بين الفكر والآلة (٣)
في مقالين سابقين حاولنا أن نقدِّم عرضًا للتطورات التي مرت بها فكرة الآلية منذ العصور القديمة حتى أوائل العصر الحديث، وقد اتضح من هذا العرض أن العصور القديمة كانت ترفض فكرة الآلية على أساس أنها تنطوي على اهتمامٍ مفرط بالعالم المتغير، وتَحُطُّ من قدْرِ الإنسان الحر الذي ينبغي أن يترفَّع عن الاتصال بكلِّ ما له صلة بالأمور المادية، وهو — كما رأينا — موقفٌ كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة المجتمع القديم المبني على نظام الرق، وعلى تقسيم البشر إلى أحرار وعبيد، كذلك اتضح أن فكرة الآلية قد أخذت تشق طريقها بعد انتهاء العصور القديمة ببطء شديد، وتكتسب لنفسها أنصارًا بين المفكرين، حتى إذا جاء القرن السابع عشر، أصبحت الأذهان مهيأة لقبولها، وأصبح الفلاسفة أنفسهم يدافعون عنها ويجعلون لها مكانًا في مذاهبهم، متخذين منها أنموذجًا لتفسير العمليات الطبيعية والكونية، بل وكثير من العمليات التي تدور داخل الإنسان نفسه. وكان معنى ذلك أن الأذهان قد تهيأت لتحوُّل ضخم، تؤدي فيه الآلة دورًا أساسيًّا في حياة البشر، بعد أن كانت من قبلُ منبوذة محرَّمة.
وكان من الطبيعي أن يقترن هذا التحوُّل بتغيُّرٍ مناظرٍ في قيمة العمل؛ ذلك لأن العمل اليدوي أصبح بالتدريج مشروعًا بعد أن كان في العصور القديمة نشاطًا ثانويًّا تقوم به فئات محتقَرة تعيش على هامش المجتمع، ولعل خير ما يرمز إلى قيمة العمل في العصور القديمة تلك الأسطورة التي شاعت في الأدب اليوناني القديم، وهي أسطورة «العصر الذهبي»، التي تقول إن الإنسان لم يكن مضطرًّا إلى العمل عندما كانت الأرض فتيةً تقدِّم إليه كلَّ ما يحتاجه بسخاء، أما عندما أصابتها الشيخوخة وانتابها الفقر، فقد اضطر الإنسان إلى أن يشقى لكي يحصل بعد عناء على ما كانت تقدمه إليه الأرض من تلقاء ذاتها.
ووصل الأمر إلى حد ظهور «عبادة أو عقيدة للعمل»، تُعْزَى فيها إلى العمل صفات القداسة، ويُوصف بأسمى العبارات الصوفية، وفي ظل هذه النظرة الحديثة إلى العمل أصبح يُنْظَر إلى الإنسان على أنه — قبل كل شيء — كائنٌ يقهر الطبيعة ويشكلها كما يشكل ذاته، ويمنحها قدراتٍ جديدةً بإخضاع الطبيعة لسلطانه.
وإذن ففي بداية العصر الصناعي كانت البشرية تَحلُم بعهدٍ تتحرَّر فيه — بفضل العمل — من خضوعها لقوى الطبيعة، وتنتصر على المظالم الاجتماعية التي تجثم فوق صدرها، وظل هذا الشعور ملازمًا للمفكرين فترةً غير قصيرة، غير أن انتشار الآلية على نطاق واسع، وما صاحبه من ظروف أليمة لحياة العمال في العصر الصناعي الجديد، أدَّى إلى حلول التشاؤم تدريجيًّا محل التفاؤل المفرط، وإلى خيبة الآمال التي ظلت تداعب البشرية قرابة قرنين من الزمان قبل ذلك العهد؛ فقد أخذ المفكرون يدركون أنَّ تمجيدهم المطلق للعمل كان سذاجة مفرطة، وبدءوا يرفعون أصواتًا ساخطة يعلنون فيها أن الآلة التي أتت لتخفيف آلام البشر لم تؤدِّ إلا إلى مضاعفة هذه الآلام، وأن العصر «الذهبي» المزعوم قد اتضح أنه عصرٌ أسودُ «فحمي»، وبدلًا من أن يصبح الإنسان — بفضل الآلة — سيد الطبيعة ومالكها، أصبح عبدًا لمَا خلقه هو ذاته، وبالاختصار ظهرت لهم حقيقة بشعة، هي أن الآلة تنتج البؤس بدلًا من الثروة والرخاء.
ولقد وجد المفكرون والشعراء — بوجه خاص — مظاهرَ متعدِّدةً في العصر الصناعي الجديد، تدل على أن هذا العصر قد نشر القبح وقضى على ما في العالم من جمال؛ ذلك لأن الآلات المستخدَمة في مستهل العصر الصناعي كانت بالفعل آلاتٍ قبيحة؛ لأنها بدائية وناقصة ومعقدة، ومن جهةٍ أخرى فإن الطبقة الاجتماعية الجديدة التي أدَّت الثورة الصناعية إلى صعودها وتفوُّقها على غيرها من الطبقات كانت تفتقر إلى التهذيب وإلى حاسة الذوق والجمال، «فأغنياء الصناعة» الذين أصبحوا يحتلون قمة السُّلَّم الاجتماعي في ذلك العصر، كانوا في الأغلب أناسًا غيرَ مثقفين، تمكنوا بفضل ثروتِهم أو قدرتِهم على تحسينِ آلةٍ معيَّنةٍ من أن يتفوقوا على الطبقات العليا القديمة، ولم يكن لهم من هدفٍ سوى زيادة ثروتهم وتوسيع نطاق أعمالهم فحسب، ولا وجه للمقارنة على الإطلاق بين هؤلاء وبين أقطاب الصناعة الحاليين في البلاد الرأسمالية الكبرى؛ إذ إن بعض هؤلاء الأخيرين قد استطاع أن يكتسب بمضي الوقت نوعًا من الثقافة أو الإحساس بالفن والجمال، أما في العصر الذي نتحدث عنه فلم يكن الوقت قد اتسع لهم لاكتساب شيء من هذه الصفات، بل كان هدفهم الأوحد من الحياة هو سحق المنافسين، وكان ذهنهم عاجزًا عن استيعاب أي شيء يخرج عن دائرة مصالحهم وأعمالهم، كذلك كان الفارق هائلًا بينهم وبين أفراد الطبقة العليا القديمة؛ طبقة الإقطاعيين الوراثيين، الذين كان لديهم من الوقت ومن الفراغ — في حياتهم ذات الإيقاع الهادئ البطيء — ما يسمح لهم بإبداء الاهتمام بكثير من الميادين الثقافية والفنية.
ولسنا في حاجةٍ إلى الاستطراد في بيانِ مساوئ أحوال العمل الصناعي، من بطالة وسوء أجور وتدهورٍ للأحوال الصحية والنفسية للعامل؛ إذ إن هذه قصةٌ معروفة طالما تناولتها الأقلام، والذي يهمنا في هذا الصدد هو أن عددًا كبيرًا من المفكرين الذين هاجموا العصر الصناعي — في هذه الفترة — كانوا أناسًا مخلصين ثارت نفوسُهم على النزعة الآلية بعد أن بَدَا لهم أنها مصدر كل الشرور في ذلك العصر؛ فتلك النزعة قد أدَّت — في رأيهم — إلى القضاء على ما في العالم من تنوُّع وفردية، وأحلت محلَّه الاطراد الممل الرتيب، وهي قد أدخلت لأول مرة عبادةَ الكم والضخامة العددية الخالصة، واستعاضت بها عن تقدير الكيف والقيم الكامنة للأشياء، وهي قد أدَّت إلى تدهور الأذواق وانخفاض مستوى الثقافة، وأخضعت الإنسان للسعي وراء الكسب، وعوَّدته اللذات السوقية، وقضت على العمق أو البُعد الباطن في حياة الإنسان، ووصل الأمر بالبعض إلى حد القول إن العامل الذي يقف أمام الآلة ليؤدي عملًا رتيبًا متكررًا عددًا لا متناهيًا من المرات، تنحط إنسانيته إلى حدٍّ لا يختلف كثيرًا عن حالة الرقيق في العصر اليوناني أو الروماني.
ولا شك أن ردَّ الفعل هذا كان عنيفًا إلى حدٍّ بعيد، وكان مسرفًا في انتقاده للعصر الصناعي؛ إذ نَسب إليه أخطاء لم يكن له دورٌ فيها، على حين أنه نسب إلى العصور السابقة عليه مزايا مبالغًا فيها إلى حدٍّ بعيد، فعصر الحِرَف — الذي سبق العصر الصناعي في أوروبا — كان بدوره عصر بؤس شديد، ولم يكن العامل فيه حرًّا على النحو الذي صوَّره الكُتَّاب الرومانسيون الساخطون على الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، كذلك صوَّر هؤلاء الكُتَّاب مدنَ العصور الوسطى على نحوٍ مبالغ فيه، وتخيلوها بصورة أجملَ بكثير من صورة المدن المزدحمة القبيحة التي نَمَتْ بسرعة في العصر الصناعي، ومع ذلك فقد كانت هذه المدن تمثِّل واحات صغيرة من الرخاء وسط صحراء من البؤس والفقر المدقع في الريف، الذي كانت أحوال الفلاحين فيه تقرب بالفعل من أحوال العبيد.
وإذن فمهما قيل عن مساوئ العصر الصناعي في فترته الأولى، فهو على أسوأ الفروض لم يَزِد من البؤس الموجود فعلًا، بل لقد كان السبب الحقيقي في ذلك الشعور الواضح ببؤس العامل في تلك الفترة هو الإحساس الواعي بوجود الطبقة الدنيا من المجتمع، وبأن لهذه الطبقة مشاكلها التي ينبغي أن تُعالَج على نحوٍ حاسم؛ فقبل العصر الصناعي كانت مشكلات هذه الطبقة الدنيا تتوارى تمامًا وراء السطح الظاهري الذي تمثِّله حياة الطبقات العليا في المجتمع، ولم يكن هناك بالتالي إحساس واضح بطبيعة الحياة البائسة التي تحياها الكثرة الغالبة من المجتمع، أما منذ العصر الصناعي، فقد ازداد الكُتَّاب والأدباء وعيًا بالأحوال التي تعيش فيها الطبقات الكادحة، وبدأ ظهور المُثُل الديمقراطية التي أتاحت لعدد متزايد من الأقلام أن تصف حقيقة الفقر الذي يعانيه العامل، وتقترح مختلف الوسائل لمكافحته، ومعنى ذلك — باختصار — أن ما زاد بالفعل لم يكن بؤس الطبقات الدنيا من المجتمع، وإنما وعي المجتمع بهذا البؤس.
ومن جهةٍ أخرى، فقد أدرك المفكرون الأكثرُ تعمُّقًا أن انتشار البؤس في العصر الصناعي لم يكن راجعًا إلى الآلة ذاتها، أو إلى طبيعة العمل في صورته الصناعية الجديدة، وإنما إلى العلاقات الاجتماعية التي تتحكم في طريقة توزيع الثروة في العصر الجديد؛ فالتنظيم الاجتماعي القائم — بما فيه من استغلال واستعباد للعامل الصناعي — كان مسئولًا إلى حدٍّ بعيد عن تدهور أحوال الطبقات الدنيا من المجتمع في عصرٍ كان يمكنهم فيه الإفادة إلى حدٍّ بعيد من ذلك الشكل الثوري الجديد من أشكال الإنتاج، وأعني به الصناعة. وهكذا كانت محاولات الإصلاح تسير في طريقٍ مزدوجٍ — طريق فني أو تكنولوجي — يتم فيه تحسينُ الآلات وزيادة كفاءتها وقدْرتها الإنتاجية والإقلال من تعقيدها، وطريقٍ اجتماعيٍّ يتم فيه تغيير العلاقات الاجتماعية الاستغلالية السائدة، ويستعيد فيه العامل تدريجيًّا حقوقَه المسلوبة.
ونستطيع أن نقول إن العصر الصناعي الحالي قد حقَّق الثورة الفنية أو التكنولوجية الكفيلة بالقضاء على كثير من مساوئ أحوال العمل في العصر الصناعي المتقدم، وأنه مضى شوطًا بعيدًا في سبيل تحقيق الثورة الاجتماعية التي تعيد إلى العامل قيمةَ عمله كاملة، فهل اختفت — نتيجةً لذلك — مشكلاتُ العمل؟ وهل أفلحت التطوُّرات التكنولوجية والاجتماعية الحاضرة في إضفاء طابع إنساني على العمل، وإزالة الفوارق بين العمل الآلي أو اليدوي وبين سائر أنواع النشاط التي يشتغل بها الإنسان؟ الواقع أن المشكلة أعقدُ من أن يمكن الإتيانُ بجوابٍ مبسَّطٍ لها، ولا بُدَّ لتقدير أبعادها الحقيقية من تقديم عرض مفصَّل لطبيعة المشكلات الإنسانية التي يواجهها العمل في وقتنا الحالي.
يقسِّم بعضُ المفكرين العصر الصناعي إلى فتراتٍ منفصلة: الأولى فترة «الفحم والحديد» منذ بداية الثورة الصناعية حتى أواسط القرن التاسع عشر، والثانية فترة الكهرباء، والثالثة فترة الطاقة النووية والآلات الإلكترونية، والواقع أن كلَّ عهدٍ من هذه العهود يمثِّل ثورةً حقيقية على العهد السابق عليه؛ ففي عصر الكهرباء تخلَّص الإنسان من كثير من مظاهر القبح التي كانت تلازم العمل في العصر الصناعي الأول، وأصبحت الآلة أدقَّ وأبسطَ وأنظفَ وأقوى بكثيرٍ مما كانت عليه من قبل، غير أن النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد الثورة الحاسمة؛ ثورة الطاقة النووية والسيبرنطيقا والتسيير الذاتي والعقول الإلكترونية، وكان لهذا النوع الجديد من الآلات مزاياه الهائلة؛ فهي تقتضي حدًّا أدنَى من تدخل الإنسان، وتوفِّر الطاقة البشرية إلى حدِّ لم يكن أحدٌ يحلم به من قبل، وتستطيع القيام بكثير من الأعمال الرتيبة التي كانت تَحُطُّ من إنسانية العامل في العصر الصناعي الأول، والأهم من ذلك كله أن قدْرتها الإنتاجية الهائلة قد أتاحت زيادة الثروة في البلاد الصناعية المتقدمة إلى حدٍّ ارتفع معه مستوى حياة العامل ارتفاعًا كبيرًا، وازدادت معه قدرة المجتمع الصناعي على توزيع ثمار العمل والإنتاج على عدد متزايد من الناس.
هذه كلها حقائقُ واضحةٌ لا تحتاج إلى مزيد من التفصيل، ولكن الأمر الذي يبدو أقلَّ وضوحًا هو أن هذا العصر الصناعي الجديد قد خَلَقَ مشكلاته الإنسانية الخاصة التي لم يعرف كيف يتخلَّص منها حتى اليوم؛ ففي رأي الباحثين — مثلًا — أن الآلات الإلكترونية ستنتزع الإنسان عن عرشه، وتحل محله كائنات آلية تنافسه في القيام بالأعمال التي كان ينفرد بها من قبل؛ فهم يرون أن الإنسان — في عصر السيبرنطيقا — قد أصبح يعهد إلى الآلة بعمليات تزيد على ما ينبغي أن يكلِّفها به، فأية عملية حسابية معقدة إلى حدٍّ ما تُتْرَك للآلات الحاسبة، على حين كان العلماء في العصور السابقة يقومون بأنفسهم بكثير من هذه العمليات فيزيد هذا من شحذ أذهانهم وينمي قدرتهم على التفكير، وبعبارة أخرى فإن البعض يخشون من أن تعتاد الأذهان الخلاقة هذا الكسل العقلي إلى حدٍّ لا تعود معه قادرة على الاعتماد على قدراتها الخاصة في حلِّ ما يواجهها من المشكلات العقلية.
ومن جهةٍ أخرى، فإن الآلات الإلكترونية الحديثة لمَّا كانت تنظِّم نفسها بنفسها، وتستطيع الاختيارَ بين عدة ممكنات، فإنها تبدو كما لو كانت تقوم ببعض الوظائف الفكرية … وليس هذا اعتقادًا يَشيع بين عامة الناس فحسب، بل إن بعض الفلاسفة المتخصصين يشاركون فيه؛ فقد خُصِّصَ أحد أعداد مجلة «الفلسفة» (عدد يناير–أبريل ١٩٥٧م) للآلات الإلكترونية، وكان السؤال الرئيسي الذي تناوله الباحثون: هل تستطيع هذه الآلات أن تفكِّر بالفعل؟ وهل يستطيع الإنسان أن يدافع عن نفسه ضد منافسة هذه الآلات؟ وهكذا يقف الإنسان لأول مرة موقفَ المدافع عن قدْرته الفكرية أمام شيء صنعه هو ذاته، وإذا كان هناك مَن ينكرون جدية هذه المشكلة، فليذكرْ هؤلاء أن الفترة الصناعية كلها قصيرة العمر جدًّا بالنسبة إلى تاريخ البشرية، وأن الثورة الصناعية الثالثة — ثورة العقول الإلكترونية — لم تتعدَّ عشرين أو ثلاثين عامًا، فما الذي يمكن أن يأتي به التطوُّر في هذا الاتجاه بعد مائة عام مثلًا، مع عمل حساب التزايد المستمر في معدلات النمو والتقدُّم؟
على أن هذه — باعتراف الجميع — ليست أخطرَ المشكلات الإنسانية التي يواجهها العصر الصناعي، وإنما الخطير هو إدراك كثير من المفكرين أن الهُوَّة بين العمل اليدوي والعمل العقلي ما زالت قائمة، وربما زادت اتساعًا، وأن كلَّ ما حدث من تقدُّم آلي لم يصبغ العمل بالصبغة الإنسانية المنشودة، فما زال كثير من المفكرين الاجتماعيين يؤكدون أن الاتصال المستمر بين العامل وبين المادة أو الآلة يجعله يفقد — بحكم طبيعة عمله ذاتها — شيئًا من إنسانيته، ويزداد عجزًا عن التكيُّف مع كل عناصر الحياة الاجتماعية.
فالكاتبة «سيمون فيل» تؤكد أن الإنسان الذي يقف أمام الآلة في مصنعٍ كبير هادر، هو إنسان منعزل تمامًا، حتى على الرغم من كلِّ ما يحيط به من مظاهر الحياة الصاخبة، وهي تؤكد أنه لا شيءَ يجعل الإنسان عاجزًا عن تهذيب نفسه أكثرَ من الاتصال المستمر بالآلة؛ إذ إن عليه أن يطيعها في صمت، بل إن هذه الكاتبة لتذهب إلى أن أية ثورة اجتماعية تعجز عن أن تفعل شيئًا حيال هذا الوضع؛ «ففي العمل اليدوي … عنصر ضروري من العبودية لا يمكن أن تمحوه العدالة الاجتماعية الكاملة ذاتها.»
وقد يكون في هذا الرأي نوعٌ من التطرُّف، ولكن من الواجب ألا يستخف به المرء ويتمسك بالنظرة الرومانسية التي كان اشتراكيو القرن التاسع عشر يمجِّدون بها العمل ويجعلونه مصدرًا للمتعة وللثقافة، بل وللفن والجمال، فهل يستطيع أحد أن ينكِر أن هناك مشكلة حقيقية تتمثَّل في التفاوت الشاسع بين العمل الخلاق الذي يقوم به العالِم أو المفكر أو الكاتب أو الباحث، وبين العمل المتكرِّر الذي يؤديه العامل دون تغيير — أمام رصيف متحرك — آلاف المرات في اليوم، ومئات الأيام في السنة، وعشرات السنين خلال حياته؟ صحيح أن العمل ذاته قد أصبح أبسط، ولم تَعُد المشكلةُ مشكلةَ إجهاد جسمي، وهذا يمكن أن يُعَدَّ تقدُّمًا من وجهةِ نظرٍ معيَّنة، ولكن هناك الإجهاد النفسي والتوتُّر العصبي الشديد الذي يتولَّد عن السأم، وعن سرعة إيقاع العمل، وعدم التنوُّع فيه، وتلك مشكلاتٌ قد لا تقل في نظر البعض خطورة عن المشكلات القديمة.
إن العمل — لكي يكون إنسانيًّا بحق — ينبغي أن يكون خلاقًا متنوِّعًا جذابًا، وتلك صفات لا تتوافر في كثيرٍ من الأعمال الآلية التي يؤديها الإنسان المعاصر، صحيح أن تقدُّم الآلية يخفِّف تدريجيًّا من وطأة الأعمال المرهقة، ويقتضي تدريب أعداد متزايدة من العاملين المهرة، وإحلال مزيد من الأعمال العقلية محل الأعمال اليدوية، والاستعاضة بالآلات عن الإنسان في كثير من الأعمال التي تتم في ظروف قاسية كالتعدين مثلًا، ومع ذلك فما زال الألوف من العمال، في كل بلاد العالم المتقدمة في التصنيع، وفي كل الأنظمة الاجتماعية يقِفون أمام الآلة كل يوم ليؤدوا نفس الأعمال المتكررة التي لا تثير خيالًا ولا تقتضي أية قدرة خالقة، فهل ينكِر أحد مدى اتساع الهُوة بين هذه الأعمال وبين الأعمال العقلية الخلاقة؟
إن بعض الباحثين يرون أن الحل إنما يكمن في توزيع الإنسان لجهده بين العمل العقلي واليدوي، وهم يرون أن آلات المستقبل ستبلغ من الكمال حدًّا يجعل تشغيلها أمرًا هينًا يستطيع أي إنسان القيام به، وعندئذٍ يمكن الأخذ بنظام «التناوب» بحيث يقوم المرء بالأعمال الآلية جزءًا معيَّنًا من الوقت، ثم يتركها إلى الأعمال العقلية أو يتنقل بين أنواعٍ متعدِّدة من الآلات حتى لا يتملكه الملل، وبذلك تزداد طرافة العمل بالنسبة إليه، فهؤلاء يحلمون بانتهاء عهد «التخصص» الضيق نتيجة لبلوغ الآلات مرحلة الكمال، ولتزايد بساطة الدور الذي يقوم به الإنسان إزاءها، ولكن إمكان الاعتماد على هذا الحل يتوقَّف — بطبيعة الحال — على الاتجاه الفعلي الذي سيسير فيه التطوُّر، وليس هناك أي نوع من الإجماع على الرأي القائل بأن هذا التطوُّر يسير نحو الاستغناء عن التخصُّص الدقيق، أو القضاء على فكرة تقسيم العمل التقليدية، ويرجِّح الكثيرون أن الإنسان سيظل يعتمد طويلًا — في إتقانه لعمله — على التدريب الطويل في ميدان محدَّد، وسيظل التخصص هو سبيله لرفع مستوى معرفته النظرية وإنتاجه العملي، وإذن فأقل ما يُقال عن هذا الحل أنه غير مضمون.
ولا شك أن الحل الأكثر واقعية هو تعويض ما يفقده العامل عن طريق زيادة أوقات فراغه والإفادة من هذه الأوقات إلى أقصى حد، وبالفعل نجد أن وقت الفراغ في حياة العامل الحديث يزداد اتساعًا؛ فبفضل تراكم ثمار العمل استطاع الإنسان أن يقلِّل ساعات عمله ويزيد أجره ويخترع الوسائل التي تكفُل له الاستمتاع بهذا الوقت، وترتَّب على ذلك أن ازدادت أهمية المشاغل التي يقضي بها الإنسان وقت فراغه كالرياضة واللهو والترويح عن النفس … وظهرت فنونٌ لا تصلح إلا لعصرٍ يخرج فيه العامل من عمله مكدودًا، ويسعى إلى الترفيه بأي ثمن، كموسيقى الجاز الصاخبة والرقص الهستيري الذي يخفِّف على الأقل من التوتُّر العصبي للعامل المرهق نفسيًّا.
ولكن هل يستطيع أحد أن يقول إن الإفادة من وقت الفراغ — حتى لو كان ذلك بطريقةٍ أسلم وأخصب من الطريقة السابقة — تُعَدُّ حلًّا حاسمًا للمشكلات الإنسانية في العمل؟ الواقع أن كل ما يفعله الإنسان في وقت فراغه إنما هو شيء يتعلَّق بما يترتب على عمله لا بعمله ذاته؛ فنحن في هذه الحالة نعالج مشكلات «ما بعد العمل» لا العمل نفسه، وإذا كنا نعقد آمالنا على الإفادة من أوقات الفراغ في حل مشكلات العمل، فمعنى ذلك أن العامل لا يبدأ في الاستمتاع بوقته ولا يشعر بإنسانيته حقًّا إلا بعد أن ينتهي يوم عمله، وتلك — بلا شك — ميزة غير قليلة، ولكنها لا تدل على أن مشكلة العمل ذاتها قد حُلَّت؛ إذ يُعَد العمل في هذه الحالة مجرَّد وسيلة شاقة مرهقة من أجلِ غايةٍ أخرى تتجاوزه، دون أن يكون غاية في ذاته، فإذا كان العمل ذاته يزداد رتابة وإملالًا، وتزداد آفاقه ضيقًا، على حين أن الفراغ يزداد اتساعًا، فلا بُدَّ أن يحدث توتُّرٌ آخَرُ بين هذا الضيق وذاك الاتساع. ومن جهةٍ أخرى فمن الواجب أن تُقدَّر قيمة أوقات الفراغ في ضوء الحياة الكاملة التي يحياها الإنسان؛ فمن الصعب أن نتصور إنسانًا يشعر بالسأم من عمله المتكرر، ومع ذلك يستطيع أن يقضي أوقات فراغه بطريقةٍ سليمة مثمرة، وإنما الأرجح أن يكون ما يفعله بوقت فراغه ردَّ فعلٍ على عمله الذي يضيق به، أي إن سأمه وملله وضيقه هو الذي يتحكم في طريقة شغله لأوقات فراغه، ومعنى ذلك — بعبارة أخرى — أنه لا بُدَّ من حل مشكلة العمل ذاتها حتى يستطيع العامل أن يجني كل الفوائد الممكنة من أوقات فراغه.
وإذن فهل نستطيع — بعد هذه الرحلة الطويلة التي استعرضنا فيها موقف الفكر البشري من الآلة ومن العمل اليدوي على مر العصور — أن نقول إن انتقادات الفلاسفة القدماء للعمل اليدوي قد أصبحت غير ذات موضوع؟ وهل نستطيع أن نجزم بأن الإنسان العامل قد تخلص تمامًا من كل أنواع العبودية؟
إن الأمر الذي يمكننا أن نؤكده هو أنه قد سار شوطًا بعيدًا في سبيل التخلُّص من العبودية الاجتماعية، وتحرير ذاته من النظم الاستغلالية التي كانت تحول بينه وبين التمتُّع بثمار عمله، ولكننا لا نستطيع أن نؤكد — بنفس القوة — أنه أصبح — وهو يقوم بعمله — يَحُسُّ بأنه يمارس نشاطًا خلَّاقًا مشوقًا، لا يشعر فيه بأن إنسانيته قد أُهْدِرَت، صحيح أنه الآن أقوى شعورًا بما يمكن أن يعود به العمل من مكاسب، وبمقدار التغيُّر الذي يمكن أن يطرأ على حياته بفضل العمل، ولكن من الصعب أن يجزم المرء بأن العامل يجد متعةً كامنةً في عمله ذاته، وأنه ليس محتاجًا إلى وسائلَ أخرى — خارجة عن نطاق عمله — لإثارة حماسته للعمل.
وهكذا يبدو للكثيرين أن أدق النظم تطبيقًا للاشتراكية ما زالت — حتى الآن — بعيدةً عن حلِ مشكلةِ رتابةِ العمل الآلي وشعور الإنسان فيه بالتفتُّت والتمزُّق، وما زالت عاجزة عن التخلُّص من كثير من الأعمال «المهينة» كأعمال النظافة مثلًا، وما زال العامل فيها يفتقد في أوقات عمله عنصرَ الابتكار والخيال وسط الآلية الشاملة المحيطة به. إن تحقيق العدالة الاجتماعية — بمفهومها الراهن — لم يقضِ على كل المشكلات الإنسانية في العمل، وما زال على البشرية أن تكتشف أبعادًا أخرى أشدَّ اتساعًا لمفهوم العدالة الاجتماعية، وتبتدع وسائلَ جديدة لحل مشكلة التقابل بين العمل اليدوي والعمل العقلي، بعد أن قطعت شوطًا بعيدًا في حل مشكلة التقابل بين العامل وصاحب العمل.
وقد يكون من أهم هذه الحلول إشعارُ العامل بقيمة عمله ونتيجته؛ ذلك لأن المشكلة الحالية للعامل الصناعي ليست هي الإرهاق الجسمي — كما قلنا من قبل — وإنما الملل والسأم، والشعور بأنه مجرد «ترس» في آلةٍ ضخمةٍ لا يُعرف أوَّلُها ولا آخرُها، وبأنه جزءٌ ضئيل من كلٍّ أكبرَ لا يفهمه ولا يعرف حدوده. وبالاختصار فالمشكلة تنحصر إلى حدٍّ بعيد في أن العامل لا يعرف النتيجة الكاملة لعمله، ولا جدال في أن المجتمعات الاشتراكية هي الأقدر على حل هذه المشكلة؛ فبالتوعية تستطيع هذه المجتمعات أن تشرح لعمالها أهدافها العامة، وتربط بين عملهم وبين حياة المجتمع من حيث هي كل شامل؛ فحين يتكشف للعامل نتاجُ عمله المباشر، وحين يدرك أثر عمله وعمل غيره في حياة المجتمع بوجه عام، ستخف إلى حدٍّ بعيد وطأة الجو اللاشخصي الذي تخلقه الآلة، ويزداد العامل شعورًا بإنسانيته، أما في المجتمعات الرأسمالية فنادرًا ما يدرك العامل طبيعة الهدف الذي تتجه جهوده إلى تحقيقه، ولو أدركه لوجد أنه هدفٌ محدود ينتفع منه غيره، لا المجتمع ككل؛ فالهدف هو دائمًا زيادة إنتاج المصنع أو أرباح أصحابه، أو إرضاء حاجات الطبقة المترفة من المجتمع.
وإذا كنا قد تحدَّثنا عن المجتمعات الاشتراكية بوصفها أقدرَ من غيرها على إضفاء مزيد من الطابع الإنساني على العمل، فمن الواجب أن نضيف إلى ذلك أن المشكلات الإنسانية للعمل أقلُّ ظهورًا في الدول النامية بوجه خاص؛ ذلك لأن هذه الدول متأخرة في تطورها، ولم تمر بالتجارِب المريرة الأولى التي اقترنت بالعصر الصناعي في مرحلته الأولى، ومن هنا كانت نظرتها إلى التصنيع أكثرَ تفاؤلًا، بل إن التصنيع يمثِّل — في واقع الأمر — أملها الحقيقي في مستقبلٍ أفضل.
ومن جهةٍ أخرى فإن النهضة الثقافية للدول النامية ترتبط بمرحلة التصنيع ارتباطًا وثيقًا؛ فالعهود السابقة على التصنيع — وهي الاحتلال الاستعماري وما يرتبط به من استغلال وجهل وتخلُّف — ليست بالعهود التي تستحق أن تتحسَّر عليها هذه البلدان، وعلى عكس البلاد الأوروبية التي كانت تجد في ماضيها الإقطاعي عناصرَ مضيئة تدفع بالبعض إلى التشاؤم من مستقبل المجتمع في ظل الصناعة، فإن البلاد النامية تدخل عهد الصناعة وهي مؤمنة بأن نهضتها الحقيقية متوقفة عليه، ومتحررة تمامًا من كل قيد يشدها إلى الماضي.
وأخيرًا فإن البلاد النامية إذا بدأت دخول عصر التصنيع في ظل نظام اشتراكي، ففي وُسعها عندئذٍ أن تتخلص من كثير من المسائل غير الإنسانية للنظام الرأسمالي، وتمر بتجربة جديدة، هي تجرِبة يتمشَّى فيها السير نحو التصنيع مع السير نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، ويدرك فيها العامل — منذ بداية الأمر — نوع الأهداف الاجتماعية الشاملة التي سيشارك في تحقيقها بعمله، وبذلك يصطبغ عمله منذ البداية بصبغة إنسانية واعية.