الجدل بين الوجودية والماركسية١
وليس هذا البحث عرْضًا للجدال الذي دار بين الطرفين بقدْرِ ما هو محاولة لتلخيص الحجج العامة التي استند إليها كلٌّ منهما في تأكيده لرأيه، دون التزامٍ لترتيب هذه الحجج أو تسلسلها في المناقشة، وفضلًا عن ذلك فإن البحث يتضمن تعليقًا خاصًّا للكاتب ومحاولة للوصول إلى رأي في المشكلة موضوع البحث، وهو رأي تمليه علينا الاعتبارات الموضوعية وحدَها. وعلى أية حال فالمشكلة أعقدُ وأعمقُ من أن يستوعب بحثٌ كهذا جميع أطرافها، وللقارئ المفكِّر في نهاية الأمر أن يكوِّن لنفسه رأيًا خاصًّا بعد اختبار وجهات النظر الممكنة في الموضوع.
الموقف الوجودي
أما تطبيق فكرة الديالكتيك في مجال الطبيعة فأمره مختلف؛ ذلك لأن الرغبة في تحقيق وحدة المعرفة — أعني تطبيقَ مبادئَ واحدةٍ على كل مظاهر المعرفة — تدفع الماركسيين إلى القول بالمادية الديالكتيكية، لا المادية التاريخية فحسب؛ أعني إلى تطبيق الديالكتيك على الطبيعة، لا على التاريخ وحدَه، ولكن هل يحق لنا في المرحلة الراهنة من تطوُّر العلم أن نتحدث عن ديالكتيك للطبيعة؟ وهل يُعَدُّ تطبيق فكرة الديالكتيك على الطبيعة كشفًا حقيقيًّا، أم إنه مجرد تشبيه وإقحام لمبدأ نجح في تفسير الظواهر في مجال معيَّن، على جميع المجالات الأخرى دون تمييز؟ وهل يمكن القول إن الطبيعة ذاتها — وكل ما فيها من عمليات — لها طابع ديالكتيكي، وأن ديالكتيك التاريخ البشري ما هو إلا تطبيق جزئي لمبدأ أعمَّ يسري على الكون بأسره؟
إن المقولة الرئيسية في الديالكتيك — كما قلنا من قبل — هي مقولة «الكلية»، فهل تتألف الطبيعة من «كليات» حتى يمكن القول بانطباق الديالكتيك عليها؟ إن وجود هذه الكليات يكاد يكون أمرًا معترفًا به في المجال البيولوجي، حيث تكون الكائنات العضوية الفردية — وكذلك الحياة في تطورها — كلياتٍ واضحة، أما في المجال الفيزيائي الكيميائي، فلا يمكن تطبيق هذه الفكرة إلا على سبيل التشبيه أو التمثيل؛ إذ إن فكرة «الكل» — عندما تُطْلَق على الحقائق الفيزيائية — تُقال بمعنًى مختلفٍ عن معنى تلك الكلية المتغيرة النامية التي يكشفها لنا التاريخ؛ فنحن في مجال الطبيعة لا نشارك في أحداث الواقع ولا نكون جزءًا منه — مثلما نكون بالنسبة إلى الوقائع التاريخية — وإنما ندركها ونحكم عليها من الخارج فحسب، وهناك حدٌّ فاصل أو مسافة بيننا وبينها، تحول دون اندماجنا فيها ودخولنا معها في علاقةٍ ديالكتيكية باطنة. إننا عندما نتحدث عن التاريخ فإنما نتحدث عن مجالٍ نعيش فيه ونصنعه، أي نتحدث عن أنفسنا في واقع الأمر، أما عندما نتحدث عن الطبيعة فنحن إنما نصف مجالًا غريبًا عنا لا نستطيع أن نرتبط به إلا بعلاقة خارجية فحسب.
وإذن فلا يمكن الكلام عن صفة «الكلية» في الحوادث الطبيعية إلا على سبيل التمثيل، أما الطبيعة في مجموعها فليست كلًّا بالمعنى المألوف؛ إذ إنها لا متناهية تفتقر إلى الوحدة الجامعة، واللامتناهي لا يمكن أن يكون بطبيعته ديالكتيكيًّا.
ولننتقل إلى مبدأ أو «قانون» آخرَ من قوانين الديالكتيك، وهو التناقض أو التعارض الداخلي، هذا القانون لو طُبِّقَ على العمليات الطبيعية لكان له معنًى مختلف تمامًا عن معنى الصراع بين القوى التاريخية؛ ففي مجال التاريخ يقوم التعارض بين كل جماعة والأخرى، ويكون وجود كل جماعة — في الوقت ذاته — مرتبطًا بوجود الجماعة المتعارضة معها، وتركيبها الباطن يفترض هذا التعارض مقدمًا، أما في مجال الطبيعة فإن هذا التعارض بين القوى — إذا وُجِدَ — لا يكون جزءًا من تركيب القوى المتعارضة، ولا يمكن في هذا الصدد الكلامُ عن «سلب» إلا من وجهة نظرنا نحن. وإذن فمعنى التناقض ذاته مختلف تمامًا في الحالتين، وهو لا يوجد في الطبيعة إلا بمعنًى مجازي أو تشبيهي فحسب.
وهكذا يمكن القول إن قوانين الديالكتيك بأسرها — وهي قانون «الكلية» ونفي النفي، وتداخل الأضداد ووحدتها، والانتقال من الكم إلى الكيف — يختلف معناها اختلافًا أساسيًّا في مجال الطبيعة عنه في مجال التاريخ، وليس لنا أن نحكم مقدمًا بأن الطبيعة تنطبق عليها مبادئ أو قوانين ديالكتيكية معيَّنة، بل إن هذا متروك للعلماء أنفسهم؛ فعلى قدْر كشوف العلماء نستطيع أن نتحدث عن وجود هذه القوانين في الطبيعة أو عدم وجودها، ومن الواضح أننا كلما بَعُدنا عن المجال البشري، كان تطبيق هذه المبادئ أكثرَ تعسُّفًا، وكان من المستحيل أن ننسب إليها نفس طابع اليقين الذي نستطيع أن نعزوه للصيغ الديالكتيكية في ذلك المجال الذي شاركنا في صنعه إيجابيًّا، مجال التاريخ البشري. وهكذا فإن القول بوجود ديالكتيك تاريخي في مجالٍ كالجيولوجيا أو في علم الفلك، لا يعدو أن يكون تشبيهًا بلاغيًّا فحسب، وليست محاولة فرض هذه القوانين مقدمًا على الطبيعة إلا نوعًا من اللاهوت الذي ظهرت فكرة ديالكتيك الطبيعة أصلًا لمحاربته؛ ذلك لأن تأكيد وحدة الكون، ووجود اتصال واستمرار بين مجال الطبيعة ومجال الإنسان، على نحوٍ لا يسمح بوجود الهُوة المفاجئة التي تبرِّر فكرة «الخلق الإلهي»، هذا التأكيد الذي كان يهدف أصلًا إلى سد الطريق أمام كل تدخُّل لاهوتي؛ قد أدَّى إلى نتيجة مشابهة لتلك التي أراد تجنُّبها؛ إذ إننا في هذه الحالة نستعيض عن الفاعلية الإلهية بقانون كوني شامل تام الدقة، يخلق من المادة كلَّ الصور التي يمكن أن نصادفها، وهذا — بتعبير سارتر — «لاهوت جديد؛ إذ لا يمكن أن يعرف وجود قانون كهذا سوى إله، ولا يمكن أن يكون قد خلقه سوى إله.»
الموقف الماركسي
- (أ) أن كل سكون أو قصور ذاتي inertie إنما هو أمر نسبي، وأن كل شيء يتحرك ويتحول.
- (ب)
وأن هذه الحركة ليست مجرد إعادة ترتيب لعناصرَ ثابتة، وإنما هي حركة تتضمن ظهور الجديد؛ فهي ليست مجرد إضافة، وإنما تكشف عن تركيبات يكون الكل فيها مغايرًا لمجموع العناصر المكونة له وزائدًا عنها.
- (جـ)
وهذا الظهور للجديد يتيح تحديد تاريخ الأشياء وعمرها، لا في حالة الكائنات الحية فحسب، بل في حالة الجوامد أيضًا؛ فللطبيعة كلها تاريخ.
وتظهر هذه المبادئ بوضوح تام في النظرية الداروينية، التي عدَّها ماركس تحليلًا ديالكتيكيًّا بالمعنى الصحيح لتطور الأنواع الحية؛ فعليها تنطبق بدقة مفاهيمُ الديالكتيك الرئيسية؛ لأنها تؤكد وجود تاريخ للحياة، يتطور على أساس ديالكتيكي واضح من خلال التناقض والصراع بين الأضداد، ويتحوَّل فيه التغيُّر الكمي إلى تغيُّر كيفي، ولكن تطبيق مبدأ التطوُّر لم يقتصر على العلوم البيولوجية وحدَها، بل إن الفكرة قد غَزَتْ مجالات متعدِّدة في العلوم المختلفة بالتدريج، وأصبح لها دورها في علوم الفلك والكيمياء والفيزياء.
ويمكن القول إن كل تقدُّم علمي إنما يسير في اتجاه التخلي عن الأوصاف الكونية للواقع في سبيل تأكيد تحليلاته الحركية، أعني في اتجاه المنطق الديالكتيكي بدلًا من المنطق الصوري، بل إن ما يبدو لنا ساكنًا متجانسًا على مستوًى علمي معيَّن — كالكتل المادية الكبيرة مثلًا — يتضح على مستوًى علمي أعمقَ أنه مليء بالحركة والتعقيد والتناقض؛ ففي كل تقدُّم جديد للعلم تأييدٌ لعبارة هرقليطس العميقة، القائلة إن كل شيء يتحرك ويتحول، وهي العبارة التي تكوِّن الأساس الأول للديالكتيك، وربما كان إنكار وجود ديالكتيك للطبيعة راجعًا إلى الاعتقاد بأن للعالم عناصرَ أو مكوِّناتٍ نهائية — كالجزئيات والذرات — وهو اعتقاد يكذِّبه العلم كلما اكتشف داخل هذه المكونات مزيدًا من التعقيدات والتناقضات.
وإذن فتقدُّم العلوم الطبيعية يدفعنا إلى التخلي عن المنطق التقليدي — في مستوًى معيَّن — والالتجاء إلى نوعٍ آخرَ من التفسير لا يخضع لذلك المنطق ولا لمبادئ الآلية المرتبطة به، وما دمنا ننجح في تطبيق قوانين الديالكتيك على الطبيعة، فكيف كان يتسنَّى ذلك لو لم تكن الطبيعة نفسها ذات طابع ديالكتيكي؟ إن التفكير الديالكتيكي لا يمكنه السيطرة على موجودٍ ما لم يكن ذلك الموجود ذاته ديالكتيكيًّا بطبيعته، وإذا كنا نعترف بأن مجال التاريخ البشري يخضع للديالكتيك، وكذلك مجال علم الحياة؛ فمن غير المعقول أن نتوقف في منتصف الطريق لنقول إن الديالكتيك لا ينطبق على تركيب الذرة، أو أن النواة الذرية لا تؤلِّف كلًّا ينطوي في ذاته على سلب وتناقض؛ لذلك فإن ديالكتيك الطبيعة ليس مجرد إسقاطٍ لفكرة بشرية على المجال الطبيعي، وإنما هو الصورة الأعم والأبسط لذلك المبدأ الذي يكون الديالكتيك التاريخي تطبيقًا جزئيًّا له على مجال شديد التعقيد، هو مجال العلاقات الإنسانية.
ولكن الاعتراف بقوانينَ ديالكتيكية خارج مجال التاريخ البشري لا يعني فرض مصير محتوم على الإنسان، أو جعل التاريخ مجرَّد ملحق أو تذييل لمسار طبيعي أوسع منه وأشمل؛ ذلك لأن الماركسية — مع حرصها على تحقيق وحدة المعرفة — تؤكد في الوقت ذاته أن لكل مجال طابعًا خاصًّا مميزًا، بحيث يكون من المستحيل رد مستويات المعرفة بعضها إلى البعض؛ فلكلٍّ من مجال الإنسان ومجال الطبيعة خصائصُه المميزة التي لا تسمح برد الواحد منهما إلى الآخر، على الرغم من سيادة الديالكتيك في كلا المجالين في آنٍ واحد.
والعلاقة الحقيقية بين مجالي الطبيعة والإنسان هي علاقة اتصال وانفصال في نفس الوقت؛ فلو لم تكن هذه العلاقة إلا اتصالًا فحسب، لكُنَّا إزاء مادية آلية تفسِّر كلَّ ما يحدث في مجال الإنسان بحوادثَ طبيعية خالصة، ولو لم يكن يوجد إلا انفصال، لكُنَّا إزاء مذهب روحاني يؤكد استقلال ماهية الإنسان عن كلِّ ما له صلة بالمادة أو الطبيعة. أما الماركسية فتؤكد وجودَ الاتِّصال والانفصال بين المجالين في آنٍ واحد؛ إذ إن الإنسان يكون جزءًا من الطبيعة، ومع ذلك فإن للتاريخ البشري قوانينه الخاصة التي لا تسمح برد الإنسان إلى مجموع الظروف المحيطة بحياته فحسب.
ولا شك في أن النقد الوجودي يدفع كثيرًا من الماركسيين إلى تعديل مواقفهم الأصلية إلى حدٍّ ما، بحيث يسلِّمون — بناءً على ما قاله سارتر — بأن الطبيعة لا تكون كلًّا واحدًا، وإنما تتضمن «كليات» متعدِّدة فحسب، ومثل هذا يصدق على التاريخ بدوره؛ لأن التاريخ ليس كلًّا واحدًا متصلًا، بل إن فيه «كليات» كثيرة، يكون كل مجتمع واحدًا منها، وقد يكون الواحد منها منفصلًا عن الباقين، كذلك يسلِّمون بأن فكرة وجود مجموعة تامة مقفلة محددة من قوانين الديالكتيك هي فكرة باطلة تؤدي إلى خلق نوع جديد من اللاهوت، وكل ما يؤكدونه هو أن المنطق الأرسطي ومبادئ الميكانيكا ليست إلا حالات خاصة داخل تفكير ديالكتيكي أعمَّ وأوسعَ نطاقًا، يُتْرَك فيه المجال مفتوحًا لتقدُّم العلم ولِمَا تكشفه العلوم المختلفة من أوجه جديدة للطبيعة؛ فالقوانين الديالكتيكية إذن تخضع للتغيير المستمر، والمصدر الوحيد الذي يُستمد منه كلُّ جديد في هذا المجال هو العمل الاجتماعي والتجرِبة العلمية.
هل يوجد ديالكتيك للطبيعة؟
اتضح لنا من المناقشة السابقة أن من الممكن أن تتفق آراء بعض الوجوديين — مثل سارتر وإيبوليت — مع الماركسيين حول موضوع الديالكتيك البشري أو التاريخي، أما في موضوع ديالكتيك الطبيعة — وهو الذي يُسمَّى عادة بالمادة الديالكتيكية — فهناك اختلاف أساسي بين الموقفين.
وفي اعتقادي أن أية مناقشة جدية لموضوع ديالكتيك الطبيعة ينبغي أن تبدأ بالسؤال الآتي: أيهما أسبق، الواقع أم الفكر؟ من الواضح أن الإجابة الماركسية عن هذا السؤال تؤكِّد أسبقية الواقع على التفكير، وهذا بدوره رأي قد لا يختلف عليه الوجوديون من أمثال سارتر، ولكني أعتقد أن الالتزام الدقيق لمبدأ أسبقية الواقع على الفكر كفيل بالتشكيك في فكرة ديالكتيك الطبيعة، أو على الأقل يجعلها فكرةً عقيمة أو إطارًا فارغًا غير مثمر، وسوف أحاول في هذا الجزء النقدي من المقال أن أثبت هذا الرأي.
إن القول بأن الديالكتيك قانون للطبيعة، يعني أن فهمنا للطبيعة يصبح متوقفًا على قانون فلسفي، أي إن العلاقة بين الفكر والواقع قد انعكست، بحيث أصبح المبدأ الفكري أساسًا وشرطًا لفهم الواقع، وهذا يستتبع تغييرًا مناظرًا في فهمنا للعلاقة بين العلم والفلسفة؛ إذ إن المعرفة العلمية تصبح عندئذٍ متوقفة على المعرفة الفلسفية ومعتمدة عليها، بحيث لا يتمكن العلم الطبيعي من السير في طريقه إلا بعد استيعابه لمبدأ رئيسي في الفلسفة، ومعنى ذلك أن الفلسفة لا تعود لاحقة أو تالية للعلم، وإنما تصبح متغلغلة في صميم العلم، تكون شرطًا سابقًا للعمل العلمي ذاته، وهكذا يبدو أن هناك تعارضًا أساسيًّا بين مبدأ أسبقية الواقع على العقل، وبين مبدأ «ديالكتيك الطبيعة»، الذي يفترض مقدمًا وجود صيغة فلسفية تُعَدُّ شرطًا ضروريًّا لكل كشف علمي لأوجه الواقع، وكلا المبدأين السابقين ماركسي كما هو معلوم، فهلا يحتم الاتساق الفكري إذن التضحية بأحدهما في سبيل الآخر؟
إن مبدأ أسبقية الواقع على الفكر يعني — في رأيي — شيئًا أساسيًّا واحدًا، هو أن يقوم العالِم ببحثه العلمي بذهن متفتح لا تتحكم فيه أية فكرة سابقة، ولا يستهدف إثبات أي مبدأ بعينه مقدمًا، بل يدع الواقع نفسه — كما يتكشف له تدريجيًّا خلال عمله العلمي — يحدِّد الصيغة الفكرية التي تنطبق عليه، وقد تكون هذه الصيغة ديالكتيكية، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تُعَمَّم، أو يُنْظَر إليها على أنها هي الصيغة التي سيؤدي إليها كل كشف علمي مقبل، أو هي التي تصلح منهجًا يساعد العلم على كشف أسرار الكون بنجاح، إلا إذا كنا على استعداد للتنازل عن مبدأ أسبقية الواقع على الفكر.
فمن الواجب — في رأينا — أن يترك العالِم احتمالات المستقبل مفتوحةً على الدوام، حتى لو كان البحث العلمي قد أيَّد صيغةً معيَّنةً طَوال المراحل السابقة لتطوره، وعلى العالم دائمًا أن يسأل نفسه: لنفرضْ أن موقفًا معيَّنًا قد ظهر في المستقبل يتعارض مع الصيغة السائدة حتى اليوم، فهل أعيد تفسير الوقائع من أجل دعم هذه الصيغة، أم أتنازل عن الصيغة احترامًا للواقع؟ فإن كان هذا العالِم ممن يؤمنون بأن الواقع هو الأصل والأساس، فلا جدال في أنه سيكون على استعدادٍ لطرح أية صيغة جانبًا إذا اقتضى الواقع ذلك، ولنتأملْ مثالًا أقلَّ تجريدًا كحالةِ عالِمٍ اتضح له أثناء بحثه لتطور الصخور مثلًا أن الظاهرة التي يبحثها لم تخضع لقانون أساسي في الديالكتيك هو قانون التناقض، أي إنَّ تكوين الصخر مثلًا لم يعقبه تحلُّل وتفكُّك له، فهل يعيد تفسير الظاهرة لكي تتمشَّى مع القانون الديكالكتيكي أم يمضي في أبحاثه غيرَ مُلْقٍ بالًا إلى مبادئ الديالكتيك؟ من الجلي أن الروح العلمية الصحيحة تقضي عليه بأن يترك مجال البحث مفتوحًا لتلقائية الطبيعة، ولمَا يمكن أن تأتي به من عناصرَ جديدةٍ غير متوقعة، بدلًا من أن يحدِّد طريقه مقدمًا بصيغةٍ معيَّنة، ومن المؤكد أن كل عالِم أصيل يؤمن بفكرة التفتح الذهني هذه ويطبقها عمليًّا في أبحاثه، والدليل على ذلك عدم وجود اختلافات أساسية بين المبادئ التي يسير عليها العلماء، على الرغم من اختلاف المعسكرات السياسية التي ينتمون إليها.
على أن مثل هذه الخلافات كانت تحدث في وقتٍ من الأوقات، وكان حدوثها عندئذٍ مظهرًا من مظاهر عدوان العقل الجامد على الواقع الحي؛ فقد كان عالم الأحياء السوفييتي «ليسنكو» في أيام ستالين يشترط في أبحاث العلماء مقدمًا أن تكون مؤيدة للمادية الديالكتيكية، ويندِّد بكل بحث يبدو مخالفًا لها، وفي مقابل ذلك كان «مورجان» في العالَم الغربي يسعى مقدمًا إلى إثبات وجود مقاصد لاهوتية تتحكم في تطوُّر الحياة، ويهدف إلى إثباتِ إمكانِ تدخُّلِ قوًى فوق الطبيعة في مجرى الحوادث الطبيعية، والموقفان معًا على خطأ؛ لأن الروح العلمية تُحتِّم استقلال العلم عن كل فلسفة تُفْرَض عليه مقدمًا.
وإذن فالديالكتيك — بوصفه منهجًا يستعين به الباحث العلمي — هو في واقع الأمر عائقٌ فكريٌّ يقف في وجه تلقائية الواقع، وحتى لو كانت قوانينه صحيحة، فإنها تبلغ من العمومية حَدًّا لا تعود معه مفيدة في شيء، إن قوانين الديالكتيك تمثِّل منطقًا جديدًا أوسعَ وأرحبَ وأكثرَ مرونةً من منطق أرسطو، ولكن هل تمَّت كشوف العلم الكلاسيكي بفضل منطق أرسطو، أو هل كان لهذا المنطق أي فضل في أي كشف تم في العهد الذي كان سائدًا فيه؟ إذا أجبنا على هذا السؤال بالنفي، فمن الواجب أيضًا أن ننفي قيمة أية صيغة ديالكتيكية في توجيه دفة العلم الطبيعي في أي مجال؛ فالمنطق بكل صوره عاجز عن أن يدفع العلم خطوة واحدة إلى الأمام، وليست الصيغة المرنة الموسَّعة للمنطق بأسعد حظًّا — في هذا المجال — من أية صيغة جامدة سابقة، وسواء أكان المنطق قائمًا على مبدأَي الهوية وعدم التناقض، أم على مبدأَي الكلية والجمع بين الأضداد فإن قوانينه تظل على الدوام إطاراتٍ أو قوالبَ تبلغ من الاتساع والعمومية حدًّا يحول دون الإفادة منها في أي موقف عيني محدود، وكلُّ ما يمكن أن يُقال عنها هو أنها تتيح وضعَ الكشف العلمي في إطارٍ معيَّن أو في صيغةٍ منظَّمة «بعد» أن يكون هذا الكشف قد تم فعلًا، والدليل الواضح على ما نقول هو نظرية داروين؛ فقد اتخذ ماركس من هذه النظرية مثالًا لكشفٍ ديالكتيكي من الطراز الأول، ولكن أهم ما في الأمر هو أنها تمَّت دون الاستعانة بأي نوع من الديالكتيك أو من المنطق، وحتى لو كان ذهن دارون ينطوي على فكرة فلسفية عن قوانين الديالكتيك، فمن المشكوك فيه إلى أبعد حدٍّ أن تكون هذه الفكرة قادرة على أن تجعله يخطو في بحثه خطوةً واحدة تزيد عما كان يستطيع الوصول إليه بذهنه التلقائي المتفتِّح لملاحظة الواقع، ومثل هذا يُقال عن كل كشف علمي هام، وإن كان بعض العلماء ميالين إلى ربط كشوفهم بصِيَغٍ فلسفيةٍ أوسعَ، «بعد» أن يكونوا قد أتموا هذه الكشوف بنفس الطريقة المستقلة عن كل مبدأ منطقي أو ديالكتيكي مجرد.
إن كل محاولة للمبالغة في أهمية الصيغ المنطقية المجرَّدة إنما تنطوي على إقلال من أهمية الواقع الحي في نفس الوقت وبنفس المقدار، ولو تصورنا الديالكتيك على أنه يسري على الطبيعة في جميع أوجهها، ويصلح منهجًا يعيننا على كشف جوانبها المجهولة؛ لكان معنى ذلك أننا نجعل من الديالكتيك كيانًا يسير بقوة تلقائية، ويتبع قانونه الخاص، ويتحكَّم في مجرى الأشياء دون أن يتحكم فيه هو ذاته شيء، وبين هذا التصوُّر وبين اللاهوت خيطٌ رفيع، ومن هنا لم يكن من المستغرَب أن يجد سارتر في أقوال بعض المؤمنين بديالكتيك الطبيعة ما يذكره بنفس المبادئ اللاهوتية التي حاولوا القضاء عليها عن طريق الديالكتيك، كذلك فإن في هذه القوة التلقائية للديالكتيك ما يذكرنا بهيجل، أعني بذلك الفكر الذي وُصِفَ بأنه يفرض مقولاته على الواقع بصورة قاهرة، ويجعل من تصوُّرات العقل قوالبَ يُرغم الطبيعةَ على التشكُّل بصورها.
على أن الواقع المتطور المتجدِّد أرحبُ وأغنَى من أية صيغة نحاول أن نضفي عليها طابع الشمول، وإذا كان هذا الحكم يَصدُق على مجال العلم فإنه يَصدُق أيضًا على مجال المجتمع، أعني أن واقع المجتمع يتجاوز كل المحاولات التي تهدف إلى فرض نظرية موحَّدة عليه، ولنتأملْ في هذا الصدد تلك الملاحظة العميقة التي وصف بها «إيبوليت» زيارةً قام بها للاتحاد السوفييتي في الآونة الأخيرة: «لقد أُعْجِبْتُ بعمقِ وحيويةِ شعبٍ يستحق أن يُدرَس في تراثه وإنجازاته الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أملي خاب إلى حدٍّ ما في الفلسفة التي تزعم أنها تعبِّر عن هذه التجرِبة، صحيح أن هذه الفلسفة آخذة في التفتُّح، وأنني أفدت من الاتصال بالفلاسفة هناك، ومع ذلك فقد راعني التعارض بين الإطار الديالكتيكي الجامد وبين التجرِبة الحية ذاتها؛ فقد كانت هناك هوَّة سحيقة بين التاريخ الفعلي وبين النظرة الديالكتيكية الموحدة.»
وكل الدلائل تشير إلى وجودِ اتجاهٍ متزايد القوة — في ذلك البلد الذي اتخذ من الديالكتيك من قبلُ فلسفةً رسمية — إلى عبور هذه الهُوَّة بين واقعه الحي الزاخر وبين القالب الفكري الذي يعبِّر به عن ذلك الواقع، وإذا كانت هذه النظرة التوحيدية الجامدة — التي لا تَقبل عن الصيغة الديالكتيكية الشاملة بديلًا في جميع المجالات — قد ظهرت في مرحلةٍ كان للاعتبارات العملية فيها دَور أساسي في تأكيد ضرورة التشبُّث بمبدأ موحَّد، فإن تغيُّر الظروف العملية في المرحلة الراهنة، وما ينتظر حدوثه في المستقبل من تطوراتٍ أعظمُ أهمية، كفيلٌ بأن يُزيل المخاوفَ التي تشجِّع على الجمود؛ فقد يقبل الإنسان مؤقتًا أن يحصر ذهنه في إطار ضيِّق من أجل هدف عملي يعتقد أن له الأهمية الأولى، ولكن تحقُّق هذا الهدف لا بُدَّ أن يؤدي آخرَ الأمرِ إلى تحرير الذهن من هذا الإطار، وخصوبة التجرِبة ذاتها كفيلة بأن تَطْغَى على النظرية وتفيض على جوانب الصيغة الجامعة.