دفاع عن الثقافة العالمية١
إن الحديث عن وجود نوع من «الفراغ الحضاري» — أو بتعبير أدق: نوع من «الغزو الحضاري» — الذي يمارسه الغرب ضدنا لا بُدَّ أن يثير فينا التفكير في أسباب هذا الغزو، وفي العوامل التي تجعل حضارةً تغزو حضارةً أخرى؛ ففي اعتقادي أن الكلام عن الغزو — بوصفه أمرًا واقعًا — لن يكون مثمرًا ما لم يسبقه تحليلٌ للعوامل التي تؤدي إلى هذا الغزو، ومن هذا التحليل تتضح الحلول التي ينبغي اتباعها للتحرُّر من كل غزو حضاري.
وأود أن أتساءل في البداية: هل نحن حقًّا — في علاقتنا بالحضارة الغربية — خاضعون لغزوٍ آتٍ من الخارج؟ هل تُعَدُّ كلمة الغزو أدقَّ وصف لهذه العلاقة؟ يبدو لي أن لفظ «الغزو» لا ينطبق إلا على المرحلة التي كان فيها الاستعمار الأجنبي يفرض علينا فيها ثقافته فرضًا، أما فيما عدا ذلك من المراحل، وكذلك في البلاد التي لم تمر بمرحلة الاستعمار المباشر، فإن الظاهرة لا يمكن أن تُوصف بأنها «غزو»، وإنما هي تأثُّر أو اقتباس؛ فالحضارة الغربية لم تفرض علينا أدبها وفنَّها، وإنما نحن الذين اقتبسناه وتأثرنا به، والفارق كبير بين إرغام الآخرين على قبول ثقافةٍ ما، وبين تقبُّل الآخرين لهذه الثقافة بمحض اختيارهم.
ومع ذلك، فمن حقنا أن نظل نتساءل: ما الذي يجعل ثقافةً معيَّنة تؤثر في شعوبٍ أخرى غير تلك التي ظهرت بينها؟ وهل المسألة أشبه بالحروب حيث يغزو شعبٌ أرض شعب آخر، ثم يرحل عنها متى توافرت للشعب المهزوم من العزيمة ما يتيح له أن يَرُدَّ الغاصب مدحورًا؟ في اعتقادي أن الأمر في حالة الثقافة مختلفٌ عن ذلك كل الاختلاف؛ فهو في رأيي أشبه ما يكون بقانون «الأواني المستطرقة»، حيث ينتقل السائل حتمًا من المنسوب المرتفع إلى المنسوب المنخفض ما دام هناك اتصال بين الاثنين، وعلى الرغم من أن هذا لا يعدو أن يكون تشبيهًا، فإنه في اعتقادي تشبيهٌ مفيد إلى أقصى حد، يصلح لإلقاء ضوء وضاح على الظاهرة التي نحن بصددها.
ذلك لأن الانتقال في هذه الحالة «حتمي» ما دام هناك ارتفاعٌ من جهة وانخفاض من جهة أخرى في المستوى؛ فالمسألة ليست متوقفةً على رغبة الطرف المتلقي في أن يتخلص مما يأتيه من الخارج، بل إن هناك حالة واحدة يستطيع فيها أن يضمن عدم نفاذ العناصر الخارجية إليه، هي أن يرتفع بمستواه بحيث يغدو مكافئًا للمستوى الآخر، وربما أمكنه أن يعطي هذا الآخر شيئًا من عنده لو استطاع أن يعلو عليه.
ومن جهة أخرى فإن «قانون الأواني المستطرقة» لا ينطبق إلا في حالة وجود اتصال، وهذا يَصدُق على الحضارات بدورها؛ إذ إن الاتصال بينها هو الذي يجعل الحضارة الأضعف تمتص عناصرَ من الحضارة الأقوى، وكلما كانت سبل الاتصال أيسر؛ ازداد انطباق هذا القانون إحكامًا، ولهذه الحقيقة أهميةٌ كبرى في المقارنة بين موقفنا الحاضر من الثقافة الغربية، وبين موقف الحضارة الإسلامية من الثقافة اليونانية.
ولنتوقفْ قليلًا عند هذه النقطة الأخيرة، التي يبدو أن لها أهميةً خاصة في نظر الكثيرين ممن يريدون لنا أن نتحرَّر من الثقافة الغربية، فيُذكِّروننا دائمًا بموقف المسلمين من الثقافة اليونانية الوافدة، وكيف أنهم تمكَّنوا من استيعابها داخل ثقافة إسلامية أو عربية أصيلة.
ولعل أول ما ينبغي أن نلاحظه في هذا الصدد هو أن موقف الفلاسفة لم يكن متحررًا إلى الحد الذي يتصوره البعض، وأن الرأي الغالب هو أنهم نقلوا عن الثقافة اليونانية أكثرَ بكثير مما أضافوا إليها، وأقول إن هذا هو الرأي الغالب؛ لأنه ليس رأي المستشرقين أو الباحثين الأجانب بوجه عام فحسب، بل إنه أيضًا رأيُ كثيرٍ من المفكرين الإسلاميين الذين لا يجدون الرد الحقيقي على مشكلة الثقافة الإسلامية لدى الفلاسفة. وبعبارةٍ أخرى فليس من المؤكَّد على الإطلاق أن الفلاسفة الإسلاميين قد أخذوا موقفًا خاصًّا بهم من التراث الغربي المعروض عليهم في تلك الأيام، وإنما الرأي المرجَّح أنهم أخذوا كثيرًا ولم يعطوا إلا قليلًا، ومن هنا رأى البعض أن الثقافة الإسلامية الأصيلة تتمثل في علم الكلام، ورأى البعض الآخر أنها تتمثل في مدرسةٍ بعينها من مدارس علم الكلام هي الأشعرية، ورأى غير هؤلاء أن أهل السنة هم خير معبِّر عن هذه الثقافة. وهكذا نستطيع أن نميز مراتبَ أو درجاتٍ أربعًا على الأقل، لا أقول إنها درجات في اليسارية أو اليمينية أو في التقدُّم والرجعية حسب الاصطلاح السياسي الحديث، وإنما أقول إنها درجاتٌ في الاقتراب من حرفية العقيدة: الفلاسفة، فعلماء الكلام من المعتزلة، فعلماء الكلام من الأشاعرة، فأهل السنة، ولكلِّ فريق من هؤلاء أنصار، وغني عن البيان أن أنصار الفريق الأخير مثلًا يحكمون على الفريق السابق — حتى لو كان يضم مفكرًا كالغزالي — بأنه متحرِّر أكثر مما ينبغي، ويؤكدون أن موقفهم هو الاقتراب إلى تمثيل الروح الإسلامية على حقيقتها، وقُل مثل هذا عن الباقين جميعًا، كلٌّ حسب نظرته الخاصة إلى الأمور. ومجمل القول أن النظر إلى الفلاسفة على أنهم هم الذين استطاعوا أن يتخذوا من التراث الغربي (اليوناني) الوافد عليهم موقفًا سليمًا، وعرفوا كيف يصبغوه بالصبغة الإسلامية، ليس أمرًا مؤكدًا كل التأكيد، وإنما هو رأي يُقال به من وجهة نظر خاصة تنطوي ضمنًا على طريقة خاصة في الحكم على الحضارة الإسلامية، وهي طريقة سنعرض لها في هذا المقال بعد قليل.
على أن أهم ما في الأمر أنه إذا لم يكن من الممكن التأكيدُ على نحوٍ قاطع بأن الفلسفة الإسلامية هي التي استطاعت أن تكوِّن مُركَّبًا يجمع بين الثقافة الأصيلة والثقافة الدخيلة، فإن كل محاولة للاقتداء بها في عصرنا الحالي تغدو أمرًا لا يستطيع أحد أن يضمن ما يُسْفِر عنه من نتائج، وإذا كان فلاسفة الإسلام قد عانَوا صعوبات في تأكيد موقفهم الخاص إزاء الثقافة الوافدة من الخارج، فلا بُدَّ أن تزداد هذه الصعوبات بالنسبة إلينا — في عصرنا الحاضر — أضعافًا مضاعفة.
ذلك لأن الاتصال بين الثقافات أصبح الآن أقوى إلى حدٍّ لا متناهٍ مما كان عليه في عصر ازدهار الفلسفة الإسلامية، ولست بحاجة إلى أن أكرر ما يُردَّد على مسامعنا كل يوم من أن التكنولوجيا الحديثة أزالت المسافات مكانيًّا وثقافيًّا، ومن أن العالم يتجه سريعًا إلى أن يصبح وحدة واحدة؛ فهذه حقائقُ لا سبيل إلى الشك فيها، لو طبقْنا في ضوئها القانونَ الذي تحدثنا عنه من قبل؛ لأصبح من المؤكَّد أن انتقال الثقافات من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى قد غَدَا في عصرنا الحاضر أمرًا محتومًا؛ لأن الاتصال بين الأواني المستطرقة قد أصبح أشد إحكامًا، وصار حقيقة من حقائق العصر الضرورية.
ومن جهةٍ أخرى فإن الحضارة الإسلامية حين واجهت الفكر اليوناني كانت تواجه ثقافةً انتهى عهدُها، وتحددت كل معالمها، وعرفت جميع حدودها وأبعادها، كان أمام المسلمين «كمٌّ» معيَّن من التفكير الفلسفي، ظهر على شكل مجموعة من المدارس المتعاقبة، واكتمل هذا الكم ثم توقَّف نهائيًّا قبل أن يتلقاه المسلمون بما لا يقل عن خمسة قرون، وبالاختصار، وجد المسلمون أنفسهم إزاء «تراث» فكري يستطيعون أن يحددوا موقفهم منه بوضوح (وإن كان هذا الموقف ذاته قد تفاوت بين قبولٍ يكاد يكون تامًّا وبين رفضٍ قاطع كما أشرنا من قبل)، أما اليوم فإن الثقافة الغربية بعيدةٌ كل البعد عن أن تكون «تراثًا»، إنها شيء حي تام متحرك، وفي اليوم الذي يبدو لنا فيه أننا قد اتخذنا من هذه الثقافة موقفًا محددًا، نراها قد تحركت إلى مواقعَ جديدة، وفاجأتنا بتيارات لم تكن في حسباننا، بل إن الأهم والأخطر من ذلك أن سرعة تحركها أعظمُ بكثير من قدرتنا على ملاحقتها، وأن المسافة تزداد اتساعًا، والمنسوب العالي في «الأواني المستطرقة» يزداد ارتفاعًا، ومن ثَم تشتد قوة التيار الذي يسير في اتجاه واحد، من المرتفع إلى المنخفض، هذا وضعٌ جديدٌ كلَّ الجِدة، لا يمكن مقارنته على أي نحو بموقف الإسلاميين من التراث اليوناني الذي كان قد بلغ مرحلة الجمود والاكتمال، والذي ظل متوقفًا حيث هو، ينتظر من الآخرين اللحاق به واتخاذ موقف واضح منه.
والحق أن مشكلة ازدياد الهوة اتساعًا بين العالم المتخلف — بوجه عام — وبين العالم المتقدم منظورًا إليه بأوسع معانيه، هذه المشكلة لا بُدَّ أن تؤرِّق كلَّ مَن يفكر باستبصار في مستقبل العلاقات بين هذين العالمَين؛ ذلك لأن معدل النهوض — في البلاد التي تقدمت بالفعل — يزداد سرعة، ويبدو أن ازدياد السرعة هذا يؤدي بذاته إلى الجمود أو التوقف في البلاد المتخلفة؛ لأن بطء معدل نموها — إذا حدث مثل هذا النمو — يجعلها تبدو أشبه براكب الدراجة الذي يبدو متراجعًا إلى الوراء حين يَمْرُق بجانبه قطار سريع، ومن العبث أن نعزي أنفسنا بأن تقدُّمَ الغرب تكنولوجيٌّ فحسب، وبأننا نستطيع أن نتفوق عليه في ميدان الثقافة؛ ذلك لأن التكنولوجيا تخلق لنفسها ثقافتَها الخاصة، وهي ثقافة ما زلنا بعيدين عنها بعدًا كبيرًا، ومن الخطأ الفادح أن نتصور أن النهضة التكنولوجية لا ترتبط بنهضة ثقافية، بل إن كل الظواهر تدل على أن النجاح التكنولوجي قد أسدى إلى الثقافة خدماتٍ هائلة، وأن هناك ازدهارًا ثقافيًّا وتنوُّعًا وتعدُّدًا وتخصصًا وتعمقًا لا يقل في أهميته عما نجده — مثلًا — في تكنولوجيا الفضاء. أما العزاء الآخر الذي نقدمه إلى أنفسنا بين الحين والحين، وهو أن الغرب سائرٌ إلى الانهيار لتحل حضاراتٌ أخرى محله، فهو عزاءٌ واهم إذا صدر عن أناس لم يبذلوا أدنى جهد لمغالبة الغرب والتفوُّق عليه، ولن يكون له ما يبرره إلا عند الشعوب التي أثبتت بالفعل قدرتها على الكفاح والصمود والبناء في ميادين التنظيم الاجتماعي كما في ميادين التقدُّم العلمي والتكنولوجي والثقافي.
والحق أنه لَمما يبعث على القلق حقًّا أن نرى مدى اتساع الهوة بيننا وبين الثقافات العالمية المتقدمة، ثم نكتفي بالقول إننا أخذنا ما فيه الكفاية، وإن دَور النقل انتهى وحان وقت اتخاذ المواقف المستقلة؛ فبأي مقياس يُقال إننا نقلنا عن ثقافة الغرب ما فيه الكفاية؟ هل نحن حقًّا قد استوعبنا هذه الثقافة حتى نستطيع أن نقف منها موقف الند للند؟ إن الإجابة بالإيجاب ترضي كبرياءنا وتُشعِرنا بالاطمئنان، ولكن هذا لن يكون إلا رضاءً أجوفَ واطمئنانًا زائفًا، وإن نظرة واحدة إلى الأجيال الجديدة من دارسينا لَتقنعنا بأن قدرة هذه الأجيال على استيعاب الثقافات العالمية الجادة تتضاءل دومًا (وذلك لأسباب قد يكون معظمها خارجًا عن إرادتها)، ويزداد كلَّ يوم الاتجاهُ إلى الاكتفاء من هذه الثقافات بالقشور، والاعتماد على ترجماتٍ ركيكةٍ معيبة غير علمية، تُعَدُّ هي الزاد الأكبر لدى نسبة كبيرة ممن نعتمد عليهم في النهوض بثقافتنا في المستقبل، وما زالت أمهات الكتب الثقافية العالمية غيرَ معروفة لدى جماهير القراء؛ لأننا لم ننقلها بعدُ إلى لغتنا نقلًا أمينًا، ولم نعمل على وضعها في متناول أيدي طالبي الثقافة بشروط ميسرة، فكيف يُقال بعد ذلك إننا نقلنا وشَبِعنا، وحان وقت الهضم والاستيعاب والتمثل والبناء الجديد؟
إن رأيًا كهذا يلقى استجابةً وترحيبًا بمجرد أن يصدر، ولكن هذه الاستجابة الفورية يمكن أن تكون عائقًا في وجه الإدراك الصحيح للحقائق، وهي أننا لم نصل بعدُ إلى مرحلة الاستيعاب الكامل للثقافة العالمية، وأن هناك أوضاعًا قد تؤدي إلى زيادة الإقلال من قدرتنا على فهْم هذه الثقافة، فإذا اقترن هذا العجز المتزايد بشعور بالرضا عن الذات؛ كانت حصيلةُ الجمع بينهما وضعًا خطيرًا بحق، نكون فيه بعيدين على نحوٍ متزايد عن المستوى العالمي، ونتصور أننا وصلنا إليه وتجاوزناه، ومن هنا فإن الواجب الأكبر الذي يقع على عاتق المثقفين في بلادنا في الوقت الراهن ليس — في رأيي — أن يبعثوا في الناس أحاسيس الرضا عن الذات، بل أن يثيروا فيهم القلق والرغبة في تجاوز أوضاعهم الراهنة، ومن أهم عناصر هذا القلق أن يدركوا اتساع الهوة بينهم وبين المجتمعات المتقدمة ثقافيًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا، وإني لأعتقد اعتقادًا راسخًا بأن أول خطوة في سبيل عبور هذه الهوة، وتضييق شُقَّة التخلُّف، أن نكون في البداية على وعي بمدى اتساعها، وأن نعمل جادِّين على فهم أسباب تقدُّم الآخرين لكي نتمكن من اللحاق بهم ثم التفوق عليهم.
على أن الكلام عن «ثقافة عالمية» لا بُدَّ أن يصطدم برأي شائع يؤكد أن الحضارة الأوروبية — في جانبيها المادي والمعنوي — ذات طابع محلي، وأن ما أنجزته لا يصلح إلا للمجتمعات التي خلقت هذه الحضارة فحسب، والواقع أن المبالغة في تأكيد الطابع المحلي للثقافة الأوروبية — بل حتى للعلم والتكنولوجيا الأوروبية — تنطوي في رأينا على أخطار لا يُستهان بها؛ ذلك لأنها تعني المبالغة في تقسيم البشر إلى أنماطٍ يُعَدُّ كلٌّ منها مقفلًا على نفسه، وتغفل الطابع الإنساني العام الذي تتسم به كل نواتج العبقرية البشرية، وصحيح أن أحدًا لا يستطيع أن ينكر اصطباغ الثقافات بلون محلي مستمَد من الظروف الخاصة للمجتمع الذي تظهر فيه، ولكن هذه النواتج الثقافية المحلية ذاتها تنطوي — في كل الأحوال — على جانب إنساني لا يصح التغاضي عنه.
ففي ميدان النظم الاجتماعية — على سبيل المثال — لن ينكر أحد أن الإقطاع والرأسمالية في أوروبا كان لهما طابع محلي، وأن الظروف الخاصة التي عاشتها أوروبا في العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث كانت هي العامل الحاسم في إعطاء هذين النظامَين طابعهما المميز، ولكن هذا لن يمنع من تكرار هذين النظامين في بيئاتٍ أخرى مغايرة لتلك التي ظهر فيها الإقطاع والرأسمالية الأوروبيان؛ فمع اختلاف الصبغة المحلية يوجد اتفاق في الإطار العام بين الرأسمالية في الولايات المتحدة واليابان مثلًا، ومن هنا كان مما يفيد الاشتراكيين في مختلف بلاد العالم — ولا سيما العالم الثالث — أن يدرسوا النظم الاجتماعية الأوروبية لا على سبيل زيادة العلم فحسب، بل على أساس أن أوروبا قد مرَّت بتجارِبَ يمكن أن تمر بها الإنسانية كلها من بعدها، مع اختلاف في التفاصيل بطبيعة الحال.
إن عوامل الوحدة بين التجارِب الإنسانية أقوى في رأيي بكثير من عوامل التباين والاختلاف، وإذا كان من المعترف به أن الإنسان يكون — من الناحية البيولوجية — نوعًا واحدًا يمكن فيه التزاوج والإنجاب بين أقزام الغابات الاستوائية الزنوج وعمالقة السويد الشقر، وأن مشاعرَ كالحب والغضب والفرح عنده واحدة، فينبغي أن نعترف أيضًا بأن هذه الوحدة تكون أساسًا كافيًا لتشابهٍ مماثلٍ في التجارِب البشرية الأشد تعقيدًا، فحين يتخلص بلد أوروبي من عوامل الاستغلال بفضل بنائه نظامًا اشتراكيًّا، ينبغي أن نؤمن بأن النظام الذي بناه يصلح — من حيث المبدأ — للتطبيق على بلادٍ أخرى تريد بدورها أن تتخلص من الاستغلال؛ إذ إن أنماط الاستغلال واحدة، وطرق التخلُّص منها متقاربة إلى حد بعيد. أما أن يُقال مثلًا إن الفلسفة الاشتراكية جزء من الحضارة الأوروبية، وإنها ظهرت في ظروفٍ معيَّنة وبيئة خاصة لا يمكن أن تنطبق إلا فيها وحدَها، فإن هذا ينطوي على تجزئةٍ غير مشروعة للتجربة البشرية، فضلًا عما يؤدي إليه من أضرار سياسية واجتماعية للبلاد غير الأوروبية، صحيح أننا نستطيع أن نكيِّف التجرِبة مع ظروفنا المحلية كما نشاء، ولكن لا ينبغي أن ننكر المبدأ العام، وهو أن الشعوب التي سبقت غيرها من ميدان الحضارة تمر بتجارِبَ يمكن أن تمر بها هذه الشعوب الأخرى في مستقبلها، ومن ثَم فلا محل للفصل بين الشعبين بحجة أن الحضارات محلية فحسب.
وإذا كان هذا القول يَصدُق على ميدان السياسة والمجتمع، فهو — بلا شك — أصدقُ في ميدان الفنون والآداب، أو في ميدان الثقافة بوجه عام، بل إني لأومن إيمانًا راسخًا بأن التأثُّر في هذا الميدان بالذات أوضح منه في غيره بكثير، إني لا أستطيع أن أنكر أن بيتهوفن نتاجٌ لحضارة طويلة امتدت جذورها من أيام المسيحية الأولى وربما قبل ذلك، وأن موسيقاه مرتبطة ببيئة مختلفة عن بيئتي اختلافًا بيِّنًا، وأنها ظهرت في نظام اجتماعي ربما لم يكن له نظير في مجتمعي، ولكني لا أستطيع — في الوقت ذاته — أن أمنع نفسي من أن أحب بيتهوفن وأن أرى موسيقاه فنًّا رفيعًا يخاطبني بوصفي إنسانًا، ويكلمني بلغةٍ أفهمها (لأني تعودت عليها بما فيه الكفاية) ويبعث فيَّ مشاعرَ لا تختلف عن تلك التي يبعثها فيَّ أبناء حضارته، وقُل مثل هذا عن كثيرٍ من الأدباء والمصورين والمفكرين الذين سما إنتاجُهم حتى استطاع أن يخاطب «الإنسان» لا الفرد في هذا المجتمع أو ذاك، ولست أرى في ذلك طغيانًا ولا غزوًا، بل هو في رأيي إثراء للتجربة الإنسانية وتعميق لها.
على أن الكثير من مفكرينا يعتقدون أن الوسيلة الوحيدة لإثراء تجربتنا — مع تخليصها من تأثير الثقافات الوافدة — هي اتخاذ التراث الماضي بديلًا عن المؤثرات الحضارية الدخيلة، ويرون أن هذه الوسيلة هي الكفيلة بالقضاء على الاغتراب الثقافي الناشئ عن اندماجنا في حضارة غريبة عنا.
وأود في هذا الصدد أن أطرح سؤالًا لا أهدف منه إلى التعبير عن رأيي الخاص بقدْرِ ما أهدف إلى إثارة مشكلةٍ قد تجد مَن يبحثها فيما بعدُ بمزيد من التفصيل: أليس من المحتمل أن يكون هناك اغترابٌ عن الماضي، يعادل الاغتراب عن العنصر الوافد الدخيل أو يزيد عليه؟ وبعبارة أخرى، هل يشعر المرء نحو ماضيه — إذا كان ذلك الماضي بعيدًا، وإذا كانت ظروفه قد تغيَّرت على نحوٍ جذري — بمزيد من الألفة بالقياس إلى ما يأتي إليه من مؤثرات، هي حقًّا خارجية، ولكنها تعيش معه في عصر واحد وفي ظروف متقاربة؟ أليس بُعْدُ الشُّقَّة في الماضي — بدوره — عاملًا من عوامل الاغتراب؟ وهل نستطيع أن نطمئن — حين ننادي ببعث حضارةٍ ماضية تفصلنا عنها فتراتٌ زمانية واختلافاتٌ هائلة — إلى أننا قد تخلصنا حقًّا من الاغتراب عن أنفسنا؟
إن «الاغتراب عن الماضي» فكرةٌ لا أعتقد أنها تَلقى ترحيبًا من الكثيرين، ومع ذلك فإني أطرحها آملًا أن تُبْحَثَ بمزيدٍ من العناية، وكلُّ ما أود أن أقوم به الآن هو أن أثير الموضوع فحسب، ولعل أبعادَ المشكلة تظهر بمزيد من الوضوح إذا تأملناها في ضوء الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان المعاصر، وهي ظروف تختلف اختلافًا جذريًّا عما كان عليه الإنسان في أي عصرٍ مضى.
إن عصرنا الحاضر يسير في تطوُّر يؤدي — على نحوٍ متزايد — إلى اختصار المسافات المكانية وتضييق شُقَّة الاختلافات الموضعية، ويؤدي من ناحيةٍ أخرى إلى تأكيد الفوارق الزمنية ومضاعفة تأثيرها، وفي كلتا الحالتين يظهر التأثير الحاسم للتفاعل بين التكنولوجيا والثقافة؛ فالتكنولوجيا — كما هو معروف — تتجه بفضل عدد كبير من المخترعات الحديثة إلى صبغ العالم بصبغة ثقافية تزداد تقاربًا وتشابهًا، وبذلك تلغي بالتدريج تأثير الفوارق بين الحضارة، أو تتيح وضعَ الحضارات المختلفة في إطارٍ معاصر موحَّد، هذه حقيقة معروفة طالما نبَّه إليها الكتَّاب، ولكن الذي لم يتنبه إليه مَن كتبوا في هذا الموضوع، هو أن نفس العملية التي تؤدي إلى إزالة الحواجز المكانية، وتقريب الشُّقَّة بين الثقافات تؤدي من ناحيةٍ أخرى إلى زيادة الإحساس بتأثير الفوارق الزمنية؛ ذلك لأن التكنولوجيا الحديثة بدورها هي التي جعلت الإنسانية تمر خلال عشر سنوات من عصرنا الحالي بتجارِبَ تزيد على ما كانت تمر به في العصور السابقة خلال قرن كامل، وهي التي ستجعل معدل التغيُّر هذا يزداد سرعةً على الدوام، والمعنى الواضح لازدياد سرعة معدل التغيُّر — في فتراتٍ زمنية تزداد قِصَرًا على الدوام — هو أن الشُّقَّة بين الماضي والحاضر تزداد اتساعًا بلا انقطاع، أي إن الإنسان المعاصر يشعر بأنه أبعدُ عن إنسان القرن الماضي إلى حدٍّ يزيد كثيرًا عن إحساس إنسان القرن الثاني عشر بابتعاده عن إنسان القرن الثاني مثلًا، وهكذا فإن المكان والطابع المحلي يتجه إلى التقارب والتوحد، على حين أن الفواصل الزمنية بين الحاضر والماضي تزداد حدةً على الدوام، وإذا لم نكن على ثقةٍ من ذلك، فإن حركات الشباب، وشعور الأجيال الجديدة بأنها عاجزة عن الالتقاء على أرضٍ مشتركة مع الأجيال الأقدم التي لا تزال تعيش معها في عصرٍ واحد، إنما هو الدليل الملموس الصارخ على ازدياد حدة الفوارق الزمنية في عصرنا الحاضر على نحوٍ لم يكن له نظيرٌ في أي عصر سابق.
وإذن فمن سِمات هذا العصر الذي نعيش فيه تلك السِّمة التي لم تظهر بوضوح إلا في وقتنا الراهن، وإن كانت ستزداد ظهورًا ووضوحًا في المستقبل، وأعني بها تضييق المكان وتوسيع الزمان، وفي مثل هذا الوضع — الذي نعتقد أنه جديد كلَّ الجدة — يكتسب السؤال السابق الذي أَثَرْتُهُ للمناقشة دلالتَه العميقة: فهل يقتصر الاغتراب الثقافي على صلتنا بالثقافات الأجنبية فحسب؟ ألا يمكن أن يظهر — إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل على الأقل — اغترابٌ ثقافي أشد من ذلك حدةً بين الحاضر والماضي؟ وفي هذه الحالة، ماذا يكون مصير تلك الدعوات التي ترى أن طريق التحرُّر من الثقافات الدخيلة إنما يكون بإحياء ثقافات تفصلنا عنها مسافاتٌ زمنية كبيرة؟ أنستطيع حقًّا أن نتخذ من هذه الثقافات القديمة مرشدًا وموجهًا لنا ونحن آمنون من أن رجوعنا إليها سيخلصنا من كل اغتراب؟