عن الإنسان والقمر
قلت لنفسي — وأنا أتأهب لتدوين خواطري عن أروع حدث علمي وحضاري مرت به البشرية منذ قرون عديدة — راحت السَّكرة وجاءت الفكرة؛ فقد كنت أريد أن أفكر لا أن أنفعل؛ ولذلك آثرت ألا أكتب عن هذا الحديث فور وقوعه، لقد كان العالَم كله مبهورًا، وكانت العقول مسحورة بالرحلة التي تَجاوز الواقعُ فيها أقصى حدود الخيال، وكان لا بُدَّ لمن يريد أن يتأمل الأمورَ في منظورها الحقيقي أن يتريث قليلًا حتى تهدأ النفوس وتخف حدة الانفعالات، وتعود أنفاس الناس ودقات قلوبهم إلى إيقاعها السوي المنتظم، ويستطيع هو ذاته أن يستجمع شتات أفكاره بهدوء، وبلا انفعال مفرط يبدد طاقة العقل.
ولست أدري هل مضى من الوقت ما يكفي لكي يطمئن المرء إلى أنه يكتب وهو غير منفعل؛ فأغلب الظن أن ما حدث سيظل يلهب خيال الناس طويلًا، ولكن الذي أستطيع أن أقرره مطمئنًّا هو أنني حاولت — بقدْر ما استطعت — أن أجمع الخيوط المتفرقة التي تحيط بهذا الحدث الجليل، وأن أتأمله من منظورٍ أوسع، دون أن تنبهر عيناي بوهج الكشف العظيم وحده، فتختفي من حوله عناصرُ الإطار الذي لا يُفْهَم هذا الكشف إلا من خلاله، وأحسَب أن القارئ بدوره قد بدأ يستعيد من رباطة الجأش ما يتيح له أن يستمع إلى حديث هادئ عن حدث لم يعرف الناس من بعده الهدوء.
القمر وسياسة الأرض
لقد كنا جميعًا — خلال المرحلة الرومانتيكية التي أعقبت هذا الحدث مباشرةً — نؤكد أن هذا نصرٌ جديد للإنسانية كلها، ونردِّد مع زائر القمر الأول هتافه: إنها خطوة صغيرة لإنسان واحد، ولكنها قفزة هائلة للبشرية! وكان طبيعيًّا أن يتردَّد صدى هذه النغمة الجميلة في جنبات عالمٍ مفتون بالإعجاز الذي تحقَّق، ولكن هل كانت هذه قفزة للبشرية كلها؟ وهل تسمح حقائق العالم الذي نعيش فيه بأن تتشارك الإنسانية كلها في جني ثمار نصر علمي كهذا؟
إن من خصائص التفكير الرومانتيكي — بوجه عام — أنه يتجاهل الحقائق العلمية والأمور الواقعة لا سيما إذا كانت قبيحة، ومن المؤكد أن العالم قد مر — على أثر هبوط الإنسان على القمر — بفترة نشوةٍ رومانتيكية كان يَحُنُّ إليها منذ أمد بعيد بعد أن ظلت أسلاك البرق لا تحمل إليه — خلال سنين طويلة — إلا أنباء المعارك والمجازر والتسابق على القتل وتوازن الرعب بين طرفين يقف كلٌّ منهما مترصدًا كلَّ حركة للآخر، في مثل هذا العالم بَدَتْ رحلة القمر — في أيامها الأولى — نبأً رائعًا من نوع غير مألوف؛ لأنه أول نبأ غير عسكري أو غير سياسي يحتل المكانة الأولى في صحف العالم وإذاعاته، وفي أحاديث الناس داخل بيوتهم وخارجها، ولأنه أول نبأ يتركز فيه اهتمام العالم كله على موضوعٍ يعلو على خلافات المعسكرات السياسية ومشاحناتها، بل يعلو على مشكلات الأرض كلها، وينتقل بعقولنا لأول مرة — وعلى نحوٍ حقيقي لا مجازي — إلى ما يسمو على عالمنا الأرضي.
ولكن النشوة الرومانتيكية لم تَدُمْ طويلًا، وكان أصحاب الانتصار العظيم هم أنفسهم الذين ذكَّروا العالم بحقائقه العملية القبيحة مرة أخرى، وهم الذين سكبوا ماءً باردًا على رءوس الناس بعد أن أسكروها بكشفهم الرائع، فحتى قبل هبوط رواد القمر الثلاثة إلى الأرض، كان الرئيس نيكسون قد بدأ رحلته إلى بعض الدول ذات الوضع الشائك في آسيا وأوروبا، واستقبل روادَ القمر وهو في منتصف الطريق إلى رحلته، ولم ينتظر ولو يومًا واحدًا بعد النصر العظيم، وكان واضحًا أنه أراد أن يطرق الحديد وهو ساخن، بل وهو في أتون الفرن، وأنه — بعد تاريخٍ حافلٍ بالاستقبالات العدائية قلَّ أن تحظى به شخصية عالمية أخرى (خلال مدة نيابته لرئاسة الجمهورية منذ ما يقرب من عشر سنوات) — أراد أن يستغل الانتصار الرائع في نفس لحظة حدوثه، علَّه يلقى هو وبلاده معاملةً مختلفة من شعوب العالم المحرومة، ومع ذلك فقد حملت إلينا الأنباء أن الهتافات العدائية — من أمثال «اقذفوا به إلى القمر!» — ظلت تتردد طَوال الرحلة، وربما كان التاريخ الحافل الذي أشرت إليه قد ظل يلاحق صاحبه حتى اليوم، ولكن الأهم من ذلك هو ما يدل عليه الهتاف نفسه من أن حقائق الموقف العالمي قد عادت وفرضت نفسها على الناس، وأنهم أفاقوا سريعًا من النشوة، ولم يستطيعوا — بالرغم من روعة الحدث — أن ينسوا مشكلات عالمنا وصراعاته، وإنما بادروا إلى إدخال الكشف العظيم في إطار الخلافات العالمية السائدة.
والدلالة الواضحة لواقعةٍ بسيطة كهذه هي أن الانتقال إلى القمر لا يمكن أن يُنْظَرَ إليه — في عصرٍ كهذا الذي نعيش فيه — من منظور إنساني شامل، بل إن الناس لا يجدون مفرًّا من أن يربطوا بينه وبين صراعات الفترة الزمنية التي يمر بها العالم، وعلى حين أن هذا الحدث العظيم قد أتاح للإنسان — لأول مرة — أن يرى بعينه المجردة كوكبنا هذا وقد بدا كرةً صغيرة محلِّقة في فضاء فسيح، فقد تبين للبشر مع ذلك أنه ليس ثمَّة مفر من تأمُّل هذا الفتح الرائع في ضوء الخلافات الجزئية التي يحتشد بها كوكبنا المزدحم المعقد.
خلاصة القول أن غزو القمر في هذا العصر الذي نعيش فيه وفي الظروف التي تم فيها، لا يمكن أن يكون عيدًا خالصًا للإنسانية، بل هو بالإضافة إلى ذلك مرحلة من مراحل الصراع داخل الأرض نفسها؛ فللحدث العظيم وجهان لا ينفصل أحدهما عن الآخر: وجه إنساني شامل، ووجه سياسي واقتصادي وعسكري تتغلغل جذوره في صراعات العالم في الثلث الأخير من القرن العشرين.
والآن فما الذي نرى لو تأملنا ارتياد القمر من هذين الوجهين معًا؟
إن الحقيقة الأولى والأساسية هي أن عصر الفضاء بأكمله إنما بدأ أصلًا بوصفه واقعة من وقائع الحرب الباردة، وجزءًا لا يتجزأ من الصراعات المرتبطة بهذه الحرب؛ ففي أكتوبر من عام ١٩٥٧م عندما أعلن الاتحاد السوفييتي افتتاحَ هذا العصر بإرسال «سبوتنيك» إلى الفضاء، كان من الواضح أن هذا الكشف الجديد — والمذهل في ذلك الحين — مرتبطٌ أوثق الارتباط بحقائق الحرب الباردة؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي ترك الولايات المتحدة تنفق ألوف الملايين من الدولارات لكي تحيطه بقواعدَ عسكرية تساعدها على الوصول بالطائرات السريعة إلى قلب بلاده في حالة الحرب، وركَّز جهوده على سلاح جديد يجعل من هذه القواعد العسكرية شيئًا عقيمًا لا جدوَى منه، هو القذائف العابرة للقارات، ولقد كانت القوة الدافعة لهذه القذائف هي ذاتها التي أتاحت إرسال أقمار صناعية تدور حول الأرض، وكان إطلاق القمر الصناعي الأول ينطوي على الوجهين معًا بوضوح كامل؛ فهو من جهةٍ كشفٌ علمي عظيم فتح أمام العقل البشري آفاقًا جديدة، بل إنه ظهر أصلًا بوصفه جزءًا من برنامج «السنة الجيوفيزيقية الدولية» (العام ١٩٥٧م)، وهو من وجهةٍ أخرى إيذان ببداية مرحلة جديدة في الاستراتيجية العسكرية العالمية، ودليل على أن أسلوب القواعد العسكرية القريبة من أراضي العدو والمحيطة به من كل جانب، قد أصبح أسلوبًا عَفَا عليه الزمان، وعلى أن الدول المتفوقة تكنولوجيًّا تستطيع أن تصيب أهدافًا على بُعْدِ آلاف الأميال، دون أن تضطر إلى مغادرة أرضها، وكانت التعليقات التي استقبل بها العالمُ هذا الحدث تكشف بوضوحٍ عن تلازم هذين الوجهين، فبالإضافة إلى الترحيب بدخول البشرية عصرًا جديدًا — هو عصر استكشاف الفضاء — كان هناك إدراكٌ واضح — لا سيما في الولايات المتحدة — للإمكانات الاستراتيجية التي ينطوي عليها هذا الفتح الجديد، ولم يكن من الممكن أن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي وهي تشهد خَصْمها ينقل توازن القوى إلى مرحلة جديدة تَرْجح فيها كِفته رجحانًا واضحًا، وهكذا قررت الولايات المتحدة أن تدخل سباق الفضاء بكل قواها، وكان من الواضح أن تضافر الأموال الأمريكية والعقول الألمانية يستطيع أن يحقق الكثير.
ومنذ ذلك الحين كانت كل مرحلة من مراحل سباق الفضاء تكشف عن التداخل الوثيق بين الوجهين: العلمي والسياسي أو الإنساني والعسكري، فعلى حين أن أوزان الأقمار الصناعية أخذت تثقل وحمولتها البشرية تزيد وفوائدها العلمية تتراكم، فإن استخداماتها الحربية كانت في الوقت ذاته تتنوَّع، من صواريخ تحملها الغواصات السريعة التنقُّل، إلى صواريخَ مدفونة تحت الأرض ومصوَّبة إلى أهداف محددة في أراضي العدو، إلى صواريخ متعدِّدة الرءوس … إلخ. وبينما كان العالم يهلل لأقمار الاتصال التي أتاحت الربط بين أجزاء كبيرة من العالم في شبكة تليفزيونية ولاسلكية واحدة، كان نوعٌ مشابه من الأقمار يقوم بمهمة الجاسوس العالمي الذي يدور حول العالم على فتراتٍ منتظمة لكي يصور بدقة ما يجري في كل بقعة صغيرة منه، وهكذا كان عنصرُ المنافسة العسكرية — التي تُعَدُّ انعكاسًا للمنافسة الأيديولوجية — واضحًا منذ اللحظة الأولى، إلى جانب عنصر المنافسة العلمية.
وأصبح كلُّ نصر جديد يُحرزه أحد الطرفين في ميدان الفضاء لا يُعَدُّ دليلًا على ارتفاع مستواه العلمي والتكنولوجي فحسب، بل يُسْتَغَل أيضًا بوصفه مظهرًا لتفوق نظامه الاجتماعي، ولم تكن الحرب الدعائية — التي تكمُن من وراء المنافسة في ميدان الفضاء — خفية أو متوارية خلف ستار، بل كانت صريحة سافرة، وعلى الرغم من «الروح الرياضية» التي دأب كلٌّ من الطرفين على أن يُبْدِيَها إزاء الآخر، فيبعث إليه ببرقيات التهنئة كلما أحرز نصرًا جديدًا، فإن السباق كان يجري على أشُدِّه لكي يثبت كل طرف للآخر ولبقية العالم، أن نظامه الذي أتاح له إحراز هذا النصر أفضل من النظام الآخر، وحين ظهر بوضوح للدولتين المتنافستين أن كشوف الفضاء هي أكثرُ أنباءِ عالمنا المعاصر إثارةً لشعوب الأرض كلِّها، وأقواها تأثيرًا في ميدان الدعاية، أخذت حرارة المنافسة بينهما تشتد، ولم تَعُد كلٌّ منهما تبخل بجهد وبمال على هذا الميدان الذي لم يكن له وجود منذ سنوات قلائل، وفي اعتقادي أن هذا العامل من العوامل الهامة التي أدَّت إلى الإسراع بسباق الفضاء، وإعطائه الأولوية في ميزانيات الدولتين المتنافستين.
وفي ضوء هذه الاعتبارات يمكن القول إن وصول إنسانٍ أمريكي إلى القمر يُعَدُّ دفعة قوية للنظام الرأسمالي بأسره، وهي دفعة ينبغي أن تعمل لها الدول البعيدة النظر حسابًا، صحيح أن أناسًا كثيرة قد شعروا بالأسف لأن المجتمع الذي تم على يديه هذا الكشف هو نفسه المجتمع الذي يسحق الإنسان في فيتنام، ويمتص خيرات أمريكا اللاتينية، ويهدر حقوقَ شعبٍ بأكمله في فلسطين، ولكن للقوة في عالم القرن العشرين احترامها مهما كانت غاشمة، وأبلغ دليل على ذلك أن بلدًا هائلًا كالصين قد عمد إلى إخفاء أنباء رحلة القمر فترةً طويلة، وذلك — قطعًا — بدافع الخوف مما يمكن أن تُحْدِثَه هذه الأنباء من تأثير في معنويات شعبه، مع أن هذا الشعب ربما كان أشدَّ شعوب الأرض عداءً للنظام الأمريكي وإصرارًا على مواجهته.
وعلى أية حال فإن الأمر المؤكَّد الذي يُثبِته هذا الكشف هو أن أصحاب الحلول السهلة والعبارات الروتينية المحفوظة عن الانهيار الوشيك للرأسمالية التي تتآكل بفعل تناقضاتها الداخلية ينبغي أن يدركوا أن الواقعَ أَعْقَدُ بكثير مما يتصورون، أما بالنسبة إلينا — نحن سكان العالم الثالث — فهذا دليلٌ آخر — إن كان يُعْوِزنا الدليل — على أن المستقبل رهنٌ بالتقدُّم العلمي، وعلى أن إنسان المستقبل لن تكون له كرامة إلا بقدْر علمه، وعلينا أن ندرك أن الهوة تزداد اتساعًا بسرعةٍ مخيفة بين الأمم العارفة وغير العارفة، وأن نركز كل طاقتنا في اللحاق بالركب.
العلم والتخطيط في عصر القمر
إن روعة الكشف الذي تم والدقة المذهلة التي أُنْجِزَ بها، ربما جعلت الكثيرين ينسون حقيقةً معروفة، هي أن عصر الفضاء بأكمله يقل عمرُه عن اثني عشر عامًا! فلم يكن أحد يتصور — قبل انطلاق «سبوتنيك السوفييتي» في أكتوبر من عام ١٩٥٧م — أن الفضاء قابل للاستكشاف وللملاحظة التجريبية المباشرة بواسطة الآلة، وبواسطة حواس الإنسان ذاتها، وما زلتُ أذكر ذلك المَثَل الذي ساقه برتراند رسل في أحد كتبه الفلسفية التي صدرت قبل هذا التاريخ بفترةٍ غير طويلة، حين وصف أية قضية تتحدث عن الوجه الآخر للقمر بأنها قضيةٌ غير قابلة للتحقيق التجريبي، هكذا كانت العقول الممتازة ذاتها تتصور الأمور قبل أكتوبر ١٩٥٧م!
لكن هل كان أحد يتصور — بعد هذا التاريخ ذاته مباشرة — أن التطوُّر سيسير بهذه السرعة المذهلة؟ لقد حاولت الولايات المتحدة في أواخر العام نفسه أن تدخل سباق الفضاء، وكان أول مشروعاتها صاروخ «فانجارد»، ولن أنسى تلك التجرِبة الأولى التي شاهدتها بنفسي على شاشة التليفزيون الأمريكي في يومٍ من أيام ديسمبر عام ١٩٥٧م، حين كان الشعب الأمريكي كلُّه يترقب بأعصابٍ متوترة صعود الصاروخ الذي يحمل قمرًا صناعيًّا أظن أن وزنه كان خمسة أرطال، فإذا بالصاروخ بعد أن أصدر ضجيجًا يَصُمُّ الآذان ودخانًا يغشى العيون، يرتفع بتؤدةٍ فوق الأرض مسافةً لا تزيد عن المترين، ثم يميل بتثاقل على أحد جانبيه؛ لينتهي به الأمر إلى رقاد مريح، وفي الأيام التالية كانت السخرية تنهال على المشروع بأكمله، حتى إن ابنَ مصمِّم المشروع كان يشكو من أن تلاميذ المدرسة الصغار أخذوا يعيِّرونه ولا يكفُّون عن سؤاله: متى يقذف أبوك بهذه الكرة إلى أعلى؟
بين هذا الحادث وبين أول خطوة خطاها نيل أرمسترونج على أرض القمر أقلُّ من اثني عشر عامًا، فما دلالات هذا التطوُّر المذهل؟
إن أُولى الدلالات — بطبيعة الحال — هي المعدل المخيف لسرعة التقدُّم العلمي والتكنولوجي؛ ففي جيل واحد — بل في فترةٍ قصيرة من حياة ذلك الجيل — استطاع العقل البشري أن ينتقل من الإخفاق في إرسال كرة صغيرة في مدارٍ حول الأرض، إلى النجاح في إرسال مركبة كاملة تهبِط برفق، ومعها حمولتها من البشر والآلات فوق القمر، ثم تغادره وتعود إلى الأرض في زمانها ومكانها المحدَّدَين، وخلال هذه السنوات القلائل تمكَّن الإنسان من أن يسيطر على آلاف المشكلات المتعلقة بقوة دفع أحمال ضخمة بسرعة هائلة تكفي للإفلات من جاذبية الأرض، والتغلب على الحرارة الشديدة الناتجة عن الاحتكاك بالغلاف الجوي عند العودة، وتحديد اتجاه الصاروخ حين يخرج من أرضٍ تتحرك بسرعة هائلة ليصيب قمرًا يتحرك بدوره بسرعةٍ هائلة على مسافة مئات الألوف من الأميال، وحل عشرات المشكلات الطبية والبيولوجية المتعلقة بحياة رواد الفضاء في مركبتهم وتنفسهم وتغذيتهم وغير ذلك من وظائفهم الطبيعية في جوٍّ محكم الإغلاق، ونوع ملابس الرواد في كل مرحلة من الرحلة، والانفصال عن السفينة الأم وعودة الاتصال بها، والسير دون خطأ على أرضِ كوكبٍ مجهول، والاتصال اللاسلكي والتليفزيوني بالأرض من هذا البُعد السحيق، إلى آخر المشكلات الهائلة العدد التي كان أبسط خطأ يُرتكَب في إحداها كفيلًا بإفساد الرحلة كلها، وكان حل هذه المشاكل يعني تقدُّمًا علميًّا وتكنولوجيًّا في مجالات الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضة والحاسبات الإلكترونية والفسيولوجيا والطب والتغذية وغير ذلك من الميادين المعروفة، والميادين الجديدة التي استحدثها عصر الفضاء.
ومن الأمور البالغة الدلالة — بالنسبة إلى هذه الرحلة القمرية — أن كلَّ شيء، فيها كان محدَّدًا بدقة، حسب تخطيطٍ محكمٍ وُضِع منذ سنوات طويلة؛ فالعالم كله كان منذ سنوات يعرف التاريخ المحدَّد لهبوط الإنسان على القمر، وإني لأعترف بأنني كنت كلما سمعتُ ذلك التاريخ انتابني الشك في إمكان بلوغ هذا الهدف الطموح، ولم أصدق ما حدث إلا بعد أن حدث! والأمر الذي يدعو إلى الحيرة حقًّا هو أن هذا التخطيط البالغ الدقة قد تم وضعُه وتنفيذه بنجاح في ظل نظام اجتماعي كان على الدوام يشكك في قيمة التخطيط الذي يحشد له المجتمع أكبر قدْر من موارده لكي يحقق هدفًا حدَّده مقدمًا، ولست أدري هل سيؤدي هذا النجاح إلى تطبيق التجرِبة نفسها في ميادينَ أخرى؟ أم سيظل هذا المجتمع يعترف بقيمة التخطيط في ميدانٍ وينكرها في سائر الميادين؟
هذا السؤال له — في نظري — أهميةٌ بالغة، ولكي يتصور القارئ ما أعنيه، أود أن أعقد مقارنةً بين الطريقة التي تم بها الوصول إلى القمر، وطريقة البحث عن علاج لمرض السرطان في الولايات المتحدة؛ فمن المعروف أن مشكلة مكافحة السرطان — الذي يُعَدُّ أشد الأمراض فتكًا بالإنسان، ولا سيما في البلاد الصناعية المتقدمة — تحتل في تفكير كل أمريكي — وربما كل إنسان في العالم — أهميةً لا تقل عن أهمية الوصول إلى القمر، ومن المؤكد أن فرحة العالَم — وضمنه الشعب الأمريكي — بالوصول إلى علاج حاسم للسرطان ستزيد أضعافًا مضاعفة عن فرحته بنزول الإنسان على القمر، ومع ذلك فكيف تُجْرَى الأبحاث في أمريكا للتغلُّب على هذا المرض القاتل؟ إن أساس هذه الأبحاث وغيرها من الأبحاث الخاصة بالأمراض الأخرى هو التبرُّعات التي تقدِّمها المؤسسات الخيرية والأفراد، وتشرف على حملات التبرع هذه شركاتٌ للإعلان والعلاقات العامة، تتقاضى بالطبع مبالغَ باهظة، وبقدْر براعة الشركة المشرفة على الحملة تتحدد الأموال التي تُخصَّص للبحث العلمي في أي مرض بعينه، وكثيرًا ما يحدث أن ينال مرضٌ ضئيلُ الانتشار أموالًا هائلة، بينما لا ينال مرضٌ أخطرُ منه وأوسعُ انتشارًا بكثير ما هو جدير به من التبرعات، لا لشيء إلا لأن الشركة التي تشرف على الحملة الإعلانية للمرض الأول أبرع من الأخرى، أو لأن ممثلًا مشهورًا تطوَّع بإقامة برامج تليفزيونية لصالح هذا المرض (وهو تطوع يكتسب بفضله الممثل — في الوقت ذاته — صورةً نبيلةً في أعين الجماهير، تعود عليه آخرَ الأمر على شكل مزيد من الإقبال على أفلامه)، والمهم في الأمر أن عواملَ عرضية كثيرة تتدخل في تحديد مقدار الأموال التي تُخصَّص للبحث العلمي في الأمراض، وصحيح أن مرضًا كالسرطان لديه مواردُ ثابتة من مؤسسات مضمونة، ولكن هذه الموارد لا تُقاس على الإطلاق — سواء من حيث انتظامها — بقدْر ضئيل من الموارد المخططة لبرنامج الفضاء.
ومن الأمور التي تدعو — لأول وهلة — إلى الدهشة في برنامج الفضاء الذي تُوِّجَ بالوصول إلى القمر أن التخطيط العلمي في هذا البرنامج لم يكن يعترف بأية مشكلات متعلقة بقدرة العقل البشري أو عدم قدرته على الاختراع؛ ففي الوقت الذي وُضِعَ فيه البرنامج، وحُدِّدَ فيه وقتٌ معيَّن للنزول على القمر، كانت هناك آلاف المشكلات لم تُحَل بعدُ، والمفروض — من وجهة النظر التقليدية المألوفة — أن التنبؤ الدقيق بمراحلِ الكشف في المستقبل يستحيل ما دامت هناك مشكلات لم يتيسر حلُّها، وما دام وصول العبقرية البشرية إلى حلول ناجحة لمشكلاتها أمرًا لا يمكن تحديده بزمان ثابت، أو التنبؤ به مقدمًا، ومع ذلك فإن البرنامج لم يُقِمْ أي وزن لهذه العقبة، بل وضع تخطيطًا معيَّنًا، ونفَّذ كل مرحلة في هذا التخطيط في موعدها المحدَّد.
والفكرة الجديدة في هذا هي أن المجتمع إذا استطاع أن يعبِّئ الموارد اللازمة — مهما عظمت — والعدد الكافي من العلماء والفنيين — مهما كبُر — فعندئذٍ لن تقف عقبة في وجه البرنامج الذي يخططه على أساسٍ مدروس بدقة، وبعبارةٍ أخرى فإن الفهم التقليدي للكشف العلمي والتكنولوجي الذي يعتمد على انتظار هبوط الوحي بالحل السعيد على ذهن العالم أو المخترع، قد طرح جانبًا في هذا البرنامج، وأصبحت الأمور تسير على أساس مبدأ جديد هو: لا تبخل بالمال ولا بالرجال، وسيتم كشفُ كلِّ ما هو مجهول في الموعد المطلوب، ويمكن القول — بناءً على ذلك — إن نجاح رحلة القمر في موعدها، والوصول إلى حلول لألوف المشكلات التي كانت مجهولة في الوقت المحدد، ربما كان إيذانًا ببداية عصر جديد، لا في كشف الفضاء الكوني وحدَه، بل في منهج البحث العلمي ذاته.
هذا المبدأ لو طُبِّقَ على السرطان أو على غيره من الآفات التي تفتك بالبشر، لكان كفيلًا بحل المشكلة، والأمر الذي يكاد يكون مؤكدًا هو أنه لو خُصِّصَت لهذا النوع من المشكلات الإنسانية نفسُ الجهود ونفسُ الأموال، وكُرِّسَت لها مواردُ وإمكاناتُ مجتمعٍ صناعي متقدم كالمجتمع الأمريكي؛ لأصبح السرطان وغيره من الأمراض الفتاكة مجرد ذكريات أليمة لا تَرِد إلا في القصص وكتب التاريخ.
إنني لست الآن في معرض اللوم أو النقد، ولست أود أن أردِّد مع الكثيرين من أصحاب النزعات الإنسانية: ألم يكن هذا أجدرَ بالاهتمام من ذاك؟ وهل انتهت مشكلات الإنسان على الأرض لكي نكرِّس كلَّ قوانا للانتقال إلى القمر؟ هذه في رأيي أسئلة ليس لها الآن جدوَى، وذلك لسببين: أولهما أن نجاح التخطيط العلمي في ميدان معيَّن هو في ذاته أمرٌ يدعو إلى التفاؤل؛ لأنه يجعلنا نتطلع إلى اليوم الذي يتحقق فيه تخطيط مماثل في سائر الميادين. والسبب الثاني هو أن كثيرًا من أروع الكشوف العلمية والثورات الحضارية التي غيَّرت مجرى الحياة البشرية، قد ظهرت في البداية نتيجةً لدوافعَ ليست كلُّها إنسانية خالصة، وإلى هذا العامل الثاني أنتقل الآن.
شيء من الخيال
إن وصول الإنسان إلى القمر — مهما كانت دوافعه الأيديولوجية أو العسكرية — هو في رأيي أمرٌ يدعو إلى التفاؤل لأكثر من سبب، ولست أود أن أتحدث عن نتائجه المباشرة التي يعرفها الجميع، كما أنني لا أود أن أطيل الكلام عن نتائجه غير المباشرة، التي تتلخص في أن البلايين التي أُنْفِقَت لم تُصْرَف كلُّها من أجل سفن «أبولو» وحدَها، بل إن هناك كشوفًا جانبية عديدة تمَّت أثناء الإعداد لهذا البرنامج الضخم، لا بُدَّ أن تنعكس آثارها على حياة الإنسان اليومية في هذه الأرض خلال السنوات القليلة المقبلة، وإنما الذي أود أن أتحدَّث عنه — بشيء من الخيال — هو ما يمكن تسميته بالنتائج البعيدة لهذا الحدث العظيم.
في رأيي أنه ليس من المصادفات أن يتمكَّن الإنسانُ من استبدال القلب البشري، ومن الهبوط إلى سطح القمر في فترةٍ متقاربة، إنه في كلتا الحالتين لا يرضى بوضع طبيعي فُرِضَ عليه منذ آلاف السنين، ويحاول أن يصنع لنفسه — بيديه — وضعًا آخَر، ومن المسلَّم به أن مسار المدنية كلها — منذ بدايتها حتى الآن — يتلخص في عدم رضاء الإنسان بالأوضاع التي يجد نفسه فيها، ومحاولته أن يتحكم بنفسه في حياته وفي بيئته، ولكن ما يتم في هذه الأيام شيءٌ أعمقُ من ذلك بكثير، إن الإنسان يحاول أن يتحكم في تركيبه الداخلي «الطبيعي» من جهة، ويحاول من جهةٍ أخرى أن يتلمس لنفسه سبيلًا للحياة في وسطٍ مخالفٍ لذلك الوسط «الطبيعي» الذي كان يعتقد أنه لا يصلح إلا للعيش فيه، هذا الاتجاه إلى تحدي كلِّ ما درجنا على أن نَعُدَّه «طبيعيًّا» — سواء في ذلك تركيب عقولنا وقدراتنا الذهنية والبدنية وتكويننا البيولوجي وطريقة تكاثرنا … إلخ — هو الذي سيسير فيه التطوُّر في المستقبل.
وبالمثل فليس من قبيل المصادفات — في اعتقادي — أن يتمكن الإنسانُ من الوصول إلى القمر قبل وقتٍ غيرِ طويل من تلك اللحظة الحرجة التي يتوقَّع علماء السكان أن يصل إليها العالم، حين يصل عدد سكانه إلى حدٍّ لا تعود عنده موارد الغذاء كافية، بل لا يعود فيه مجالٌ كافٍ لتحرك البشر في يسرٍ على سطح الأرض، وها هي ذي بوادرُ الحل قد ظهرت.
إن المستقبل يحمل في طياته للجنس البشري نوعًا من الحياة يمكنه أن يستبدل فيه بأعضائه الطبيعية التالفة أعضاءً أخرى صناعية أفضلَ وأكفأ، وأن يكتسب القدرة على استئصال الأمراض كلها، فإذا تحقق ذلك، فما الذي يمنع من تصوُّر إنسان يعيش في المتوسط مائتي عام ثم خمسمائة عام؟ وما الذي يمنع من محاولة قهر الموت؟
ولنتأملِ الأمر من زاوية أخرى: إن جاذبية القمر سدسُ جاذبية الأرض، والجهد الذي يتحمله قلبُ الإنسان على سطح الأرض يستطيع أن يتحمل ستة أضعافه على سطح القمر، وهذا وحدَه كافٍ — حتى بدون التقدُّم الطبي — لكي نتصور إنسانيةً تحقق لنفسها — في السماء — حياةً أخرى أبقى من الحياة الأرضية، وستكون هناك علاقة متبادلة بين طول عمر الإنسان وبين استكشافه لأبعاد الكون الفسيح؛ إذ إن الحياة في الفضاء بلا جاذبية أو بجاذبية قليلة، ستؤثر هي ذاتها في إطالة عمر الإنسان، واستكشافُ الكواكب ثم النجوم البعيدة يحتاج من جهةٍ أخرى إلى إنسانٍ يعيش مئات السنين حتى يقطع الرحلة الطويلة، ولنتخيلْ ماذا يستطيع مثلُ هذا الإنسان — سواء على الأرض أو في الفضاء الفسيح — أن ينجزه خلال حياته الطويلة، لقد أنجز الإنسان في جيلنا الحاضر كشوفًا مذهلة في ميدان الفضاء في مدى اثني عشر عامًا فقط، ومعدل التقدُّم العلمي في ازدياد مستمر، فما ننجزه الآن في خمسين عامًا سينجزه الإنسان في نهاية القرن في عشرة أعوام، وربما أنجزه في القرن التالي في عامين أو ثلاثة، وهلم جرًّا، فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة كبيرة في عمر الإنسان، ومزيدًا من الخبرات لكل جيل على حدة (إذا ظل هناك معنًى لكلمة «جيل» في المستقبل) فهل يستطيع الخيال عندئذٍ أن يحيط بما يمكن إنجازه؟
إن تطوراتٍ مذهلة تنتظر الإنسان، وما نشاهده اليوم ليس إلا أول البدايات، فما زال تاريخ البشر حتى الآن «أرضيًّا»، ولكن بوادر التاريخ «السماوي» قد بدأت تظهر، والمهم أن تظل البشرية حية، وتلقي جانبًا بتلك الألعاب الخطِرة السخيفة المسماة بالأسلحة النووية وبالأسلحة الكيميائية والبكتريولوجية، وعندئذٍ نستطيع أن نتساءل: إذا كانت الإنسانية قد انتقلت من عصر الخيل إلى عصر الصواريخ والقمر في مائة عام، فما الذي ستكون عليه أحوالُها لو عاشت ألف عام أخرى؟
لِنسرحْ بخيالنا كما نشاء، فسوف تظل عقولنا الحالية — مهما أسرفت في التخيُّل — عاجزة عن إدراك لمحة واحدة من أبعاد هذا الأفق الفسيح.