أفق جديد للفلسفة١
لا يتمثَّل تقدُّم التفكير الفلسفي في كشفِ حقائقَ جديدة، بقدْرِ ما يتمثَّل في إلقاء ضوء جديد على الحقائق الموجودة المعروفة من قبل؛ ذلك لأن قدرة الفلسفة لا تمتد إلى مجال الخلق والإبداع، بقدْرِ ما تنصبُّ على التحليل والتفسير والفهم، وإذا كانت عهود التفكير الفلسفي القديمة والوسيطة قد أخطأت في شيء، فإنما كان خطؤها في عدم إدراك هذه الحقيقة الأساسية، بحيث توهَّمت أن الفكر وحدَه قادر على أن يخلق بقواه الخاصة معرفةً جديدة، وظنت أن العقل إذا مارس فاعليته على ذاته وحدَها — في التفكير الفلسفي المجرد — كان كفيلًا بأن يستخلص من ذاته علمًا كافيًا بالعالم، على أن انتهاء هذه العهود الغابرة كان إيذانًا بارتداد العقل إلى صوابه، وبإدراك الفلسفة لحدودها ولطبيعته الحقة، وهي أنها ضوءُ كشَّاف يلقيه العقل على ظواهرَ كانت موجودة من قبل، أو استُمِدَّت من أحد المصادر المتعدِّدة للتجربة البشرية.
ومنذ ذلك الحين، اعتادت أذهاننا أن تقيس كل فلسفة جديدة تبعًا لقدرتها على تفسيرِ جوانبَ متعدِّدة من التجرِبة البشرية، أو على إلقاء الضوء على مظاهرَ متباينةٍ للنشاط الإنساني.
وهكذا تُوجِّه الفلسفة في كل عصر أسئلتها وتحدِّد مشكلاتها على النحو الملائم لذلك العصر ذاته، أما ردودها على هذه الأسئلة أو حلولها لهذه المشكلات؛ فليست في واقع الأمر «لُب» فلسفة العصر.
إن طريقة وضع المشكلة وصياغتها — أعني طريقة النظر إلى الحقائق المعروفة من قبل — هي التي تحدِّد روح الفلسفة، وتعبِّر عن عبقرية العصر، وقد تظل المشكلة الفلسفية واحدة على مرِّ عصورٍ متعاقبة، ولكن طريقة التساؤل واتجاه الذهن الباحث عن حل لها تختلف من عصر إلى آخر، ويعبِّر اختلافها عما هو أصيل في روح كل عصر.
فلكل فترةٍ رئيسية من فترات التفكير الفلسفي أفكارها الخصبة القادرة على التوليد، وهذه الأفكار ليست حلولًا للمشكلات، وإنما هي الإطار الذي تُصاغ فيه المشكلات وتُحدَّد خلاله معالم تفكير الفيلسوف؛ ففي العهد اليوناني منذ سقراط كانت فكرة «الغائية» و«الخير الأقصى» هي المحور الذي يدور حوله التفكير، ولم تكن هذه الفكرة تمثِّل إجابةً محدَّدة على الأسئلة التي تطرأ على ذهن الفيلسوف، وإنما كانت هي القالب الذي يشكِّل طريقة الفيلسوف في خوض المشكلات ويوجِّه حلولها. وفي العصر المسيحي كانت معاني الخطيئة والخلاص واللطف الإلهي — مثلما كانت معاني العقل والنقل والحكمة والشريعة في العصر الإسلامي — هي التي تلهب في الفلاسفة حماسةَ التفكير، وعن طريقها صيغت المشكلات صياغةً جديدة، واكتسبت الحقائق المعروفة لونًا لم يكن معهودًا من قبل، وكان من الضروري أن تتأثر الحلول بهذه الوجهة الجديدة التي سار فيها العقل بفضل هذه الأفكار السائدة، وفي العصر الديكارتي أصبحت المشكلات تُصاغ من خلال فكرة الذات والموضوع، وثنائية الفكر والامتداد، والتجرِبة الباطنة والظاهرة، وصارت الفلسفة تنويعًا لهذه النغمة السائدة، أو عزفًا على هذا الوتر الرئيسي.
•••
وقد ظهر الكتاب لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت الشهرة التي اكتسبها منذ ذلك الحين دليلًا على أنه أشار بالفعل إلى منظورٍ جديدٍ للفلسفة أو إلى زاوية جديدة إذا تأملنا من خلالها مشكلاتنا المألوفة أصبحت تبشِّر بعهدٍ جديد من التفكير الخصب الخلاق.
ولكي ندرك طبيعة هذا المنظور الجديد، ينبغي أن نتأمل أولًا طبيعة الاتجاه الفكري السائد في عصرنا هذا. إن حضارتنا في هذا العصر حضارة علمية قبل كل شيء، وفي هذه الحضارة العلمية أصبحت الفكرة التوجيهية المسيطرة على الأذهان هي فكرة «الواقعة»، وأصبحت ملاحظات الحواس التي كان الأقدمون ينبذونها ويعدونها أساسًا خداعًا للمعرفة هي أداتنا الرئيسية للاتصال بالعالم. إنه عصر تسيطر عليه النزعة التجريبية، وتعبِّر عن روحه تلك الفلسفات التي تردُّ كلَّ شيء إلى ما يمكن ملاحظته أو تحقيقه بالتجرِبة.
ومن هنا كانت الوضعية المنطقية معبرةً عن كل شيء أساسي في حياة الإنسان الحديث: هو رفضه الاعتراف بأي شيء سوى ما يتمثَّل للملاحظة بوضوح، أو ما يمكن تحقيقه بالتجرِبة على نحوٍ حاسم؛ فكل ما لا يمكن تحقيقه أو تفنيده، هو — في رأيها — كلامٌ لا معنَى له، أو «قضايا مزعومة» لا يصح أن نصفها بأنها خطأ أو صواب؛ لأنها كلام يستحيل التفكير فيه.
على أن صفة التجريبية أو الوضعية المتطرفة هذه — في العصر الذي نعيش فيه — إنما هي انعكاسٌ لنوعٍ من الهزال الروحي للإنسان الحديث؛ فمن نتائجها أن يصبح الفن والشعر والميتافيزيقا مجرد تعبيرات عن انفعالاتٍ ومشاعرَ رغباتٍ خارجة عن عالم المعنى ولا تدل على أفكار، وإنما هي أغراض معيَّنة للحياة الباطنة، شأنها شأن الضحك والبكاء، إنها صيحات انفعالية، تعبِّر عن مشاعرَ معيَّنةٍ لدى صاحبها، وتثير فينا مشاعرَ مماثلة، ولكنها لا تمدنا بأية معرفة، ولا تفتح أمامنا أفقًا جديدًا في فهم العالم أو الإنسان، ولا تقرِّر في واقع الأمر شيئًا له مدلول.
وهكذا تبلغ عقيدة «الوقائع» وعبادة التحقيق والملاحظة حدًّا يؤدي إلى استبعاد أوجهٍ للنشاط الروحي كانت لها في حياة الإنسان — وما تزال — أهمية قصوى.
وعلى ذلك فإن أية نظرة متكاملة إلى الإنسان — أعني نظرةً تضم أوجه النشاط الإنساني كلها في وحدة واحدة، ولا تضع بينها حواجزَ ولا تفرِّق بين مراتبها — ينبغي أن تُدْخِلَ الفن والشعر والميتافيزيقا وطقوس العبادة في عالم المعنى، عالم التجارِب التي تضفي ثراءً على حياة الإنسان، وتُوسِّع أفقه الروحي، وتزيد من فهمه لنفسه وللعالم المحيط به، ولكي يتحقق هذا الهدف، فلزام علينا أن نعيد النظر في فكرة المعنى والدلالة ذاتها، وفي المجال الذي يصح أن يُقال إن نشاطنا فيه يوسِّع نطاق معرفتنا وفهمنا للأمور، أي أن نتأمل عقل الإنسان ونشاطه الروحي من منظور جديد.
•••
إن الإنسان كائنٌ يعيش في عالَمٍ من الرموز والمعاني، أكثرَ مما يعيش في عالَم من الإحساسات؛ «ففي استطاعة شخص مثل هيلين كيلر، حُرِمَ السمع والبصر، بل شخص لا يملك إلا حاسة واحدة هي اللمس، أن يعيش في عالمٍ أوسعَ وأغنَى من ذلك الذي يعيش فيه أي حيوان يملك كل حواسه المرهفة.»
وهكذا يمكن القول إن أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان هو قدرته على صنْع الرموز، وهي القدرة التي تتبدَّى أساسًا في اللغة، التي خَلَقَت للإنسان عالَمًا فريدًا لا يشاركه فيه كائنٌ آخرُ، وفتحت أمامه أبواب السيطرة على الكون. إن عملية صنْع الرموز هي النشاط الرئيسي المميز للإنسان، وهي العملية الذهنية الأساسية التي تستمر بلا انقطاع.
وإذا كانت عملية خلق الرموز وإضفائها على العالَم مستمرة لا تنقطع، فليس لنا أن نُقْصرها على وجهٍ واحدٍ من أوجه فاعلية الذهن البشري كالتفكير؛ ذلك لأن للذهن أوجهَ نشاطٍ أخرى غير التفكير، وإن يكن هذا الأخير هو أهم هذه الأوجه وأبعدها أثرًا في حياة الإنسان، وكل هذه الأوجه الأخرى حافلة بالمعاني، وإن تكن هذه المعاني من نوعٍ مخالف لذلك الذي ينتجه الذهن المفكِّر؛ فالإنسان في سعي دائم إلى التعبير عن نفسه، وإذا كان التعبير الفكري هو أوضح مظاهر هذا السعي فليس معنَى ذلك أنه الوحيد، وإنما يعبِّر الإنسان عن نفسه في مظاهرَ أخرى متعدِّدة، منها ما يتم في اليقظة، ومنها ما يتم في المنام، وقد لا يكون لنشاطه هذا أي غرض عملي ملموس؛ لأن الطاقة الذهنية الفائضة، والثروة المختزنة في الروح الإنسانية ستنطلق، سواء أكان لانطلاقها هدفٌ علمي أم لم يكن.
وعلى ذلك فإن عالم المعاني أوسعُ نطاقًا بكثير من عالم اللغة؛ فمع اعترافنا بأن اللغة هي أهم مظاهر نشاط الذهن البشري في اتجاهه إلى التعبير عن نفسه تعبيرًا ذا معنًى، ينبغي أن نعترف في الوقت ذاته بأن نطاق التعبير ذي المعنى — في الإنسان — أوسعُ كثيرًا من نطاق اللغة. إن الحُلم ذاته قد يكون تعبيرًا له معناه — من خلال رموز معيَّنة — عن تجارِبَ بشريةٍ حقيقية، وما كشوف التحليل النفسي بأسْرها إلا تأكيد لهذه الفكرة، أعني فكرة ضرورة إدخال الأحلام ضمن أوجه النشاط البشري ذات المعنى والدلالة، وعدم الاستخفاف بها أو استبعادها بحجة أنها أخيلة جوفاء متخبطة لا دلالةَ لها.
•••
فلنتأملْ ما يحدث بين الشعوب البدائية حين يقوم أفرادها بنشاطٍ مثل أداء الشعائر والطقوس، إن هذا النشاط ليس في هذه الشعوب لهوًا ولا مرحًا على الإطلاق، وإنما هو نشاط جاد تمامًا، وقد يتخذ صورة قاسية عنيفة، كما في احتفالات الوصول إلى سن البلوغ، حيث يمر الشبان بمحنٍ أليمةٍ قد تودي أحيانًا بحياتهم، كذلك فإنه ليس نشاطًا يستهدف غايةً عمليةً مباشرةً في حياة هذه الشعوب، وإنما هو أساسًا محاولةٌ بدائية ساذجة لفهْم العالم والتماس التوجيه في السلوك، وهو مظهر لبداية التفكير الجاد في العالم، وعلامة على بزوغ التبصُّر الخلاق للناس بالحياة، إنه ينبثق عن حاجةٍ أساسية لدى الإنسان، وهو نشاط تلقائي صِرف، لا يدفعه شيء سوى النزوع إلى التعبير الرمزي عن تجارِب لا يمكن التعبير عنها بأية وسيلة أخرى؛ فهو إذنْ حافل بالدلالة، جدير بالانتماء حقًّا إلى عالم المعنى.
ومثلُ هذا يُقال عن الأساطير؛ فهي ليست مجرد مظاهر لقصور العقل أو لسيادة الجهل في شعب بدائي، وإنما هي محاولة للإطلال على الحياة والكون من خلال أفكارٍ سياسية كالقوة والإرادة والموت والحياة. وهكذا يرى الإنسان البدائي في كل موضوع يحيط به معانيَ رمزية، فينسب إلى هذا الموضوع دلالة صوفية، ويراه بالفعل معبِّرًا عن مخاوفه أو آماله أو مُثُله العليا.
إن العالمَ يتحوَّل — من خلال الأسطورة — إلى مجموعةٍ من المعاني الذاتية التي هي أساسًا مظاهرُ لنزوع الذهن — في أول مراحله — إلى الفهم.
ولو بحثنا في أية أسطورة عن دلالات حرفية مباشرة؛ لوجدناها بالطبع مدعاة إلى السخرية، ولكن هذه الطريقة في تأمُّل الأسطورية تفوِّت علينا فهْم دلالتها الحقيقية، وهي الدلالة «الرمزية»، التي تتحول فيها قوى الطبيعة إلى رموزٍ حافلة بالمعاني المعبِّرة عن أعمق ما في النفس البشرية في هذه المرحلة من تاريخها.
•••
إن للعقل البشري هذا المصير الغريب، وهو أنه في أحد أنواع معرفته (يقصد الميتافيزيقا) تلح عليه أسئلةٌ لا يستطيع تجاهلها؛ لأن طبيعة العقل ذاتها تفرضها، ولكنه أيضًا لا يستطيع الإجابة عنها؛ لأنها تتجاوز جميع قواه.
في هذه الأسطر القليلة، أدرك «كانْت» السر، وكأني به يقول: لا تستهينوا بالميتافيزيقا مهما تخبطت، ومهما عجزتم عن تحقيق قضاياها إيجابًا أو سلبًا؛ إذ إن هناك «سرًّا» في تلك القوة التي تفرض بها الميتافيزيقا ذاتها على نفس الأذهان التي تعلم أنها لن تصل فيها إلى نتيجة، وأنها ستنتهي حتمًا — كغيرها من الأذهان السابقة عليها — إلى طريق مسدود، وما كان كتابه هذا بأسره إلا محاولة لكشف هذا السر، وللرد — قبل قرن ونصف من الزمان — على محاولة استبعاد الميتافيزيقا من مجال النشاط الذهني ذي المعنى.
ولو شئنا أن نعبِّر عن سر الميتافيزيقا بلغتنا الحديثة لقلنا إن أهميتها كلها إنما تكون في «نزوعها» ذاته، وفي سعيها الدائم الذي لا يثبطه إخفاقها المستمر؛ فها هنا شيء لا بُدَّ أن تكون له دلالته، وما هذه الدلالة إلا سعي العقل إلى ملء حياته بالمعاني، التي لا يستمدها كلها من العلم.
إن العلم — في تقدُّمه المستمر — يحوِّل أفكارًا معيَّنة من مجال التأمُّل الميتافيزيقي إلى مجال الوقائع، ولكن عملية التحويل هذه تتناول نطاقًا محدودًا، مهما أحرز العلم من تقدُّم؛ لأن حركة العلم وسعيه إلى مزيدٍ من المعقولية دليلٌ على أن كل شيء لم يتحوَّل بعدُ إلى وقائعَ علمية، أعني أنها دليل على أن للسعي الميتافيزيقي مجالًا في تجرِبة الإنسان، صحيح أننا لو افترضنا أن العلوم كلها قد استقرت، وأن اللغة البشرية قد بلغت حد الدقة الكاملة، وأن حركة المعرفة قد توقفت لأنها لم تَعُد تجد ما تتجه إليه؛ فعندئذٍ لن يعود للميتافيزيقا مجال، غير أن هذا افتراض للمستحيل، وبالتالي فسوف تظل الميتافيزيقا تغطي تلك الأرض التي لم يمتد إليها ظل العلم بعد.
والأهم من ذلك أن «النزوع» الميتافيزيقي سيظل له مبرره، حتى على الرغم من إدراك الإنسان عدم جدواه؛ إذ إن من صفات العقل البشري ألا يترك مجالًا للتجربة دون أن يضفي عليه معنًى، وهو لا يقبل أن يترك «فراغات» خالية من الدلالة في عالمه، هذه هي طبيعته، وعلى هذا فُطِرَ.
•••
والفن، ماذا نقول عنه؟ أهو مجرد صيحات انفعالية، ولكن على مستوًى عالٍ؟ أم هو نظام رمزي يعبِّر عن معانٍ تنتمي إلى مجالٍ أوسع من مجال اللغة الكلامية، ويكون تجرِبة أصلية تقف إلى جوار تجرِبة التفكير اللغوي، وينبغي أن تُقاس بمقاييسها؟
إن الفن أولًا ليس تجرِبةً تبعث اللذة أو ترضي الحواس مباشرةً؛ لأنه لو كان كذلك لأمكن أن يتذوقه الجميع بمقدارٍ متساوٍ، على حين أن الفن — في أيامنا هذه التي أصبحت فيها روائعه متاحةً لأكبر عدد من الناس — لا يجد استجابة إلا لدى القلة منهم فحسب، مع أن ما يبعث الرضا في الحواس يَلْقَى من الجميع نفس الاستجابة، وفضلًا عن ذلك، فحسبنا أن نتأمل اتجاهات الفن المعاصر لندرك أن الفن لا يجلب في كل الأحوال لذةَ الحواس أو يبعث السرور في النفس، وإذن فدلالة الفن لا تُنْقَل إلينا مباشرة؛ لكي تدركها حواسنا على نحوِ ما تدرك موضوعاتها المألوفة، فهل تكون الأعمال الفنية — كما تقول نظرية التحليل النفسي — رموزًا لأشياءَ محبوبةٍ أو مرغوبٍ فيها، ولكنها ممنوعة أو محرمة علينا، بحيث تكون هذه الأعمال تعبيرًا عن رغباتٍ لا شعورية تستخدم الموضوعات التي تمثِّلها أداةً لتصوير الأخيلة الخفية في نفس الفنان؟ إن نظريةً كهذه لا تقدِّم أساسًا للتفرقة بين العمل الفني الجيد والعمل الفني الرديء؛ فهي قد تعلِّل سببَ ظهور العمل الفني عند الفنان، أو سبب إقبال الناس عليه، ولكنها لا تمدنا بمعيار «للامتياز» الفني؛ لأن ما تتحدث عنه إنما هو سمات تظهر في أي عمل فني، قيمًا كان أو تافهًا.
وأخيرًا فليس الفن مجرَّد تعبير انفعالي عن ذات الفنان، الذي يحس بمشاعرَ معيَّنةٍ ويبعثها فينا عن طريق إثارة مشاعر مماثلة في نفوسنا.
فالرسالة التي ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلي للفنان. إن الفن يفتح لنا آفاق عالَم من المعاني التي يعبِّر عنها بطريقته الرمزية على نحوٍ فريدٍ لا تشاركه إياه وسيلةٌ أخرى من وسائل التعبير.
ولو شئنا أن نتأمل الصفة الرمزية للفن على أوضحِ صورةٍ ممكنة، فلنركزْ بحثنا في الموسيقى التي وُصِفَت بأنها فن الصورة الخالصة بلا مادة، وبأنها الفن الذي لا يستمد مضمونه من أي موضوع خارجي مباشر.
إن لتركيب الموسيقى كثيرًا من الخصائص التي تتيح استخدامها رمزيًّا، وتقترب بذلك من طبيعة تركيب اللغة؛ فهي تتألف من وحدات منفصلة (هي أصوات السُّلَّم الموسيقي) يمكن الجمع بينها على أنحاء مختلفة كلَّ الاختلاف، كما أن لهذه الوحدات القدرة على أن يغير بعضها طبيعة بعض عند تجمعها، كما يحدث للكلمات عندما تتجمع في بيتٍ من الشعر مثلًا، ومع ذلك فإن هناك فارقًا أساسيًّا بين الموسيقى وبين اللغة؛ إذ ليست للموسيقى مفردات ذات معنًى ثابت؛ لأن الأصوات والأنغام الموسيقية ليست لها أية دلالة ثابتة، على عكس الحال في الكلمات اللغوية.
وإذن فالموسيقى هي عالم من المعاني المستقلة عن المعاني اللغوية، ومن العبث أن نلوم الموسيقى على عجزها عن التعبير عن مشاعرَ كالحزن أو الفرح بنفس الدقة التي تعبِّر بها اللغة الكلامية عنها؛ إذ لو كانت الموسيقى تستهدف مثل هذه الدقة والوضوح لكان عملها مجرَّد ازدواجٍ للوظيفة اللغوية، على حين أنها هي وسائر الفنون إنما تكشف عن أوجهٍ أخرى من عالم المعنى، غير تلك التي تختص بها اللغة.
إن الموسيقى لا تقبل «الترجمة» إلى اللغة؛ فهي وسيلةٌ للمعرفة أو لكشف المعنى تقف مع اللغة جنبًا إلى جنب.
ففي الموسيقى إذن يجد المرء تأييدًا واضحًا للرأي القائل إن اللغة ليست هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة المعاني، وإن الوظائف اللغوية لا يتعيَّن أن تتكرَّر بالضرورة في الوسائل الأخرى لهذه المعرفة؛ لأن هذه الوظائف ليست نهائية ولا مطلقة.
وإذا كانت اللغة تعبِّر عن وجهٍ معيَّن للواقع، فإن الفنون — ولا سيما الموسيقى — تعبِّر عن أوجهٍ أخرى لا يمكن كشفُ النقاب عنها على أيِّ نحوٍ مخالف. إن حدود اللغة ليست هي آخر حدود التجرِبة البشرية، وقد تعجز اللغة عن الوصول إلى تجارِبَ معيَّنة، وتظل للذهن مع ذلك وسائله الخاصة في الوصول إلى هذه التجارِب، ومن الواجب أن تفسح نظرية المعرفة مجالًا لهذه الوسائل الأخرى — كالفن والموسيقى بوجه خاص — إذا شاءت هذه النظرية أن تكون شاملة لكل أطراف عالم المعاني.
•••
فما الذي يترتب على اتساع نطاق نظرية المعرفة إلى الحد الذي يتيح لها استيعاب المعنى الفني في داخلها؟ إن أفقًا جديدًا يتجلَّى لنا عندما نتخلَّى عن تلك النزعة العلمية المتطرفة، التي تكون فيها نظرية المعرفة مجرَّد نقدٍ للعلم، مقيد بحدود اللغة وبالمظاهر «الخارجية» لتجارِب الإنسان، في هذا الأفق الجديد يتسع نطاق المعاني التي تتناولها الفلسفة فيشمل التجارِب «الداخلية» التي تنقلها إلينا نظمٌ رمزيةٌ أخرى غير اللغة، وعندما نتحرَّر من إسار اللغة وشروط صحة التفكير المرتبط بالصيغة اللغوية، يتسع نطاق حياتنا الروحية ذاتها إلى حدٍّ لم يطرأ ببالنا من قبل.
إن الإنسان الحديث يعيش في أزمةٍ روحية وحضارية؛ فالحياة الآلية قد ضيَّقت نطاق عالم المعاني الذي يعيش فيه، وأفقدته الإحساس بتلك الرمزية الحيوية التي تحفل بها الطبيعة؛ ذلك لأن مجتمع المدنية الصناعية قد فصل الإنسانَ عن الطبيعة فصلًا كاد أن يكون تامًّا؛ فلم تَعُد تجربته تتضمن الإحساس بالقوى الطبيعية المباشرة وبما تنطوي عليه من رموزٍ تثري حياته الروحية.
إنه يعيش في عالمٍ صنعه هو بكل تفاصيله، وبالتالي فقدَ كلَّ دلالة رمزية له؛ لأن ما يصنعه الإنسان يتكشَّف كلُّه له، ولا يعود فيه سرٌّ ولا غموض، ولا يَصلح لكي يُتَّخذ رمزًا لمعنًى غير مباشر.
ولم يَعُد العمل الذي يمارسه الإنسان موقظًا لذهنه أو مثيرًا لخياله، وإلا فأين الخيال في حياة الصانع الذي يدير مسمارًا معيَّنًا ألوف المرات كلَّ يوم أمام الرصيف المتحرك في مصنعه؟ وأين المعاني الموحية في عمل كاتب السجلات الذي يتلقى كلَّ يوم ألوف الأوراق ويقتصر نصيبه في العمل الاجتماعي على ترقيمها برقم مسلسل؟ إن مَعِين الخيال في هذا النوع من الأعمال — الذي تحفُل به الحضارة الحديثة — لا بُدَّ أن يجفَّ وينضب، وليس من قبيل المصادفة على الإطلاق أن تنتشر في هذا العصر فلسفةٌ ترى في التحقيق الواقعي معيارًا نهائيًّا «للمعنى»، وتتخذ من القضايا اللغوية ميدانًا أوحدَ لنشاط الذهن، وتصف كلَّ ما عدا ذلك من نواتجِ الرُّوح بأنه من قبيل الانفعال الغامض الذي لا يقبل التعبير عنه، والذي يظل إلى الأبد متخلفًا عن ركب العقل الظافر.
إن مثل هذه الفلسفة إنما هي المقابل الفكري لحياةٍ حضارية خَلَتْ من كل محتوًى رمزي حي، وانفصل فيها الإنسان عن الطبيعة حتى لم يَعُد يرى منها إلا أشباحًا من صنعه هو.
على أن نفس الحضارة التي اقتلعت الإنسان من جذوره الطبيعية، كفيلةٌ في الوقت ذاته بإثراء حياة الروح على نحوٍ لم يَحلُم به الإنسان طَوال تاريخه من قبل؛ فالإنتاج الصناعي الذي يهدِّد بأن يحيل عمل الإنسان إلى نشاط آلي يقتل كل خيال خلاق، هو ذاته الذي يمنح الإنسان من الفراغ ما يتيح له تنمية أسمى مواهبه وأرفعها، والآلات التي تحجب عن الإنسان وجه الطبيعة هي ذاتها التي تضع في متناول يديه — في سهولة ويسر — روائعَ الإنتاج الثقافي والفني كما تراكمت على مر الأجيال.
وهكذا فإن لحياة الإنسان الحديث وجهًا آخرَ غير ذلك الوجه الذي يقيِّده بعالم الوقائع المحققة ويرى فيه المجال الوحيد لنشاطه الفعال. في ذلك الوجه الآخر يتسع أفق العقل البشري، ويمتلئ بشتَّى أنواع التجارِب التي تُسْهِم كلها في فتح أبواب المزيد من المعاني أمام الإنسان.
وإذا كان الأمل الأعظم للبشرية — في كفاحها الحاضر — هو أن تتخذ من الحضارة الصناعية الحديثة أداةً لإثراء حياة الإنسان بدلًا من إفقارها، فلا جدال في أن الفلسفة الجديرة بأن تعبِّر عن هذا الأمل، هي تلك التي تفتح أبوابها أمام شتَّى ألوان التجارِب البشرية، من شعر وفن وتأمُّل، وترى في هذه التجارِب كلها محاولات على مستويات مختلفة لفهم الإنسان وعالمه، محاولات لها دلالتها ومعناها؛ لأن عالم المعنى والدلالة في الإنسان أوسعُ وأرحب من أن تستوعبه اللغة العلمية وحدَها.