود، وأن نظرة واحدة يلقيها المرء إلى كتاب مثل «الوجود والزمان» لهيدجر أو «نقد العقل الديالكتيكي» لسارتر (والكتاب الأخير يميني الشكل وإن كان يساري المضمون، أي إن طريقة مؤلفه في كتابته تنتمي إلى صميم التراث التقليدي اليميني، ولم يكتسبها سارتر إلا بفضل جذور هذا التراث في أسلوبه)، لكفيلةٌ بإيضاح مقدار التعقُّد الهائل الذي اكتسبه الجهاز اللفظي للفلسفة التقليدية بعد كل ما مر به من التطوُّرات، وهو تعقُّد لا نجد له أي نظير في الكتابات اليسارية، بما تتسم به من بساطة شديدة تصل إلى حد السطحية أحيانًا.
ومع ذلك فالمسألة في نظر اليساريين ليست مسألة عمْق وسطحية، أو تعقُّد وبساطة فحسب، بل إن هناك عواملَ أخرى ينبغي أن يُحْسَبَ حسابُها في المقارنة بين هذين الاتجاهين؛ فالعمق الفكري الذي تتبدى عليه الفلسفات اليمينية، والقدرة المعجِزة على استخدام الألفاظ والتصوُّرات والحجج، وعلى التوغُّل المذهل في التجريد؛ كل ذلك إنما يرجع إلى أن هذه الفلسفة تكوِّن لنفسها عالَمًا قائمًا بذاته، ظلت تعيش فيه آلاف السنين، فعرفت كل دروبه ومسالكه الخفية، ولكنها لم تعرف مع كل ذلك كيف تخرج من سجن التجريد الذي حَبَسَتْ نفسها فيه؛ فموقف الفيلسوف التقليدي — في هذا الصدد — إنما هو امتداد لموقف «الساحر»، الذي يظن أن كلماته وتعاويذه ستغيِّر الأشياء، مع أن هذه الكلمات والتعاويذ محصورةٌ في عالمها الخاص، ولن يتسنى لها أن تخرج عنه مهما أطال الساحر ترديدَها وتَكرارها، أما الفلسفة اليسارية فهي في رأي أصحابها تقف من الألفاظ موقف «العالم» الذي لا يستخدم الكلمات إلا لأنها تتصل بالوقائع وتستمد منها وتلخِّصها، وبالتالي تقدِر على التأثير فيها، وقد تكون حصيلته من الألفاظ والتعبيرات — نتيجةً لذلك — أضيقَ نطاقًا بكثير، ولكن ذلك إنما يرجع إلى استبعاده للمشكلات الوهمية وللتعبيرات التي ترمي فقط إلى إظهار قدرة العقل على التجريد، واقتصاره في استخدامه للغة على ما يتصل منها بالواقع ويسهم في عملية تغييره.
-
(٥)
ولعل أهم الصفات التي تفرِّق بين مفهوم الفلسفة اليميني التقليدي ومفهومها اليساري الثوري، هو أنها في الحالة الأولى مبحث ذو كِيان مستقل، على حين أنها في الحالة الثانية مبحث مندمج في مجالاتٍ أكثرَ واقعية وعينية من المجال الفلسفي التقليدي، وتلك صفةٌ تؤدي إليها المقارنات السابقة كلها، سواء منها ما تعلَّق بمسألة الأزلية أو التغيُّر، وبمسألة كثرة المذاهب أو وحدتها، وبمسألة تعقُّد الأسلوب الفلسفي أو بساطته؛ فالفلاسفة التقليديون ينظرون إلى الفلسفة كما لو كانت بناءً قائمًا بذاته، مستقلًّا عن غيره، وهي في رأيهم مبحث نظري بحت، لا يحتاج إلى الارتباط بأي مجال عملي، بل إن المسائل العملية — كأبحاث الأخلاق والسياسة — إذا كان لها مجال في مذاهبهم الفلسفية فإنما يكون ذلك بوصفها نتائجَ ضروريةً للمقدمات النظرية التي تنطوي عليها تلك المذاهب، وبعبارة أخرى فمدار البحث في الفلسفة التقليدية هو المسائل النظرية، التي تكوِّن بناءً متكاملًا مكتفيًا بذاته، يستطيع إذا شاء أن يستقل عن كلِّ ما عداه.
أما الفلسفة اليسارية فلا تعترف إلا بالمسائل التي تربط الفكر بالمشكلات الفعلية للمجتمع والناس؛ فالمسائل الميتافيزيقية المجردة — كالبحث في الوجود الخالص أو المقولات الشاملة — ليس لها مكان في مثل هذه الفلسفة، وإنما يدور البحث فيها حول مسائلَ كقوانين التطوُّر التاريخي أو الطبيعي، وقد يزداد تغلغلًا في المجال العيني فيتناول مسائلَ تدخل في مجال علم الاقتصاد السياسي أو علم الاجتماع، ولا شك أن هذا يؤدي إلى تضييقٍ واضحٍ لمجال الفلسفة؛ إذ تقتصر في هذه الحالة على المسائل التي تمس الجوانب العملية مساسًا مباشرًا، وتستبعد منها كثيرًا من المشكلات التي كانت — ولا تزال — تكوِّن جزءًا لا يتجزأ من «بضاعة» الفيلسوف التقليدي.
ومع ذلك، ففي مقابل تضييق نطاق الفلسفة على هذا النحو، نجد أنها تشارك — عند أصحاب الاتجاهات اليسارية — في صنْع التاريخ وفي تغيير أحوال المجتمع، أي إنها تنتقل من حالة التفكير النظري البحت إلى حالة التطبيق العملي الفعلي، وتضع لنفسها أهدافًا تسعى إلى تحقيقها بالفعل، ولا تكتفي بتأملها من بعيد فحسب.
والواقع أن الثورة على الطابع النظري الجاف للتفكير الفلسفي التقليدي لم تقتصر على الأوساط اليسارية المعروفة فحسب، بل لقد شاركت فيها مصادر بعضها — من الوجهة السياسية — يميني النزعة إلى أبعد حد، وبعضها يقف بمعزِل عن اليمين واليسار؛ لأن فلسفته لا تزعم أنها تتخذ هذا الموقف السياسي أو ذاك، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد تلك الحملة القاسية التي وجَّهها الفيلسوف الألماني «نيتشه» إلى الفيلسوف التجريدي الخالص بوصفه نمطًا مشوَّهًا من البشر، وكذلك المحاولات العديدة التي تبذلها مذاهبُ كالبرجماتية والوضعية القديمة والحديثة، لاستبعاد المشكلات الميتافيزيقية الخالصة من مجال الفلسفة، وهكذا تمتد الثورة على الطابع النظري المفرط للفلسفة حتى تشمل أوساطًا خارجة عن «اليسار» بمعناه المألوف، تتفق معه في الجانب السلبي من نظرته إلى الفلسفة، أعني في الحملة على إغراق الفلسفة التقليدية في التجريد.
بل إن البعض ليذهب في الثورة على هذه الأوضاع إلى حد القول بأن في الفلسفة التقليدية شيئًا ينتمي إلى باب الظواهر المريضة أو المعتلة؛ فهذه الفلسفة تدرس المعرفة — مثلًا — على أنها «مشكلة»، لا على أنها «أمر واقع»، وبذلك تضيع جهودها في دراسة المشكلة ومحاولة الإتيان بحل لها، بدلًا من أن تكرس هذه الجهود لتنمية المعرفة وتوسيعها بعد أن تسلِّم مقدمًا بوجودها، وهي تدرس الأخلاق على أنها مشكلة نظرية بدورها، فيحاول كل مذهب أن يأتي بقاعدة عقلية للسلوك، ولكن دون أن تفلح مذاهبُ الأخلاق النظرية كلها — منذ نشأتها إلى اليوم — في تغيير السلوك الفعلي للناس أو التأثير فيه على أي نحو، على حين أن أكثر الناس تأثيرًا في سلوك البشر هم أبعدهم عن الادعاء بأنهم أصحاب مذاهب «أخلاقية» فلسفية، وأقلهم كلامًا عن قواعدِ السلوك، وهي تدرس المناهج العلمية بعد أن تكون هذه المناهج قد وُضِعَت، وربما بعد أن يتجاوزها العلم ذاته ويتخطاها، وبذلك لا تؤدي دراستها لها إلى تقدُّم العلم خطوة واحدة إلى الأمام، وما هذه إلا أمثلة قليلة تَدُل على أن الفلسفة — في طابعها النظري التقليدي — يمكن أن تدرس بوصفها استخدامًا «مُرْضيًا» للعقل البشري، يتخذ فيه التجريد غاية في ذاتها، دون محاولة لتبيان مدى صلاحية هذه التجريدات للانطباق على الواقع والحياة.
ولو شئنا أن نعبِّر عن هذه الصفة بلغة هيجلية، لقلنا إن التفكير الفلسفي يمثِّل نوعًا من «الاغتراب»، وإن الفيلسوف النظري إنسان مغترب؛ لأنه يمارس نشاطًا ناقصًا مشوهًا مقتلعًا من جذوره، وإن حياة التأمُّل الفلسفي — تلك الحياة التي رأى فيها أرسطو أكمل غاية يستطيع أن يحققها الإنسان — إنما هي حياة غير طبيعية، مقتطعة من سياقها.
فالفيلسوف النظري يتخذ موقفًا غيرَ مكتمل العناصر، ويحيا بأفكاره وفي أفكاره ولأفكاره، ناسيًا أن حوله عالمًا كاملًا يدعوه إلى تطبيق هذه الأفكار عليه، وإلى تجاوز حالة «الاغتراب» التي يعيش فيها بأن يكون إنسانًا متكاملًا لا إنسانًا «نظريًّا» فحسب، ولن يكون هذا التجاوز إلا بإعادة الفلسفة إلى سياقها الطبيعي الذي تكون فيه أداةً لحل المشكلات الفعلية للإنسان والمجتمع.
مصير الفلسفة بين اليمين واليسار
والآن — وبعد أن رسمْنا تلك الصورة المجملة للعناصر الرئيسية في التقابل بين الطريقة اليمينية والطريقة اليسارية في التفكير الفلسفي — فما زالت أمامنا مسألةٌ على أعظم جانب من الأهمية، هي أن نحاول استخلاص ما يترتب على هذا التقابل من نتائجَ بالنسبة إلى مصير الفلسفة في المستقبل.
والأمر الذي يبدو بكل وضوح هو أن الفلسفة تقف اليوم في مفترق للطرق، يتعيَّن عليها فيه أن تقوم بعملية اختيار حاسمة، فإذا شاءت أن تحتفظ بكيانها المستقل، فعليها أن تتمسك بوجهة النظر اليمينية التقليدية.
ذلك أن الكثيرين يعتقدون أن قضية الفلسفة مرتبطة باليمين ارتباطًا وثيقًا، وأن مصيرها متوقف عليه؛ ففي اليمين — كما رأينا من قبل — نجد المذاهب المتشعِّبة المتعدِّدة، ونجد ازدهارًا حقيقيًّا للفكر الفلسفي، وتنوُّعًا غنيًّا لكل جوانبه، وفي المذاهب اليمينية تبلغ اللغة الفلسفية أقصى درجات الدقة، وتصل إلى أعماقٍ تعجز قطعًا عن بلوغها في أي مذهب يساري، وعند الفلاسفة اليمينيين وحدَهم يكون للفلسفة كيانها المستقل، بحيث يبدو بحق أن استمرار الفلسفة — بوصفها مبحثًا قائمًا بذاته — متوقِّف على استمرار الطريقة اليمينية التقليدية في التفلسف.
ومع ذلك، فالفلسفة اليمينية لا تحقق شيئًا، ولا ترتبط بالمشكلات الحقيقية التي تواجهها الجموع الكبيرة من البشر في حياتها الفعلية، ولا تسهم بأي دور في تحقيق رغبة الإنسان الدائمة في تغيير المجتمع المحيط به، والثورة على أي وضعٍ ظالم يجد نفسه فيه.
ومن المؤكَّد أن المذاهب اليسارية هي وحدَها التي تتصدى لتحقيق هذه الغاية، وتأخذ على عاتقها مهمة استخدام الفلسفة أداةً تساعد الإنسان على فهْم السياق التاريخي والاجتماعي الذي يعيش فيه، وبالتالي على تغيير أوضاع حياته وتحقيق المزيد من التقدُّم فيها.
ولكن هذه الفلسفة اليسارية — من جهةٍ أخرى — تبدو منتهية إلى طريق مسدود، فلنفرضْ أننا وصلنا بالفعل إلى منهجٍ مستقر تستعين به الفلسفة على فهْم مشكلات الإنسان فهمًا حقيقيًّا، وتقضي به على تعدُّد وجهات النظر الذي ظل ملازمًا لها منذ البداية، فما الذي يمكن أن يحدث في مجال الفلسفة بعد ذلك؟ سيتوقف سير الفلسفة، ولن يكون أمامها بعد ذلك شيء تفعله سوى أن نطبِّق منهجها على مجالاتٍ أخرى غير مجالها الأصلي، فيؤدي بها ذلك إلى أن تذوب وتنصهر في هذه المجالات، وأقصى ما يمكنها أن تفعله — لكي تحتفظ بشيءٍ من دماء الحياة — هو أن تدرس تاريخها السابق، وتتحول إلى «تاريخ لتطور الفكر البشري»، ولكن مثل هذه الدراسة التاريخية لن تكون بطبيعة الحال «فلسفة» قائمة بذاتها.
هذا إذن هو المصير الذي يبدو أنه ينتظر الفلسفة في عصرنا هذا؛ فهي إذا شاءت أن تظل مزدهرة منتعشة بين المذاهب اليمينية، كان عليها أن تدفع لذلك ثمنًا غاليًا، هو أن تظل على هامش الحياة الفعلية للناس، أي تظل نشاطًا تجريديًّا صرفًا، يعجز عن الفعل ولا يقبل التحقيق أو التطبيق، وهي إذا اختارت أن تعمل شيئًا، أي أن تحقق ذاتها وتخوض مشكلات الإنسان الفعلية، وتسهم بدور حقيقي في حياة الناس — كما يريد أصحاب الاتجاه اليساري — فإنها ستقضي على كيانها المستقل، وستندمج وتذوب في عشرات من الدراسات الأخرى، ولا تعود مبحثًا قائمًا بذاته، وبعبارة أخرى فإن على الفلسفة أن تختار بين أحد أمرين: إما أن تحتفظ بكيانها الخاص، وتظل عاجزة عن التأثير في الواقع أو القيام بدورٍ في تغييره، وإما أن تحقق ذاتها في الواقع، وتقضي على ذاتها بالاندماج في الكل الأشمل الذي يمثِّل هذا الواقع.
فهل كُتِبَ على الفلسفة إذن ألا تظل حية إلا بوصفها مشروعًا فكريًّا لا يتحقق، على حين أنها لو انتقلت إلى مجال الفعل لما ظلت قائمة بوصفها «فلسفة»؟ وهل يتعين عليها أن تعيش بوصفها «حالة اغتراب»، بينما لو تكاملت مع بقية عناصر الإنسان والمجتمع، وقضَت على هذا الاغتراب لقضَت في الوقت نفسه على ذاتها؟ أليس لها مفرٌّ من الاختيار بين حياة عقيمة وبين موت مثمر؟
هكذا — بالفعل — يبدو وضع الفلسفة الآن بين اليمين واليسار، والصورة كما نرى قاتمة، ولكنها في اعتقادي هي الأقرب إلى الحقيقة، ولكم وددت لو استطعت أن أختم هذا المقال بكلمة تفاؤل، فأقول إن الفلسفة سوف تتمكَّن يومًا ما من الجمع بين فاعلية اليسار وإيجابياته وبين عمق اليمين وتنوُّعه، ولكني لا أملك إلا أن أقول إن هذا الجمع لو كان سيتحقق في وقتٍ ما، فإن بوادره لم تظهر بعدُ حتى اللحظة الراهنة من تاريخ العالم على الأقل.