هيجل في ميزان النقد١
ليس النقد الذي أعنيه ها هنا نقدًا أود أن أوجِّهه إلى فلسفة هيجل، أو محاولة لإصدار حكم على هذه الفلسفة من خلال وجهة نظر خاصة بكاتب المقال؛ إذ إن مثل هذا النقد يقتضي من التفرُّغ والانقطاع لدراسة هذه الفلسفة ما أعترف أنه لم يتوافر لي بعدُ، بل إن كثيرًا من المفكرين قد كرَّسوا الشطر الأكبر من حياتهم في محاولةٍ للتعمُّق في فكر هذا الفيلسوف الكبير ولم يصلوا — بعد كلِّ ما بذلوه من جهد — إلى المرحلة التي يستطيعون فيها أن يضعوا فكر هيجل في ميزان النقد، وإنما كنت أعني نقد العصر — عصرنا الذي نعيش فيه — لتلك الفلسفة التي استطاعت أن تواجه تحدياتِ عصور متباينة كلَّ التباين، وأن تجدِّد نفسها — طوال ما يقرب من قرن ونصف القرن — في أشد الظروف الحضارية والسياسية والاجتماعية اختلافًا.
وإذا كان المفكر الفرد يشعر بالحرج من التصدي لفكر فيلسوف ضخم مثل هيجل، ومن وضعه في ميزان النقد، إن لم يكن قد هيأ نفسه لهذه المهمة عن طريق الدراسة الشاقة المضنية التي تستغرق من العمر وقتًا ليس بالقصير، فإن العصر حين ينقد فيلسوفًا، لا يمكن أن يشعر بحرجٍ كهذا، بل إنه يمارس — في واقع الأمر — حقًّا مشروعًا؛ ذلك لأن من حق أي عصر أن يتمثَّل الفكر الفلسفي من جديد، وأن يعيد اختباره في ضوء مقوِّماته ومتطلباته الخاصة، وحين يضع العصر مفكرًا في ميزان النقد، فهو لا يفعل ذلك على سبيل الادعاء والغرور، بل إنه إنما يتخذ عندئذٍ الموقف الذي يتعيَّن اتخاذه إزاء كل فلسفة، وأعني به إعادة تفسيرها — وربما إعادة خلقها — على أساس تلك الخصائص التي يتميز بها كل عصر عن غيره، وحتى لو أدَّى ذلك إلى ألا تعود للفيلسوف الواحد صورةٌ واحدة تُتَّخذ مقياسًا لغيرها من الصور، وإلى أن تكتسب الفكرة الواحدة ألوانًا وسماتٍ متباينة تفقد معها «هويتها» الأصلية، فلن يكون في ذلك ضير؛ إذ إن الفكر الفلسفي — على خلاف الفكر العلمي — لم يظهر أصلًا لكي يكشف للناس عن حقائق ثابتة، بل لكي يثير أذهانهم ويدفعها إلى إعادة اختبار مشكلاتها من جديد، ولن يكون ذلك الفكر قد أدَّى الوظيفة المتوقَّعة منه، ولا الرسالة التي كرس الفلاسفة أنفسهم حياتهم لها، لو أنه فرض نفسه علينا في صورة واحدة جامدة لا يطرأ عليها تطور، أو طالبنا بأن نحتفظ بطابعه «الأصلي»، ونصونه من تأويلات العصور المتباينة وتحريفاتها.
فلكل عصر — إذن — حقٌّ مشروع في أن يضع الفلسفات التي ورثها في ميزان النقد، وهو إذ يفعل ذلك فإنه لا يستهدف تحقيق مصالحه الخاصة وحدَها (أعني أنه لا يهدف إلى إعادة اختبار تراثه الفكري من أجل استبقاء ما يعينه على تحقيقِ فهمٍ أفضلَ لنفسه وللعالم فحسب)، بل إنه يستجيب بذلك لنداء الفلسفة الحقة، ويعمل على تحقيق رسالتها الأصيلة — التي هي إثارة الأذهان وحفز العقول على التفكير — لا نقل مضمون أو محتوى ثابت من المعارف من جيل إلى جيل.
بهذا المعنى واستهدافًا لهذه الغاية يعمل عصرنا على إعادة تفسير هيجل، ويضع فكره في ميزان النقد، وعلى الرغم من أن هيجل قدَّم فلسفته على صورة مذهب متكامل مُحْكَم البناء، لا يمكن أن يُنتزع منه أو يُضاف إليه شيء، فإن فلسفته هذه قد كشفت لكل العصور التالية — على رأسها عصرنا الحاضر — عن قدرةٍ مذهلة على الاستجابة لمقتضيات أنماط من الحياة تختلف أساسًا عن تلك التي صيغت هذه الفلسفة في ظلها، وبالمثل فعلى الرغم من أن هيجل كان من أشد الفلاسفة وعيًا بطبيعة العصر الذي عاش فيه، حتى إنه جعل من ذلك العصر محورَ ارتكاز تدور حوله كلُّ أحكامه على العصور السابقة، وكانت فلسفته تبدو كما لو كانت قد اتخذت طابعًا مقفلًا على نفسه، مكتفيًا كلَّ الاكتفاء بذاته، ويستحيل أن تُفْهَمَ إلا بالإشارة إلى العصر الذي ظهرت فيه، على الرغم من ذلك فإن هيجل يُعَدُّ أنموذجًا نادرًا للفيلسوف الذي يوحي للعصور اللاحقة بأفكارٍ جديدة، ويستطيع أن يخاطبها بلغتها الخاصة، وهذه القدرة وحدَها كافية لكي تجعل لهيجل مكانةً رفيعة في عصرنا الحاضر، مهما ثقلت موازينه حين يُوضع فكره في ميزان النقد.
إن كل فلسفة كبرى تقبل بطبيعتها ألوانًا شتَّى من التفسيرات، بل ربما كان في وُسع المرء أن يتخذ من تباين التفسيرات معيارًا يقيس به المكانة الحقيقية لفكر الفيلسوف، وبهذا المقياس يظهر هيجل في صورةِ ماردٍ فكري لا نظير له؛ ذلك لأن فلسفته قد أوحت للشُّراح بأشد التفسيرات تقدُّمية ورجعية في آنٍ واحد؛ فهو في نظر البعض فيلسوف تشعُّ من تعاليمه روح الثورة، وفي نظر البعض الآخر داعية متحمِّس إلى الروح المحافظة، وتارة تتبنى تعاليمه أشد الاتجاهات الفكرية يسارية، وتارةً أخرى يرحِّب بها اليمين ويرى فيها أفضل وسيلة لمحاربة تطرُّف اليسار، وهي فلسفة مثالية — بمعنًى خاصٍّ لهذه الكلمة — ومع ذلك فقد انبثق منها أشهرُ المذاهب المادية في العصر الحديث، وهي في نظر البعض فلسفة متفائلة إلى حدِّ تبرير كل وضع قائم، وفي نظر البعض الآخر فلسفة مأساوية يحرِّكها إحساس الإنسان بتمزق وعيه وشقائه، بل إن صورة الفيلسوف ذاته تتباين، من ذلك الأستاذ الجامعي المهادن الذي أصبح في الطور الأخير من حياته «دكتاتورًا فلسفيًّا» في بلاده، ومعبِّرًا عن مصالح النظام القائم، إلى فيلسوف الثورة والتغيُّر والنفي والرفض.
لقد كان هيجل فيلسوفًا محترفًا دون أدنى شك، بل إنه ربما كان خير ممثِّل للفلسفة كمهنة مستقلة قائمة بذاتها، أو إن شئت فقل إنه كان تجسيدًا حيًّا للفلسفة من حيث هي عمل يشغل به الإنسان حياته كاملة، ولم يكن هيجل يخجل من أن يُوصف بأنه فيلسوف محترف؛ إذ إن الفلسفة عنده «حرفة» لها قواعدها ولغتها وأصولها، وتقتضي مرانًا وتدريبًا عقليًّا خاصًّا، ولقد كان هيجل في ذلك على النقيض من خصمَيه المعاصرَين له — كيركجورد وشوبنهور — اللذين أراد كلٌّ منهما أن «يعيش» فلسفته، وأن يقضي على كل ازدواج بين شخصيته من حيث هو إنسان، وشخصيته من حيث هو فيلسوف، ولعل خيرَ ما يمكن التعبيرُ به عن موقفهما من طريقة هيجل في التفلسف هو أن نستعير لفظًا من هيجل ذاته — أعني لفظ «الاغتراب» — فالفيلسوف المحترف إنسان مغترب؛ لأنه يحيا بوصفه صاحبَ مهنة معيَّنة — أعني «أستاذًا» في حالة هيجل — ويحيا من ناحية أخرى بوصفه فيلسوفًا، وهو في حياته كفيلسوف يمارس فكرًا لا صلة له بحياته اليومية أو بمهنته بوصفه موظفًا عامًّا في الدولة.
ومع ذلك فإن هذا الذي يُعَد اغترابًا قد يكون — من وجهة نظر معيَّنة — مصدرَ إثراء لفكر الفيلسوف؛ ذلك لأن عمله في الدولة يمكن أن يعني اندماجه في الحياة العامة بوصفه مواطنًا، بحيث تُثرى تجرِبته الفلسفية بممارسته للشئون العملية، على حين أن ذلك الذي يحيا فلسفته (ويظن أنه يقضي على الاغتراب في ذاته) قد تكون حياته خاويةً هزيلة؛ لأنها لا تخرج عن حدود تفكيره الفلسفي. والحق أننا لو ألقينا نظرة إلى طبيعة عصرنا الحاضر؛ لتبين لنا أن وجهة نظر هيجل هي الأقرب إلى الصواب؛ إذ إن كثيرًا من أنواع النشاط الروحي تتحوَّل إلى «حِرَف» لها أصولها وقواعدها الخاصة، بحيث أصبحنا نجد شعراء وأدباء وفنانين محترفين، وكاد أن يختفي من حياتنا ذلك النمط من الهواة ومن أصحاب الأمزجة الأدبية أو الشاعرية، الذين يمارسون التفلسف أو غيره من ضروب النشاط الروحي دون أن يعترفوا به مهنةً ذات قواعد وأصول تقتضي تدريبًا ومرانًا شاقًّا.
على أن الأمر الذي يدعو إلى العجب حقًّا هو أن هذه الفلسفة، التي ظهرت أصلًا بوصفها مهنةً احترافية، على نحوٍ يوحي بأنها تدعو إلى تثبيت الفكر وتمجيده، كانت في واقع الأمر أبعدَ الفلسفات عن التحجُّر في أشكالٍ أو قوالبَ ثابتة؛ ذلك لأن الفلسفة عند هيجل هي أعلى صور وعي الروح بذاتها، وهي أرفع مراحل تجلِّي هذه الروح، وماهية الروح لا تعدو أن تكون فعْلها ونشاطها. وعلى ذلك فإن الصورة الحقة للفلسفة هي ذلك الفعل والنشاط الفكري الذي لا ينقطع، والذي يُمارَس على كل حصيلة استمدَّها الذهن البشري من أي ميدان من ميادين نشاطه، وبعبارةٍ أخرى فإن فلسفة «الأستاذ» الذي طالما سخر خصومه من لقبه هذا، هي أبعد ما تكون عن التعاليم الثابتة التي يلقيها «الأساتذة» في عقول تلاميذهم، وهي فاعلية فكرية لا تنقطع، وحركة ذاتية للعقل البشري، لا تتجمَّد ولا تتحجَّر في أي مذهب أحادي الجانب.
هذا الطابع الدينامي لمذهب هيجل هو الذي يتيح له أن يعلو على كل الصور الشائعة للمذاهب الفلسفية، بل أن يخرج من إطار كثير من التفسيرات التي قُدِّمَت له، والتي لقيت في وقتٍ ما رواجًا عظيمًا.
إن المألوف في المذاهب الفلسفية — وخاصة ما كان منها واسعَ النطاق، ينتظم عددًا كبيرًا من مجالات الفكر والواقع — أن تكون مشيَّدةً عن طريق الاستنباط، وعلى هذا النحو شيَّد «كانْت» مذهبه ووضع اسبينوزا فلسفته المستخلَصة بمنهج هندسي استنباطي دقيق. ولكن أوضح نماذج التفكير الاستنباطي في الفلسفة كان مذهب ديكارت الذي يبدأ بحقائقَ بسيطة، ويقيم بناءً فلسفيًّا كاملًا على أساس انتقال الوضوح والبداهة من المقدمات إلى النتائج بفضل أحكامِ عملية الاستنباط، مثل هذه المذاهب الاستنباطية تسير — بطبيعتها — في طريقٍ يزداد تجريدًا على الدوام، بحيث تكون كل لحظة لاحقة فيها أبعدَ عن الطابع العيني من اللحظة السابقة.
على أن مذهب هيجل — بالرغم من أنه، باعتراف الجميع، أشملُ المذاهب الفلسفية كلِّها، وأشدُّها طموحًا في استيعاب كل ظواهر الروح بحيث لا يخرج عنه شيء منها حتى أشدُّها تنافرًا — لم يكن مبنيًّا على استنباطٍ يتزايد تجريده، ولم يكن الإحكام المنطقي هو وسيلة الانتقال من لحظاته المختلفة، بل إنه قد شيَّد بطريقةٍ تركيبيةٍ تتضمن فيها اللحظة اللاحقة «أكثر» مما تتضمنه اللحظة السابقة، وتكون أقل تجريدًا وأقرب إلى العينية منها. إن المذهب ينمو عضويًّا، ويتوسَّع تدريجيًّا ولا يترتَّب الجديد فيه — بطريقة تحليلية — على القديم، ولا يكون مجرَّد استخلاص لما كان موجودًا فيه بالقوة، بل إن القديم يكوِّن مادةً يُبْنَى عليها الجديد بطريقةٍ تركيبية خلاقة. وهكذا يبدأ المذهب من المجرد — الذي كان هيجل يَعُدُّه هزيلًا خاليًا من المضمون — إلى العيني، الذي كان في نظره ثريًا زاخرًا بالتعقيد والتنوُّع. وبهذا المعنى يمكن أن يُقال — على نحوٍ مؤكد — إن هيجل لم يحاول أن يستنبط العالم أو يقدِّم له تفسيرًا منطقيًّا، وإنما أراد أن يضم كلَّ ما هو موجود، وكل ما هو مغطًّى، في إطارٍ معقولٍ واحد. وعلى هذا النحو تُعَد فلسفته واقعيةً ومثالية في آنٍ معًا، فهي واقعية لأنها تضم لحظات الواقع كلها وتجعل كلًّا منها حقيقةً فلسفية في لحظة حدوثها، وهي مثالية لأن الإطار الذي تضع فيه الواقع بأسره إطارٌ عقلي في أساسه.
إن صفة الشمول هي مصدر قوة الفكر الهيجلي ومظهر ضعفه في الآن نفسه؛ فلقد كان يتملَّك هيجل شعورٌ طاغٍ بأن عصره يمثل — في جميع الميادين — قمَّة الأحداث التاريخية التي سبقته، ويمثِّل أكملَ صور تحققها في الوقت ذاته، ومن هنا أحس بالرغبة في تقديم «كشف حساب» للحضارة على حدِّ تعبير «لوفيفر»، وإيجاد مركِّب يؤلِّف بين كل عناصرها، وكان الهدف الرئيسي لفلسفته هو تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع وبين الشكل والمضمون، على نحوٍ يضمن الجمع بين هذه الأطراف وتجاوزها في مركَّب أعلى؛ ففلسفة هيجل كانت — في نظره — مركَّبًا يضم كلَّ ما سبقها، لا في ميدان الفلسفة فحسب، بل في كل ميادين نشاط الروح الإنسانية، ولم يكن هيجل يسعى إلى تحقيق هذا الضم بطريقة تلفيقية، أو عن طريق الجمع بين عناصرَ متنافرة فيما بينها، بل كان هدفه هو أن يؤلِّف منها مركَّبًا عضويًّا متماسكًا، وكان يرى في ذلك لبَّ النزوع الفلسفي الحقيقي وجوهره، ولقد كان يتملكه شعور واضح بأن فلسفته وصلت إلى العمق الباطن للأشياء، وقدمت تفسيرًا للواقع في كليته وبجميع جوانبه، وهو شعور يستبعد تمامًا روح الشك واللاأدرية كما سادت في القرن الثامن عشر، وكما ظلت آثارها واضحةً في أول مذهب فلسفي ألماني كبير، وأعني به مذهب «كانْت».
لقد كان للمذهب الفلسفي عند هيجل بناءٌ مذهل من حيث شموله وإحكام الانتقال من كل خطوة إلى الخطوة التالية فيه؛ فمن الروح كما هي في ذاتها وفي تجرُّدها — أي من المنطق — ينتقل البحث إلى الروح كما تصبح موضوعية في فلسفة الطبيعة، ثم إلى الروح كما تعود إلى ذاتها في فلسفة الروح، وفي داخل كل مظهر من هذه المظاهر يتحرك الفكر على نفس النحو المحكم، ولو أخذنا فلسفة الروح وحدَها كمثال لوجدناها تبدأ بالأنثروبولوجيا (بالمعنى القديم لهذا اللفظ قبل أن يصبح دالًّا على علم اجتماعي متخصص)، وهي دراسة الإنسان على نحوٍ لا يخلو من التأثُّر بالطبيعة كما هي الحال في علم النفس، ثم تنتقل إلى دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها درجةً أعلى من درجات تجلي الروح، بالقياس إلى الظواهر النفسية الفردية، فتبدأ بالقانون الذي هو في أساسه علاقةٌ خارجية للإنسان بمجتمعه، طابعها سلبي في الأساس، وتنتقل إلى الأخلاق التي هي الإرادة الباطنة حين تحفظنا على إطاعة قوانين المجتمع، والتي تتجلَّى أولًا في حياة الأسرة ثم المجتمع المدني ثم الدولة، وهي أعلى مظاهر الروح الموضوعية، وينتقل الفكر بعد ذلك إلى الروح المطلقة، وتتمثل أولًا في الفن ثم الدِّين وأخيرًا الفلسفة.
في كل مرحلة من هذه المراحل يكتب هيجل كتابةً تفصيلية متعمقة تستحق أن تُعامَلَ على أن لها قيمتها الذاتية الكامنة، بغض النظر عن قيمتها داخل المذهب المتكامل، وفي كلِّ ما يكتبه هيجل يتخذ تفكيره طابعًا موسوعيًّا ينم عن قدرةٍ مذهلة على الاطلاع والاستيعاب والإحاطة الشاملة، ولكن هذه الإحاطة الشاملة هي بعينها — في نظر الكثيرين — موطنُ الضَّعف عند هيجل، فهل يستطيع عقل واحد — مهما بلغ تعمُّقه — أن يحيط بكلِّ ما أنتجته الروح البشرية، أو حتى أن يدرك اتجاه هذه النواتج وحركتها وعلاقاتها وروابطها؟ ألا يؤدي شمول المذهب نفسه إلى الحكم عليه بالجمود والموت؟ إن «المذهب» حين يحاول أن يدرج في داخله كل مظاهر فاعلية الروح — من منطق وعلم طبيعي وأخلاق وتاريخ وسياسة وفن ودين وفلسفة — يحكم على هذه المظاهر ذاتها بالجمود؛ لأنه يفسِّرها جميعًا من خلال وضعها الحاضر، كما لو كان ذلك الحاضر وضعًا نهائيًّا لا يتسع لأي جديد، ولكن إذا كان الحاضر ذاته مجرد مرحلة في حركة لا نهائية، ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة أركان المذهب، لا لأنه يجمِّد الحاضر فحسب، بل أيضًا لأنه يفسِّر الماضي من منظور الحاضر بوصفه غايتَه وهدفَ تطوُّره، مع أن هذا المنظور بدوره متحرك، وسرعان ما يتجاوزه ويطغى عليه تيار التطوُّرات اللاحقة؟
لقد أدَّت هذه الصعوبة ببعض شُرَّاح هيجل إلى أن يحكموا على فلسفته كما لو كانت بناءً عقليًّا أروع ما فيه هو ذلك التناسق الذي تكشف عنه حركته المعمارية، أما المضمون الفكري ذاته فقد أضفَوا عليه قيمةً نسبية لا تعادل أبدًا قيمة البناء المحكم؛ ففي رأيهم أن أعظم ما قدَّمه هيجل ليس معالجته المنفصلة لكل موضوع من الموضوعات التي يضمها «المذهب» على حدة — برغم ما تتسم به هذه المعالجة من عمق — وإنما هو ذلك التماسك والترابط، وتلك الدراما الحية المتطورة التي عرض هيجل فصولها المتتابعة في المذهب ككل. وخلاصة القول أن تناسقَ الحركة أعظمُ — في نظر البعض — من العناصر الثابتة التي تتحقق هذه الحركة فيما بينها.
ولكن ربما كان التعبير الأدق عن هذه المشكلة هو ذلك التضاد المعروف الذي وضعه تلاميذ هيجل — بعد وفاته مباشرة — بين «المذهب» و«المنهج»؛ فعلى حين أن كلَّ ما في المذهب يوحي بأن البناء مكتمل لا يتسع للجديد، وبأن الدائرة قد أُغْلِقَت بإحكام في نهاية الرحلة الممتعة التي يقودنا فيها هيجل من الروح المجرَّدة إلى الروح المطلقة، مارًّا بالروح الموضوعية، فإن المنهج نفسه — أعني «الديالكتيك» الهيجلي المشهور — يوحي بحركةٍ دائمة وصيرورة مستمرة لا يقف في وجهها شيء؛ ففكر هيجل يتسم بتوتُّر حاد بين الحركة الدينامية متمثلة في الديالكتيك، في المسار الذي لا يتوقَّف لكلِّ ما هو موجود، في الصيرورة التي يحمل بمقتضاها كل شيء نقيضه في داخله، في السلب الذي يكمُن في قلب كل إيجاب، في الآخرية التي ينبغي الإحالة إليها من أجْل فهم أية ظاهرة نتصور أنها منعزلة متفردة، وبين الإحساس بالاكتمال الذي يسري في المذهب من بدايته إلى نهايته.
إن المذهب لا يمكن أن يُوضع إلا «من أعلى»؛ فالعقل الذي يضع المذهب لا بُدَّ أن يكون عقلًا أدرك حركة الكل، وتأمَّلها في شمولها، واستبانت له الخيوط الجامعة بين مظاهر الروح جميعًا، من أبسط تجلياتها حتى أشدها تعقيدًا. هذا العقل الذي يضع المذهب، يضع ذاته خارج المذهب، أعني خارج حركته الديالكتيكية، وخارج التناقض والسلب الذي يسري على كل وجود، إنه عقلٌ أحاط بالكل وأدرك الإطار الذي تندرج فيه كل عناصر ذلك الكل، والنقطة المركزية التي تتلاقى عندها كل خيوطه، والتي لا يُفسَّر تطوُّرها كله إلا من خلالها، ولولا هذه القدرة الشاملة لمَا أمكن أن يتسم المذهب بالاكتمال والتناسق، ولمَا أمكن أن يسري ذلك النبض المنتظم — أعني إيقاع الحركة الديالكتيكية — في كل التخطيطات العامة للمذهب، بل في كل فروعه وفروع فروعه، كل ذلك يعطينا إحساسًا بالاكتمال، وبأن الصورة العامة قد اتضحت وانتهى الأمر، وبأن العقل المفكِّر قد تكشَّف له كل شيء؛ لأنه يقف عند «نهاية الطريق»، وعند القمة العليا التي يتوقَّف عندها كل مسار.
هذا التوتُّر بين الإحساس بالحركة الدائمة، والنقص المستمر الذي يحتاج إلى تعويض وتجاوز و«رفع»، وبين الإحساس بالاكتمال والانتهاء، هو صفةٌ من أبرز صفات الفلسفة الهيجلية، إنه التوتُّر بين فلسفةٍ تنظر إلى الأمور في نموِّها وتقدُّمها إلى مراحلَ أعلى وأعقد، وفلسفةٍ تتأمَّل الظواهر بنظرة راجعة، بعد أن تكون قد كشفت حقيقتها وغايتها، وسيظل من الأمور التي تثير جدلًا لا نهاية له بين قرَّاء هيجل وشُرَّاحه، البحثُ فيما إذا كان في تفلسفه يتطلع إلى الأمام ليفتح الطريق أمام أحداثٍ جسامٍ توشك أن تقع، أم ينظر إلى الخلف ليفسِّر الماضي كله في ضوءِ حقيقةٍ بدت له نهائية، هي حقيقة الحاضر؟
وبين طرفي هذا التوتُّر يتحدَّد موقف عصرنا من هيجل، فإذا تأملناه من وجهه الدينامي المتحرك، كانت روح هيجل لا تزال سارية فينا، معبِّرة عن نزوع عصرنا إلى التطوُّر، وإلى الثورة على كل وضعٍ متجمِّد متحجر، وإذا نظرنا إليه من وجهه المكتمل، الذي يجمِّد المعرفة في بؤرةٍ ثابتة، ويحقِّق الفكرة المطلقة في عصره؛ لبدا في نظرنا — على أحسن الفروض — فيلسوفًا ميتافيزيقيًّا وسط مجموعة كبيرة من نظرائه الذين جعل كلٌّ منهم من عصره — بل من عقله — مركزًا للكون؛ فمن بعد هيجل ظل التاريخ مستمرًّا، وظلت المتناقضات قائمة، بل لقد ازدادت حدةً، وتغيَّرت صورة العالم، واتخذت نواتجُ الروح أشكالًا مختلفة كلَّ الاختلاف؛ فالفن السائد في عصره أصبح فنًّا تاريخيًّا تجاوزه التطوُّر بمراحل، والنظرة السائدة إلى الدِّين قد اختلفت، أما الفلسفة فقد تعدَّدت مذاهبها، واتخذت وجهاتٍ جديدة غير متوقَّعة. كل شيء إذن — حتى في ميدان الروح — ما زال نابضًا بالحياة والحركة والتغيُّر، فإذا كان في ذلك تكذيبٌ «للمذهب»، ففيه ولا شكَّ دعمٌ وتأكيد لصحة «المنهج».
فما هو إذنْ مصدرُ حيوية هذا المنهج؟ وما الذي يجعله قادرًا على تأكيد ذاته، حتى من خلال التطوُّرات التي يبدو أنها تُنكِره؟ إن الديالكتيك الهيجلي هو — قبل كل شيء — طريقةٌ في التفكير، وفي النظر إلى الظواهر من خلال ارتباطها بعضها ببعض، إنه باختصار شديد طريقةٌ التفكير التي تلغي الحواجز بين الجزئيات المنفردة، وتدرك أن فهم أية جزئية على حِدَة إنما يكون من خلال علاقاتها المعقَّدة بالجزئيات الأخرى، وبالكل الذي تندرج فيه، على أن هذه النظرة قد تتخذ طابعًا سكونيًّا، كما هي الحال مثلًا في منهج «الجشطلت» المشهور في علم النفس، أما عند هيجل فإن أساسها هو فكرة الحركة والدينامية والتطوُّر؛ فالعلاقات التي تُفْهَم من خلالها كل ظاهرة جزئية، ليست فقط علاقاتها بالظواهر الأخرى التي تتزامن معها، وإنما علاقاتها بالمجرى الكامل الذي تطورت فيه حتى وصلت إلى طابعها الراهن.
ولنبدأ بالطرَف الثالث في الحركة الديالكتيكية وهو المركَّب؛ فكثيرًا ما يشيع فهم المركَّب بأنه حصيلةُ الوضع الأصلي والوضع المضاد، أو بأنه متضمن فيهما من قبل، ولكن الواقع أن هيجل كان يعني به المركَّب بمعناه الاشتقاقي الأصيل، أي من حيث هو حقيقة جديدة خلَّاقة لم تكن موجودة في الطرفين السابقين، بل إن هذين الطرفين لا يُفْهَمَان — في الواقع — إلا من خلال علاقتهما بالمركَّب، وإذا كان هو — بمعنًى معيَّن — ناتجًا عنهما، فإنهما — بمعنًى أعمق — ناتجان عنه، أي إن معنَى أي لحظة معيَّنة — في مجال التاريخ مثلًا — يتحدَّد على أساس اللحظات المقبلة، ولا يمكن أن تعني اللحظة في ذاتها شيئًا، ومن المؤكد أن هذه النظرة الديالكتيكية تتلاءم إلى أبعدِ حدٍّ مع عصرنا الحاضر في ديناميته وسعيه إلى فهم حاضره، والسلوك فيه، على أساسِ ما يتوقَّع أن يحققه في المستقبل من غايات.
ولكن المشكلة الأهم هي التي تتمثل في الطرفين الأولين، أعني الوضع وضده؛ ذلك لأن مجرد تصورهما على أنهما طرفان قد يؤدي إلى تشويه المعنى الحقيقي للديالكتيك كما كان يعنيه هيجل؛ فالضد أو النقيض ليس طرفًا قائمًا بذاته، وإنما هو يكمُن في قلب الوضع الأصلي ويضفي عليه معناه، ويعين على إيضاح معالمه، والعلاقة بين الوضع ونقيضه هي التي تتمثَّل فيها دلالة فكرة «السلب» وفكرة «التوسُّط» الهيجلية، وعلى الرغم من الطابع التجريدي الذي عبَّر به هيجل عن موقفه في هذا الصدد، فإن من السهل أن نجد — في حياتنا العينية — ألوف الأمثلة التي تمثِّل تجسيدًا لتفكير هيجل النظري في هذا المجال.
إن قوة تأثير الديالكتيك الهيجلي إنما تكمُن في تأكيده لطابع الصراع الذي يسود كل أرجاء الوجود، ابتداءً من أشد مظاهر العقل تجريدًا — في المنطق — حتى أكثرها عينية — في الفلسفة، هذا الصراع يتمثل في حياتنا اليومية بلا انقطاع، نلمسه في وعينا بذاتنا؛ إذ إن هذا الوعي يتضمن مفارقةً معروفة، هي أن المرء لا يعي ذاته إلا عندما يصبح في لحظةٍ مغايرةٍ لتلك التي يريد أن يعيها، وهو يتمثل في علاقة وعيي بوعي الآخرين؛ فأنا لا أعرف نفسي إلا من خلال الآخرين، أي حين أخرج عن ذاتي، ولو قطعت علاقاتي بأسرها، وانطويت على نفسي انطواءً تامًّا، متوهمًا أنني أهتدي إلى ذاتي في هذه الحالة على نحوٍ أفضل، فسوف أجد أن ذاتي هذه قد أفلتت مني، وأنها لم تَعُد شيئًا، أي إن من ماهية الوعي أن يهتدي إلى حقيقته الداخلية بفقدان ذاته في علاقاتٍ خارجية، ولا بُدَّ أن يتمايز الوعي في أشكالٍ متعدِّدة متقابلة ومتعارضة، وأن يعيش صراعاتها وتناقضاتها، ويعمل على قهر هذا التناقض، وهذا يعني أن الوعي توحيدٌ وتنظيمٌ لعناصرَ متعارضةٍ بطبيعتها؛ فليس فيه شيء مباشر، بل إن كلَّ ما فيه يتم عن طريق «التوسُّط»، أعني توسُّط النقيض الذي يعيننا على فهم الموقف الأصلي، وكلما توسعت في تنمية متناقضات عناصر هذا الوعي، ازددت فهْمًا لها وقدرةً على تجاوزها، وما حياة الروح سوى عملية مستمرة تقوم فيها بشطر ذاتها إلى قوًى متضادة، وتعمل على قهر هذا التضاد. هذه القوى التي يحدث فيها هذا الانشطارُ أو التمايز، هي تعبيرٌ عن قوة السلب أو النفي في الحياة.
ولقد كان من أهم أسباب الحيوية المتجدِّدة لفلسفة هيجل أنها طبقت قانون الصراع هذا على كل مستويات الروح؛ ففي المنطق تُعَدُّ كل مقولة منطقية تأليفًا عضويًّا من عناصر متعارضة ومتكاملة في آنٍ معًا، وتكون المفاهيم الأساسية نسقًا واحدًا، بحيث تترابط أشدُّ الأفكار اختلافًا، وتأتلف تحت مفهوم «الفكرة الشاملة» أو الفكر الكلي للعالم. وفي «ظاهريات الروح» يبدأ الفكر من الذات، وينتقل تدريجًا — بالتوسُّع في هذه الذات — حتى يصل إلى الروح المطلقة، مردِّدًا — على جميع المستويات — مفارقة الوعي الأساسية، التي لا تُدْرِك فيها الذات نفسَها إلا من خلال التوسُّط، وبالخروج عن ذاتها، وفي الحياة الأخلاقية لا يكون للفضيلة كِيان إلا من خلال صراعها مع الرذيلة وتغلُّبها عليها (ففي عالم الملائكة لا توجد فضيلة، ما دام الصراع ضد الشر مستحيلًا)، وعلى كل المستويات لا تتحقق الذات إلا بقدْرِ ما تتصارع في داخلها المتناقضات، وبقدْرِ ما تبذل من جهد في سبيل قهر هذه المتناقضات.
- (١)
التناقض بمعنى التضاد، حين يؤكد هيجل أن وجود أي شيء ينطوي على ضده أو على عنصرٍ سالبٍ كامنٍ فيه.
- (٢)
التناقض بمعنى الصراع، وهو معنًى دراميٌّ ينطبق على مجالات الأخلاق والسياسة والمجتمع، ولكن من الصعب تصوُّره منطبقًا على مجال المنطق، إلا إذا فُسِّرَ اللفظ تفسيرًا مجازيًّا.
- (٣)
التناقض بمعنى المغايرة أو الانتساب إلى الآخَر، وذلك حين يؤكد هيجل أن من ماهية كل شيء أن يكون منسوبًا إلى شيء آخرَ أو أن يتحول إلى الآخر أو يُفهم من خلاله، أي أن يخرج عن وجوده المكتفي بذاته.
هذه المعاني كثيرًا ما تختلط في أذهان المعاصرين حتى يقتبسون منهج هيجل الديالكتيكي، ويمضون في تطبيقه إلى حدٍّ يوحي بأن هيجل كان من أنصار الفوضى والجمع بين المتناقضات كيفما اتفق، ناسين أن هيجل كان — قبل كل شيء — فيلسوفًا عقليًّا، وأن العقل حين يصبح القوة المحرِّكة لمذهب فلسفي، لن يقبل أن يكون القانون السائد في الكون هو التلاعب العشوائي بالمتناقضات.
والحق أننا لو قارنَّا وجهة نظر هيجل في التناقض بوجهة النظر التقليدية، لوجدناه — من زاوية معيَّنة — أشدَّ نفورًا من التناقض من كلِّ مَن سبقوه، ألم يكن إحساس هيجل بالتناقض — حين جعله صراعًا داخليًّا يحرِّك كلَّ نموٍّ وتطور، ويدفع الروح بكل مظاهرها إلى الأمام — أقوى من إحساس أولئك الذين جعلوه «علاقة خارجية» بين أشياء يظل كلٌّ منها محتفظًا بهويته؟ إن العلاقة بين منطق أرسطو ومنطق هيجل كثيرًا ما تُصَوَّر كما لو كان الأول يهدف إلى استبعاد التناقض والثاني يهدف إلى استبقائه، ولكن الواقع أننا لا نستطيع أن نتصوَّر شعورًا بالتناقض أقوى من ذلك الذي يتمثل في فيلسوفٍ يجعل من الرغبة في قهر التناقض وتجاوزه قوةً تحرِّك الروح وتدفعها إلى العلو على ذاتها دوامًا، ولو كان هيجل — كما يصوِّره الكثيرون — يهدف إلى استبقاء التناقض، لمَا تحدَّث عن «الارتفاع» إلى مستوًى أعلى، وعن تجاوز التناقض ورفعه بعد الجمع بين أطرافه في مركَّب أشملَ وفي وحدةٍ أعمق. إننا نستطيع أن نتصوَّر فلسفةً تؤكِّد التناقض وتحتفظ به، أما تلك التي تجعل منه قوةً دينامية تدفع الروح على الدوام إلى تجاوزه، فهي فلسفةٌ تبلغ فيها الرغبة في استبعاد التناقض حدًّا يفوق ما كانت عليه في أية فلسفة سابقة تجعل منه علاقة خارجية شكلية سكونية عاجزة عن تحريك أي شيء.
وأخيرًا فإن أكبر المحاذير التي ينبغي أن يتجنَّبها عصرنا الحاضر — حين يستخدم المنهج الديالكتيكي — هو أن يعامل الديالكتيك على أنه قانون، أو مجموعة من القوانين، ويعمل على تطبيق هذه القوانين آليًّا، صحيح أننا نستطيع أن نستخلص من فكر هيجل مبادئَ ديالكتيكية، مثل «نفى النفي» أو «وحدة المتناقضات» أو «تحوُّل الكم إلى الكيف»، ولكن الديالكتيك هو — قبل كل شيء — أسلوبٌ ومنهج في التفكير وفي التطبيق. إن القانون يمثِّل نهاية المسار في كل بحث، أما الأسلوب والمنهج فهو قوَّته الدافعة المحركة، وتحويل الديالكتيك إلى مجموعة من القوانين — مهما كانت مشروعيتها — هو خروجٌ على الروح الحقيقية التي تستوحيها فكرة الديالكتيك، وتجميدٌ له في قوالبَ ثابتة، وبالفعل تتمثَّل في عصرنا الحاضر — بوضوح تام — محاولاتٌ متناقضة يبذلها بعض الدجماطيقيين لتطبيق الديالكتيك كما لو كان قانونًا ثابتًا، فيبحثون في كل موقف عن «نفى النفي» أو عن الكم الذي سيتحول إلى كيف … إلخ، وينسى هؤلاء أن الديالكتيك — قبل كل شيء — منهجٌ يعلِّمنا المرونة الفكرية والعملية؛ إذ يكشف لنا عن التعقُّد الهائل للواقع، وينهانا عن ردِّه إلى صِيَغٍ مبسطة وقوالبَ جامدة. هذا هو «القانون» الأول للديالكتيك (إن جازت تسميته بالقانون)، وهو الذي تتضاءل إلى جواره كلُّ قوانينَ أخرى جزئية.
ولو استوعبنا روحَ الديالكتيك — لا نَصَّه الحَرْفي — لأدركنا أننا لا نستطيع أن نجد في كل المواقف انتقالًا ثلاثيًّا من وضْعٍ إلى نقيضه إلى وضعٍ مركَّب؛ ففي تاريخ عصرنا كثيرًا ما يتم الانتقال من وضعٍ إلى وضعٍ آخرَ أسبق عليه بكثير كما في حالة الانقلابات الرجعية، التي تتميز أساسًا بأنها «رجوع» إلى الوراء، وليست مجرد تضادٍّ مع ما كان موجودًا من قبل، وكثيرًا ما يكون المركَّب أكثرَ هزالًا من أطرافه المتناقضة، كما هي الحال في الصيغ التي استطاعت بها الأنظمة الرأسمالية أن تحتفظ ببقائها منذ أزمة الثلاثينيات حتى اليوم، وكثيرًا ما تَخِفُّ حدةُ التناقض دون الوصول إلى مركَّب، كما يتضح من مقارنة العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال ربع القرن الأخير، والأمثلة كثيرة لا حصرَ لها، ولكن أهم ما يُسْتَخْلَص منها هو أن روح الديالكتيك تتمثل في الشعور بالتعقُّد الشديد للواقع، ولا تقدم إلينا صيغًا ثابتة نَرُد إليها تطوُّر هذا الواقع ونحشره في قوالبها حشرًا، ولو استطعنا أن نستخلص من الديالكتيك هذا الدرس البليغ، وعرفنا كيف نطبِّقه على المواقف الجديدة التي لا يكُفُّ عصرنا الحاضر عن مواجهتنا بها، لكُنَّا بذلك نحتفظ بما هو حي بحق في تفكير هيجل.