مشكلة الكم والكيف والثقافة١
في ١٣ نوفمبر ١٩٦٥م نشرت مجلة «الاشتراكي» مشروع دستور ثقافي، يستهدف توحيد فكر المثقفين حول قضايا أساسية، وفي المقال التالي يناقش المؤلف قضية رئيسية وردَ ذكرُها في المشروع المشار إليه، وهي قضية الكم والكيف في الثقافة.
***
لا أُخْفِي على القارئ أنني فوجئت بالنص الذي تضمنه مشروع الدستور الثقافي — كما نشرته مجلة «الاشتراكي» — عن مشكلة الكم والكيف، وأعدتُ قراءة هذه الفقرة مرارًا حتى أتأكد مما تضمنته من معانٍ، ولا أخفي على القارئ أيضًا أنني عندما قرأت أول عبارة تضمنها هذا المشروع حول هذه المشكلة — وهي «الرجعيون وحدَهم هم الذين يدعون إلى تغليب الكم على الكيف في الأعمال الفنية» — كان إحساسي مزيجًا من الدهشة والارتياح؛ أما الدهشة فلأن كثيرًا من «الدساتير الثقافية» أو «المنشورات الفنية» أو ما يشابهها من البيانات التي تعلن مبادئ عامة يلتزمها المثقفون في عدد غير قليل من البلدان الاشتراكية، تتضمن تأكيدًا عكسيًّا، أي إنها تذهب إلى أن الرجعيين هم الذين يدعون إلى تغليب الكيف على الكم. وأما الارتياح فلأن واضعي هذا المشروع لم يقعوا — لحسن الحظ — في هذا الخطأ الذي وقع فيه كثيرٌ من الاشتراكيين في بلدان أخرى، وإنما حذَّرونا بأشد لهجة من الاعتقاد بأن الانتشار العددي للإنتاج الفني هو أمرٌ أجدرُ بالاهتمام من ارتفاع مستواه من حيث النوع.
•••
أما أن تغليبَ الكم على الكيف خطأ فادح يقع فيه كثيرٌ من الاشتراكيين في البلدان الأخرى، فذلك ما يتضح من الارتباط الوثيق الذي يقيمه هؤلاء بين كلِّ ما له قيمة وكلِّ ما هو شعبي، وهذا أمرٌ يمكن أن يَصدُق على مجالات متعدِّدة، ولكنه لا يَصدُق على مجال الفن والأدب والثقافة بوجه عام؛ فليس يكفي أن يكون العمل الفني منتشرًا على نطاق شعبي لكي يكون عملًا قيمًا؛ إذ إن هناك أعمالًا لا يمكن أن يكون جمهورها كبيرًا، ومع ذلك تُعَدُّ أعمالًا رفيعةً بحق. وبعبارة أخرى فقد اعتقد كثيرٌ من الاشتراكيين أن شعبية العمل الفني هي دائمًا هدفٌ ينبغي أن يتجه إليه الفنان، وحكموا بالتالي على الأعمال التي لا تلقى إقبالًا واسعًا بأنها انعزالية أرستقراطية، أي بأنها رجعية، وبذلك ربطوا بين الرجعية وبين تغليب الكيف على الكم.
غير أن من الإنصاف أن نقول إن السنوات الأخيرة شهدت تحولًا كبيرًا في تفكير نفس أولئك الاشتراكيين الذين أذاعوا هذه الدعوة، وكان الدافع الأول إلى هذا التحوُّل ذلك العقم الفني الذي أدَّت إليه هذه النظريات؛ فقد أدَّى استهداف «الشعبية» غاية لكل عمل فني إلى تحوُّل الفن إلى نوعٍ من المخاطبة السطحية الساذجة للجماهير في صورة دعاية صريحة مضمونها سياسي وشكلها بعيد في أغلب الأحيان عن الفن الصحيح؛ لذلك اتجهت الدعوة في السنوات الأخيرة إلى تحقيق المزيد من التوازن بين مطلب التوجيه السياسي ومقتضيات الشكل الفني السليم، والتخلي تدريجًا عن النظرة «الكمية» إلى الفن والأدب في سبيل الاعتراف بأهمية الكيف وقيمته.
والأمر الذي لا شك فيه أن واضعي مشروع الدستور الثقافي قد أفادوا من تلك التجرِبة التي مرت بها بلادٌ أخرى سَعَت من قبلنا إلى ربط الفن بالهدف الاجتماعي الذي تخطته الدولة نفسها، ولكنها تخبطت وتعثَّرت في البداية، فكان من الطبيعي أن نعمل نحن على تجنب تكرار هذا التخبط والتعثر في تجربتنا الخاصة، وأن نؤكد منذ البداية أن معيار الحكم على سلامة العمل الفني هو نوعه ومستواه لا مقدار انتشاره.
ومعنى ذلك أن دعوتنا إلى جودة العمل الفني والاهتمام بالكيف قبل الكم ليست ردًّا على الرجعيين الهدامين فحسب، بل هي أيضًا ردٌّ على كثير من التقدُّميين من أصحاب النظريات غير الناضجة في الفن، ومن هنا لم يكن الرجعيون «وحدَهم» هم الذين يدعون إلى تغليب الكم على الكيف في الأعمال الفنية، وكان لا بُدَّ لنا أن نحدد موقفنا في هذا الصدد بأنه يرتفع عن مستوى النظرة النفعية المادية التي تسود لدى الرجعيين من جهة ومستوى النظرة السطحية الدعائية التي تسود لدى بعض التقدُّميين من جهة أخرى.
•••
وفي اعتقادي أن قضية الكم والكيف في الفن والأدب هي قضية تبلغ من التعقيد حدًّا يستحيل معه إصدار حكم عام بشأنها إلا إذا قمنا بتحديدٍ دقيق للمجال الذي تنطبق عليه، ولما كان لكل عمل فني طرفان أساسيان على الأقل: أولهما خالق العمل الفني نفسه؛ أعني الفنان أو الأديب. وثانيهما متذوق ذلك العمل؛ أعني الجمهور الذي يوجَّه إليه العمل، فلا بُدَّ في رأيي من معالجةٍ منفصلةٍ لقضية الكم والكيف بالنسبة إلى الفنانين الخالقين من جهة، وبالنسبة إلى جماهير المتذوقين من جهة أخرى.
ولنبدأ أولًا ببحث المشكلة من زاوية الفنان أو الأديب الخالق، عندئذٍ تتخذ المشكلة طابع الإنتاج المستمر الذي لا ينقطع من جانب فئة محدودة من المؤلفين، ولهذه الظاهرة أسبابٌ متعدِّدة، منها افتقار الميدان الفني والثقافي إلى العدد الكافي من المنتجين الخلاقين، ومنها الرغبة في الحصول على مجدٍ أو ثراء شخص عن طريق تضخيم الإنتاج وزيادة كميته، وسواء أكان السبب هذا أم ذاك، فلا جدال في أن من أوضح العيوب التي ينبغي أن نعمل على تلافيها في الحقل الثقافي بكل فروعه، نزوعَ الكثير من المشتغلين في هذا الحقل إلى الإكثار من إنتاجهم دون أن يُلْقُوا بالًا إلى نوع هذا الإنتاج أو مستواه.
فما زال عدد غير قليل من المثقفين يقيس قدرة المؤلف في أي ميدان بمقدار إنتاجه، وما زال كثير من المؤلفين يظنون أن غمر الأسواق بإنتاجهم هو أفضل وسيلة تضمن لهم الشهرة وعلو المكانة في الأوساط الأدبية؛ ففي مجال التأليف نرى الكاتب يفخر بعددِ ما ينتج أكثرَ مما يباهي بمستوى إنتاجه، ونرى مؤسساتٍ تتخذ لنفسها شعارات «كمية» خالصة لا تخدم الثقافة الحقيقية في شيء. وفي ميدان الترجمة يقتصر الإنتاج على عدد قليل يكاد أفراده يحتكرون هذا الميدان الحيوي ولا تُتاح لغيرهم فرصة الإنتاج فيه، حتى أصبح من أعقد مشكلات الترجمة تزاحمُ الأعمال على هذه القلة المحدودة وما يستتبعه ذلك من ضعفٍ في مستوى إنتاجها، أما في الميادين الفنية على التخصص — كالتمثيل والموسيقى والسينما — فإن هذه المشكلة أوضحُ وأفدحُ بكثير؛ إذ إن الوجوه المعروفة تتكرر على الدوام، وما دام إنتاجها مطلوبًا بلا انقطاع فإنها لا تبذل أية محاولة جادة لتنويع أسلوبها أو تجديد فنها أو النهوض بمستواها، بحيث يمكن القول إن هناك احتكارًا حقيقيًّا للإنتاج الفني في هذا المجال، يؤدي إلى زيادة إنتاج البعض إلى حد الإفراط الشديد، وعجز البعض الآخر عن الحصول على «جواز مرور» يتيح لهم اختراق الحاجز الكثيف الذي فرضه الأولون على الميدان الفني.
ولا جدال في أن الأمور ستظل تسير على هذا النحو إلى أن تتسع قاعدة الإنتاج الأدبي والفني إلى الحد الذي يكفي لاستبعاد العناصر الضعيفة أو المستغلة من هذا المجال، فلا سبيل إلى القضاء على هذا الطوفان الكمي الذي تقتصر على إنتاجه فئةٌ محدودة إلا بأن يزيد عدد المشتغلين في ميدان الفن والثقافة بوجه عام، بحيث لا يعود الإنتاج الهزيل قادرًا على الصمود في الميدان، ويتجه الفنانون والأدباء تلقائيًّا إلى إتقان عملهم «كيفيًّا» حتى يُكْتَبَ له البقاء، أما إذا ظل الميدان مقتصرًا على فئة قليلة، فإن الإلحاح المستمر على أفرادها وخلو الميدان من المنافسة الحقيقية يدفعهم حتمًا إلى الابتذال، ويؤدي إلى خفض مستوى مقاييسهم على الدوام، على أن اتساع قاعدة الإنتاج في المجالات الثقافية مرتبطٌ أوثق الارتباط بالأحوال الاجتماعية العامة للبلاد، بحيث يمكن القول إن النهوض في هذا الميدان لا يمكن أن ينفصل عن النهوض الحقيقي في المرافق التي تتحكم في حياة المجتمع، ولا سيما في جانبها الثقافي. وبعبارة أخرى فظاهرة تغليب الكم على الكيف من وجهة نظر الفنانين أو الأدباء، ليست ظاهرة منعزلة، وإنما هي ظاهرة وثيقة الارتباط بعواملَ تزداد عموميةً بالتدريج حتى تنتظم المجتمع بأسره.
•••
أما الوجه الآخر من مشكلة الكم والكيف في الثقافة، فهو ذلك الذي يتعلق بالجمهور، أو بمن يتجه إليهم العمل الفني، ومن الواجب أن نشير منذ البداية إلى الصلة الوثيقة بين هذا الوجه والوجه السابق؛ إذ إن ضعف حساسية الجمهور يشجع الفنان على الابتذال ويهبط بمستوى إنتاجه، كما أن هبوط مستوى الفنان يؤدي بدوره إلى زيادة ضعف الحساسية الفنية للجمهور وإفساد الأذواق فيه، ومثل هذا يُقال بطبيعة الحال عن التأثير المتبادل بين ارتفاع مستوى الفنان وارتفاع مستوى جمهوره. وإذن فهذان الوجهان للمشكلة مرتبطان أوثق الارتباط، ومن المستحيل تصوُّر أحدهما منفصلًا عن الآخر.
إن الأمر المشاهَد فعلًا هو أن كثيرًا من الأعمال الفنية والأدبية الضعيفة تلقى رواجًا كميًّا هائلًا، صحيح أنه قد يظهر — من آنٍ لآخر — عملٌ فني كبير يلقى رواجًا ضخمًا بين الجمهور، غير أن من السهل تحقيقَ رواج أكبر بعملٍ تافه مبتذَل، ولهذه الظاهرة تعليلات واضحة؛ ذلك لأن العمل قد يتعمد إثارة غرائز الجماهير كما في القصص الجنسية الصريحة أو أغاني «الصالات» بما فيها من تصريحات أو تلميحات، وقد يُقدِّم ذلك العمل إلى الجمهور وسيلةً يروِّح بها عن نفسه ويُضيِّع بها وقت فراغه، كما في حالة أفلام الجريمة والروايات البوليسية، والأهم من هذه الأسباب كلها أن العمل التافه لا يقتضي إلا مجهودًا ذهنيًّا ضئيلًا، ومن هنا كان من السهل انتشاره بين أكبر عدد ممكن من الناس، ولكي يتضح للقارئ معنى هذه النقطة الأخيرة، فما عليه إلا أن يقارن بين حالة جمهور المستمعين إلى أغنية سطحية أو قطعة موسيقية خفيفة راقصة، وبين حالتهم عندما يستمعون إلى فنٍّ موسيقيٍّ رفيع، إنهم في الحالة الأولى يستمعون وهم يتحدثون أو يأكلون، وقد يردِّدون الأنغام من آنٍ لآخر خلال انشغالهم بأعمالٍ أخرى بعيدة عن حالة التذوق الفني كلَّ البعد، أما في الحالة الثانية فلا بُدَّ لهم من التركيز والانصراف عن أية مشاغلَ أخرى، ولا بُدَّ لهم من أن يَهِبوا أنفسهم للعمل الفني ولا ينشغلوا إلا به، وهذا أمرٌ يحتاج إلى جهد غير قليل، وإذا كان من الصحيح أن هذا الجهد يُقدَّم إلى المتذوق جزاءً ومكافأةً كبرى في صورة ممتعة فنية أرفع وأعمق بكثير من تلك التي يوصله إليها العمل السطحي، فإن من الصحيح أيضًا أن هذه الآفاق البعيدة للمتعة الجمالية بما تقتضيه من جهد وتركيز ذهني لا تتيسر للجميع؛ إذ إن الجزء الأكبر من الناس يؤثرون الراحة ويفضِّلون متعةً سطحية بجهد قليل على متعة عميقة بجهد كبير، ومن هنا كان رواج الأعمال المبتذلة وانتشارها بين الجماهير على أوسعِ نطاق.
وإذن فالواقع نفسه يثبت أن الثقافة التي يغلب فيها الكم على الكيف، هي ثقافةٌ لا تدافع عن أية قيمة إنسانية شريفة، وإنما ثقافة تخدِّر حواس الإنسان وتَشُلُّ تفكيره وتجذب خياله إلى مجال أحلام اليقظة، وتبدِّد طاقته في أمورٍ لا تجديه ولا تسهم في تقدُّم حياته، والواقع نفسه يشهد بأن مثل هذه الثقافة — إن كانت تستحق هذا الاسم — هي التي تزدهر وتنتشر حين تكون القيم التجارية هي وحدَها المتحكمة فيما يُقدَّم إلى عقول الناس وأرواحهم من إنتاج فني وأدبي، أما الثقافة الرفيعة فلا بُدَّ لكي تزدهر من حمايةٍ ورعايةٍ يكفُلها سيادةُ قيمٍ إنسانية تعلو على دوافع الربح وتتجاوز مقتضيات السوق وعوامل العرض والطلب. وبعبارة أخرى، فهناك ارتباط لا يمكن إنكاره بين القيم الرأسمالية وبين ثقافة الكم من جهة، وبين القيم الاشتراكية وثقافة الكيف من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن هذه هي النغمة الرئيسية التي تتردَّد في مشروع الدستور الثقافي، فإن هناك مبادئَ معيَّنةً تبدو — في ظاهرها — متعارضةً مع هذه النغمة الرئيسية، أي إنها تنطوي على نوعٍ من الدفاع عن الكم أو تغليبه على الكيف، ولكن التحليل الدقيق لهذه المبادئ يثبت أن هذا التعارض ظاهريٌّ فحسب، وأن من الممكن إدماجَ هذه المبادئ ضمن القاعدة الرئيسية — وهي تغليب الكيف على الكم — دون أي تناقض.
- أما المبدأ الأول: فهو قبول الفن الدعائي — ذي الأهداف الواضحة المباشرة — في الريف، وذلك — كما جاء في مشروع الدستور — من أجل تخليص الفلاح من عادة سيئة، أو غرس مادة طيبة في نفسه أو محيطه، مثل هذا الفن هو بطبيعته فنٌّ كمي، يُضحَّى فيه بالكيف في سبيل ضمان نشر المعاني المتضمَّنة فيه على أوسع نطاق ممكن، غير أن لهذه التضحية طابعًا مؤقتًا، ولا بُدَّ أن ينتهي الأمر — على المدى الطويل — إلى عودة الاهتمام بالكيف، والعمل على رفع مستوى الشكل الفني إلى جانب المضمون. وعلى أية حال فإن هذا النوع من التوسع الكمي يختلف كلَّ الاختلاف عن ذلك النوع الآخر الذي استهدف المشروع محاربته؛ فليس الهدف من التوسُّع في هذه الحالة تخدير الجماهير أو تضليلها أو إبعادها عن أهدافها الحقيقية، وإنما هو يرمي — على العكس من ذلك — إلى زيادة وعي الجماهير وتنبيهها إلى حقوقها المشروعة، وهكذا يمكننا أن نتصور — في هذه المرحلة المؤقتة — نوعًا من الفن الذي يعتمد على الكم قبل الكيف، دون أن يكون ذلك الفن رجعيًّا على الإطلاق.
- وأما المبدأ الثاني: فهو مستمَد من ضرورة وجود معنًى لكل عمل فني، بحيث يخاطب ذلك العمل بيئةً معيَّنة، ويعبِّر عن مجتمعه مثلما يعبِّر عن الفنان الخالق له، وقد عبَّر مشروع الدستور فن هذا المبدأ في نهاية الفقرة السادسة من المبادئ العامة، فقال: «ولهذا فإن الأعمال الفنية التي تخاطب أعدادًا كبرى من الناس، وتحظى برضاهم أو اهتمامهم، هي بالضرورة أفضلُ من أعمالٍ أخرى أقل منها جمهورًا، وذلك شريطة أن تجذب الأعمال الفنية جمهورها دون ابتذالٍ أو تملُّق الغرائز، أو تضحية بهدف الفن الدائم، وهو الحق والخير والجمال.»
ومن المؤكد أن العبارة السابقة تثير عديدًا من الإشكالات، فهي تفترض إمكان وجود أعمال فنية رفيعة المستوى، ليس فيها ابتذال أو تملُّق الغرائز، ولكنها مع ذلك ترضي جمهورًا كبيرًا، وهي تضع نوعًا من المعيار الكمي — هو رضا الجمهور — للتفضيل بين الأعمال الفنية التي تشترك في الصفات السابقة، وإذا أمكن وجود مثل هذه الأعمال الفنية ذات المستوى الرفيع، وكان في وُسع هذه الأعمال أن تخاطب أعدادًا كبرى من الناس فتجد منهم استجابة ورضاءً واهتمامًا، فعندئذٍ لن تعود مشكلة الكم والكيف قائمة، ولن يصبح في وُسع تجار الثقافة أن يُغرِقوا الأسواق بإنتاجهم المبتذَل، ما دام هناك إنتاج رفيع يرضي الجموع الكبيرة من الجماهير.
وهذا يؤدي بنا إلى نقطةٍ أعتقد أنها على جانب عظيم من الأهمية، وعن طريقها يمكننا رفعُ التناقض الذي أشرنا إليه من قبل، تلك هي أن المَثَل الأعلى للثقافة وللتربية الفنية والأدبية هي إزالة التعارض بين الكم والكيف، أعني الوصول إلى حالةٍ تستطيع فيها الجموع الكبيرة من الجماهير تذوُّق أرفع أنواع الإنتاج الفني، بحيث يكون أجمل الأعمال الفنية هو في الوقت نفسه أوسعها انتشارًا، وبحيث لا يلقى العمل المبتذل استجابةً على الإطلاق، وهذا دون شك هدفٌ بعيدٌ يصعب تحقيقه، ولكنه مع ذلك هدف ينبغي أن يضعه مخططو الثقافة نُصْب أعينهم على الدوام؛ لأنه هو الأمنية التي يتجه كلُّ مجتمع اشتراكي أصيل إلى تحقيقها بكل قواه.
فالتعارض الشديد بين الكم والكيف مرتبط — دون شك — بنوع من التخلُّف الثقافي، تكون فيه القلة أو الصفوة هي وحدَها القادرة على تذوُّق الأعمال ذات المستوى الرفيع، وتكون الغالبية العظمى من الناس عاجزة عن الاستمتاع إلا بالأعمال السطحية المبتذلة، وفي مثل هذا المجتمع المتخلف ثقافيًّا تتخذ مشكلة الكم والكيف صبغة حادة، ويكون الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام المزيفين لخداع الجماهير بثقافة سطحية تتملق غرائزهم أو تخدِّر عقولهم، وكلما ازداد نصيب المجتمع من الثقافة أو نصيب الثقافة من اهتمام المخططين الاجتماعيين؛ خَفَّت حدة التعارض بين الكم والكيف، واتجها إلى التقارب التدريجي حتى ينتهي بهما الأمر إلى الاتحاد في المجتمع المثقف بالمعنى الصحيح، فلو تصورنا مثلًا مجتمعًا يكون التعليم الثانوي فيه إلزاميًّا لكل الفلاحين، ويكون التعليم العالي أو الجامعي من نصيب فئة كبيرة من العمال الصناعيين، فسوف يكون في وُسع الأعداد الكبيرة من الجماهير في مثل هذا المجال أن تستمتع بأعمالٍ على مستوى شكسبير ودستويفسكي وبلزاك، ويصبح مدى إقبال الناس على العمل الفني عندئذٍ معيارًا لقيمة هذا العمل في ذاته، وصحيح أن هذا مجتمعٌ فرضي يصعب تحقيقه في ظروف الحرب الباردة والتسلح التي تقف حائلًا بين عالم اليوم وبين توجيه الاهتمام الكافي إلى تنمية الثقافة وغيرها من الجوانب المعنوية في حياة الإنسان، ولكن من الواجب أن نضع هذه الحقيقة نصب أعيننا، وندرك أن الهدف النهائي لجهودنا في هذا الميدان ينبغي أن يكون عبور الهوة بين الكم والكيف ورفع التناقض بينهما، والوصول إلى الحالة التي يصبح فيها أرفع أنواع الفن هو أكثرها انتشارًا بين جموع الناس.
ولعل القارئ قد أدرك — من خلال المناقشة السابقة لمشكلة الكم والكيف في الثقافة — أن المسئولية الكبرى عن حل هذه المشكلة — في المجتمع الاشتراكي — لا بُدَّ أن تقع على عاتق الحكومة، صحيح أن المشروع الذي نناقشه موجَّه أساسًا إلى الفنانين أنفسهم، ولكنه في الوقت ذاته يمثل نوعًا من الدستور الثقافي الذي يحدِّد دور الفن والأدب في المجتمع الاشتراكي، كما يحدد موقف المجتمع الاشتراكي — ممثلًا في حكومته — من الفن والأدب، وإذا كان من المفيد أحيانًا أن نتوجَّه إلى الفنانين بالنداء حتى يهتموا برفع مستوى أعمالهم قبل اهتمامهم بكثرة الإنتاج أو وفرته، فإن مثل هذه الفوائد تتضاءل إلى جانب النفع العظيم الذي يمكن أن يجنيه الأدب والفن لو وضع الإطار التنظيمي الذي يكفل تحقيق هذا الهدف، ولو توافرت الشروط الموضوعية التي تضمن الاهتمام بالكيف قبل الكم أو معه، بحيث لا تعود المسألة متوقفةً على إرادة الفنانين أو استجابتهم فحسب، بل يصبح الجو الفكري ذاته هو الذي يحتم حدوث هذا التحوُّل الأساسي، وفي اعتقادي أن على الحكومة — في سبيل تحقيق هذا الهدف — واجبًا عاجلًا وواجبًا آجلًا، كليهما لا بُدَّ منه لضمان الحل الصحيح لمشكلة الكم والكيف.
أما الواجب العاجل فهو تهيئة الظروف التي تجعل الإنتاج الفني والأدبي مستقلًّا عن مطالب السوق ومقتضياته؛ ذلك لأن مركز الفن في المجتمع — بوصفه سلعةً تسري عليها قوانين السوق — هو الذي يؤدي إلى الاستغلال الرأسمالي وإلى كل الأضرار الأخرى المترتبة على تطبيق مبدأ الربح على مجال الإنتاج الفني. ومن هنا كان تشجيع الدولة للفنانين والأدباء على رفع مستوى إنتاجهم، وتعويضها إياهم عن الخسارة المادية التي يمكن أن يلحقها بهم عرض هذا الإنتاج الرفيع في السوق؛ ضرورةً حتميةً من أجل ترجيح كِفة الكيف على الكم، وفضلًا عن ذلك فإن رعاية الدولة أساسية حتى لا يضطر الفنان — جريًا وراء لقمة العيش — إلى التبذل والإسفاف والهبوط عمدًا بمستوَى فنِّه لإرضاء مطالب السوق، وربما كان الأهم من هذا وذاك أن الدولة وحدَها — بما لها من إمكانيات ضخمة ومن نظرة موضوعية إلى الأمور — هي وحدَها القادرة على الأخذ بيد الفنانين الناشئين وتشجيعهم على الوقوف إلى جانب مشاهير الفنانين، وبهذا وحدَه تتسع قاعدة الإنتاج الفني إلى الحد الذي لا يعود من الممكن معه احتكار فئة محدودة للإنتاج وإغراقها للسوق بأعمال متلهفة تفتقر إلى الصقل والنضج.
وأما الواجب الآجل فهو الاهتمام العام بالثقافة بوصفها جزءًا من النهضة الاجتماعية الشاملة؛ فبهذه النهضة وحدَها تجد مشكلة الكم والكيف حلها الصحيح، وهو — كما قلنا — أن تزول الهوة بينهما، ويلقى أرفع الأعمال الفنية أكبرَ استجابة من الجماهير العريضة، وهذا هدفٌ لا يخطر بالذهن إمكانُ تحقيقه إلا في المجتمع الاشتراكي، حيث يربط التخطيط بين كل مظاهر حياة المجتمع في وحدة واحدة، ومن هنا كان الحل الصحيح لمشكلة الكم والكيف — في رأيي — هو أن نعمل على إلغاء هذه المشكلة بإنهاض المجتمع تدريجيًّا إلى المستوى الذي يكفُل رفع مَلَكة التذوق الثقافي لدى الجماهير الكبيرة من الناس، أما المشكلة بوضعها الحالي — أعني مشكلة وجود تعارض بين الكيف والكم، وانتشار الأعمال التافهة على أوسع نطاق ممكن، واقتصار الأعمال الرفيعة على جمهور ضئيل بحيث يتحتم حمايتها من طغيان الرغبة في الكسب المادي — فهي مشكلةٌ ترتبط أساسًا بنوعٍ من التخلُّف الثقافي يتحتم على المجتمع الاشتراكي أن يكرِّس كلَّ جهوده للقضاء عليه.