بين الفكر والآلة (١)
بين الفكر والفعل أو بين الرأس واليد حوارٌ دائم، وقد اتخذ هذا الحوارُ صورًا متعدِّدة طَوال تاريخ البشرية؛ فكان أحيانًا يتخذ صورة عداء متبادل، أو ترفُّع من الفكر على الفعل، أو تضافُر وتعاون بين عقل الإنسان ويديه. ولقد كانت قصة العلاقة بين الفكر والآلة، وموقف الفيلسوف من التكنولوجيا، انعكاسًا واضحًا للعلاقات الاجتماعية السائدة في كل عصر، وأستطيع أن أقول إن تَتبُّع المراحل الرئيسية لهذه العلاقة يلقي ضوءًا ساطعًا على كثيرٍ من المسائل الفكرية والحضارية، ويكشف على نحوٍ أعمقَ عن موقف الإنسان من الطبيعة في مختلف العصور، وسأحاول في سلسلة من المقالات أن أقدِّم عرضًا تاريخيًّا عامًّا لهذه المشكلة، فضلًا عن تناول بعض جوانبها التي تمس الإنسان المعاصر. وفي اعتقادي أن القارئ سيكون قد أفاد من هذه المقالات على النحو الذي آمله إذا لم ينظر إليها على أنها مقالات فلسفية خالصة، وإذا تأملها على أنها تلخيصٌ لمشكلاتٍ لا بُدَّ أن يمر بها كل مجتمع بشري عندما تواجهه لأول مرة مشكلةُ الصنعة أو التصنيع، وتبدأ قوة الآلات فيه تؤدي عملها إلى جانب قوة الإنسان، ويحدث الاصطدام المحتوم بين العقل في انطلاقه الحر وبين الآلة في نظامها الصارم.
كانت فترة ظهور أولى مدارس الفكر اليوناني — وهي المسماة بالمدرسة الأيونية — تبشِّر بتضافرٍ مثمر بين النشاط الفكري النظري والنشاط العملي الآلي؛ إذ كان كثير من فلاسفة هذه الفترة — أعني مَن يسمَّون بالطبيعيين الأولين — مهتمين بالمسائل العملية بقدْرِ اهتمامهم بالمسائل النظرية، وكانت جهودهم تنصبُّ على الميدانين معًا دون تعارض. في تلك الفترة كان هناك اتصال رائع بين حضارات الشرق الأوسط القديمة وبين الحضارة اليونانية الناشئة، وكانت الخبرات والمعلومات والتجارِب تتبادل إلى جانب المحصولات والمصنوعات، وأثمر ذلك كله تفكيرًا يجمع إلى الممارسة التطبيقية القدرةَ على البرهان العقلي.
ولقد كان طاليس «أبو الفلسفة» الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد؛ كان مفكرًا نظريًّا ومخترعًا عمليًّا في الوقت ذاته؛ فقد نَسَبَ إليه مؤرخو الفكر أولَ نظرية متكاملة حاول بها الذهن البشري تفسيرَ الكون كلَّه من خلال مبدأ واحد مقنع عقليًّا، لا من خلال أسطورة أو خرافة، ولكنه كان في الوقت ذاته ذا عقلية علمية وعملية من الطراز الأول، فرُوِيَ عنه أنه حوَّل مجرى نهر «هاليس» لكي يتيح لجيوش كرسيوس أن تَعْبره، ونُسِبَت إليه كشوفٌ عديدة في الفلك والملاحة، وليس ما يعنينا هنا أن نعدِّد الاختراعات والكشوف المنسوبة إلى شخص طاليس، وإنما المهم في الأمر أن أولَ فيلسوفٍ يذكره التاريخ كان شخصية نظرية وعملية في آنٍ واحد، ولم يكن ذلك الرجل المنعزل الذي يتأمل السماء فتتعثر مِشيته ويقع في الوحل كما تصوِّره القصة المشهورة، وبعبارة أخرى فإن بداية ظهور الفلسفة كانت مرتبطةً بالجمع بين الفكر النظري والعلم التطبيقي معًا، بل ربما جاز القول إن الاهتمام بالأمور العملية هو الذي أوحى إلى فلاسفة هذه الفترة آراءهم النظرية.
وإذن فقد كان كل شيء يوحي بأن التقدُّم الفكري والتقدُّم التكنولوجي سيسيران جنبًا إلى جنب في العصر اليوناني الكلاسيكي، وكانت الوسائلُ كلها ميسرةً لذلك؛ فالعلم اليوناني قد أخذ يزدهر، وأسرارُ الرياضيات بدأت تتكشف للعقل اليوناني، والاتصالات بالحضارات القديمة قائمة لا تنقطع، والمناخ السياسي والاجتماعي يساعد على ذلك دون شك، وفضلًا عن ذلك ففي تلك الفترة بعينها وُضِعَت أسسُ النظرية الذرية من جهة، وظهر مذهب «أبقراط» العلمي التجريبي في الطب من جهةٍ أخرى، وهما كشفان يساعدان على تمهيد الطريق للكشف والاختراع الآلي: الأول إذ يصور الكونَ كلَّه على أنه آلة ضخمة، والثاني إذ ينظر إلى جسم الإنسان نفسه على أنه آلة معقَّدة، ومع ذلك فإن هذا التطوُّر المتوقَّع لم يحدث، وظل العلم اليوناني نظريًّا لا تطبيقيًّا، ولم يعرف اليونانيون «الآلة» بمعناها الصحيح، وإن عرفوا مجموعة بسيطة من الأجهزة الآلية كانت في نظرهم مصدرًا للتسلية والترويح عن النفس، ولم تكن لها في حياتهم وظيفة جدية.
فما هي أسباب عدم ظهور النزعة الآلية عند اليونانيين؟ ولماذا لم يُستخْدم العلم اليوناني المزدهر في تطبيقاتٍ عمليةٍ ترفع مستوى حياة الإنسان؟ من المؤكد — كما قلنا من قبل — أن الجو العام كان مهيأ لذلك، وأن الاهتمام بالتكنولوجيا — الذي لم يظهر بوضوحٍ إلا في عصر النهضة الأوروبية — كان يمكن أن يظهر في تلك الفترة المبكرة (ولنتصورْ مدى التغيُّر الهائل الذي كان يمكن أن يطرأ على التاريخ البشري لو أن النزعة العلمية التطبيقية قد بدأت قبل موعد بدايتها الفعلية بألفي عام)، فما هي إذن أسباب اختفاء الآلة من حياة الإنسان القديم، ونفور الفكر البشري منها.
أما السبب الحقيقي الذي يمكننا أن نعزو إليه زهد اليونانيين في هذه المخترعات — في الوقت الذي توافرت لهم فيه كثيرٌ من الإمكانيات الكفيلة بتحقيق تقدُّم سريع في هذا المجال — فهو أنهم لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها، نظرًا إلى شيوع نظام الرق، فلماذا ينصبُّ تفكير العلماء على الاقتصاد في الجهد البشري، وإحلال الآلة محل اليد العاملة؛ إذ كان لدى المجتمع مصدر لا ينضب من موارد الطاقة، يتمثل في الأرقَّاء الذين لم يكن يخلو منهم بيتٌ يوناني متوسط؟ لقد كان نظام الرِّق — في واقع الأمر — حقيقةً أساسية من حقائق المجتمع اليوناني، وكان الرقيق الذي ظل محرومًا من كل حقوق المواطنين الأحرار، والذي كان يعيش على هامش المجتمع بكل معاني هذه الكلمة؛ كان وسيلة زهيدة التكاليف لقضاء الحاجات المادية والقيام بالأعمال اليدوية.
فالرقيق كان يحتل موقعًا وسطًا بين الإنسان بمعناه الصحيح — أي الإنسان الحر — وبين الحيوان، ولمَّا كانت الحروب اليونانية المستمرة تتيح جلبَ مزيد من الأرقاء على الدوام، أو على الأصح من أسرى الحرب الذين يحوَّلون إلى أرقاء، فقد كان من الطبيعي ألا تقوم الحاجة أصلًا إلى إعفاء الإنسان من متاعب العمل اليدوي المرهق، ومن هنا لم تتقدم التكنولوجيا اليونانية، وبالعكس فإن عدم وجود الآلات قد جعل اليونانيين يتمسكون بنظام الرق، ولا يستغنون عن أرقائهم، وهكذا ظل اليونانيون يدورون — في هذا الصدد — في حلقة مفرغة لم يعرف العالم القديم منها مخرجًا.
ولو تأملنا كتابات فيلسوفَي اليونان الكبيرين وهما أفلاطون وأرسطو؛ لوجدناها تتضمن دفاعًا حارًّا عن نظام الرق، وهو دفاع إن دلَّ على شيء فإنما يدل على مدى تأصُّل هذا النظام في حياة اليونانيين في ذلك العصر؛ ففي محاورة «الجمهورية» يُعدِّد أفلاطون مساوئ الديمقراطية، وهي نظام الحكم الذي كان بغيضًا لديه، ويرى أن أبرز هذه المساوئ هو التطرُّف في الحرية التي تصل إلى حد الفوضى، ثم يقول: «على أن أقصى ما تصل إليه الحرية في مثل هذه الدولة، هو أن يغدو الأرقاء من الرجال والنساء الذين يُشْتَرون بالمال متساوين في حريتهم مع أسيادهم الذين اشتروهم.»
فالمساواة بين الرقيق وسيِّده في النظام الديمقراطي هي — في رأي أفلاطون — أكبر عيوب هذا النظام، أما أرسطو فله نصٌّ مشهور في كتاب السياسة (الكتاب الأول، الفصل الرابع) يقول فيه: «إن للآلات أنواعًا متباينة؛ فمنها ما هو حي، ومنها ما هو غير حي، ففي الدفة يجد قائد السفينة آلةً لا حياة فيها، أما الحارس فهو آلة حية … والخادم نفسه آلة لها الأفضلية على كل الآلات الأخرى؛ إذ لو كانت كل آلة قادرة على إنجاز عملها، فتطيع إرادة الآخرين أو تتوقَّعها، كتماثيل ديدالوس أو كراسي هفايستوس الآلية ذات الأرجل الثلاثة، التي يقول الشاعر إنها «دخلت من تلقاء ذاتها مجلس الآلهة»، ولو كان في وُسع النَّول أن ينسج والريشة أن تضرِب العود دون أن تمسها يد، لما احتاج أصحاب العمل إلى خَدَم، ولما احتاج السادة إلى عبيد» (١٢٥٣ب).
ولقد تصوَّر البعض أن أرسطو — بعبارته الأخيرة — كان يشير إلى أن نظام الرِّق سيظل ضروريًّا ما دامت الآلات لم تبلغ المرحلة التي يمكنُها فيها القيام بحركاتها تلقائيًّا، وأنه كان بذلك يبرِّر الرِّق على أساس الضرورة العملية البحتة، لا لأنه مقتنع به.
ولكن سياق النص يدل بوضوحٍ على أن أرسطو إنما يشير هنا إلى أساطيرَ خيالية، وأنه يؤكد بذلك نظام الرِّق ويدعمه؛ لأن هذا النظام في رأيه لا يمكن أن يزول إلا إذا تحقق المستحيل، ودبَّت الحياة في الجمادات، وأصبحت الأساطير حقائقَ واقعة.
وإذن فقد كان أفلاطون وأرسطو متحمسَين لنظام الرِّق، وكلاهما حاول أن يقدِّم له أقوى أساس ممكن من المبررات العقلية، وتلك في واقع الأمر ظاهرة غريبة حقًّا عند هذين الفيلسوفين الكبيرين؛ ذلك لأنهما لم يتركا صغيرة ولا كبيرة إلا وقاما بتحليلٍ وتشريحٍ دقيقٍ لها، وقد بلغ تفكيرهما درجةً من التجريد والقدرة على التحليل لم يبلغها الفكر طَوال تاريخ البشرية إلا في حالات نادرة، وكان كلٌّ منهما ناقدًا لعصره، ولكلٍّ منهما أبحاثه العميقة في الأخلاق والسياسة وأمور المجتمع، وكم تحدَّثا عن الفضيلة والعدالة وكرامة الإنسان وبلوغه كمالَه وتحقيقه الغاية المقصودة منه، فكيف بعد هذا كلِّه تغيب عن نظرهما ظاهرةٌ واضحة الظلم كالرِّق؟ وكيف يتحدث أرسطو عن الرقيق بوصفه «ذلك الذي هو بالطبيعة شخص لا يملك ذاته، بل يملكه شخصٌ آخر؟» كيف يتحدث على هذا النحو دون أن تدفعه حاسته الأخلاقية «المرهفة» إلى الوقوف عند هذا الوضع الشائن للإنسان، وكيف يمضي بعدها مباشرة إلى تبرير نظام الرِّق وإثبات أنه متَّفِق مع الطبيعة؟ لا شك أننا نرى هنا تناقضًا أساسيًّا بين القدرة التحليلية الدقيقة التي لم يفلت من قبضتها شيء، وبين التغاضي العجيب عن نظام مضاد تمامًا لكل نزعة إنسانية في الأخلاق، ولقد حاول البعض أن يدفعوا عن أرسطو وأفلاطون تهمةَ التناقض، مؤكدين أن هذا النظام كان متغلغلًا في حياة اليونانيين إلى حدٍّ كان من الصعب معه على مَن يعيش في ظله — ومَن اعتاده في كل لحظة من حياته — أن يتخذ منه موقف الناقد الموضوعي، وأن يتنبه إلى ما فيه من مظالم، غير أن هذا دفاعٌ واهٍ لا يصمد للتحليل الدقيق؛ ذلك لأنه كانت توجد في اليونان معارضةٌ لنظام الرِّق، بدليل قول أرسطو في كتاب السياسة: «إن البعض يرون أن حكم السيد علم … وأن السيطرة على العبيد والحكم السياسي والملكي — كما قلت في البداية — كلها شيء واحد، وغير هؤلاء يؤكدون أن حكم السيد للعبيد مضاد للطبيعة، وأن التمييز بين الحر والعبد لا وجود له إلا بالقانون لا بالطبيعة، ولما كان ذلك تدخلًا في مجرى الطبيعة، فإن فيه ظلمًا» (الكتاب الأول، الفصل الثالث)، ومن المؤسف أن أرسطو لم يذكر مَنْ هم أولئك الذين كانوا يعترضون في عصره على نظام الرِّق، ولكن اهتمامه بالموضوع وتخصيصه الصفحات الطوال من كتابه هذا للرد على حجج خصوم الرِّق، يدل على أنه كانت هناك معارضة قوية لهذا النظام، وعلى أن دفاع أرسطو — ومعه غيره من أنصار الرِّق — كان واعيًا مقصودًا لذاته.
وإذن فالسبب الأول لعدم تقدُّم الاختراع الآلي على الرغم من وجود عدد كبير من العوامل التي كانت في بداية العصر اليوناني الكلاسيكي تبشِّر بخير كثير، هو أن الحاجة لم تكن تدعو إلى توفير طاقة الإنسان؛ لأن هناك إنسانًا آخرَ كان يبذل طاقته بدلًا منه، أعني أن الآلات البشرية جعلت المجتمع اليوناني في غنًى عن الآلات المادية الميكانيكية.
ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد أنه في الفترة الأولى للفلسفة اليونانية، وهي فترة الفلسفة الطبيعية التي كان الفكر النظري يسير فيها مع التطبيق العملي جنبًا إلى جنب دون أن يزعم أحد بوجود تعارض بينهما، في هذه الفترة لم يكن نظام الرِّق قد توطَّدت دعائمُه في المجتمع اليوناني، مما يجعل الارتباط بين الظاهرتين بمنأًى عن كل شك.
وكانت نتيجة هذه النظرة الخاصة إلى القيم أن أصبحت كلمة الصانع والعامل اليدوي مرادفةً عند اليونانيين القدماء لمعاني الانحطاط والتدهور الأخلاقي، وأصبح كل حرفي محتقرًا بحكم مهنته ذاتها لا بحكم شخصه، وأصبح اليونانيون ينفرون من كلِّ ما له صلة بالعمل المادي؛ لأنه — كما يقول أفلاطون — لا يشوِّه البدن فحسب، بل يشوِّه الروح أيضًا، وأقصى ما يصل إليه مَن يمارسون هذا النوع من الأعمال هو أن يُشْبِعوا الحاجات المنحطَّة لدى الإنسان.
ومن أجل تحقيق هذا الغرض تراهم يعملون ليلَ نهار، ويركِّزون كلَّ قواهم في كسْب قُوتِهم يومًا بعد يوم، ولا ينصرف تفكيرُهم لحظةً واحدة عن المسائل المحدودة المرتبطة بعملهم الآلي، أما الرجل الحر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة فهو ذلك الذي لا تشغله هذه الأعمال اليومية التافهة (لأن غيره يقوم بها)، وإنما ينصرف بكليته إلى التأمُّل العقلي المحض؛ فحياة العقل هي القيمة العليا عند هؤلاء الفلاسفة، وعندما نقول حياة العقل لا نعني بذلك التفكير العقلي في أمور الدنيا واتخاذ البحث العلمي هدفًا للحياة، فهذا معنًى حديثٌ للكلمة، وإنما كان اليوناني يستخدم هذا التعبير بمعنى الانصراف إلى التأمُّل الخالص في أمورٍ لا صلةَ لها بالعالم المادي الزائل، عالم المظهر والخداع والتغيُّر والفناء. إن استخدام العقل هو في ذاته أمرٌ يفخر به الإنسان في كل عصر وكل مكان، ولكنه عند كبار الفلاسفة اليونانيين كان يعني الاقتصارَ على التفكير على نحوٍ تجريدي صِرْف، وتحويل الطاقة العقلية عن كلِّ ما له صلة بالعالم الأرضي المتغيِّر، وتعامل الفكر الخالص مع نفسه دون أية محالة لاختبار صحة نتائجه في عالم الواقع أو تطبيقها على المشكلات الفعلية التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية. هذه إذن هي القيمة العليا التي اتجه إلى تحقيقها فلاسفة اليونان في ذلك العصر، وهي — بلا شك — قيمةٌ مرتبطة أوثقَ الارتباط بنظام الرِّق وعلاقة السيد بالعبد.
ولن تكتمل في أذهاننا صورةُ هذا النظام الخاص في القيم إلا إذا أدركنا أن الكلمة التي تدل على الصانع كانت في المجتمع اليوناني تمتد إلى نطاقٍ أوسعَ بكثير من مرادفاتها في المجتمعات الحديثة؛ فالصانع عندهم لم يكن يعني العامل اليدوي فحسب، وإنما يعني ما نسميه اليوم بالعامل الفني والمهندس والمخترع، كل هؤلاء في آنٍ واحد، ومعنى ذلك أن كلَّ ما كان ينتمي إلى مجال التطبيق العملي للعلم من أجْل رفع مستوى حياة الإنسان كان يلقى من كبار فلاسفة اليونان احتقارًا.
ولم يكن هذا الاحتقار حائلًا دون اعترافهم بنفع هذا النوع من المهن وضرورته في الحياة، ولكنه مع نفعه وضرورته ينبغي أن يظل على هامش المجتمع، وأن يقوم به أناسٌ لا يرقون إلى مرتبة المواطنين الأحرار، وأن يتم في السر والخفاء بقدْرِ الإمكان، فلا يبقى ظاهرًا إلا مجتمعُ الأحرار من المفكرين التجريديين.
وإذا كان هؤلاء الفلاسفة اليونانيون قد ازدرَوا الغاية التي يسعى إليها كل كشف أو اختراع تطبيقي، فقد احتقروا أيضًا المنهج التجريبي المتَّبع في هذا النوع من الكشف؛ ذلك لأن المخترع يحتاج إلى تطبيق منهج المحاولة والخطأ، وإلى السير ببطء، وتجربة طريقة بعد الأخرى، غير أن مثل هذا المنهج في نظر الفلاسفة العقليين لا يؤدي إلى معرفة حقة، وإنما إلى معرفة وسط بين العلم والجهل، أو ما يُسمَّى بالمعرفة الظنية، والمنهج الذي يفضلونه هو منهج التبصُّر المباشر الذي يحتاج المرء للوصول إلى نتائجه إلى استنارةٍ وكشفٍ خاطف، ولا يتردد في استخلاص هذه النتائج أو يجرِّب طريقة بعد الأخرى، وبعبارة أخرى ففلاسفة ذلك العهد لم يكونوا يطيقون صبرًا على الملاحظة الدقيقة التي يحتاجها علم الفلك مثلًا، أو على التجارِب البطيئة التي يقتضيها تطبيق أية نظرية علمية، من أجل حل مشكلة عملية أو التغلُّب على عقبةٍ مادية، ولم تكن أرستقراطية العقل ترضى لنفسها أن تقف موقفَ المنتظر المترقِّب الصابر، مع أن هذا الموقف لا ينفصل أبدًا عن العقلية المخترعة القادرة على صنْع الآلات. وعلى هذا النحو نستطيع أن نعلِّل هذه الظاهرة الغريبة، وهي أن صاحب الذهن المخترِع في العصور القديمة كان في كثير من الأحيان يعمل على إخفاء هذه القدرة لديه، ويصوِّر مخترعاته بأنها نشاط ثانوي الأهمية بالقياس إلى كشوفه العقلية الخالصة؛ فأرشميدس — صاحب أكبر عقلية علمية تطبيقية على العالم القديم — كان ينظر إلى مخترعاته النافعة (كالمضخة مثلًا) على أنها مجرد ترويح وتسلية يقوم بها في الأوقات التي يستريح فيها من عناء الأبحاث النظرية في الرياضة والفيزياء، وكان يحرص على أن يذكره الناس على أنه عالم نظري وليس مخترعًا.
والنتيجة الحتمية لهذا الازدراء للمنهج التجريبي وللانفصال القاطع بين النظرية والتطبيق، هي أن وجودَ الرِّق أدَّى بهؤلاء العلماء إلى الانصراف عن أية محاولة لتحقيق الشروط الكفيلة بالقضاء على الرِّق.
أي إنَّ تَدرُّج القيم على أساس وضع البحث النظري الصرف في القمة واحتقار كلِّ ما له صلة بالتطبيق — وهو التدرُّج الذي نشأ عن نظام الرِّق — قد ساعَدَ من جانبه على دعم نظام الرِّق؛ إذ إن انصراف العلماء عن ميدان الاختراع التطبيقي كان يعني عدم تحقيق الشرط الوحيد الذي كان كفيلًا بالقضاء على نظام الرِّق، أعني حلول قوة الآلة محل قوة الإنسان، ومن المؤسف أن البشرية قد اضطرت إلى أن تنتظر أكثرَ من ألفي عام حتى يتحقق هذا الشرط؛ ففي القرن التاسع عشر وحدَه بدأت الآلة تَحُلُّ محل الإنسان على نطاق واسع، فإذا أدركنا أن إلغاء الرِّق لم يتخذ صبغة قانونية دولية لأول مرة في التاريخ إلا في النصف الثاني من ذلك القرن؛ لاتضح لنا أن هناك ترابطًا عكسيًّا لا شكَّ فيه بين التقدُّم التكنولوجي الآلي وبين نظام الرِّق.
إن الإنسان الحديث يرفع لنفسه شعارَ «العمل شرف»، وينسب بذلك إلى العمل قيمةً أخلاقية رفيعةً ترتبط بمعاني الفضيلة والمسئولية وأداء الواجب، أما الإنسان في العصر اليوناني فكان يرفع شعار: العملُ (المتصل بالمادة) عارٌ … والشرف في نظره هو الفراغ مع التأمُّل العقلي، وهو أن يعفيك غيرك من ممارسة أي جهد جسمي لتتفرغ أنت للمناقشة والجدل والحوار و«الديالكتيك»، وأرفع موضوع لهذا الجدل والنقاش هو الفلسفة الإلهية أو الفلسفة الأولى التي لا تبحث في أية مسألة تتصل بالعالم الأرضي المتغير.
ولقد كان الفيلسوف اليوناني — باتباعه هذا الأسلوب في الحياة — يظن نفسه حرًّا بحق، ونسي أن الطبيعة ظلت تقهره وتغلبه؛ لأنه لم يحاول أن يسيطر عليها بالاختراع التكنولوجي، فحريته كانت إذنْ سلبية، تنحصر في الانعزال عن العالم الأرضي وتأمُّل الأمور عن بُعْد … وبدلًا من أن يمارس هذا الفيلسوف فاعليته ونشاطه في التغلُّب على مشكلات العالم المحيط به، نراه يظن أنه قد بلغ أقصى درجات الحرية إذ انعزل عن المجال العملي وتفرَّغ للتفكير النظري البحت، ثم يبرِّر هذا كله بأنه زاهد في المتع الأرضية وبأنه متعلِّق بما هو أرفع من ذلك، ولو كان قد خفض بصره قليلًا من السماء إلى الأرض، وأزال الهُوة الشاسعة التي وضعها بين النظر والعمل؛ لاستطاع بالفعل أن يمارس الحرية الحقيقية — حرية قهر الطبيعة — بدلًا من تركيز الجهد على قهر النفس حتى تتحرَّر من رغباتها وتترفَّع عن مطالبها الطبيعية.
ولكن هذا كله كان يقتضي جوًّا فكريًّا مختلفًا كلَّ الاختلاف، ومجموعة من القيم متباينة تمامًا عما كان سائدًا في العصر اليوناني الكلاسيكي، وكان لا بُدَّ من عقلية جديدة تدرك أن الاندماج في الطبيعة من أجل كشف أسرارها وإخضاعها لإرادة الإنسان واستغلالها في رفع مستوى حياته هو أرفع مظاهر الحرية الحقيقية، ولكن سيطرة الفكر التجريدي على الأذهان كانت تَحُول دون تهيئة الظروف التي تساعد على التقدُّم التكنولوجي، وظل الارتباط واضحًا بين ضعف النزوع إلى الاختراع الآلي وبين النظر إلى التفكير المجرد على أنه أسمى غايات الإنسان، ولقد رأينا من قبلُ أن اليونان قد شهدت في أول عهد حضارتها الفكرية فترةً ظهرت فيها بوادرُ لحركة التقدُّم التكنولوجي، وكانت في الوقت ذاته فترةَ تضافُر — لا عداوة — بين النظر والعمل، وذلك حين لم يكن الاتجاه التجريدي قد أحرز بعدُ انتصارَه الحاسم على أيدي سقراط وأفلاطون وأرسطو. وبالمثل انتهت الحضارة القديمة بفترة أخرى من الازدهار النسبي للتكنولوجيا، شهدتها مدرسة الإسكندرية على وجه الخصوص، وظهرت فيها مجموعة من المخترعات المفيدة، وفي هذه الفترة بدورها كانت سطوة التفكير التجريدي قد خفَّت بعد انهيار المدارس الكبرى الموروثة عن أفلاطون وأرسطو.
ولكن هذه كلها لم تكن إلا فترات انحراف عن الطريق الرئيسي للعصر الكلاسيكي؛ طريق الانفصال بين النظر والعمل. وظلت عقلية أفلاطون وأرسطو هي المسيطرة، وظل الإنسان قرونًا طويلة يترفَّع عن العالم المادي ويتصوَّر الآلة قوَّةً معادية لحياته الروحية، إلى أن حتَّمت العوامل الموضوعية ذاتُها تغييرَ هذه العقلية في ظروفٍ مختلفة كلَّ الاختلاف.