القومية والعالمية في الفكر الفلسفي١
إذا كانت «الشخصية» هي مجموع الصفات التي يُعْرَف بها الفردُ ويتميَّز بها عن غيره من الأفراد، فإن «الفلسفة» هي مجموع الخصائص التي تتميز بها الأمة وتحدِّد معالمها الخاصة وسط الأمم الأخرى، وبهذا المعنى يمكننا أن نصف الفلسفة بأنها «شخصية الأمة» وركن أساسي من أركان قوميتها.
ففي كل فلسفة إذن عنصر قومي لا يمكن إنكاره، ولكنَّ فيها أيضًا عنصرًا عالميًّا، يخاطب الإنسان بما هو إنسان، لا من حيث هو فرد في هذه الأمة أو تلك، ومن هنا كان من الطبيعي أن يثور الجدال حول العلاقة بين هذين العنصرين، وأن تشتد الخلافات بين أنصار القومية وأنصار العالمية في مجال الفلسفة، مثلما اشتدت في مجالاتٍ أخرى متعدِّدة، ولسنا نود في هذا المقال أن نضيف وقودًا جديدًا إلى هذه الخلافات المستعرة، وإنما نود أن نُسْهِمَ في إلقاء بعض الضوء على هذه المشكلة، عن طريق تحديد بعض المفاهيم الرئيسية المستخدمة فيها، وتحليل المعاني الحقيقية لمختلف الآراء التي تُساق في هذا الشأن، وإيضاح معالم بعض التجارِب التي سبقتنا في هذا الاتجاه من أجل الاسترشاد بها في توجيه تجربتنا الخاصة.
وفي رأيي أن أفضل بداية لبحث موضوعٍ كهذا هي البداية التاريخية.
فمن الممكن أن تتحدَّد معالمُ المشكلة بمزيد من الوضوح إذا استعرضنا الطريقة التي نشأت بها بعض الفلسفات القومية، والعلاقات التي كانت تجمع بينها وبين الفلسفات القومية الأخرى التي اتصلت بها على نحوٍ ما، وسوف نتناول من النماذج الرئيسية ما يعيننا على استخلاص أهم النتائج التي نود الوصول إليها في هذا المقال، دون أن نحاول — بطبيعة الحال — تقديمَ عرض شامل لمختلف الفلسفات القومية.
-
(١)
لا شك أن أول نموذج يفرض نفسه على ذهن الباحث في موضوعٍ كهذا هو الفلسفة اليونانية؛ فعلى أرض اليونان ظهرت — منذ خمسة وعشرين قرنًا — فلسفةٌ ناضجة غنية لها معالمها القومية الواضحة، وهذا الطابع القومي للفلسفة اليونانية هو ما أجمع عليه مؤرخو هذه الفلسفة، سواء منهم من يؤمن بالحتمية ومن لا يؤمن بها، ومَن يجعل هذه الحتمية تاريخية أو جغرافية أو اقتصادية؛ فالكل — على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية — يتفقون على شيء واحد، هو أن الفلسفة اليونانية نتاجٌ يوناني صميم، وأنها تعبير عن «عبقرية» الأمة اليونانية القديمة، وما كان لها أن تظهر إلا في هذه الأمة على وجه التحديد.
ومع ذلك، فهل كان الطابع القومي الواضح الذي تتصف به هذه الفلسفة حائلًا بينها وبين التأثر بشتَّى التيارات الفكرية التي كانت سائدة في عصرها وفي العصور السابقة عليه؟ إن الرأي الذي أصبح الاتفاق يكاد يكون منعقدًا عليه بين الباحثين في هذا الموضوع، هو أن الفلسفة اليونانية قد استمدَّت عناصرَ أساسية من حضارات الشرق القديم، وأنها أدمجت في داخلها كلَّ ما انتقل إليها عن طريق الاتصال الحضاري من علم هذه الحضارات وتجارِبها وأفكارها، بل وعقائدها في بعض الأحيان.
ومن جهةٍ أخرى، فقد اندمجت الفلسفة اليونانية في التراث الغربي التالي اندماجًا وثيقًا، وأصبحت تكوِّن أصلًا مؤكدًا لتلك الحضارة التي تُعْرَف اليوم باسم الحضارة الغربية؛ فمنذ أوائل العصر الحديث، بدأت حركة الإحياء الضخمة لتعاليم الفلسفة اليونانية، ولكن أين حدث هذا الإحياء؟ لقد حدث في بيئاتٍ وفي ظروفٍ اجتماعية تختلف كلَّ الاختلاف عن بيئة اليونانيين القدماء وظروفهم الاجتماعية، فأين دولة المدينة Polis اليونانية القديمة من الدولة الأوروبية الحديثة المعقدة؟ وأين الحياة اليونانية البسيطة من الحياة الحديثة المعقدة؟ ومع ذلك ما زال الكُتَّاب الغربيون المحدَثون يتخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين مرشدًا لهم في حل كثير من مشكلاتهم، وما زالوا يؤمنون إيمانًا عميقًا بانتمائهم فكريًّا إلى هؤلاء القدماء، أو بأن حضارتهم الحديثة قد استمدَّت مجموعة من أهم عناصرها من طريقة تفكير هذه المجموعة الصغيرة من الدويلات التي عاشت منذ خمسة وعشرين قرنًا. -
(٢)
ولنتناولْ نموذجًا آخرَ مألوفًا لدينا، هو الفلسفة العربية، هذه الفلسفة التي صاغت لنفسها مصطلحاتها الخاصة، وحدَّدت لنفسها مشكلات كان بعضها (كمشكلة العلاقة بين العقل والنقل أو بين الحكمة والشريعة) أصيلًا فيها كل الأصالة، قد اصطبغت بصبغة محلية وقومية لا شك فيها، ومع ذلك فإن القوة الدافعة الأولى لظهور هذه الفلسفة كان تأثُّر المفكرين العرب بمؤلفات اليونانيين القدماء عندما نُقِلَت إلى لغتهم، ومن جهةٍ أخرى فإن هذه الفلسفة عندما نضجت وقدَّمت إلى العالم مؤلفاتٍ أصيلةً وشروحًا عميقة على أعمال كبار الفلاسفة اليونانيين قد انتقلت إلى الفكر الغربي وكانت دعامة أساسية من دعائم تلك النهضة العقلية والعلمية التي تميزت بها أوروبا منذ أوائل العصر الحديث، وفي الحالتين لم يكن الطابع القومي للفلسفة العربية حائلًا بين العرب وبين الأخذ بتوسُّعٍ من غير العرب، ولم يحاول أحد — في تلك العصور الغابرة — أن يضع تعارضًا بين القومية وبين التأثُّر بأفكار الأمم الأخرى، أو أن يحمل على هذا التأثُّر بحجة أنه إقحام لعناصر «دخيلة» لا صلة لها بالظروف الخاصة للبيئة التي تَحُل فيها.
-
(٣)
وأخيرًا فقد نشأت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فلسفةٌ ألمانية واضحةُ المعالم، كان أعظم أقطابها «كانْت» وشلنج وفشته وشوبنهور وهيجل، وكانت لهذه الفلسفة خصائصُها المميِّزة لها عن سائر الفلسفات المعروفة في ذلك الحين؛ فهي فلسفة مثالية تفسِّر العالَم كلَّه من خلال مقولات ذهنية أو فكرية، وهي بذلك تكوِّن تيارًا متميزًا لم يُعرف بمثل هذا الوضوح إلا بين مفكري الأمة الألمانية وحدَها، وفضلًا عن ذلك فقد دعا كثير من أنصار هذه الفلسفة إلى القومية الألمانية صراحة، واشتهر من بينهم في هذا الصدد فشته وهيجل بوجه خاص، ومع ذلك فهل يمكن أن تُفْهَم هذه الفلسفة — ذات النزعة القومية الواضحة — بمعزِل عن التيار الفكري الذي بدأه ديكارت، وأضفى عليه اسبينوزا صبغة كونية شاملة، وحوَّله هيوم في اتجاه الشك بوجود واقع صلب يطابق المفاهيم الفكرية؟ ومن جهةٍ أخرى فإن تأثير هذه الفلسفة الألمانية لم يقتصر على مفكرين ممن ينتمون إلى نفس قوميتها، بل امتد إلى اتجاهات فكرية ظهرت في بلدانٍ لا تربطها بالقومية الألمانية صلة وثيقة، كما في الوجودية الفرنسية المعاصرة التي ترجع جذورها الأولى إلى تلك الفلسفة الألمانية، وكما في الماركسية — وهي فلسفة لا قومية — ترتبط في أصلها بمثالية هيجل أوثقَ الارتباط.
فما هو إذن الدرس الذي يعلمنا إياه التاريخُ كما عرضناه في الأمثلة الثلاثة السابقة، التي ينتمي أحدها إلى التاريخ القديم، والثاني إلى الوسيط، والثالث إلى الحديث؟ إن النتيجة الواضحة التي تؤدي إليها دراسة هذه الأمثلة، هي زيف التعارض الحاد الذي يقول به الكثيرون بين القومية والعالمية؛ فأشد الفلسفات تأثيرًا — على النطاق العالمي — وأَطْوَل الفلسفات بقاءً خلال الزمان، هي فلسفاتٌ نشأت في ظروفٍ قوميةٍ معيَّنة، واصطبغت بصِبغة محلية خاصة، ولكن الإنسان عرف كيف يجد فيها أفكارًا تتجاوز نطاق الأصل الذي نشأت منه، وتعلو على حدود الوطن الذي ظهرت فيه، ومن المؤكد أن الفكرة التي نقول بها — وأعني بها عدم التنافُر بين القومية والعالمية — تزداد دعائمها رسوخًا بمضي الزمان؛ إذ إن التجارِب الإنسانية تزداد على الدوام تقاربًا بفعلِ عواملَ تكنولوجية وحضارية لا نجد ما يدعونا هنا إلى الإشارة إليها؛ لأنها معروفة ومألوفة للجميع؛ فالفواصل والحواجز الفكرية بين الأمم تتساقط بالتدريج، والاتجاه العقلي أو الفني أو الأدبي الواحد يفرض نفسه على بيئاتٍ متباينةً كلَّ التباين، وينتشر في أرجاء الأرض دون أن يجرؤ أحد على أن يوصد في وجهه أبوابَ بلده أو يحول دون ذيوعه في بيئته، وبعبارة أخرى فالظروف الخارجية لحياة العالَم المعاصر تؤدي إلى إسقاط الحواجز بين القومية والعالمية — حتى النووية — إلى التوحُّد سياسيًّا وفكريًّا، سواء شاء أم لم يشأ؛ إذ إن هذا هو البديل الوحيد عن الفناء التام، وسواء أصحَّ هذا التنبؤ أم لم يصح، فلا جدال في أن العالم سيشهد — خلال الأجيال القليلة القادمة — تعديلاتٍ أساسيةً على مفهوم القومية، ربما لم تخطر من قبلُ على بال البشر طوال تاريخهم المعروف.
ولننظرْ إلى المسألة من زاوية أخرى، فنقول إن البشرية — بعد أن دخلت عصر الصواريخ، وأوشكت على دخول عصر الانتقال إلى الكواكب الأخرى — ستجد نفسها مضطرةً — بحكم الظروف الحتمية — إلى الإقلال من أهمية الحواجز القومية بالتدريج، ولن نتحدث هنا عن النفقات والجهود والأبحاث التي يقتضيها انتقال الإنسان من كوكبه الأرضي إلى الكواكب الأخرى، والتي تبلغ من الضخامة حدًّا يتجاوز نطاق قدرة أية دولة بعينها، ويقتضي تضافرًا بين البشر أجمعين، وإنما نود أن نشير إلى موقفٍ لا أشك في أن الإنسان سيواجهه في وقتٍ ليس بالبعيد؛ فعندما يطل الإنسان على أرضنا هذه من كوكبٍ كالمريخ أو حتى من القمر، فهل يشك أحدٌ في أن مثل هذا الإنسان، ومعه كل العالم الذي سيقف مبهورًا أمام الكشف الجديد، سينظر إلى الأرض نظرةً تعلو على تخطيطات الحدود السياسية أو الفوارق الضئيلة في الصفات العنصرية؟ ألن تصبح وحدة تفكيره عندئذٍ هي الكوكب الواحد، بعد أن كانت في أقدم العصور هي القبيلة والعشيرة، ثم أصبحت المدينة، ثم تحوَّلت إلى الدولة في عصرنا الحالي؟ تلك كلها احتمالات حقيقية ينبغي أن نفكِّر فيها جديًّا؛ لكي ندرك طبيعة العصر الذي نحن مقبلون عليه.
وإذن فهناك — كما قلت — ظروفٌ خارجيةٌ حتمية تؤدي بالإنسان — سواء شاء أم لم يشأ — إلى تجاوز التعارض بين القومية والعالمية، ولا بُدَّ أن تستجيب كل مجالات النشاط الإنساني — من فن وأدب وعلم وفكر — لهذه الظروف الحتمية، ولكنني أحسَبُ أن الفلسفة ستكون أسرعَ هذه المجالات كلها استجابةً لهذه الظروف؛ ذلك لأن الفلسفة تميل بطبيعتها إلى العمومية والشمول، واتجاهها الأصيل إنساني قبل أن يكون قوميًّا. إن الفلسفة مبحث عقلي، والعقل هو أساس التوحيد بين البشر، وهو ينزِع تلقائيًّا إلى تجاوز الفوارق الضيقة، ولا يعرف له حدودًا إلا «عالم الإنسان» بما هو كذلك. وليس معنى ذلك أن العنصر القومي مفقود تمامًا في الفلسفة، وإنما معناه أن هذا العنصر إنما هو الإطار الذي يضفي هيكلًا خارجيًّا على مضمونٍ لا يمكن بطبيعته إلا أن يكون إنسانيًّا؛ فاعتماد الفلسفة على العقل هو إذن العامل الرئيسي الذي يجعل الصفة الإنسانية العالمية تغلب فيها على الصفة القومية، وإن يكن لهذه الأخيرة دون شك وجودها الأصيل.
فإذا كانت الفلسفة — كما قلنا — تتألف من مضمون إنساني عام، قوامُه العقل الذي هو عنصر التوحيد في حياة البشر، ومن شكل أو إطار قومي، يمكن أن تتباين أحواله من شعبٍ إلى آخر، فلا بُدَّ لكل فهْم سليم للفلسفة من أن يتضمن هذين العنصرين معًا، ومع إدراك الاتجاه الواضح إلى العالمية ولا سيما في العصر الحديث. ومعنى ذلك أن كل فهم للفلسفة يقتصر على العنصر القومي وحدَه، أو يؤكد العنصر العالمي وينفي العنصر القومي نفيًا تامًّا، لا بُدَّ أن يقع في أخطاءٍ أساسية، فلننتقلْ إذن إلى بيان أخطاء كلٍّ من هذين الاتجاهين المتطرفين.
أخطاء النزعة القومية المتطرفة
من السهل أن يؤدي التطرُّف في تأكيد أهمية العنصر القومي في الفلسفة إلى نظريات غريبة عن الروح الفلسفية الحقة، ومن أكثر هذه النظريات خطأً، تلك النظرية التي تستمد خصائصَ فلسفةِ أمةٍ معيَّنةٍ من بيئتها الجغرافية، فتتحدث عن تأثير الجبال الوعرة في تفكير اليونانيين أو تأثير الصحراء الشاسعة في تفكير العرب، مثل هذه النظريات لا تستحق منا اهتمامًا كبيرًا، لا لأنها تجهل الحقيقة، بل لأنها تتناول عنصرًا ضئيلًا من عناصرها وتعمِّمه وتجعل منه أساسًا كاملًا للتفسير.
وهناك نظرياتٌ أخرى تربط بين فلسفة الأمة وبين خصائصها العنصرية، ولقد اشتهرت من تلك النظريات في الآونة الأخيرة، النظرية النازية التي كانت تؤكد وجود صفات عرقية تميِّز كلَّ شعب، وتذهب إلى أن هذه الصفات هي التي تفسِّر عبقرية هذا الشعب أو افتقاره إلى العبقرية، وهكذا ذهب النازيون إلى أن الفلسفة الألمانية مرتبطة بالخصائص العنصرية للجنس الجرماني الآري، وأكدوا من جهةٍ أخرى أن هناك شعوبًا عاجزة — بحكم تركيبها الطبيعي — عن التفلسف، أو عن الوصول إلى أية نتيجة لها قيمتها إذا ما تفلسفت، وهي بوجه خاص الشعوب السامية، هذه المزاعم بدورها تفتقر إلى أي دليل، وتقوم على أساسٍ لا يَمُتُّ إلى العلم الصحيح أو الفكر السليم بسبب، ومع ذلك فقد اقتنع بها الملايين في وقتٍ من الأوقات، وكان اقتناعهم بهذا الخطأ الواضح دليلًا على مقدار الخلط الذي يمكن أن تجلبه النزعة القومية المتطرفة على الأذهان.
على أننا لو تأملنا حياتنا الثقافية الراهنة بإمعان؛ لوجدنا أننا — لحسن الحظ — لسنا واقعين في هذا النوع من الأخطاء، وربما كانت أخطاء أصحاب النزعة القومية المتطرفة بيننا أقلَّ خطورة بكثير، ومع ذلك فمن الواجب أن نناقشها مناقشة صريحة حتى تظهر لنا العلاقات بين القومية والعالمية في الفلسفة في ضوئها الصحيح.
في بلادنا العربية وفي مرحلتنا التاريخية الراهنة، يعتقد الكثيرون أن الفكر لكي يكون قوميًّا بالمعنى الصحيح، ينبغي أن يكون «مختلفًا»، فهم يتعمدون تأكيد العناصر المتنافرة مع الفلسفات الأخرى، ظانين أن هذه العناصر هي التي تتمثَّل فيها روح الأمة وتقاليدها الحقة، فإذا اعترضتنا مشكلةٌ من المشكلات، واقترح البعض لها حلًّا مستمدًّا من تجارِبِ أممٍ أخرى سبق أن مرت بنفس المشكلة، وجدت مَن يسارع إلى رفض هذا الحل آليًّا، والإتيان بحلٍّ آخرَ مخالف له، قد لا يكون أحدٌ جرَّبه من قبل، ولكنه يفضل على الأول بحجة أنه هو الذي يتمشَّى مع قوميتنا، وفي اعتقادي أنه لا يكفي لكي يكون المبدأ متمشيًا مع قوميتنا أن «يقرر» البعض أنه كذلك، وإنما لا بُدَّ من «إثبات» أن هذا المبدأ دون غيره هو الذي يعبِّر عن قوميتنا تعبيرًا صحيحًا.
كذلك لا يتعيَّن أن تكون الفكرةُ قوميةً لمجرد أنها «تخالف» أو «تغاير» أفكارًا صدرت عن مجتمعاتٍ أخرى، والخطر الأكبر في هذا النوع من التفكير هو أنه يؤدي إلى نوع من الانعزالية، وإلى ضياع كثير من فرص الاستفادة بالتجارِب المفيدة التي يشترك معنا فيها غيرنا من الأمم، بحجة أن في الاسترشاد بهذه التجارِب قضاءً على قوميتنا، وكثيرًا ما يترتب على التطرف في هذا الموقف الاتجاه إلى المخالفة والعناد لذاتهما، ومعنى ذلك أن يقف المرء من الأمور موقفًا سلبيًّا؛ إذ إن العنيد يظن أنه يؤكد ذاته، على حين أنه في واقع الأمر شخصٌ سلبي يكتفي بالقيام برد فعل عكسي على تصرفات الآخرين، فيكون بذلك مقيدًا بهم أكثرَ مما يظن، وبالاختصار فليس معنى اتجاهنا إلى تأكيد قوميتنا هو أن نتعمد مخالفة آراء الغير في كل صغيرة وكبيرة ونظن أننا بذلك ندعم شخصيتنا القومية، بل إن هذا الدعم لا يكون إلا باتخاذ الموقف الناضج الذي نقف فيه من أفكار الآخرين موقفَ الواثق من نفسه، ولا نتعمد تأكيد ما يتنافر معها من أجل إقناع أنفسنا باستقلالنا الفكري.
وهناك اعتقادٌ آخرُ يتمسك به الكثيرون في هذا المجال، وهو — في رأيي — لا يقل خطأً عن الاعتقاد السابق، وإن يكن أشد منه خفاءً، هذا هو الاعتقاد بأن كل ما هو قديم ينتمي بالضرورة إلى صميم الروح القومية؛ ذلك لأن القديم لا يتعيَّن بالضرورة أن يكون قوميًّا، بل إنه قد يكون دخيلًا، شأنه شأن أي اتجاه حديث مستورَد، ومع ذلك فإن أصواتًا كثيرة تعلو مؤكِّدة أن الاهتداء إلى قوميتنا الأصيلة لا يكون — أو لا يبدأ — إلا بإحياء التراث الغابر، الذي يعتقدون أنه كلَّه ألصقُ بقوميتنا من كلِّ ما هو جديد. مثل هذه الطريقة في التفكير تنطوي ضمنًا على اعتقادٍ شائع إلى حدٍّ بعيد، ولكنه كثيرًا ما يكون بعيدًا عن الصواب، هو الاعتقاد بأن القومية فكرة «سكونية» ثابتة ترتبط بالماضي أكثرَ مما ترتبط بالحاضر، ولو أمعن أصحاب هذا الرأي فكرَهم في مقدمتهم الأساسية هذه؛ لوجدوا أنها تقبل اعتراضاتٍ حاسمة؛ فقد ثبت في عصرنا الحاضر أن القومية فكرةٌ «ديناميكية» تقوم أساسًا على التجدُّد والحياة، وأنها إذا اكتفت بأن تشد الأمة إلى ماضيها الغابر، ولم تساعده على التطلع إلى مستقبلٍ أفضلَ، كانت قوة معوِّقة هدامة، ومن هنا فإن العناصر التي ترتكز عليها فكرة القومية، والتي تتجمع حولها أماني الأمة الواحدة، ينبغي ألا تكون عناصرَ متجمدة متحجرة، وإنما الواجب أن ترتبط مشاعرنا القومية بحاضرنا ومستقبلنا مثلما ترتبط بماضينا، بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول إن نظرتنا إلى التراث ينبغي ألا تكون قيدًا يمنعنا من الحركة، وإن موقفنا من التراث ينبغي أن يتقرَّر تبعًا لمقتضيات حياتنا الراهنة؛ فالقديم لا ينبغي أن يتحول إلى صنمٍ مقدَّس لمجرد كونه قديمًا، بل إن تبجيلنا واحترامنا له يجب أن يتوقف على مدى قدرته على الإنتاج في حياتنا الحاضرة والإسهام في دفعها إلى الأمام، وليس معنَى ذلك أن نتنكر لتراثنا، أو أن نتعمد تأويله تأويلًا ملتويًا لكي يبدو متمشيًا مع اتجاهاتنا الراهنة، بل إن معناه الوحيد هو الخضوع لسُّنة الحياة التي تجعل من تاريخ الإنسان الغابر دعامةً يرتكز عليها في حاضره ويسترشد بها في مستقبله.
أخطاء النزعة العالمية المتطرفة
قلنا من قبلُ إن الفلسفة — بحكم كونها مبحثًا عقليًّا — لديها نزوع طبيعي إلى العالمية، وإن صفة العالمية تُعَدُّ — بالتالي — أقربَ إلى التعبير عن طبيعة الفلسفة، ومع ذلك فكما يخطئ مَن يتطرف في تأكيد النزعة القومية في الفلسفة، فكذلك يخطئ مَن يذهب في تأكيده لطابعها العالمي إلى حد التجاهل التام لكل الفروق التي تترتب على تباين الظروف المحلية والقومية التي تنشأ فيها كل فلسفة؛ ذلك لأن الفلسفة — كما قلنا — تتناول مضمونًا إنسانيًّا عالميًّا، موضوعًا في إطار قومي محدد، وهذا الإطار المحدد يحتم تأثُّر المضمون ذي الطابع الشامل بالظروف الاجتماعية المتغيرة للمجتمع القومي الذي تنبع منه الفلسفة، وبالتالي ينبغي في كل فهْم سليم للفلسفة أن نعمل حسابًا لتأثير تغيُّر هذه الظروف في المضمون الفلسفي الذي يعبِّر عن نفسه من خلالها.
ومع ذلك فكثيرًا ما نرى اتجاهاتٍ في فهْم الفلسفة تتجاهل هذا العنصر تجاهلًا تامًّا، وقد تكون نقطة بداية أصحاب هذه الاتجاهات هي إدراك الحقيقة التي سبق أن نبهنا إليها من قبل، وهي نزوع الفلسفة بطبيعتها إلى الصبغة الإنسانية الشاملة، غير أنهم يتطرفون في هذا الاتجاه إلى حد إغفال كل تأثير للسياق القومي أو الاجتماعي المحدَّد في الفلسفة التي تظهر فيه؛ فهم يتصورون الفكر الفلسفي نباتًا شاذًّا تستطيع أن تزرعه في أية تربة، وتستطيع أن تتوقَّع منه دائمًا نفس الثمار.
ففي الغرب مثلًا ظهرت فلسفاتٌ واتجاهاتٌ فكرية قد تكون المشكلات التي أثارتها ذات صبغة إنسانية عامة، ولكن الإطار الذي ظهرت فيه هو دون شك إطار محلي تحكمت فيه ظروف خاصة مرت بها المجتمعات الأوروبية على التخصيص، ولم تمر بها المجتمعات الشرقية التي ظلت بمنأى عن هذه المؤثرات، ولأضرب لذلك مثلَين: فالاتجاهات اللامعقولة في الفكر والفن والأدب الغربي — ابتداءً من السيريالية إلى الرواية الجديدة — هي اتجاهات لم يكن من الممكن أن تظهر إلا في شعوبٍ مرت بتجربة العقل رَدَحًا طويلًا من الزمان، حتى سئمت التفكير العقلي وسَعَتْ إلى تجاوز حدود المعرفة العلمية وإلى استطلاعِ آفاقٍ جديدة في عالم مغاير لعالم المنطق، أي إن اللامعقولية — سواء في الفن وفي الفكر والأدب — ظهرت في الغرب نتيجةً للتشبُّع بالمعقولية والرغبة في البحث عن اتجاهات أخرى تجدِّد نشاط الروح التي سئمت المنطق المنظم، غير أن نقل هذه الاتجاهات نقلًا حرفيًّا في مجتمع شرقي — لم يمر بنفس التجرِبة — ينطوي على محاكاة آلية تعبِّر عن فقدان الشخصية والعجز عن الاستقلال الفكري؛ فنحن في الشرق ما زلنا نسعى إلى إقرار حكم العقل، وما زلنا نحتاج إلى كفاح طويل لكي نعوِّد شعوبنا احترام التفكير المنطقي وتطبيقه في شتَّى أنواع معاملاتهم، فكيف إذن نقفز هذه القفزة المفاجئة، عبر ثلاثة أو أربعة قرون من المعقولية التي مر بها الغرب أولًا وأثرى بها حياته في كافة المجالات، لكي نصل دفعة واحدة إلى اللامعقولية؟ وكيف نستطيع — في ظروفنا هذه — أن نجد متعةً في اللامعقول ونراه معبِّرًا عن روح العصر، مع أن هذه الروح تتخذ في بيئتنا المحلية طابعًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عنه في البيئات الغربية التي انتشرت فيها الدعوة إلى اللامعقول؟
ولنضربْ لفكرتنا هذه مثلًا آخر: ففي الغرب انتشرت تيارات فردية وتشاؤمية قاتمة، وظهر صدى هذه التيارات واضحًا في كثير من الفلسفات والاتجاهات الفكرية، بل إن البعض يعزو انتشار الوجودية — أو على الأصح عودة إحيائها بعد أن ظهرت بوادرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر وظلت منسية قرابة ثلاثة أرباع القرن — إلى ظروفٍ خاصة مر بها المجتمع الغربي وفرضت عليه التشاؤم والفردية؛ فمنذ الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب الثانية — بوجه خاص — كان واضحًا أن الإنسان الغربي يسير في طريقٍ لا نهاية له إلا الدمار الشامل، وكانت أبواب الأمل في حياة هادئة تخلو من القتل والتدمير والشعور الدائم بالخطر تكاد تكون كلُّها موصدة في وجهه، وكان طبيعيًّا أن يميل هذا الإنسان إلى فلسفةٍ تؤكد خلو الحياة من كل معنًى، وتضع بين الفردِ والآخرِ حواجزَ لا تُعْبَر إلا بوسائلَ مصطنعةٍ غير مؤكدة، ولكن أيحق لنا في الشرق أن نتصور هذه الفلسفة معبِّرة عن أخص ما يميزنا؟ إن الإنسان في الشرق لم يُصَبْ بمثل هذا التشاؤم الذي تملَّك الإنسان الغربي؛ لسبب بسيط هو أنه لم يخُضْ مثلَه حروبًا طاحنة، ولم يشعر بأن مستقبله مهدَّد بالفناء، وما زال في حياة الشرق من التماسك العائلي ومن الشعور بأهمية القيم المشتركة ما يحول دون الإحساس بالتفكك، الذي يشجع على انتشار الروح الفردية، فنحن إذن لسنا ملزَمين بأن نرى في هذا التيار ما يعبِّر عن وضع الإنسان في عالمنا الخاص.
تلك إذن أمثلةٌ أردت أن أسوقها لكي أدلِّل بها على أن الإفراط في النزعة العالمية، والاعتقاد بأن المشكلات الفلسفية لا تعرف أيةَ حواجزَ قوميةٍ أو محلية، هو بدوره خطأ ينبغي أن نحذر الوقوع فيه.
فباسم العالمية يعتقد البعض بأن وضع الإنسان المعاصر — في عمومه — يحتِّم عليه أن يخوض تجرِبة اللامعقول، وباسم العالمية يعتقد البعض الآخر أن موقف الإنسان في عصرنا هذا يفرض عليه الاتجاه إلى التشاؤم والانعزال والفردية المتطرفة، مع أن هذه كلَّها مواقفُ مرهونةٌ بمجتمعٍ يمر تطوُّره بمرحلة معيَّنة، ولا يحق للمجتمعات الأخرى أن تحاكيها ما دامت تمر في تطوُّرها بمرحلة مختلفة كلَّ الاختلاف.
كيف تتحقق فلسفتنا القومية؟
وأخيرًا فما زال هناك سؤال رئيسي لم يجد القارئ إجابةً عنه بعدُ، وإن كان لا بُدَّ قد ألح عليه منذ بداية هذا المقال؛ فقد أوضحنا الحدود الواجبة للنزعتين القومية والعالمية في الفلسفة، وبيَّنَّا الأخطاء التي يمكن أن يؤدي إليها التطرُّف في كلٍّ من هاتين النزعتَين، ولكنَّا لم نتناول بعدُ موضوعًا قد يكون هو بيت القصيد في بحثٍ كهذا، وأعني به: كيف نستطيع أن نخلق فلسفتنا القومية ونضفي عليها صبغة عالمية؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكننا أن نخلق فلسفة مستمدة من بيئتنا وظروفنا الخاصة، ونضمن في الوقت ذاته احترام العالم وتقديره لنا؟
إذا كان المقصود من «الفلسفة» في هذه الحالة هو «طريق الحياة» أو «الاتجاه العام للمجتمع» فأحسب أن هذا موضوعٌ يتجاوز نطاق مقال كهذا.
أما إذا كان المقصود هو الفلسفة بمعناها الضيق — أي بمعنى المذهب الفلسفي المتخصص — فإن الإجابة المقنعة عن هذا السؤال تقتضي — مرة أخرى — استقراءَ بعض أمثلة التاريخ؛ ففي إنجلترا ظهرت منذ القرن السابع عشر — وربما قبل ذلك — فلسفةٌ محدَّدة المعالم تستطيع أن تدرك معالمها وخصائصها المميَّزة بوضوح كامل حتى يومنا هذا، فهي فلسفة تجريبية لا تفرِّق كثيرًا في مشكلاتِ ما بعد الطبيعة، وتتخذ من التحقيق الفعلي معيارًا لصحة كل حكم يُصدِره العقل، وفي فرنسا ظهرت في الوقت نفسه تقريبًا فلسفةٌ أخرى لا بُدَّ من الاعتراف بأن لها طابعًا قوميًّا مميَّزًا؛ إذ إنها تعتمد على الوضوح الفكري وعلى ما أسماه باسكال بروح اللطف أو الدقة، أي على الإحساس المرهف بالفوارق الدقيقة للمعاني والأفكار، وفي ألمانيا ظهرت منذ القرن الثامن عشر فلسفةٌ ذات نزعة مثالية متصلة، يحس فيها المرء بأن طريقة استجابة الفلاسفة المختلفين للمشكلات كانت متشابهة أو متكاملة، ومع ذلك فكيف اتخذت هذه الفلسفات طابعها القومي هذا؟ هل قام هؤلاء الفلاسفة بتحليلٍ للخصائص القومية لبلادهم، ثم شيدوا فلسفة تتلاءم مع هذه الخصائص؟ لا شك أن شيئًا من هذا لم يحدث، فما الذي حدث إذن حتى ظهرت هذه الفلسفات؟
من المؤكد أن الفلسفة القومية لا تتعمَّد أن تكون قومية، ولا يسعى الفيلسوف إلى الكشف أولًا عن الخصائص القومية لبلاده لكي يبني مذهبًا فلسفيًّا منطبقًا عليها، وإنما يمارس الفيلسوف تفكيره، وتأتي أجيالٌ تالية من الشُّراح تكشف خصائصَ مشتركةً بينه وبين غيره من بني وطنه، فتكون تلك الخصائص هي الروح القومية في الفلسفة، ومعنى ذلك أن المرحلة الأولى هي التفلسف — أعني ممارسة الفكر على أوسع نطاق ممكن — وهي مرحلة لا نستطيع أن نقول إننا قد سرنا فيها بعدُ بما فيه الكفاية؛ فقبل أن تكون هناك «فلسفة قومية» ينبغي أن تكون هناك «فلسفة» أولًا، ولا معنَى لأن نؤكد ونلح — ونحن ما زلنا في أولى المراحل — على ضرورة صبغ فلسفتنا بالطابع القومي؛ لأننا لو عرفنا كيف نمارس الفكر الفلسفي ممارسة سليمة عميقة، فلا بُدَّ أن يصطبغ هذا الفكر من تلقاء ذاته بالصبغة القومية.
وإذن فلنحرص أولًا على التفلسف ذاته؛ لنؤلف ونكتب ونشرح، ثم نتعمق ونسير في اتجاهات فكرية خاصة، وسوف تتضح حتمًا سماتنا القومية في أفكارنا، وسيكشفها غيرنا باستقراءِ مختلفِ أعمالنا، كما كُشِفَت سمات الفلسفات القومية الإنجليزية والفرنسية والألمانية من قبلُ، أما أن تعلو الأصوات هاتفةً بإلحاح: لنضعْ فلسفة قومية! فما أظن أن هذا أفضل السبل إلى بلوغ الهدف الذي نريد.